حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"فيديريكو فيلليني: الفانوس السحري" في "متروبوليس" حتى 18 نيسان

"مايسترو" الواقعية الجديدة ينقلب عليها.. ورد الاعتبار لأفلامه الأخيرة

ريما المسمار

تستكمل مؤسسة سينما "متروبوليس" في بيروت برنامجها الأبرز منذ انطلاقها في العام 2006 ونقصد به البرنامج الاستعادي الذي يشهد محطته الثالثة، في عنوان "فيديريكو فيلليني: الفانوس السحري"، خلال هذه الفترة بين الخامس والثامن عشر من نيسان/أبريل الجاري. فبعد استعادة الايطالي مايكل أنجلو أنتونيوني (العام الفائت) والفرنسي روبير بريسون (قبل شهر ونيف)، وقبل استعادة السينمائي الفرنسي الآخر جاك تاتي في حزيران/يونيو المقبل، تحتفي "متروبوليس" بالتعاون مع المركز الثقافي الايطالي في بيروت بالسينمائي فيديريكو فيلليني. تضم الاحتفالية ستة عشر فيلماً من أصل أربعة وعشرين فيلماً، أنجزها فيلليني خلال أربعة عقود من الزمن، فضلاً عن وثائقي لغيديين باخمن في عنوان Ciao, Federico، سيُعرض في ختام التظاهرة. وتتضمن عروض الأيام المقبلة: "ثمانية ونصف" (اليوم الجمعة 9 نيسان)، "الطريق" و"ساتايريكون" (السبت 10 نيسان)، "المهرجون" و"روما" (الأحد 11 نيسان)، "أماركورد" (الاثنين 12 نيسان)، "كازانوفا" (الثلاثاء 13 نيسان)، "تمارين الاوركسترا" (الأربعاء 14 نيسان)، "مدينة النساء" (الخميس 15 نيسان)، "وتبحر السفينة" (الجمعة 16 نيسان)، "مقابلة" و"جينجر وفريد" (السبت 17 نيسان)، "صوت القمر" و"وداعاً، فيديريكو" (الأحد 18 نيسان).

يستوقفنا أمران في هذه الاستعادة الفيللينية. الأول انها تجيء بعد أقل من عام على استعادة سينمائي ايطالي آخر هو مايكل انجلو انتونيوني. والصدفة هنا هي في الواقع مفارقة، ذلك ان الاستعادتين هما بمثابة الإحاطة بـ"معسكري" السينما الإيطالية على حد تعبير مخرج ايطالي ثالث هو ناني موريتي، يعتبر-هو وكثيرون غيره- ان محبي السينما الإيطالية ينقسمون الى معسكرين: محبي انتونيوني ومحبي فيلليني. وفي حين يعترف موريتي بتفضيله اسلوب الأخير القائم على خيال محوره "أنا" المخرج ونقد اجتماعي طريف واحتفاء بالحياة، لايزال آخرون يجدون في أسلوب انتونيوني التجريبي وعدم اكتراثه برواية القصص التقليدية وانبهاره بالحداثة وشخصياته التي تواجه أزمات وجودية، يجدون ضالتهم. الأمر الثاني هو رد الاعتبار لمرحلة سينمائية في مسيرة فيلليني، غالباً ما يُنظر إليها في وصفها أقل شأناً من سابقتيها، وهي تحديداً المرحلة التي بدأت في مطلع السبعينات من القرن الماضي وانتهت مع آخر أفلامه "صوت القمر" في العام 1990. وبقدر ما تشكل هذه الاستعادة فتحاً على الصعيدين المحلي والعربي، بقدر ما تصب عالمياً في النقاش المستمر حول فيديريكو فيلليني الذي لا يخلو من نقد لاذع، يغمز من قناة وجدانيته ومبالغته وانغماسه في ذاته، بل ويصفه بأنه وقع في فخ ادعاءاته الجمالية والفكرية. والواقع ان هذا النقد لم يكن تالياً لموته، بل انه تيار بدأ بالتشكل خلال مسيرة فيلليني، متزامناً مع ذروة نجاحها التجاري. فحتى مع النجاح الكبير، النقدي والجماهيري، لفيلمي "الحياة حلوة" La Dolce Vita (1960) و"ثمانية ونصف" 81/2 (1963)، كانت هنالك همهمة، اعتبرت انه ضل طريقه، وأقصى نفسه عن جذور "الواقعية الجديدة" التي غذّت بداياته. ولكن إذا سلّمنا جدلاً بأن تلك "الاتهامات" كانت صحيحة، فإن ما لم يفهمه أصحابها ان العملية- اي التحرر من "الواقعية الجديدة"- كان مقصودة من جانب فيلليني، بل انه يمكن النظر الى أفلامه الأولى التي سبقت "ثمانية ونصف" على انها عملية تحضيرية ومكثّفة للإفلات من قيود الواقعية الجديدة وفرض أسلوبه ورؤيته الخاصين. كان "ثمانية ونصف"، أكثر أفلامه ذاتية، الإعلان عن تحرره الكامل من موجة "الواقعية الجديدة" بعدما كان "المايسترو" الاساسي لها في بداياته.

