حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

قراءة في "اللقطة الأخيرة" الفائز بالجزيرة الذهبية

 أحمد بوغابة - الرباط

حملت الدورة السادسة لمهرجان الجزيرة الدولي للأفلام التسجيلية شعار "حرية" ككلمة غير مُعرفة حتى نبْحثُ عنها في ثنايا الأفلام المعروضة فيه لنكتشف أن المقصود كل الحريات سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية، الفردية والجماعية، للطفل أو المرأة أو الرجل بل حتى حق الطبيعة في الاحترام، وهو ما برهنت عليه الملصقات المختلفة الموزعة في جميع أركان فندق "شيراتون" الذي احتضن التظاهرة وكذا في الأفلام الإعلانية. وأن "الحرية" هي "حرية" واحدة لا تتجزأ، ولا وطن قار لها بقدر ما تحمل كل الجنسيات وتسكن كل الأوطان وتتحرك بتحرك الإنسان في بقاع العالم، كما تحمل كل الألوان، وتطير في سماوات الأرض جميعها.

فكانت اللقطة الأخيرة للمهرجان، الذي اختتم فعالياته يوم الخميس 22 أبريل الجاري، هو الإعلان عن فوز فيلم "اللقطة الأخيرة" من الأرجنتين ب "جائزة الجزيرة الذهبية" وهي الجائزة التي يستحقها لاعتبارات فنية أساسا إذ أفلح في الجمع بين الشكل والمضمون، وبين المتعة والمعرفة، وبذلك أكد مخرجه بأن الفيلم الوثائقي يمكنه أن يكون فيلما جماهيريا مُمْتعا تستجيب له فئات واسعة.

هذه ورقة عن الفيلم المذكور الذي يسافر بنا إلى تاريخ متوتر عرفته أمريكا اللاتينية خلال عقود طويلة من القرن الماضي خاصة خلال الفترة التي عُرفت في المصطلح السياسي بسنوات الرصاص.

• "صورة واحدة تعادل ألف كلمة"..

يقول المثل الصيني الذائع الصيت الذي نستحضره هنا مرة أخرى للتذكير فقط بأن "صورة واحدة تعادل ألف كلمة" وهو ما اعتمد عليه كثيرا المخرج الأرجنتيني أندرياس هابيجر في فيلمه "اللقطة الأخيرة" بحيث انطلق فيلمه من مشاهد تسجل بشكل مباشر قتل المصور الصحفي الصحفي الأرجنتيني ليوناردو هينريتشستن  حيث كان هذا الأخير يصور قاتله وهي لقطات درامية واقعية وحجة دامغة للجريمة حيث يعلن القتيل شهادته في حق قاتله.

سنشاهد هذه المشاهد مرارا طيلة الفيلم حيث يعود إليها المخرج كلما تطورت أحداث الفيلم لنخطو خطوة جديدة في معرفة سرها أو أسرارها وكأننا بصدد درس في النقد السينمائي لأن تلك المشاهد تُعد مفتاح الفيلم وبالتالي مفتاح معرفة الجريمة. وعادة ما كانت تُعرض أمام شهود المرحلة التاريخية للتعليق عليها وتطعيمها بما كان جاريا خارج إطار "اللقطة" أو قبلها أو بعدها. مشاهد تمت قراءتها من زوايا مختلفة ومتعددة، وتم تقطيعها أحيانا للبحث فيها عن من أطلق الرصاصة القاتلة؟ إن النبش في تفاصيلها هو نبش في التاريخ بأسلوب صحفي في التحقيق.

انطلق الفيلم منذ بدايته، قبل الإعلان عن الجنريك الأول، بهذه المشاهد حيث نشاهد الناس تفر في كل صوب خاصة أمام الكاميرا، ونعلم بعدئذ بالمحاولة الانقلابية ضد الرئيس المُنتخب ديموقراطيا في الشيلي وهو سلفادور أليندي في يونيو 1973 (يؤطرنا الفيلم إذن في المكان والزمان) فيما كان المصور الصحفي لهذه الأحداث يسير في الاتجاه المُعاكس بمعنى نحو الجيش (الذي تهرب منه الجماهير) يصور الحدث في تحد كبير وهو يواجه أعداء الديموقراطية فكان مصيره الموت المباشر حيث تم قتله عن كثب فتوقف الفيلم الحقيقي الواقعي لننتقل بعد الجنريك الأول إلى السرد المُصور الحديث بعد 34 سنة.

المشاهد الأولى - بعد الجنريك الأول - تضعنا مباشرة في باب المحكمة (انتبهوا معي لمنطق بناء الفيلم: وقوع الجريمة تؤدي حتما إلى المحكمة) لنستمع إلى تصريحات ابنة المصور الصحفي المُغتال وأخته يتحدثن إلى الصحافة بمطالبتهما فتح تحقيق من جديد واستئناف الحكم الذي يقول بتقادم الجريمة بعد أن رفضت المحكمة إعادة النظر في ما جرى باعتبار أن الحدث وقع في يونيو 1973 وليس إبان الانقلاب الثاني في شهر سبتمبر من نفس السنة الذي أطاح بالرئيس سالفادور أليندي واغتياله، إذ أن التحقيق في الاغتيالات السياسية شمل فقط مرحلة الانقلاب الثاني وهذا إجحاف في حق فئة كبيرة عانت خلال الصيف الساخن بالشيلي (سنة 1973) ولم يكن الانقلاب الثاني إلا نتيجة نهائية للأول.

