حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ابن «تل العمارنة» الذى يسكنه التاريخ

الباحث عن الحقيقة.. شادى عبد السلام

محمد حمودة

هل يبحث الإنسان عن طريقه أم تقوده خطاه إلى طريقه المرسوم.. سواء أكان هذا أم ذاك أعتقد أنهما فى النهاية يلتقيان.. الإنسان وقدره الإنسان وطريقه. 

ومن هنا أعتقد أن شادى عبد السلام لو لم يبحث عن معنى التاريخ لقادته خطاه إليه.. فهو قدره ونصيبه. 

لقد كانت علاقة شادى عبد السلام بالتاريخ شيئا محيرا، لماذا التاريخ؟ لماذا كان دائما يبدأ الحديث معه بالتاريخ.. ولماذا حتى الآن مازال الحديث عنه يبدأ بل وينتهى بالتاريخ؟! 

هل لاهتمامه بالتاريخ المصرى فى كل أفلامه الروائى منها أو القصير، التسجيلى أو التعليمي.. ربما. 

وربما لقراءته المتعددة والمتعمقة لهذا التاريخ بحثا عن الحقيقة والمعرفة. 

من هنا لم تكن مجرد أعمال سينمائية تتناول التاريخ بشكل أو بآخر بل هى حلقات فى منظومة متكاملة بدأت بالمومياء.. البحث عن الذات.. عن الهوية، وانتهت بإخناتون ارتباط الحلم بالواقع مرورا بتحقيق الأحلام فى "جيوش الشمس" والتمرد على الواقع فى "الفلاح الفصيح". 

لم يكن شادى عبد السلام يتعامل مع التاريخ على انه أوراق أو أحداث قديمه مضت بل كان يرى من خلاله القادم وكأنه يقرأ المستقبل فى كف الأوراق والكتب القديمة.. ففى التاريخ حكمة الوجود والتواصل والبقاء، لم يلجأ شادى للماضى هربا من الحاضر كما يفعل الكثيرون، ولم يعش فى الماضى خوفا من المستقبل بل كان يلجأ للماضى بحثا عن الحياة، عن الحكمة حكمة الإنسان والزمن.. فقضيته الأساسية كما كان يقول دائما هي: هذا التاريخ الغائب أو التاريخ المفقود التاريخ الذى لا نعلمه بل نجهله، هذا التاريخ الذى صنعه البشر العاديون، ولكى يستعيدوا دورهم فى تشكيل الحياة وحلقات التاريخ عليهم أن يعرفوا أنفسهم.. أن يقتربوا من تاريخهم أن يعوا ماذا كانوا وماذا قدموا. 

إن عدم معرفة التاريخ ـ من وجهة نظره ـ أشبه بعملية فقدان الذاكرة، وكان يرى أن أصعب ما تعانى منه الأجيال الجديدة هو فقدان الذاكرة الثقافية والتاريخية وفى فقدانها فقدان للكيان للوجود.. للذات، لذا كان اهتمامه بتقديم التاريخ سواء فى أفلام روائية (مصمما للديكور أو الملابس أو مخرجا) أو تسجيلية أو تعليمية لم يكن اهتماما بالتاريخ فقط فى حد ذاته، بل اهتماما بالإنسان وبوعى هذا الإنسان وبحرصه على استعادة وعيه وذاكرته، لذلك فلا عجب أن شادى عبد السلام كان من أوائل المخرجين الذين حملوا كاميراتهم وانطلقوا إلى أرض المعركة فى سيناء عام 1973 ليسجل لحظات عودة الروح إلى الأرض والإنسان فى أكتوبر. 

والعجب أيضا أن فيلمه (جيوش الشمس) كان عن البشر.. لا الحرب.. عن الجنود عن صانعى الحقيقة أنفسهم على ارض الواقع عن حفدة "ونيس" بطل فيلمه المومياء.. حفدة الفراعنة أبطال وجنود جيوش الشمس الفرعونية المصرية القديمة وكأنه كان يسجل عودتهم للحياة أو للذاكرة. 

