حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

كاثرين بيغيلو تمنح سينما الحرب معنىً جديداً في "خزانة الألم":

في أن الحرب إدمان والإدمان حياة

ريما المسمار

خلال العام الفائت، تركّز الحديث عن فيلم كاثرين بيغيلو "خزانة الألم" حول عنوانين: العراق والأوسكار. وذلك نوع من التصنيف تخضع له معظم الأفلام، وغالباً ما يتفرّع ليضيق الخناق على العمل الفني. فإذا قلنا فيلماً عن العراق، توالدت الأسئلة: مع أو ضد؟ يشبه سابقيه او يختلف عنهم؟ وإذا قلنا أوسكار، قفزت مجموعة أخرى من الأسئلة المتعلّقة بالموضوع: هل فاز لأنه بروباغندا للحرب؟ هل يستحق الفوز؟ وهكذا دواليك. وعندما فاز الفيلم بأكثر من جائزة أوسكار الشهر الفائت، كان التركيز على سابقة فوز امرأة بالجائزة وسابقة فوز فيلم ضئيل الموازنة بأوسكار أفضل عمل. ولكن أجمل ما في فيلم The Hurt Locker انه ينسيك عند مشاهدته كل تلك التفاصيل الخارجية، ويجبرك على التعاطي معه كعمل سينمائي، بعيداً من قطبي الموضوع السياسي وضوضاء الجوائز.

أفلام الحرب الأميركية على العراق باتت كثيرة. أفلام تدين خيار الحرب من موقع سياسيز أفلام تدين خيار الحرب من موقع انساني اساسه معاناة الجنود وهلاكهم. أفلام تتخذ من الحرب خلفية آنية لسرد حكاية تقليدية. أفلام ساخرة وأخرى كوميدية. أفلام حركة وأدرينالين. "خزانة الألم" خارج هذه التصنيفات الجاهزة وان ظل فيلم عن الحرب وفيها. إلا انه يقبض على جوهرها: الشك. ويذهب أبعد بإحالة هذا الشك إلى الشخصيات بدلاً من الخطابية. ويبثّه عبر مكونات سينمائية في الصورة والصوت والتوليف. ولكن قبل ذلك، ثمة أساس ومنطلق صلب هو السيناريو. قد يبدو هذا الوصف للوهلة الأولى من بديهيات العمل السينمائي. وهو كذلك بالفعل ولكنّه في واقع الحال مفقود في معظم الأفلام التي أبصرت النور عن حرب العراق.

