حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

النقد السينمائي.. الرهانات والتحديات *

أمير العمري

لا يوجد نقد سينمائي في فراغ سينمائي بل لابد أن يكون هناك احتكاك بين جمهور للسينما، وبين المنتج السينمائي نفسه أي الأفلام، أي لابد من وجود الطرف الأول في المعادلة أي الأفلام (عربية وأجنبية لأن الأولى تتأثر بالثانية بحكم أننا نعيش في عالم واحد، لكن الثانية لا تتأثر بالأولى لأن المنتح السينمائي العربي لا يصل سوى في حدود ضيقة للغاية، إلى الآخر) وعندما يصل الفيلم العربي إلى أوروبا مثلا، فإنه ايعرض في إطار التعرف على ثقافات شعوب مختلفة، أي ضمن التعرف على طريقة تفكير الأقليات الإثنية الموجودة في البلدان الأوروبية عن طريق مشاهدة كيف تعبر عن نفسها في بلدانها الأصلية.

الجمهور هو اذن العنصر الأول في المعادلة النقدية.

والعنصر الثاني هو الأفلام نفسها، أي الإنتاج السينمائي وما يعرض من أفلام على الشاشات. غير أن الأفلام "الوطنية" أي الأفلام المحلية، هي الأساس في دعم العلاقة بين الجمهور والسينما.

أما الضلع الثالث في المعادلة فهو النقد الذي يتوجه للقاريء- المشاهد، وإلى القاريء عموما. وهذا هو موضوعنا.

هناك دون شك،  خلط دائم،  بين الناقد المتخصص الذي يتعمق في تحليل قضايا السينما والجوانب المختلفة للفيلم السينمائي، وبين الصحفي السينمائي الذي يهتم أكثر بالجوانب العامة في صناعة السينما، وبأخبار النجوم وبالجوانب المثيرة في العمل السينمائي، وغير ذلك مما تنشغل به الصحافة السائدة وتشغل بها قراءها.

وهناك أيضا خلط آخر قائم: بين كتابة العرض السينمائي أو ما يسمى film review وبين كتابة النقد السينمائي film criticism. النوع الأول تفرضه الصحافة اليومية والأسبوعية عادة على كل من الناقد والقراء، تحت تصور أن العصر الحالي لم يعد يسمح بقراءة مقال طويل قد تتجاوز عدد كلماته الألف كلمة مثلا، ويشمل تحليل العناصر الفنية والدرامية في الفيلم السينمائي، ويفضلون العرض الصحفي السريع للفيلم (في 300 كلمة) الذي يتناول القصة ومغزاها وطريقة تنفيذها والتعليق على أداء الممثلين وما إلى ذلك.

هذا العرض الصحفي للأفلام موجود أيضا وشائع في الصحف الغربية التي أصبحت تهتم حتى بالعرض المختصر الذي قد لا تزيد عدد كلماته عن 60 كلمة والذي يستخدم في إعداد الدليل الأسبوعي للأفلام الجديدة التي تنزل إلى دور العرض.

أما النقد العميق التفصيلي فمكانه الطبيعي مجلات السينما المتخصصة سواء الأسبوعية أو الشهرية أو الفصلية. وأي "اختراق" لصحيفة يومية أو مجلة أسبوعية غير متخصصة من جانب نقاد يكتبون النقد العميق التحليلي المطول هو أمر استثنائي يتم عادة بمجهود فردي خاص.

المطبوعات المتخصصة أصبحت شبه غائبة عن الساحة في العالم العربي، وما وجد منها، لايزال يمتلئ بكتابات مترجمة تتناول مواضيع قديمة تواصل الدوران مثل الواقعية الايطالية الجديدة، متجاهلة ما لحق من تطور كبير في تاريخ السينما وفي العلاقة بين المبدع والفيلم، والذي بلغ حدودا شديدة الجرأة خاصة بعد ذلك التطور الهائل في تقنيات الكومبيوتر وتكنولوجيا الكاميرات الرقمية – الديجيتال، وغيرها.

ويلاحظ أن فكرة "التثقيف الأولي" لاتزال غالبة على ما يصدر من مجلات سينمائية بالمصادفة أحيانا، مع تجاهل وإهمال الجدل والاشتباك النقدي مع ما ينتج من أفلام ومع الظواهر والاتجاهات الجديدة، السلبية منها والإيجابية، التي تظهر في واقع السينما العربية والعالمية، بل لقد أصبحت هناك خشية من تناول الشأن الثقافي العام وانعكاسه المؤثر والمباشر على السنيما وقضاياها. والسبب: شيوع ثقافة الخوف والرعب والتهديد ورفض نقد المؤسسات بل وارتباط بعض النقاد بهذه المؤسسات، التي تكرمهم في احتفالاتها الرسمية، وتمنحهم الجوائز، وتكلف البعض بتأليف الكتب عن عبقرياتهم وتاريخهم.