واضح جداً كان رفض فيلليني في "ثمانية ونصف" لخانة التصنيف الجاهزة التي كانت مفروضة عليه، بما يجعل الإنطلاق من هذا الفيلم تحديداً الى بداياته أكثر معنىً من تتبع مسيرته بحسب تسلسلها الزمني. الشخصية المحورية في "ثمانية ونصف" هي المخرج السينمائي "غويدو"، يجسده الممثل مارتشيللو ماستروياني بما لا يدع مجالاً للشك كبديل من فيلليني. يجد "غويدو" نفسه مهاجماً من النقاد والصحفيين مراراً وتكراراً: الفريق الأول يلومه على رعونة أفكاره وعبثه فيما الفريق الثاني يحاصره باسئلة غبية. "هل انت مع الطلاق او ضده؟" يصيح أحدهم. "هل انت خائف من القنبلة الذرية؟ هل تؤمن بالله؟ لماذا لا تصنع قصص حب؟"

في الوقت عينه، يقول له أحد نقاده المثابرين، كاتب السيناريو "دومييه" ان "افلامك تفتقر الى صفات الطليعية ولكنها تكتنز كل اخفاقاتها." بخبث، يستبعد فيلليني "دومييه" ولكن الأخير يعود سالماً مستأنفاً هجومه على المخرج: " براءتك الحنون سلبية، ذكرياتك الصغيرة مغمسة بالنوستالجيا وردود فعلك عاطفية مسالمة". اما "غويدو" فيدافع عن نفسه بعبارات ماكرة: "أردت ان اصنع فيلماً صادقاً، يساعد كل شخص على دفن كل ما هو ميت في داخله... لا شيء عندي لأقوله ولكنني أريد قوله في كل الأحوال".

حتى تعليقات فيلليني حول فيلمه لم تكن مختلفة كثيراً، متوجهاً الى العاطفة أكثر من الفكر:" لا أحب فكرة "فهم" الفيلم. لا أؤمن بأن الفهم العقلاني عنصر أساسي في عملية تلقي العمل الفني. فإما ان الفيلم لديه ما يقوله واما انه لا يملك ما يقوله. اذا حرّكك فلن تحتاج الى من يشرحه لك. واذا لم يمسّك، فلن ينفع اي شرح في جعله يحركك."

على الرغم من ان "ثمانية ونصف" شكل نقطة انفصال حاسمة عن ميثاق الواقعية الذي طبع أفلامه السابقة، الا ان هذا التمايز للعواطف على حساب العقل لم يكن جديداً. مراراً وتكراراً، نزعت أفلامه الى وجهة نظر الشخصيات اللاعقلانية كالأطفال والمهرجين وموسيقيي السيرك مثل "غيلسومينا" (جولييتا ماسينا) في "الطريق" La Strada (1954). الأطفال في أفلام فيلليني ليسوا دائماً رمز البراءة بل هم في أحيانٍ كثيرة شخصيات غامضة. الصبي الصغير الذي يلعب شخصية "غويدو" طفلاً هو الشخصية الاخيرة التي نراها في "ثمانية ونصف" ويقودنا الى العتمة الشاملة بنايه وردائه الأبيض. اللقطة الأخيرة في "الحياة حلوة" هي لوجه الفتاة "باولا"، تحاول ان تنقل رسالة الى البطل "مارتشيللو" بينما هو لا يتمكن من سماعها بسبب تكسر الامواج على الشاطئ. "غيلسومينا" نفسها بمزاجها المتقلب وطبيعتها الساذجة ليست سوى طفلة. وكذلك هي حال "كابيريا" (تجسدها ماسينا ايضاً) التي على الرغم من يأسها، تبتسم فرحاً عند رؤية مجموعة من الموسيقيين يعبرون الشارع. حتى نهاية "ثمانية ونصف" تنبئنا بأن أزمة إلهام "غويدو" وحيرته تبخرتا بأعجوبة مع مشهد الرقص الجماعي.