كتب الصحافي مارك بول سيناريو الفيلم بناءً على تجربته الشخصية عام 2004 في مرافقة وحدة في الجيش الأميركي متخصصة في تفكيك المتفجّرات. جمع ملاحظاته ومشاهداته في نص روائي عالي التركيز والتكثيف. تتركّز أحداث الفيلم حول ثلاث شخصيات: الرقيب أول "ويليام جايمس" (جيريمي رينير)، الرقيب "جاي تي سانبورن" (أنتوني ماكي) والمتخصص "أوين ألدريدج" (براين جيراغتي). يقود "ويليام" أو "ويل" هذه الوحدة المتخصصة بتفكيك المتفجرات بعد مقتل قائدها "تومبسن" (غاي بيرس في ظهوره كضيف) بمتفجرة في بغداد. وسرعان ما يتبدّى التوتّر في علاقة الثلاثة لاسيما بين "ويل" و"سانبورن" بسبب سلوك الأول الذي يوحي باللامبالاة والفردانية. منذ المشهد الأول، تؤسس بيغيلو الأرضية لفيلمها على الصعيدين السينمائي والعلاقة بالمتفرج. الوحدة بقيادة "تومبسن"، تعاين كومة من الأكياس في حي بغدادي شبه مقفر، يُشتبه باحتوائها على متفجرات. ألوان الصورة المائلة الى اصفرار تشير الى الحرارة المرتفعة. الصورة المحبّبة (grainy) تعكس رؤية ضبابية بتأثير القيظ والطبيعة الصحراوية. ولكننا لا نلبث ان نكتشف انها الصورة التي تبثها كاميرا موصولة الى رجل آلي، مهمته معاينة المتفجرات بينما يتحكم الجنود به عن بعد. الخطوة التالية ارتداء "تومبسن" للبذلة "الواقية" من المتفجرات في طقس يبدو معتاداً عليه. كرائد فضاء يطأ كوكباً آخر، يسير "تومبسن" في اتجاه مكان المتفجرات بخطى بطيئة كأن جاذبيته ضوعفت او باتت معدومة. هو بدوره رجل آلي، تنقل الكاميرا وجهة نظره من وراء الخوذة وتلتقط وتيرة تنفسه الثقيل. يخاطب "تومبسن" مساعديه "سانبورن" و"ألدريدج" بواسطة لاسلكي، يعلمهما بخطواته فيما هما يوجهانه ويحميان ظهره. بعد ثوانٍ معدودة من اكتشافه المتفجرات الثقيلة، تعلو الجلبة بين زميليه إذ يكتشفان وقوف عراقي بالقرب من المكان حاملاً هاتفاً خليوياً. بعد أخذ ورد، يهمان بقتله ولكن التفجير سيسبقهما، مودياً بحاة "تومبسن". البطء، الترقب، التفصيل، الخطر والتوتر كلها مكثفة في هذا المشهد الأول. وكذلك زوايا الكاميرا المختلفة وزوايا النظر المتعددة. الشك سيد الموقف. هل كان يجب على الجنديين قتل ذلك الرجل لمجرد انه يحاول استخدام هاتفه الخليوي؟ هل هو فعلاً من قام بالتفجير؟ كيف يجدر بنا كمشاهدين ان نشعر حيال هؤلاء الجنود؟ إنهم بالمبدأ مخلصو أرواح مادامت مهتهم تفكيك القنابل والمتفجرات. الخيار ذكي من قبل الكاتب والمخرجة، خيار تلك الشخصيات بالذات. ولا يعني ذلك انه ينطوي على خبث لتمرير رسائل ما. ولكن تلك الشخصيات تختزل على المستوى الانساني صراعاً أخلاقياً ولذلك فإنها الأنسب لحمل فيلم يدور حول الشك وعلاقة الرجال بالحرب.