 نوع من الكسل من جانب النقاد فيما يتعلق بالكتابة والتعريف بالنماذج السينمائية الجديدة في الداخل والخارج، بسبب انشغالهم بما تطلبه الصحف التي يكتبون لها (والتي تميل عادة إلى السائد والمشهور، والأمريكي، والحاصل على جوائز الأوسكار!) فهناك أيضا سلاح الرقابة: على السينما وعلى النشر، فكيف يمكن الكتابة بحرية عن أفلام لا يراها الجمهور بل.. حتى الشريحة المثقفة منه؟ وكيف يمكن البحث في قضايا ذهنية قد يعتبرها البعض "المتشنج جدا" نوعا من التجديف أو الدعوة إلى الباطل.. وغير ذلك من مفردات متخلفة أصبحت بكل أسف منتشرة كالوباء في المجتمعات العربية حاليا نتيجة عوامل كثيرة.

دعوني أيضا أطرح هنا هذا السؤال الذي يشغلني: هل الأفضل أن يكتب الناقد عما يحبه من أفلام وعما يروق له ويعجبه منها، أم أن من واجبه الكتابة عما لا يعجبه أيضا، حتى لو اثار استياء المعجبين بالفيلم من الجمهور؟ وأين تقع الحدود الفاصلة بين تقديم رؤية ورأي الناقد، ودعوته- المستترة أو العلنية- للجمهور إلى مشاهدة هذا الفيلم والإعراض عن ذاك؟

إن الكتابة عن عمل يحبه الناقد يفتح آفاقا أكثر رحابة للتعبير الحميمي عن استقباله للفيلم، وعن المعاني المختلفة التي التقطها منه، والمشاهد التي يمكنه التوقف أمامها واستعادة بنائها الفني ورونقها الخاص، ووضعها في إطار الفيلم ككل، وفي إطار رؤيته الشخصية لهذا الفيلم التي يمكن أن توازي في إبداعها الفيلم نفسه. والناقد في هذه الحالة لا يقوم فقط بتفكيك العمل بشكل آلي (مثل المكيانيكي) أو الحرفي الذي يعرف أصول الصنعة، بل كمفكر، ومبدع، وأحيانا ايضا شاعر، يمكنه، بذائقته الشعرية والجمالية، وخبرته التشكيلية البصرية، أن يعبر عن استقباله للعمل كفكر ومفردات ولغة وأدوات وأداء وإيقاع.

وعادة لا يقوم الناقد هنا، بشرح معنى الفيلم ومغزاه بل يقدم رؤيته الخاصة له من خلال ثقافته الخاصة وباستخدام الكلمات، أي اللغة المكتوبة التي لها هي الأخرى سحرها ورونقها وجمالياتها الخاصة.

وقد يركز ناقد ما على مشهد معين في الفيلم يعتبره المفتاح الذي ينطلق منه لتحليل العمل بأكمله، أو ربما يكتفي بتحليل العناصر البصرية ودلالاتها في هذا المشهد بالذات ويتخذه دليلا على القيمة الفنية للفيلم في المحصلة النهائية.

أما الكتابة السلبية عن عمل لا يكون الناقد قد أحبه، فربما تكون أقل تألقا من الكتابة الإيجابية، لكنها ايضا مهمة، لأنها تشرح للمشاهدين لماذا لا يؤيد الناقد هذا الفيلم تحديدا وما هي جوانب الضعف والتعثر فيه، وهو ما يمكن أن يساعد الجمهور على تذوق أعمق للأفلام ذات الطبيعة الفنية والعثور على نقاط الجمال فيها، وكذلك التقاط جوانب الضعف وغياب الأصالة عن أفلام أخرى.

ولعل المحك في كلتا الحالتين يعود إلى العمل السينمائي نفسه، فهناك من الأفلام ما  قد يرفضه الكاتب لكنه يجد نفسه مرغما على التعامل معه بأسلوب جاد، وبلغة تحليلية، حيث يعيد تفكيكه وتركبيه لكي يقدم أيضا للقارئ "رؤيته" الخاصة له، ثم لا مفر في النهاية من الحكم عليه في إطار ما ينتج في عصرنا هذا من أفلام.