لم يكن ذلك النزوع الى العاطفة وحده وسيلة الانجراف المخطط بعيداً من الواقعة بل هناك ايضاً فضاءات افلامه الطبيعية والعاطفية والمتخيلة التي أصبحت لاحقاً لصيقة به تُعرف بعوالم فيلليني. فالخلفية الاجتماعية والشخصيات المهمشة لم تعد المحور، ممهداً لها في "ليالي كابيريا" من خلال سلسلة مشاهد لكابيريا في منزل نجم سينمائي. كان ذلك بمثابة الخطوة الاولى باتجاه عوالم اجتماعية أكثر سحراً تتأرجح على حافة الفانتازيا.

بين الواقع والخيال

في أفلامه كافة، كان فيلليني يغرف من معينه الذي لا ينضب: تجاربه الماضية، ذكرياته، أحلامه وتوهماته. لقد اعتقد أن الاحلام والخيال اصدق من الواقع لأنهما يقاومان التفسير الواضح، يأتيان صاحبهما صوراً ورموزاً اكثرها جنسي. على الرغم من أن أسلوبه السينمائي متفرد، إلا أنه لم يكن خارج نفق التحولات، منطلقاً من الواقعية الجديدة مع روسيلليني وفي أفلام مثل "الطريق" و"ليالي كابيريا" حيث الفعل السينمائي يمحو نفسه تاركاً لوهم الواقع ان يقود المتفرج، إلى واقعية سوريالية غارقة في السؤال عن الشكل السينمائي نفسه كموضوع وليس كوسيلة كما في "ثمانية ونصف" و"روما" (1972) و"المقابلة" (1987) و"كازانوفا " (1976) وغيرها. في المرحلتين وما توسطهما من انتقالية، لم يكن فيلليني إلا ذاتياً، ليس بسرد واقعه وانما بانفتاحه على باطنه، فالسينمائي بالنسبة إليه "هو القادر على إضافة الحياة إلى خياله" وليس العكس كما هو شائع. وهو إذ كان ينكر صفة "السيرة الذاتية" عن أفلامه، إلا أنه كان يفخر دائماً بأنه لم يقصد فنانين آخرين للعثور على موضوعات أفلامه بل ذهب إلى حياته. وبرغم انه اكد مراراً انه لا شيء سوى مجرد راوي حكايات، إلا أن أفلامه تحتوي على نظرة إلى الانسان والمجتمع من زاوية غاية في الخصوصية والابتكار: فهو من خلال أفلامه قدم صورة بصرية ضخمة ومبالغة عن العالم الذي نظنه "العالم الحقيقي" فقط ليقترح ان الحقيقة هي في مكان آخر في هذا العالم الاشبه بالسيرك. في حين تنطبق الصفة الذاتية علي أفلامه كافة، يبرز اثنان منها سرداً مباشراً لحياته: "ثمانية ونصف" و"أماركورد" أو "أنا أتذكر". في الاول، وكان المفضل لدى المايسترو، يعرض لأزمة الهامه كمخرج ولأزمة منتصف العمر ولعلاقاته الانسانية المشوشة من ماضيه وحاضره ويبقى الفيلم الذي يسعى المخرج في الفيلم ـ يلعب دوره ماستروياني ـ غير