أمام رفض المحكمة قراءة التاريخ من جديد بعد أن توفرت معطياته دفعت بأحد أصدقائه وزملائه الصحفي كارمونا لإجراء تحقيق في اغتيال زميله منطلقا من "اللقطة" التي يصور فيها الصحفي الأرجنتيني ليوناردو هينريتشسن قاتله وهي "آخر لقطة" يصورها في حياته والتي تُعد المفتاح اللغز، ومبتدأه وخبره، إنها جوهر الفيلم في غياب "البطل" ليعتمد المحقق الصحفي خلال 94 دقيقة من مدة الفيلم في تجميع اللقطات والأرشيف المكتوب والفوتوغرافي لنتعرف من خلاله على الوضع السياسي حينها فيما أخته الفنانة التشكيلية ستعرفنا عن حياته الخاصة والأسرية بينما باقي زملائه الذين اشتغل معهم في مختلف أقطار أمريكا اللاتينية، خاصة بالشيلي والأرجنتين، يسلطون الضوء على حياته المهنية في المؤسسة الإعلامية السويدية التي كان يشتغل معها كمراسل.

سنتعرف على هذا البطل/الغائب شيئا فشيئا خلال تطور التحقيق الصحفي وفي نفس الوقت اكتشافنا الطريق التي ستوصلنا إلى المجرم الذي لن نتمكن من رؤيته في سنه المتقدمة لكونه يعيش مختفيا ولا يملك شجاعة مُقابلة الناس كما كان في عنفوان قوته العسكرية عندما قتل الصحفي المصور. هذه المواجهة لم تتم قط لكن المجتمع أعاد الاعتبار للضحية بفضح الجاني في نهاية الفيلم بمظاهرة تنديدية أمام منزله بشعار أن المجرم (أو بقايا المجرمين) مازالوا يعيشون بينهم، وأن بقاءهم أحرارا دون محاكمة وإفلاتهم من العقاب من الجرائم التي ارتكبوها هو خطر باحتمال عودة نفس الممارسات.

لم يكن هذا اللقاء الأخير الذي اختتم به الفيلم أمام منزل القاتل حيث جمع فئات مجتمعية من أعمار متفاوتة إلا مرحلة جديدة من كتابة تاريخ آخر للشعب نفسه وتصحيح مساره.

• الوثيقة والسرد / الماضي والحاضر..

اعتمادا على ما سبق قوله عن الفيلم يتبين بأن بناءه كان على خطين متوازيين فمن جهة يستحضر التاريخ وأحداثه بالوثيقة المركزية التي هي "اللقطة"/البرهان للاغتيال ومن جهة أخرى يناقش الحاضر بالشخصيات التي عاشت ذلك التاريخ بسردها له وقراءته في آن واحد.

سيلتقي هذان الخطان في نهاية الفيلم طبعا بالإدانة كما سبق القول أعلاه بعد 34 سنة من الحادث ليُعاد الاعتبار للضحية من خلال فيلم سينمائي الذي تحول بدوره لوثيقة إدانة مباشرة ومفتوحة تجوب العالم كما جابت من قبل الصورة الفوتوغرافية التي تظهر الصحفي المصور قتيلا.

إن الكتابة السينمائية التي اعتمدها المخرج أندرياس هابيجر تتجاوز ما هو سائد في كثير من الأفلام الوثائقية التي تريد أن تكون واقعية محضة بحجة "الحياد" و"الموضوعية" بينما في فيلم "اللقطة الأخيرة" يتبين بوضوح وجود سيناريو معدا سلفا ينطلق من المعطيات التي توفرت لديه حتى أنسانا في لحظات ما أننا أمام فيلم وثائقي بأسلوبه لسرد الأحداث التي يقدمها لنا في وقتها المناسب في قالب "روائي" مُفترض حتى ينجح في إيصال خطابه التنديدي.

كان البحث عن القاتل (قاتل الصورة التي تتحدث ألف كلمة وقاتل للديموقراطية الناشئة في الشيلي أيضا) يوازيه جمْع التاريخ الصحفي المُغتال للأشياء التي كان يستعملها من لوازم التصوير وملابسه وصوره الفوتوغرافية الشخصية وكذا التي اشتغل عليها وقصاصات الصحف التي تحدثت عن اغتياله لتكتمل لدينا الصورة عنه وعن النضال السياسي في جنوب القارة الأمريكية برمتها.

انطلقنا في بداية الفيلم من لقطات لأُناس يهربون من الرصاص لينتهي بأُناس ينددون بما جرى وبالرصاص الذي أطلق ذات صيف، حدث هذا خلال فترة تمتد على مساحة زمنية لأكثر من 34 سنة بوعي جديد

وعليه، فلم نكن أمام فيلم عاد بل إنتاج يعطي للفيلم الوثائقي ميزته بتوظيفه للوثيقة المرئية في المرتبة الأولى وهي مرتبة مركزية وأساسية في سيرورة العمل برمته خاصة وأنها مُوظفة بذكاء في قراءة التاريخ والعمل الصحفي والسينمائي وبذلك حقق أبعادا متعددة الأهداف.

الجزيرة الوثائقية في

26/04/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)