أما من الناحية الأخرى، العملية تماما، فلعل الكتابة عن فيلم يكون الكاتب قد أحبه وأصبح يتبناه كعمل فني تجعل الكاتب أكثر قربا من السينمائي، يكتسب ثقته ويمكنه بعد ذلك أن يقيم معه جسرا مشتركا للتفكير، وربما يساهم بشكل ما، في القيام بدور في تطويره وتطوير أعماله المستقبلية.

لكن الأمر ليس دائما على هذا النحو من البساطة مهما بلغ حسن النوايا، فماذا يفعل الناقد أمام فيلم لمخرج يحترمه وسبق له أن أحب أعماله وأثنى عليها، عندما يجد أن فيلمه الأحدث لم يرق إلى المستوى المأمول، لسبب أو لآخر، وماذا يفعل إذا كان أمام عمل أقل كثيرا في رونقه وسحره من أعمال سابقة ربما للمخرج نفسه؟

هل يعمل الناقد بالمبدأ القائل إن الحسنة تمحي السيئة ؟ هل يتغاضى الناقد عن قناعاته حتى لا يفقد ثقة السينمائي، ويتغاضى بالتالي عن سلبيات الفيلم ويمتنع عن الحكم عليه، حتى لا يفقد "علاقته" الشخصية المباشرة مع المخرج وقدرته على التأثير عليه كما يرى البعض؟

في تصوري الشخصي، أن الناقد في هذه الحالة يكون قد تخلى عن الركن الأساسي المهم في العملية النقدية بأسرها أي الجمهور- القراء، فالكاتب لا يكتب أساسا للسينمائي أو للمخرج أو للممثل، بل إن وظيفته الأساسية أن يتوجه إلى الجمهور، يدعوه إلى أن يشترك معه في "رؤيته" عن الفيلم، دون أن يكون في هذا أي نوع من الوصاية، بل هي رؤية يمكن بالطبع أن يختلف معها كل من يرغب من الجمهور المشاهد للعمل نفسه أو من النقاد، وهو ما يحدث في الكثير من الحالات في الواقع دون أن يعد هذا مدعاة للاستغراب بأي حال.

لا أظن أننا نكتب أساسا للسينمائيين، بدليل أننا نكتب أيضا عن أفلام من الشرق ومن الغرب دون أن ننتظر أو حتى نأمل بالطبع في أن يقرؤنا من نكتب عن أفلامهم من المخرجين في الشرق وفي الغرب!

من الممكن بالطبع أن يستفيد صانع الفيلم إذا أراد، من النقد ومن الكتابة عن الأفلام، إذا كان من النوع الذي يقرأ النقد أصلا ويهتم بما يكتب عنه بشكل حقيقي ولا يهتم فقط بالمديح ونشر الأخبار والصور الملونة والتحقيقات الفارغة.

غير أن التوجه الأساسي يجب أن يكون للقارئ، وإلا تحولت الكتابة عن السينما إلى ملاحظات فنية "معملية" الطابع يمكن أن تتجه إلى تفاصيل كثيرة معقدة تتعلق بالآليات المعقدة لصنع الأفلام: أنواع العدسات والمرشحات ونوع الكرين أو الرافعة المستخدمة، والأجهزة التي استخدمت في صنع المؤثرات الخاصة ومدى دقتها.. إلخ

ولا يعني ما أقوله هنا أن على الناقد ألا يهتم بكل هذه العناصر، لكن ما أقصده أنه عندما يكتب فإنه يستخدم معرفته وعلمه هذا في تحليل العناصر الفنية للفيلم من حيث هو بناء ورؤية وطريقة في السرد والخيال ومنهج وأسلوب في الإخراج، دون أن يستغرق في مناقشة مدى نجاح جهاز توليد الضباب من عدمه أو ارتفاع الكرين ومسافة عواكس الضوء عن البؤرة التي يدور فيها التصوير!

 ومهمة الناقد الأساسية كما أراها، تتوجه أساسا إلى الجمهور.. جمهور السينما والفنون الاخرى، وجمهور القراء من المشاهدين ومن غير المشاهدين، ويتعين على الناقد أن يسعى دائما إلى توصيل رؤيته إلى ذلك الجمهور، ، ثم من الممكن بعد ذلك أن يتفق أو يختلف جمهور القراء معها. فالكتابة النقدية عملية "فردية" أي تعبر عن رؤية صاحبها، وليست كتابة "تعميمية" أي يقصد من وراءها تعميم مباديء حزب أو الترويج لنظام سياسي أو نسق جمالي معين.