منجز كأنه يقول انه من الاستحالة بمكان صنع فيلم عن حياة كاملة ولو أن أفلامه مجتمعة، استطاعت أن توجز الحياة بأعمق مما هي عليه احياناً وبأمتع وبأكثر إثارة. وفي "اماركورد"، يستعيد طفولته في ريميني ليس كما عاشها في الواقع فحسب بل أيضاً في الخيال والاحلام. انشغل فيلليني في أفلامه بالعلاقات البشرية بين المرأة والرجل، وبحث عن الحب في علاقته بالجنس، ودارت أفلامه في فلك الغربة والوحدة. لقد اعتقد دائماً ان مصيبة البشرية هي الوحدة، وآمن بأن كسرها ممكن بمشاركة شخص آخر هو الحب. لذلك بقي فيلليني وفياً لشريكته جولييتا ماسينا (توفيت بعده بخمسة اشهر) واعتبرها ملهمته الحقيقية، فشكلت بالتناوب مع ماستروياني، اناه الثانية في السينما، التي تجسد باطنه. برغم جرأة أفلامه في التعاطي مع المرأة وفي تقديمها، إلا أنه كان يخشى النساء ويحسد مارتشيللو على تحلق النساء حوله، في حين انه كان هو يهرب منهن. شكلت المرأة محوراً أساسياً في افلامه، وبخلاف ما يُقال أحياناً عن احتقاره لها، فإنه اعتبرها مخلوقاً أسمى من الرجل: "المرأة كون، أسمى من الرجل لأنها تولد ناضجة قديمة. وهي بحكم امومتها، تسمو. حتى الثورة فعل نسائي. اما الرجل فقد اخترع لنفسه التفوق الذهني الزائف كوسيلة عنف للسيطرة عليها لأن معركته معها ليست متكافئة. " اذا كان الرجل في أفلام فيلليني هو القوي المتسلط كما في جزء "الحريم" من "ثمانية ونصف"، فاقد القدرة على التعبير (الطريق) أو أسير شهواته (مدينة النساء والحياة جميلة)، فإن المرأة أكثر تعددية في أفلامه وأكثر تعقيداً. فهي المرأة ـ الام في "ثمانية ونصف" و"مدينة النساء" و"الحياة جميلة"، من خلال ذكرياته عن "سارايينا" الغجرية (صورة أمومية) وعلاقته بزوجته في الاول والمربية في الثاني والحبيبة المتفانية في الثالث. ولكن "مادلينا" في "الحياة حلوة" أكثر تعقيداً أولاً لانها توازي شخصية ماستروياني قوة، وثانياً لأنها مزيج من البراءة والسقوط الاخلاقي وكأنها انعكاس لشخصية فيلليني من حيث غربتها ومشاعرها المتناقضة تجاه الحب والجنس. وفي هذه الافلام، غالباً ما يعاني الزوجان من صعوبة في التواصل والتفاهم، غير أن الصورة الكاملة للزوجة جسدتها زوجته في الواقع جيولييتا في "جولييت الاشباح"، فكانت صورة شاملة للمرأة بتعقيداتها وهواجسها وتناقضاتها وأزماتها كما يقدمها تحديداً في مشهد المرايا.

