حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"الشبح" يضلل رومان بولانسكي!

أمير العمري

شاهدت أخيرا فيلم "الشبح" The Ghost، وهو اسم الفيلم في نسخته البريطانية، أو "الكاتب الشبح" The Ghost Writer ومعناها الكاتب الذي يتم استئجاره لكي يكتب لغيره دون أي ذكر لإسمه أبدا. بهذا الفيلم يعود المخرج الشهير رومان بولانسكي (76 عاما) إلى أضواء السينما، بعد أن عاد قبل فترة إلى أضواء الحياة في أعقاب إلقاء القبض عليه في سويسرا بموجب أمر قضائي أمريكي في القضية القديمة المعروفة منذ 1978 والتي تصلح ملابساتها وتفاصيلها في حد ذاتها، موضوعا لفيلم سينمائي مثير يكون بطله هو بولانسكي نفسه!

كان السؤال الذي ورد على خاطري بعد أن شاهدت الفيلم هو: ما الذي أعجب بولانسكي ودفعه إلى تحويل رواية الكاتب البريطاني روبرت هاريس إلى السينما؟

وقلت إن الرواية ربما تكون قد أغوت بولانسكي، كونها تدور في أجواء غامضة تنجلي تدريجيا، تتعلق بالفساد السياسي والمؤامرات التي تدبرها قوى كبرى، وتدور أساسا، حول شخصية رئيس وزراء بريطاني (في إشارات واضحة إلى توني بلير تحديدا لدوره في الحرب على العراق). وبولانسكي يجد نفسه عادة وسط أجواء الترقب والقلق، ويتماثل مع شخصية البطل الفرد، الوحيد، الذي يجد نفسه تدريجيا متورطا في بحث يقوده للوقوع في براثن شبكة معقدة من العلاقات والمصالح الكبيرة التي تتحكم في مقدرات البلاد والعباد. إنها تلك الفكرة الكابوسية "الكافكاوية" (نسبة إلى الكاتب التشيكي فرانز كافكا)، التي تكشف كيف أن الإنسان الفرد، أصغر من أن يمكنه تحدي "المؤسسة"، وأن المؤسسة، أي الدولة، أو الأجهزة المهيمنة ومؤسسات المجتمع السائدة عموما، ومصالح متعددة الجنسيات..إلخ، يمكنها دائما أن توفر الحماية لأبنائها المخلصين، وتقهر أي محاولة للتمرد على سلطتها.

ورؤية بولانسكي "التاريخية" من خلال أفلامه القديمة منذ "طفل روزماري" و "قتلة مصاصي الدماء" و"الحي الصيني" و"المستاجر"، كأمثلة فقط، هي رؤية شديدة التشاؤم للعالم، لكنه ذلك التشاؤم الفلسفي، الذي كان يمتزج بالتأكيد، بنظرة ذاتية، تنبع من التجربة الشخصية الخاصة للمخرج، عندما فقد زوجته شارون تيت، في حادث هجوم همجي قتلت فيه عصابة سفاح من عصر الهيبيز، تشارلز مانسون، الممثلة الحسناء وهي حامل، مع عدد من اصدقائها، في منزل بولانسكي في ضواحي لوس انجليس، وقامت بالتمثيل بجثتها وجثث ضحايا المذبحة بشكل بشع. ولا شك أن تلك التجربة الأليمة تركت تاثيرها على بولانسكي حتى يومنا هذا، بالإضافة بالطبع إلى تجربة الهرب المستمر من الملاحقة القضائية في الولايات المتحدة بتهمة ممارسة الجنس مع فتاة قاصر، منذ عام 1978، وهي القضية التي دفعته لمغادرة الولايات المتحدة واللجوء إلى بريطانيا التي لم تقبله، ثم إلى فرنسا التي عاش فيها إلى حين مواجهة المحنة الجديدة الحالية مع تحليق شبح التسليم للسطات الأمريكية لقضاء عقوبة تصل إلى أكثر من 70 سنة في السجن!

ولعل بولانسكي أراد أيضا أن يصنع فيلما يلقى إقبالا واهتماما من جانب جمهور السينما في بريطانيا وأوروبا عموما، في وقت كنا على أعتاب موسم الانتخابات العامة في بريطانيا. وهو أمر نستطيع أن نرى آثاره بوضوح في امتلاء دور العرض اللندنية عن آخرها بهذا الفيلم الذي أصبح أيضا، يتربع على قائمة الأفلام العشرة الأكثر جماهيرية، رغم أنه ليس من نوع الأفلام الخرافية الشعبية الشائعة، بل ويمكن القول أيضا إنه ليس من نوع الدراما المشوقة التي تجذب عادة المشاهدين من الشباب، فهو فيلم تتضح أجواؤه السياسية من أول لقطة فيه وحتى آخر لقطة، وحديث السياسة وعالمها وما يدور فيها الحديث عادة، لا يبدو مرغوبا فيه من جانب أغلبية الشباب الذين يفضلون الثقافة الهروبية.

والموضوع يدور حول رئيس سابق للحكومة البريطانية اسمه آدم لانج، المعادل الدرامي لشخصية توني بلير، بعد أن أصبح يعيش حاليا معزولا عن العالم، يدون مذكراته، داخل منزل كبير حديث في جزيرة نائية بالقرب من نيويورك، في ضيافة ناشره الذي ينتظر أن يجني الكثير من وراء نشر المذكرات.