لحسن الحظ، تقصينا المخرجة بكل ما أوتيت من قدرة وموهبة وتصميم عن تلك التساؤلات التقليدية. ولعلها تستبق الاحكام الجاهزة، بما لا يخلو من خطة دفاعية، بجملة تظهر على الشاشة قبل بدء الأحداث: "صخب المعركة إدمان قوي وفي بعض الاحيان مميت. ذلك ان الحرب مخدّر." المقولة مأخوذة من كتاب لصحفي آخر هو كريس هيدجيز عنوانه "الحرب قوة تمنحنا المعنى". هيدجيز ايضاً أنجز كتابه بعد تجربته في العراق كمراسل حربي لـ "نيويورك تايمز". وإذا كان من معنى لخيار بيغيلو الاستناد الى تجربتين صحفيتين شخصيتين، فإنه يُترجم حتماً على صعيد خياراتها الفنية الخام والمباشرة والعضوية. فهي تسعى بما لا يدعو الى الشك الى إعادة خلق مناخ واقعي مغرق، يقطر جوهر التعقيدات النفسية والمعنوية للحرب الحديثة في سلسلة من المشاهد الرائعة والمؤلمة. الكاميرا المحمولة في معظم المشاهد لمدير التصوير المميز باري أكرويد (صاحب البصمة اللافتة في فيلمي كين لوتش "الرياح التي تهز الشعير" The Wind that Shakes the Barley وبول غرينغراس "يونايتد 93" United 93)، تستدعي للوهلة الأولى اسلوبه في "المنطقة الخضراء" Green Zone إلى أن ندرك الفارق الاساسي بين الاسلوبين. في الأخير، لا يزيد هذا الاسلوب التصويري عن كونه اداة تشويقية، نبث الادرينالين والتوتر العالي. الاسلوب نفسه في "خزانة الألم" يتحول وسيلة لتوسيع مجال الرؤية وعمق النظرة. كاميرا أكرويد هنا بحركتها المتشنجة تشبه الى حد بعيد تقلصات العين البشرية في محاولاتها التقاط الرؤية. والتوليف المتنقل بين زوايا نظر متعددة يصب في التوكيد على واقعية الرؤية التي تتراوح بين المشهد العام وبين التفاصيل، او بمعنى أشمل، بين العالم الكبير والعالم الصغير. والاثنان معاً، حركة الكاميرا والتوليف، يشيدان مناخاً من التشنج والضغط والتهديد، يشمل المتفرج مع شخصيات الفيلم.
على الأرض، تبدو دوريات وحدة تفكيك المتفجرات سلسلة متواصلة من المعارك الصامتة. الشخصيات الخلافية بطيبيعتها (جنود احتلال، يفككون المتفجرات ويحدون من خطر الموت)، تبدو الوعاء الملائم لطرح أكثر من فكرة ومضمون وحالة. البذلة المضادة للمتفجرات تعمّق الإحساس بالغربة والغرائبية. المكان في وصفه جغرافيا ولغة وثقافة وطبيعة، يشكل التهديد الأكبر للشخصيات، مولّداً حالة قصوى من التوتر والخوف. إنها طريقة المخرجة، إذا أردنا أن نسوق التأويلات، للتشكيك بوجود الجنود على تلك الأرض. كل شيء يتهددهم. الاطفال على الشرفات، الكاميرا بين يدي شاب، الهاتف الخليوي، سؤال أحد العراقيين بالانكليزية للجندي "من اين أنت؟"، المنظار، السكون، النفايات، اللغة العربية... كلّها عناصر تهديد ووسائل قتل ممكنة بالنسبة الى الجنود. المكان، بمعنى ما، مفخّخ برمته ولا سبيل الى تفكيك رموزه (لغة وثقافة وتاريخ) للحد من مخاطره. إنها معضلة "سانبورن" الذي يتوهّم السيطرة على الوضع ويغيظه سلوك "ويل" المتفلّت من كل قيد. "ويل" هو مدمن الحرب بحسب ما تنبئنا به المقولة في مستهل الفيلم. يقول لنا هذا منذ المشهد الاول لظهوره. إذ يرتدي البذلة الواقية، كما فعل سلفه "تومبسن" وبطقس مماثل، ننتبه على الفور الى مشيته الواثقة وخطاه المتسارعة نحو الهدف-المتفجرة. وقبل ان يصل اليها، يتعرض لما يمكن ان يكون هجوماً مدنياً من سائق عراقي يرفض التوقف لدى اشارة الجنود له بذلك. ولكن عوضاً عن إردائه قتيلاً على الفور كما كان يهم زملاؤه بالفعل، يفاوضه ويواجهه لدقائق تبدو ساعات قبل ان يتراجع السائق. هذا واحد من المشاهد "المضلّلة" وستليها أخرى من مثل مصادقة "ويل" لصبي عراقي يسمي نفسه "بيكهام" يبيعهم أقراص "دي.في.دي". وهي "مضلّلة" لأن المخرجة تتعمد التلاعب بالكليشيه بخفر. حيث ان هذا النوع من المشاهد في الافلام الهوليوودية السائدة هو في الغالب وسيلة لتمرير رسالة عن الجندي "الطيب" أو "الإنساني" وسط آلة الحرب الوحشية. ولكن ما ستكشفه الأحداث لاحقاً هو ان "ويل" ليس إلا لاعباً مدمناً على الحرب. فمفاوضته السائق أقرب الى تطويل مدة اللعب والاستمتاع بالخطر منها الى سلوك انساني متعفف ينبذ القتل. ومصادقته "بيكهام" ربما تكون قائمة على احساسه بشبه يجمعه به ولا يعثر عليه مع زملائه. بمعنى ما، "بيكهام" مثله، يجد في الحرب لعبة، يحيا على هامشها ويتفتح وعيه عليها. بهذا المعنى، لا يجسّد "ويل" البطل التقليدي وينأى جيريمي رينير بنفسه عن عرض العضلات في أدائه. اداؤه براني مقصود، خالٍ من الحوارات الثقيلة المعقّدة ومن التلميحات السيكولوجية. هو أقرب الى مفهوم "أن تكون" في الأداء التمثيلي، صامت انما حديدي، يعكس مناخ الفيلم برمته. ربما يكون مشهد الصحراء الاقوى والاكثر تعبيراً عن روح الفيلم. في مشهد يمتد لأكثر من عشر دقائق، تصور بيغيلو مواجهة بين فرقة مفككي القنابل ومجموعة من المقاتلين العراقيين. المحاولة هنا تشبه الخروج من الصورة العامة المثالية والكاملة للمواجهات والمعارك في الافلام الهوليوودية. من بعيد، يبدو كل شيء متقن ومحضّر لا تشوبه شائبة. تشق كاميرا أكرويد طريقها في ثنايا المشهد الكبير لتلتقط مواقف وتفاصيل وانفعالات نادراً ما تنقلها كاميرا أفلام الحروب. الزمن هنا أساسي لأنه واقعي وارتباك الجنود ينقل إحساساً بعدم الإرتياح ليس فقط بين الجنود أنفسهم وانما ايضاً بين المشاهدين. انه مواجهة قريبة مع حقيقة الحرب على مسافة صفر منها. وتفعل بيغيلو ما هو أذكى عندما تترك للثواني ان تفصل بين صوت الرصاصة التي يطلقها الجندي وإصابتها القتيل في تفاوت يحدده موقع الكاميرا. صحيح انها حقيقة علمية ثابتة (الضوء يفوق الصوت سرعة) الا ان مستلزمات السرعة والايقاع العالي في الأفلام تغاضت دائماً عنها. في هذا المشهد، تعيد المخرجة تقويم الأمور محققة في الواقع جرعة أعلى من الترقب نتيجة لنقلها الزمن الواقعي للأحداث. المشهد الآخر الذي يجدر التوقف عنده هو العراقي المزنر بالمتفجرات (يلعب دوره الممثل المسرحي العراقي سهيل الدبّاش) في الجزء الأخير من الفيلم. هنا، تضرب المخرجة عرض الحائط بالتقاليد الهوليوودية بعد ان سعت طوال الفيلم الى تقويضها ببطء وتأنٍ. يفشل "ويل" في تفكيك القنابل الموقوتة التي تزنر جسم الرجل الأربعيني مبتعداً وسط توسلاته انقاذه. تقليدياً، على المشهد ان ينتهي إما بانقاذ البطل له واما بموته معه للتأكيد على البطولة والتضحية. ولكن بيغيلو تذهب الى حيار آخر هو إفشال "ويل" ما يعني في قاموس الأخير خسارة جولة في تلك اللعبة الخطيرة التي يدمنها. ولعلّ هذه الخسارة هي التي ستعيدها مرة أخرى الى أرض معركة جديدة (هذه المرة أفغانستان) بعد ان انتهت مهمته في العراق. في موطنه الاميركي، يحاول "ويل" ممارسة حياة عادية بيومياتها. ولكنه يسر الى طفله في ما يشبه النصيحة الأبوية "ستكتشف مع نقدم العمر ان الأشياء التي تحبها قليلة وربما لا تتعدى شيئين..." ثم وبنبرة تنسجم مع تطرف الفيلم- انطلاقاً من تطرف الحرب نفسها- يعلن انه يحب شيئاً واحداً فقط. بعدها نراه عائداً الى أفعانستان في مهمة جديدة. انها الحرب كمخدر كما أسلفت المخرجة، يدمنها ويعليها على العائلة والأولاد والوطنية والبطولة وكل تلك الشعارات التي تُخاض باسمها الحروب.