وهناك الكثير من الأفلام التي قد يعتبرها عدد من ألمع النقاد أفلاما عظيمة وقطعا فنية بارزة، في حين لا يعيرها الجمهور العام اهتماما كبيرا دون أن يعني هذا ان النقاد لا يفهمون وأن "الجمهور دائما على حق".. فالرؤية غير الرؤية، والزاوية غير الزاوية، والاهتمامات قد تختلف أيضا بين النقاد وشرائح من الجمهور، وبين النقاد وبعضهم البعض أيضا، بل وتختلف الاحتياجات.. أي احتياجك أنت كمشاهد- متلق- ناقد- هاو- مهتم، من الفيلم: ما تريده منه وما تتطلع إليه وما يعجبك فيه، هذه الأشياء تختلف وتتباين تباينا كثيرا، خاصة إذا كان الفيلم الموضوع في محك الاختبار، يقفز على الذهنية السائدة ويتجاوزها كثيرا، أو يسبق الذائقة السينمائية المهيمنة على الجمهور في وقت محدد.

والعبرة في نهاية الأمر، سواء أحب الناقد الفيلم أم لم يحبه، تتمثل في الصدق مع النفس، أي في التعبير الصادق عما يشعر به الكاتب دون التأثر بما يراه أو يكتبه الآخرون، ودون أن يترك الكاتب نفسه لأي مؤثرات خارجية أي من خارج العمل الفني نفسه، تتحكم في رؤيته أو تشوبها بأي حال. والصدق وحده كفيل بوصول "الرؤية" النقدية إلى القارئ- المتلقي في النهاية، سواء كانت سلبية أم إيجابية.

إلا أن من الترف القول إن الناقد يمكنه أن يؤثر في جمهور السينما بحيث يدفعه إلى مشاهدة فيلم ما أو الإعراض عن فيلم آخر. هذه القوة الاسطورية أو ما يسمى بـ"سلطة الناقد" غائبة بحكم تهميش مهمة النقد السينمائي التحليلي، لحساب الهيمنة الحالية للنقد الشفوي، عبر شاشات القنوات الفضائية، التي أصبحت تتيح الفرصة لكل من يمكنه الكلام عن الأفلام وصناعها بحيث لا يخدش التصورات السائدة أو لا يخرج عن الانحيازات الشوفينية الطابع. فقد أصبح ظهور فيلم "وطني" جديد مناسبة للاحتفال بدلا من تقديم النقد الجاد لترشيد الفن السينمائي بل والصناعة نفسها.

الآن  سأحاول الإجابة عن عدد من الأسئلة المهمة التي طرحت في الورقة التمهيدية لهذه الندوة في محاولة لإزالة اللبس والغموض الدائر حولها.

أولا: فضاء الانترنت وهل يحقق دمقرطة الحديث عن السينما والمقصود بالطبع ظهور مئات بل وآلاف مدونات والمواقع السينمائية على شبكة الانترنت، معظمها للهواة.

ليس هذا من وجهة نظري تكريس أو تأكيد لمقولة تروفو من أن كل منا يمارس عملين: مهنته والنقد السينمائي، بل هي ظاهرة صحية جدا يمكن أن تسهم، ليس فقط في الكشف عن نقاد سينما جدد يولدون من خلال الممارسة والمناقشات المفتوحة على الفضاء الالكتروني، الذي حل محل نوادي السينما في الستينيات والسبعينيات التي كان يتخرج منها نقاد السينما، بل إن هذه الفضاءات المفتوحة تفيد كثيرا أيضا في نشر الوعي بالسينما بين الجمهور العام من المترددين على الانترنت، وجذبه إلى الاشتراك في عملية التقويم والتحليل، حسب قدرته، ودفعه كذلك، إلى الانتقال والبحث عن الكتابات الأخرى الأكثر عمقا، التي يصل الكثير جدا منها أيضا اليوم عبر شبكة الانترنت.