السيرك

حين يتحدث فيلليني عن طفولته، تبرز حادثتان أثرتا فيه اعمق تأثير: رؤيته السيرك للمرة الاولى وعلاقته بسينما "دار فولغور". ان تجربة فولغور المبكرة، خلفت في السينمائي شغفاً عظيماً بالصور من دون ان يتذكرها تحديداً. وعيه بالافلام تشكل منذ سنه العاشرة مع بداية دخول الصوت إلى السينما، وعلاقته بها ارتكزت على الافلام الاميركية التي أحبها دائماً ونظر إلى صانعيها وممثليها بإعجاب وذهول. نجد وصفاً تفصيلياً لهذه العلاقة في مقابلة، اجرتها معه شاعرة إيطالية تُدعى توني مارايني ونُشرت بعيد وفاته. رداً على سؤال حول علاقته الاولى بالسينما قال فيلليني: "أحب الآن افلام كوروساوا وبيرغمن وبونويل وكيوبريك... بالنسبة إلى جيلي المولود في العشرينات، الافلام هي الافلام الاميركية. الافلام الايطالية كانت إما عن الحروب أو عن الرومان وكانت تقوم على بروباغندا فاشية. لم تكن الافلام الايطالية مغرية. السينما الاميركية في المقابل، كانت مدعومة بأكبر حركة صحافية في تاريخ السينما وأكثرها تأثيراً... أفلام كانت في وقتنا تقدم احتمال وجود بلد آخر وحياة أخرى أكثر بهجة من قداديس أيام الآحاد للكهنة الايطاليين عن الجنة. الافلام الاميركية قدمت هذه الجنة على الارض. بالنسبة إلى جيلي، كان ذلك مصدر إعجاب لذلك البلد ولشعبه ولشخصيات أفلامه ولأسلوب تمثيلهم الطبيعي والعفوي. حتى خطاب الجيش الاميركي كان مقبولاً لأن أبطاله كانوا غاري كوبر وكلارك غايبل وآخرين...". احب فيلليني ابن العاشرة تشارلي تشابلن والاخوة ماركس وغاري كوبر وفريد استر وجنجر روجرز والثنائي لوريل وهاردي، كما أحب الافلام التي ارتكزت إلى شخصية صحافي لا سيما إذا كان يرتدي واقياً للمطر... ويعترف في مذكراته أن عمله في الصحافة خطر له من الافلام الاميركية. وفي وصف شعوره داخل سينما فولغور التي اطلق لاحقاً عليها وصف "بيت طفولتي"، يقول فيلليني في مذكراته: "كانت تنتابني انفعالات حادة وأنا جالس في سينما فولغور وعرض الفيلم يوشك ان يبدأ. وكان يستحوذ علي هناك شعورالتوقع العجيب. وهو الشعور نفسه الذي كنت أحسه كلما ارتقيت المنصة الخامسة في شينيشيتا، إلا أنه في الحالة الثانية كان شعور البالغ الراشد الذي يستطيع التحكم بالانشداه. إنه انفعال الجنس الكلي، الارتجاف العصبي، التركيز الكلي، النشوة." تقاطعت تجربته في فولغور مع تجربة السيرك الاعمق تأثيراً في حياة فيلليني وأكثرها مباشرة في اختياره السينما لاحقاً. يقول فيلليني: "صدمتني رؤية المهرجين؛ لم أعرف أن كانوا حيوانات أو أشباحاً. لم اجدهم مضحكين ولكني أحسست إحساساً غريباً، إحساساً بأن حضوري متوقع. في تلك الليلة وفيما تلاها على مدى أعوام، كنت أحلم بالسيرك. وخلال أحلام السيرك تلك، شعرت أنني عثرت على المكان الذي أنتمي إليه." وفي اليوم التالي لمشاهدته السيرك، رأى فيلليني قرب النافورة في الساحة مهرجاً، كان ما زال يرتدي ملابس اليوم الفائت. أحس فيلليني بالالفة تجاهه، لعله في لاوعيه لمس فيه تجسيداً للنموذج الانساني الذي أصبحه فيما بعد: شخص ساخر، من نفسه قبل الآخرين، لا ينتمي إلى خانات المجتمع الجاهزة ـ المدرسة، المنزل، الكنيسة ـ يمزج الفرح والحزن، التفاؤل والتشاؤم، ويختلط في عالمه السينمائي القناع والحقيقة، بينما يسوده السحر والخيال.

تحول المهرج رمزاً في حياة فيلليني وفي أفلامه. أُعجب بقدرته على إضحاك الآخرين محاولاً ان يتماثل معه في "سيرك السينما" كما أسماه. وعندما يقول انه شعر بالانتماء إلى عالم المهرجين، فإنه قصد بذلك الانتماء إلى اسلوب تعبيره: السخرية وانما بحب وبراءة. كذلك لخصت شخصية المهرج بحث فيلليني المتأني في أفلامه كافة عن البراءة الخالصة والمفقودة، إذ كان يعتقد ان البراءة الحقيقية يمكن العثور عليها لدى ثلاثة فقط: الطفل والفنان والمجنون: "في كل أفلامي، هناك جهد لتقديم عالم بدون حب، مليء بالشخصيات الانانية والوصولية والاستغلالية وفي وسط ذلك العالم، هناك دائماً مخلوق صغير يريد أن يحب وأن يعيش من أجل الحب." يسهل العثور على ذلك المخلوق الصغير المتمثل بزوجته الممثلة جيولييتا ماسينا في الافلام التي ظهرت فيها ـ "الطريق" و"جولييت الاشباح" وغيرها ـ وفي شخصيات أخرى، نسائية في الغالب، في الاعمال الاخرى. بهذه العبارة، اجاب فيلليني على تساؤلات معجبيه ومنتقديه من الذين طالبوه بتقديم قصة حب خالصة على الشاشة، من دون أن ينتبهوا إلى أن أفلامه كلها كانت بحثاً عن الحب.