المستقبل اللبنانية في

16/04/2010

 

غسان سلهب يذهب أبعد من السيرة الذاتية في "1985":

لا يقين سوى وجه الأم والفراغ

ريما المسمار 

لا يكفّ غسان سلهب، في أفلامه، عن البحث عن مدينته بيروت، ولا يتوانى عن مواجهتها. شخصيات أفلامه، لاسيما "الخليلين" في "اشباح بيروت" و"أطلال"، عالقة في مساحة عيش ما، أكانت ماضياً لا تستطيع الفكاك منه، او حاضراً يحاصرها، او ما بعد حاضر هجين يدفعها الى العزلة التامة. في فيلمه الجديد "1958" الذي يفصل بين ثلاثية بيروت الأشباح والوهم والعزلة ("أشباح بيروت" 1999، "أرض مجهولة" 2002 و"أطلال" 2006) وبين مشروعه الروائي المقبل (بعنوانه المؤقت "الجبل") الماضي في خيار العزلة قلباً وقالباً، يستمرئ السينمائي أن يجسّد شخصياته، بعد أن جسدته، أن يأخذ مكانها، أن ينتحلها. يصهرها في قالب فيلمه الاوتوبيوغرافي المنطلق، ويعيد انتاجها في المكان والصورة والصوت وبحضوره المباشر. إنه فيلم التاريخ الشخصي، مشبوكاً بتواريخ عامة. وفيلم السيرة المركّبة، مروية في الجغرافيا والتاريخ غير النهائيين. ولكنّها سيرة مشكوك بها، تفلت منه- أو انه يفلتها- كلما تقدّم السرد وتداخل الخاص والعام. وحدها الأم، أم غسان، هي اليقين.