ولي تجربة شخصية في هذا المجال.. فقد استفدت استفادة هائلة من مدونتي السينمائية التي تتيح لي مساحة لم أكن أحلم بالحصول عليها في المطبوعات السائدة. وعلى سبيل المثال فعندما تناولت بالتحليل والنقد فيلما مغربيا هو "كل ما تحبه لولا تناله" لنبيل عيوش، كتبت مقالا تحليليا تفصيليا يتناول الفيلم من جوانبه المختلفة. وكان المقال يقع في أكثر من 2000 كلمة.  لكني عندما أردت نشره في صحيفة يومية كنت أكتب لها مقالا اسبوعيا في صفحة متخصصة، اضطررت إلى اختصاره إلى نحو 800 كلمة وإلا لما كان قد نشر. وعدت فيما بعد فنشرت النسخة الكاملة منه على مدونتي الخاصة.

ثانيا: ثقافة الناقد وموضوع الشكل والمضمون:

تتكون ثقافة الناقد السينمائي من عدة أركان: إلمام كاف بتاريخ السينما، متابعة جيدة للتيارات والاتجاهات المختلفة في السينما، ومشاهدة مكثفة للأفلام التي تعد علامات في تاريخ السينما، وهذه تشمل الكلاسيكيات القديمة والحديثة أيضا ، والتمتع بثقافة تشكيلية عالية، واضطلاع على الأدب والمسرح بالاضافة بالطبع إلىالثقافة العامة التي ترتبط بعلوم انسانية مهمة مثل علم الاجتماع وعلم النفس.
والناقد الذي يكتب لجمهور من النخبة، أي يكتب نقدا تحليليا عميقا يجب أن يتناول الفيلم كفيلم: كبناء قصصي، راصدا ملامح الجدة أو التجديد في  هذا البناء وعلاقته بموضوع الفيلم وهل يخدمه أم لا، كما يتناول كيفية معالجة الصور، علاقاتها معا، المؤثرات والاستلهامات الفنية الاخرى القادمة من خارج الفيلم التي تصبغ الصور (الفن التشكيلي، الأدب، الفوتوغرافيا..إلخ).

وبوسع الناقد أيضا أن يلتقط الإشارات والعلامات الدالة والعلاقات الخفية بين الصور واللقطات، ويحاول تقديم تفسير لما ترمز اليه، ويستنبط دلالاتها الخاصة حسب تصوره بالطبع، فالنقد كما ذكرت من قبل، رؤية شخصية.

وجدير بالذكر أن الاعتماد الأساسي، كما يفعل الكثير من النقاد الغربيين عند تعاملهم مع أفلامنا، على منهج النقد الثقافي وحده الذي يرجع العمل الفني إلى الظاهرة الاجتماعية بدلا من التعامل معه في اطار الظاهرة الفنية، هو منهج قاصر، يمكن الاتسفادة منه، لكنه لا يصلح وحده لتقييم الأفلام السينمائية، لأنه كفيل بان يجعل كل الافلام التي ظهرت في تاريخ السينما أفلاما "مهمة"، غافلا او متغافلا عن قيمتها الفنية. فالدلالات السياسية والاجتماعية لأي فيلم تغني، طبقا لهذا المنهج، عن الجماليات.

وأنا أيضا من انصار ضرورة أن يقدم الناقد في النهاية حكما على الفيلم ينطلق من منطلقات جمالية، وليس استنادا إلى موقفه الفكري الشخصي أو العقائدي. بل من الممكن أن يتناقض الموقف الفكري الشخصي للناقد مع حكمه الجمالي على الفيلم..  ولعل المثال البارز في هذا السياق، من الغرب، هو مثال المخرجة الألمانية الراحلة ليني ريفنشتال التي اتفق معظم النقاد على تميز أفلامها من الناحية الفنية كنماذج علىالسينما الفنية الرفيعة، رغم اختلافهم، بل ورفضهم لمحتواها الفكري وتوظيفها كما حدث، في خدمة الايديولوجية النازية العنصرية.

ثالثا: أين تقع لحظة النقد: قبل أو بعد المشاهدة؟.

أظن أن هناك خطأ ما في طرح السؤال بهذه الصيغة، وربما يكون المقصود أثناء (وليس قبل) لأنك لا يمكن أن تكون رؤية نقدية لشيء لم تشاهده بعد. وإجابتي الخاصة عن هذا السؤال أن النقد يتشكل عند الناقد اثناء وبعد المشاهدة. وربما يقتضي الأمر من الناقد العودة لمشاهدة الفيلم مرة ثانية وثالثة، والرجوع إلى بعض المصادر المعرفية للقراءة والمعرفة، لكي تكتمل رؤيته لدقائق العمل السينمائي.