مهندس الديكور 

علاقة شادى عبد السلام بالتاريخ أو بتقديم التاريخ من خلال السينما لم تبدأ بالمومياء بل بدأت قبل ذلك بكثير، فابن الصعيد ابن المنيا الذى تفتحت عيناه على "تل العمارنة" مدينة "إخناتون" بعمارتها وفنونها ارتبط بالتاريخ منذ البداية، ثم جاءت دراسته للعمارة فى كلية الفنون حلقة جديدة فى هذا الارتباط، بعدها جاءت الفرصة ليعيد تشكيل التاريخ بالصورة من خلال عمله بالسينما الذى بدأه كمساعد مخرج مع صلاح أبو سيف فى أفلام "الوسادة الخالية" "الطريق المسدود" "أنا حرة"، ثم مع بركات وحلمى حليم فى فيلم "حكاية حب" الذى كان منعطفا فى حياته حيث تحول إلى تصميم الديكور لغياب مهندس الديكور ولفت نجاحه الأنظار. 

وكانت بدايته مع الأفلام التاريخية بفيلم (وا إسلاماه) إخراج المخرج الأمريكى اندرو مارتن عام 1960 حيث صمم ديكوراته وملابسه بدلا من أستاذه ولى الدين سامح الذى سافر فى ذلك الوقت، وبعدها توالت أفلامه التاريخية كمهندس للديكور فقدم عددا من الأفلام المصرية (شفيقة القبطية ـ ألمظ وعبده الحامولى ـ رابعة العدوية ـ عنتر بن شداد ـ أميرة العرب ـ أمير الدهاء ـ بين القصرين). 

ثم صمم الجزء البحرى من فيلم كليوباترا فصنع المركب الفرعونى وخيمة كليوباترا والأسطول فى روما عام 1961. 

بعدها عمل كمستشار للملابس والديكور والإكسسوار التاريخى للفيلم البولندى "فرعون" إخراج المخرج البولندى (كافاليروفيتش) ولكن رغبته فى إعادة تشكيل التاريخ كما يراه ويتخيله -ودون تدخل من أحد- جعله يتحول إلى الإخراج، فبدأ فى كتابة فيلمه الأول "المومياء" عن قصة اكتشاف المومياوات بالدير البحرى عام 1881 والتى قرأها لأول مرة عام 1956، وليس من عجب أن فكرة الفيلم قد تولدت بداخله عام 1963 أثناء عمله فى فيلم "فرعون" فى بولندا، لقد جعله الحنين إلى مصر -كما يقول- يفكر فى مصر البيئة والحياة والتاريخ، فولد فيلم "المومياء" أو "ليلة أن تحصى السنين" فعندما تشاهد فيلم المومياء يسيطر عليك إحساس قوى بان "ونيس" بطل "المومياء" كان هو شادى عبد السلام نفسه، وأن إحساس الانكسار الذى شعر به "ونيس" عند موت أبيه واكتشافه لحقيقة عيشهم وانكشاف الخدعة الكبرى التى عاشوا فيها كقبيلة وأنهم يأكلون ماضيهم أو يأكلون بماضيهم، كان نفس شعور شادى عبدالسلام عند هزيمة يونيو ألم تتكشف وتنكشف الحقيقة أيضا فى لحظات الانكسار؟. 

فقد نجح شادى من نقل الإحساس بالانكسار والصدمة ـ بل والهزيمة ـ من ونيس بطل "المومياء" إلى المشاهدين كما انتقل من شادى إلى ونيس. 

ورغم أن شادى عبد السلام بدأ كتابة الفيلم قبل النكسة بسنوات إلا أن رائحة يونيو رائحة الألم والوجع تفوح من الفيلم، لقد كان للنكسة تأثيرها على الفيلم بشكل عام وأعتقد أن شادى لم يحاول إخفاءه، ليس فقط لأن شادى بدأ تصوير الفيلم فى مارس 1968، ولكن لأن شادى كإنسان صدمته النكسة، أو صدمه التلاقى مع الواقع المر.. كان صادقا مع نفسه ولم يخف أو تنحنِ أحاسيسه ومشاعره فأثرت على الحالة العامة للفيلم بشكل كبير، وأظن أن هذه الأحاسيس والمشاعر الإنسانية الصداقة قد أعطت للفيلم روحا وحياة.. وبعدا جديدا يضاف لأبعاد السينما التقليدية. 

كما أن اكتشاف الحقيقة -رغم قسوتها- وسقوط الأقنعة عن كل شيء فى ذلك الوقت أثار فى نفس شادى تساؤلات شتى أظنه بحث عن إجابات لها فى فيلمه أو بفيلمه تماما كما بحث ونيس عن إجابات للأسئلة التى طرحتها عليه الخبيئة. 