فلندع جانباً كل محاولات التغريب التي يلبسها شخصياته ولننسَ سوداوية النظرة والعزلة التي يعلنها ظرفاً إنسانياً لا فكاك منه، غسّان سلهب في الأول والآخر مخرج حميم. وحميميته تلك لا تلبس رداء النوستالجيا ولا تتدثّر بالعواطف الواضحة. إنها حميمية الحوار والتواصل مع فرد هو "جمهور" أفلامه. وحميمية التفاصيل التي تعبر من فيلم الى آخر، كأنها ذلك المكوّن السري لعالمه الذي يشرّعه أمامنا بشفافية، تنطوي على رغبة في الاعلان عن ذاتيته. كأنه يقول "هذا أنا" و"أفلامي هي ظلي" او "أنا ظلّ أفلامي". لازمة الظل-الشبح تخيّم على أفلامه. من العتمة، يخرج وميض في مستهل "1958"، يضيء أجزاء من لوحة قديمة، تجسّد الإنزال الأميركي في منطقة الرملة البيضاء في بيروت عام 1958. اللوحة قديمة مثلما هي الحادثة وغير موثّقة (من حيث انها لوحة وليست مادة أرشيفية كالتي سيعمد إليها الفيلم لاحقاً). من العتمة والصورة، يخترق الفيلم الرواية، معلناً منذ اللحظة الأولى ضبابية الرؤية واهتزاز الحقيقة. في سلسلة اللقطات التالية، يؤسس سلهب لعالمه السينمائي. من أرشيف بالأبيض والأسود لعملية الانزال الأميركي، الى مشهد المركب يخترق البحر فيما سلهب يدير ظهره الى الكاميرا ويواجه أفقاً مفتوحاً أمامه، مروراً بلقطة كبيرة لوجه الأم كحقيقة ساطعة، وأخرى اكثر اتساعاً لطفل نائم على ايقاع نبضات قلب وتنفس منتظم، ينطلق الفيلم في اتجاهات عدة: وجهة مخرجه صوب مجهول اعتاد ان يبحث فيه عن شيء ملموس، رحلة في التاريخ العام المؤرشف، روايات أفراد وحكاية أم وطفل. في زقاق جانبي، يمضي سلهب كأنه يقتفي أثر "خليل" في "أطلال" ولكنه في الواقع يقتفي أثره هو وقد استحال شبحاً في فضاء فيلمه، لا نراه ولكننا نلمس حضوره وتلفحنا أنفاسه. الأحداث تنطلق من يقين هو العام 1958، عام ولادة المخرج في السينيغال وعام أزمة 1958 (بين رئيس الجمهورية كميل شمعون ورئيس الوزراء رشيد كرامي أو بين الموارنة والسنَّة على خلفية حلف بغداد) التي يعتبرها بعضهم مقدمة للحرب التي اندلعت في العام 1975. يزعم المخرج انه شاهد على الأحداث وهو كذلك، نظرياً، خلا انه لم يكن وقتذاك قد تجاوز الثلاثة أشهر. وهو لذلك يلجأ الى أمه والى روايات آخرين وما تيسّر من أرشيف ليركّب المشهد من جديد. ولكن أنّ لسلهب الاكتفاء برواية جاهزة أو الركون الى وجهة نظر. فهو إذا كان يصر في كل تجربة يخوضها، بالسينما او الفيديو، على القطع مع الاشكال واللغات، فإنه حريص من جهة ثانية على الوصل مع الماضي والحاضر ومع الزمان والمكان. وما تلك الأوتوبيوغرافية التي يتظاهر الفيلم بها سوى حجة لكسرها. فهو يبني البورتريه ليقوّضه وينطلق من تكسير صورته ليكسّر صورة أعم، يفتّت عناصرها في لعبة مرايا متكسّرة، حيث الكل يعكس الجزء والجزء يعكس الكل. هكذا يُعمل رؤيته في المادة الأرشيفية، فيحييها من جديد في سياق درامي، حيناً بالمؤثرات الصوتية التي يدخلها عليها وحيناً آخر بإخضاعها لسلطة الكلمات وأحياناً بتمويهها مع صور أخرى وخفت أصواتها. كذلك يفعل أيضاً بروايتي الشاهدين اللتين تتداخلان وتتطاولان محاولتين تثبيت الحقيقة او الواقع. ولكنها محاولات تذهب سدىً لأن ما من يقين في عرف سلهب سوى وجه أمه وذلك الفراغ المدوي. في نثرات الحكايات تلتمع صور الحاضر. وفي كلية الحاضر يحضر شبح الماضي. هكذا ترتدي كاميرا الفيلم رداء الشبح فتلفح أنفاسها القفر. تتنقل جيئة وذهاباً امام هياكل متآكلة لدبابات قديمة كأنها طبيعة صامتة من زمن آخر. أو تتجوّل في مبانٍ مهجورة يتردد فيها صدى الماضي. مرات قليلة تلتفت الكاميرا الى شارع يمكن عين المتفرج ان تميزه. فالحاضر الذي يزرع سلهب فيلمه فيه يريده شبحاً للماضي او في أحسن الأحوال طبقة رقيقة مضغوطة بين تراكمات، يجسدها بالصور والأصوات المتداخلة. منذ البداية، يصنع الفيلم شرخاً بين الصوت والصورة، يزداد عمقاً كلما حاولنا ان نرى أو أن نسمع أكثر. مع مرور الوقت، يستحيل تتبع الحكايات عملية مضنية وجهداً لا طائل منه. تضيع البوصلة فيتحرك المركب دائرياً في وسط البحر فيما الكاميرا هذه المرة مركزة على وجه غسان سلهب يدور حول بيروت وحول نفسه.