من فن التهريج، اكتسب فيلليني القدرة على جذب المتفرج إلى حكايته كراوٍ من الطراز الاول. ولكن في الوقت عينه اكتسب أيضاً القدرة على خداعه، فلم يكن ليستسلم لرغبته بالمضي في حكاية مستقيمة، بل كان سرعان ما يفاجئه بما هو غير متوقع. يقودنا ذلك إلى مفهوم فيلليني الخاص للوقت أو للزمن، كما استثمره في أفلامه. ينتقد فيلليني بشدة المفهوم المسطح للزمن، كتتابع تاريخي أو زمني للاحداث فيقول في مقابلته مع الشاعرة: "نحن الغربيين، بسبب ميلنا إلى الحياة المبرمجة، نعتقد اننا نعيش في زمن في صيرورة مستمرة، وعلينا ان نحدد خطواتنا فيه وان نتخذ قراراتنا لنصل الي هدف معين". أما الزمن بالنسبة اليه، فهو ذلك الوعاء الذي يستوعب الماضي والحاضر والمستقبل في آنٍ واحدٍ وبدون تراتبية أو زمنية. إنه الوجود الكلي للانسان بأزمنته المتعددة وخيالاته وواقعه وتوهماته. لذلك نشعر في أفلامه ان الخطين الزماني والمكاني متداخلان، يصعب الفصل بينهما. الحركة لا تنحصر بمحيط الشخصيات فقط بل تتعداها إلى عوالم الشخصيات الاخرى التي تتقاطع بالضرورة مع حيوات الابطال. يكفي ان نتذكر حكاية الاطفال في "الحياة جميلة" الذين ادعوا رؤية العذراء لنفهم معنى الوقت عنده. فالحكاية هنا تخرج عن خطها الرئيسي، وهي إذ تعود وتلتقي به من خلال تغطية مارتشيللو ماستروياني للحادثة من موقعه كصحافي، إلا أن فيلليني بخلاف مخرجين آخرين، لا يفعل ذلك بتكلف ولا يشعرنا للحظة بأن خط السرد أو الاحداث هو لخدمة أبطاله، بل هو أولاً وأخيراً في خدمة رؤيته، تلك التي تتضافر فيها أحلامه وخيالاته وهواجسه ومهمته كسينمائي في التعبير عن كل ذلك بما يلامس المشاهد ويتركه في حالة من السحر. لقد أراد فيلليني ان ينقل إلى مشاهده تلك الحالة التي كانت تنتابه في دار سينما فولغور عندما كان طفلاً، ولأنه كان طفلاً وقتذاك، فإن المتعة ارتبطت لديه بالصورة قبل أي شيء إذ لم يكن بمقدوره في طبيعة الحال فهم العمل الفني بكليته. لذلك ظلت الصورة شغله الشاغل. أما المعنى الذي سُئل عنه مراراً، فلم يشغله، بل انه كان يتبرم بأسئلة الصحافيين عن المعنى: "المعنى، المعنى، يسألونني دائماً عن المعنى في أفلامي وهذا يجعلني أشعر أنهم أسيرو العقل".