أثناء المشاهدة يتفاعل الناقد مع الفيلم بمشاعره أكثر من عقله، لكنه يستطيع أيضا أن يدون بعض الملاحظات. وعندما يعود للكتابة، وانا أتحدث عن تجربتي الشخصية هنا، فإنه يقوم باستدعاء الفيلم بدقائقه وتفاصيله، في ذهنه، ويستعيد صوره وايقاعه بل وموسيقاه احيانا، ثم ينتهي إلى تكوين رؤيته له ويتمكن من كتابتها اي التعبير عنها بأسلوبه ولغته.

رابعا: أدوات النقد والحديث موضوع للنقد:

نعم هناك النقد كمتعة جمالية في حد ذاتها، لا يشترط أن تخدم هدفا اجتماعيا أو سياسيا او فكريا أو تخدم حركة السينما في لحظة آنية محددة، بل ربما تكون المتعة في التنظير مطلوبة في حد ذاتها كنشاط ذهني ومتعة عقلية، وهذا يعني الدخول في جدل مع نظريات السينما القائمة بل ومع نظريات النقد الحديثة، ومحاولة فهم كيف أمكن أن يأتي سينمائي ما لكي يتجاوزها. هذه السباحة الفكرية النظرية المجردة لاشك أنها تفيد النقد وتدفع به إلىالامام، كما تفيد الدارس لكل من النقد والسينما. لكن العبرة ستظل دائما بتوفر المجال الذي يعبر من خلاله الناقد.

عندما تتساءل الورقة التمهيدية للندوة عن : هل الصحفي الذي يتابع الأفلام ويعلن عن الإصدارات الجديدة أي الأفلام الجديدة ناقد سينمائي؟

فالاجابة هي: كلا بالطبع هذا عمل الصحفي السينمائي كما أشرت الذي يهتم بالجوانب العامة في السينما، لكن قد يوجد ناقد حقيقي يقوم بهذا العمل لأن هذا هو المجال الذي تفرضه الصحيفة التي يعمل لها، لكنه يمارس كتابة النقد الجمالي التحليلي في مجال آخر.

هل توجد تيارات نقدية؟ أم مجرد نقاد كبار يشكلون مدارس قائمة بذاتها؟

مؤكد أن هناك مناهج واتجاهات نقدية.. هذا بالطبع على الصعيد الخارجي أي خارج العالم العربي، في أوروبا وأمريكا، لأنه لكي توجد اتجاهات نقدية مختلفة يجب أن توجد أولا حركة سينمائية حقيقية يكون سعيها الأساسي دائما إلى التجديد، إلى التحديث، إلى التمرد على السائد، إلى تقديم نماذج جديدة في السينما، إلىالاتجاه نحو خلق حداثة جديدة أو تجاوز الحداثة السائدة، لكنك لا يمكنك أن تطالب بوجود هذه التيارات أو هذه الحركة الجديدة على الصعيد النظري قبل أن توجد في الواقع نماذج ولو أولية تؤسس لها.

المدارس النقدية في نقد السينما توجد في ظل علاقة فعالة وحيوية بحركة انتاج سينمائي، تدخل معها في جدل، تقومها وتسعى إلى تطويرها. ولأن السينما العربية أولا مصطلح مشكوك في صحته العلمية، وإنما نردده تجاوزا او مجازا، بسبب غياب حركة سينمائية حقيقية تتصل ببعضها البعض وتتفاعل مع جمهورها في العالم العربي، يظل النقد السينمائي العربي متمحورا بين اتجاه صحفي استهلاكي يقدم المعلومات، ويلخص قصص الأفلام، ويقدم أحكاما عامة سريعة على القصة ومغزاها الاجتماعي والسياسي، وبعض الإشارات للتمثيل، واتجاه آخر يحاول كتابة النقد التفصيلي التحليلي الجمالي الذي يتجاوز فكرة المعنى والمغزى الفكري للفيلم، أو بالأحرى، ينطلق في التوصل إلى المغزي الفكري لأي فيلم من منطلقات لها علاقة بجماليات السينما، اي بالدراما، والتشكيل، والعلاقة الذهنية والجمالية بين الصور، بالتعامل مع المادة السينمائية في ضوء ما وقع من تطور في تاريخ السينما منذ أكثر من قرن، وليس كما لو كنا قد اكتشفنا صناعة الأفلام لتونا.

* القيت هذه الورقة البحثية في ندوة النقد بمهرجان تطوان السينمائي الاسبوع الماضي .

الجزيرة الوثائقية في

06/04/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)