إذا كان "خليل" (كارلوس شاهين) في "اطلال" يعثر على ملاذه الأخير في البحر فإن سلهب ينطلق من ذلك الملاذ والعزلة، من المكان الآخر والزاوية المضادة لبيروت. إبحاره الأول يصير دوراناً في المكان نفسه، تماماً كما هو فيلمه سفر بين زمنين وقارتين من دون أن يتزحزح. ليس ذلك فحسب ما يخضع للتحول في الفيلم. فكرة التحول التي غالباً ما انطلق منها المخرج للتعبير عن المدينة وناسها، هي جوهر هذا الفيلم على أكثر من صعيد. ولعل أوضحها كيف ينطلق الفيلم صورة شخصية ليصير عامة وكيف ينتهي صورة عن الأم. "1958" هو في واقع الحال بورتريه للأم، يكتنز الخاص والعام. الخاص هو ما يذهب سلهب الى تثبيته بالصورة التي يطيل مكوثها على الشاشة حتى تنطبع على الشريط وفي الأذهان. وفي لحظات الصمت والتفكر، يشتد تأثير تلك الصورة وحضورها. ولكن لهذه المرأة ايضاً وجهاً آخر عاماً، يتماهى مع أحداث تاريخية وحكاية جيل وشعارات وطن. تتحدث عن هجرتها الى افريقيا في خمسينات القرن الماضي صبية لم تتجاوز قبلها عتبة مسقط رأسها صيدا. تتحدث عن احوال اللبنانيين في داكار. تستعيد تجربة الامومة الاولى. تتذكر جمال عبد الناصر. تحكي من دون ان تعرف انها بذلك تختزل المرأة والام والوطن وحقيقة ما وسط كل الشكوك. فمهما حاول المخرج ان يطوّع حضورها لأدواته وأن يموّه كلماتها، فإن حضورها المحسوس، المضاد لحضور الشبح (شبح المخرج وشبح الماضي وشبح الحاضر)، هو الاقوى، يختم به على اغنية أسمهان ("دخلت مرة الجنينة")، أسمهان تلك المرأة الأخرى بحضورها الطاغي في غيابها. وجه الأم وصوت أسمهان هما اليقين.

"1958"* يعرض يومياً في متروبوليس أمبير ـ صوفيل حتى 18 نيسان

المستقبل اللبنانية في

16/04/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)