المرحلة الأخيرة

حتى هواة فيلليني الأكثر إخلاصاً وهياماً يجدون صعوبة في الحديث عن أفلامه خلال السبعينات والثمانينات. فيما لا يجد النقاد حرجاً في الاعتراف بأن فيلمه الأخير "صوت القمر" دفعهم الى النوم مللاً. ولكن رفض أفلام فيلليني الاخيرة على قاعدة انها شديدة الانغماس في الذات وغير ملهمة يبدو ضرباً من التبسيط. صحيح ان افلامه بعد "الحياة حلوة" و"ثمانية ونصف" فقدت قدرتها على إبهار النقاد والجمهور والمخرجين ربما باستثناء Amarcord (1973) السوريالي عن طفولته في ريميني على الساحل الادرياتيكي. على الرغم من ان الفيلم لم يحصد اجماعاً الا ان شخصياته العاشقة للنساء ذوات الصدور العارمة وللقادة المصابين بجنون العظمة كانت محاكاة ساخرة لايطاليا الموسولينية كما يمكنها ان تكون صالحة لايطاليا برلوسكوني اليوم. الفيلم غارق في النوستالجيا التي هي بتعبير جبران خليل جبران وحدها القادرة على اجتياز المسافة بين خيال الانسان وإدراكه. وما رحلة فيلليني السينمائية سوى ذهاب وإياب بينهما. ولكن حنين فيلليني ذاك كان نابعاً من إحساسه المتعاظم بالانفصال عن إيطاليا المعاصرة. وهذا الشعور بالغربة هو في متن أفلامه الاخيرة. "كازانوفا" _1976) و"وتبحر السفينة" (1983) كانا بمثابة وداع عالم منقرض من الامتيازات الارستقراطية والملذات الحسية. ولكن فيلليني كان ايضاً يودع عالمه الصاخب. في مواجهة العالم الجديد، ابتكر السينمائي اسلوب الخلط بين الواقع والخيال الذي لم يكن غريباً عليه اصلاً. ولكنه هنا كان اكثر تحديداً في صنع ما يمكن أن نسميه الوثائقي المتخيل. مشروعه المرتجل، "فيلليني: مفكرة مخرج" Fellini: A Directors Notebook (1969) كان بداية تنفيذ ذلك الاسلوب اذ حول مقابلة له الى مزيج تهكمي من مشاهد مؤرشفة وأحلام يقظة. بنفس الايقاع، وقع افلامه اللاحقة- "المهرجون" و"روما" و"مقابلة"- انما بجرعة أكبر من التقطع والكابوسية اللتين كانتا انعكاساً لنظرته للمجتمع المعاصر. ولا شك في ان مشاهد مثل عرض الأزياء للثياب الكنسية في "روما" او اكتشاف فيللا قديمة لا تلبث ان تختفي ليحل في مكانها خط القطار النفقي في الفيلم عينه، مازالت تسكن انثولوجيا السينما العالمية في قدرتها على التقاط المعاصرَة.

لقد أورثتنا أفلام فيلليني الأخيرة نداء لرفض تشنج الحياة المعاصرة وتنافر عناصرها. واذا كان "تمارين الاوركسترا" (1979) و"مدينة النساء" (1980) يقومان في الجوهر على نعي الحقائق القديمة (الهرمية الاجتماعية وسلطة الرجل) الا انها في كل الأحوال كانت تعبيراً عن قلق صاحبها. في حين ان فيلماً مثل "جنجر وفريد" (1985) كان بمثابة بيان السينمائي حول عالم التلفزيون الخالي من اي ابداع. ربما لم يكن اسلوب فيلليني الابداعي ملائماً تماماً لتجسيد هواجسه الاجتماعية حيث بدت الهوة كبيرة بين مخيلته وبين رتابة الواقع في ايطاليا ما بعد الصناعية. ولكن لا بد من العودة الى تلك الافلام اليوم بشيء من الايمان لاسيما تجربته الاخيرة "صوت القمر" (1990). عن رواية مهمة لإرمانو كافازوني، اقتبس فيلليني فيلمه الاخير، متوسلاً ان نصغي بصمت الى اصوات الموتى الآتية من الآبار المهجورة. المجنون الذي يجسده الممثل روبرتو بينيني يصطحبنا في رحلة سوريالية على أرض فقد ناسها الصلة بالواقع، تحجبهم اصوات موسيقى الديسكو وألوانها والاعلانات التلفزيونية وفلاشات كاميرات السيّاح. ومن أفضل ما يأتي على لسان المجنون قوله: "ولكنني أعود وأفكر انه لو كان لدينا المزيد من الصمت، لو كنا أكثر صمتاً، ربما نستطيع عندها ان نفهم شيئاً."

فيلليني العقدين الأخيرين يزاوج بين الحنين والشعر. انه المهرج الذي أزال مساحيق التجميل ليظهر تجاعيد وجهه، فظل مخرجاً عظيماً انما بنبرة اقل حدة واستعراضية..

المستقبل اللبنانية في

09/04/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)