لكن لانج لا يمكنه كتابة مذكراته بنفسه، لذا يستعين بكاتب محترف لكي يضفي على المذكرات الاحترافية والمصداقية المطلوبتين. وهكذا تدخل شخصية الكتاب- الشبح إلى الفيلم، لكي يعرف أنه سبقه في القيام بالمهمة، كاتب آخر فقد حياته غرقا في ظروف غامضة. ويبدأ الكاتب- الشبح، الذي لا نعرف اسمه أبدا، في السعي لمعرفة كيف قتل سلفه، ويتوصل إلى الكثير من المعلومات التي تؤدي إلى اكتشاف أن لانج الذي أصبح حاليا ملاحقا قضائيا في بلاده بتهمة ارتكاب جرائم حرب في العراق وترحيل أشخاص للتعذيب في السجون السرية الأمريكية، ليس إلا عميلا للمخابرات المركزية الأمريكية منذ أيام الدراسة في كمبردج، بل إن زوجته "روث" التي تعادل شخصية شيري (زوجة بلير) هي التي قامت أساسا، بتجنيده.

هذه الحبكة تأتي بكل أسف، مفتقدة إلى العنصر الأساسي في أي حبكة لفيلم من هذا النوع، أي من خلال الكشف التدريجي الدقيق عن خيط يقود إلى خيط آخر، والابتعاد عن عنصر الصدفة، الأمر الذي لا يتوفر لهذا الفيلم، فالنصف الأول منه، يمضي بطيئا رتيبا، يعرض للشخصية الرئيسية، أي شخصية الكاتب، وكيف أنه متردد، وجل، ولكن دون الكشف عن تضاريس بارزة في شخصيته، تجعله على سبيل المثال، يضاهي في بروزه شخصية المفتش جيتس في "الحي الصيني" Chinatown (1974).
وعندما يبدأ الفيلم في الكشف عن خيوط القصة فإنه يكشفها بالجملة، وفي تداخل مربك للشخصيات والوقائع، بل إنه يعتمد أيضا على سلاح "الانترنت" ومحرك البحث "جوجل" للكشف عن أهم الغاز الفيلم، وهو أن صديقا لآدم لانج من أيام أن كان طالبا في الجامعة، هو عميل قديم للمخابرات الأمريكية، وإنه مقيم في نيويورك، وهو ربما المسؤول عن مقتل الكاتب السابق، بل إنه يهدد الكاتب الجديد بطريقة مكشوفة أيضا، ويطلق خلفه رجلان في سيارة للفتك به. وتبدأ المطاردات، وهي عديدة في الفيلم، في المعدية، وعلى الطرق السريعة بالسيارات، وداخل الغابة، وتحت الأمطار، ولكن لا شيء يحمل الطابع المميز لأفلام بولانسكي. فالمتفرج يفتقد هنا لأهم ما يميزها، أي علاقتها ببولانسكي نفسه، وعلاقة الفيلم بعالمنا فيما لو تجاوزنا موضوع مطابقة شخصياته لبعض الشخصيات الحقيقية القريبة من الذاكرة.

ولعل هذه النقطة الأخيرة هي أضعف نقاط الفيلم، فلو أننا تخيلنا عدم تطابق شخصية آدم مع بلير، وشخصية روث مع شيري، وشخصية ريتشارد ريكارت مع روبن كوك، وزير الخارجية البريطانية السابق الذي أصبح قبيل وفاته معارضا متشددا لسياسة بلير، لما بقي الكثير من أهمية هذا الفيلم ومصدر الاهتمام به.

بالإضافة إلى هذا، لا أظن أن اختيار الممثلين كان مقنعا، وخصوصا إيان ماكريجور في دور الكاتب، الذي بدا مضطربا في مشاعره بطريقة تدعو إلى الحيرة، ومع ذلك، يقدم على ممارسة الجنس مع زوجة آدم، روث، بلا مبالاة، ولا أعرف ما الذي يضيفه هذا المشهد أصلا إلى الفيلم، ولا إلى شخصية روث التي تظهر كضحية لتصرفات زوجها وحماقاته السياسية بل وخياناته لها أيضا، ولكنها  لا تزال صامدة، تمده بالنصح فيما يتعين عليه القيام به في مواجهة العاصفة التي انفجرت في وجهه في الوطن، وأصوات المحتجين الذين يطالبون بترحيله من جزيرتهم الهادئة.

ولم يكن بيرس بروسنان موفقا في دور آدم لانج رئيس الوزراء السابق، بل بدا مضطربا في دوره، يمثل بلا حماس، بل أحيانا يخلط بين دور "الولد السيء"، ودوره المعروف في أفلام جيمس بوند!
في الوقت نفسه، ينتابك إحساس وأنت تشاهد الفيلم، بأن هناك ما يقرب من 15 دقيقة على الأقل، زائدة عن الحاجة في هذا الفيلم، مما ساهم في بطء الإيقاع وترهله خاصة في النصف الأول منه، بل ولم أجد أن نهاية الفيلم أيضا تتوافق، مع نهايات أفلام بولانسكي المميزة. وياله من اكتشاف كبير أن تصبح "روث"، زوجة لانج، هي التي قامت بتجنيده أصلا، وأن تتطاير صفحات مخطوطة المذكرات بعد أن نشرت في كتاب بالفعل لتملأ سماء الشارع بعد خروج الكاتب مندفعا من حفل تدشين الكتاب الذي يحضره المسؤول عن تجنيد روث في المخابرات الأمريكية. فهل انتصر الكاتب الشبح على المؤسسة، وتمكن من فضحها، أم أنه قام بمهمة "قذرة" تتمثل في تجميل مذكرات مجرم حرب!

الجزيرة الوثائقية في

12/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)