بل إن الأسئلة التى طرحها شادى علينا من خلال ونيس هى نفس الأسئلة التى طرحها عليه الواقع بعد نكسة يونيو 1967 أسئلة أراد أن يسجلها لنا أو علينا ـ لا فرق ـ حتى نجد لها إجابة أو حتى لا ننساها بمرور الزمن.. أسئلة نقشها بفيلمه على جدار الذاكرة والزمن كما نقش أجدادنا القدماء أفكارهم على جدران الأحجار لتسجيلها، وحفظها نفس الشيء فعله شادى ولكن كل بطريقته. 

وكأنه بهذه الأسئلة من نحن ؟! وما هى حقيقتنا؟ وكيف يعيش؟! وهل ماضينا أوهام؟! وهل كنا نعيش حلما أو هما؟! وهل حاضرنا كابوسا؟ وهل مستقبلنا سرابا؟! كأنه بكل هذه الأسئلة والتساؤلات كان يتطهر كما تطهر ونيس بإعلانه حقيقة الخبيئة. 

لقد حاول شادى أن يكتشف الخبيئة التى بداخلنا وأن يكشف عن جوهر وحقيقة حياتنا. 

وأظن أنه أراد بهذه الأسئلة أن يهزنا من الأعماق لنستفيق من غيبوبة النسيان أو التناسي.. نسيان الماضى الذى لا يموت بل هو باقٍ يعيش فينا.. يحيا بداخلنا ومن حولنا فى تصرفاتنا وعادتنا.. فى مأكلنا ومشربنا.. فى تفكيرنا.؟. ودون أن نشعر به، ولكن فى الإحساس به يقظة ووعيا، وفى الوعى به استعادة للروح وفى استعادة الروح حياة من جديد واستعادة لدور الإنسان فى تشكيل الحياة وفى صنع الحياة، وهو بهذا لم يكن يعبر عن قضية خاصة ببلد ما أو تاريخ ما. 

لقد حاول أن يقول: كلنا ونيس كلنا قادر على استعادة الروح أو استعادة الوعى ولنقل استعادة الذات باستعادة الماضى المدفون فى داخلنا.. وبين الأوراق أو بين الأحجار ولعل الحركة المتمهلة والإيقاع الهادئ المتأمل -إن جاز التعبير- للفيلم كان لإتاحة الفرصة للمشاهد للتأمل والتفكير فيما رأي، فشادى لم يكن يخاطب العين بقدر ما كان يخاطب العقل فكان يعطى العقل الفرصة للتفكير. 

وأعتقد أن اختياره لـ"ليلة أن تحصى السنين" اسما أو عنوانا للفيلم -قبل أن يصيبه تغيير الموظفين ممن لم يفهموا معناه- كان يقصد ليلة الصدق أو ليلة المواجهة أو ليلة المكاشفة. 

إنها الليلة التى واجه فيها ونيس نفسه وواجه الحقيقة وهى أيضا الليلة التى واجه فيها شادى نفسه وعرف الحقيقة، وهى الليلة التى أرادنا شادى أن نواجه فيها أنفسنا لنتساءل عن الحقيقة عن حقيقتنا "إحنا مين"؟! وماذا نريد؟! إنها ليلة التنوير والاستنارة أو ليلة مواجهة النفس أو الوقفة مع الذات. 

فإن تعرف.. من تكون.. عرفت ما تريد.. وإن تعرف ما تريد فقد قطعت نصف الطريق للوصول إليه. 

وقد فعلها شادي.. عرف من يكون وعرف ماذا يريد، لذا لم يتنازل ولكن مات فى منتصف الطريق وقبل أن يصل إلى ما يريد، ولكن تبقى تساؤلاته صالحة لكل زمان ولك مكان ولكل إنسان وتبقى الإجابة عنها هى الطريق للوجود والبقاء. 

فالأشجار لا تموت ولا تسقط ما بقيت جذورها فى الأرض ضاربة، ولكن حين تتلاشى الجذور تذبل الأوراق وتتساقط.. تتيبس الأغصان وتسقط الأشجار وهكذا الإنسان الذى بلا ماضٍ بلا وجود. 

إخناتون 

لماذا اختار شادى عبد السلام إخناتون من وسط عشرات بل مئات الشخصيات التاريخية ليكون محورا لفيلمه الروائى الثانى بعد المومياء؟! 

هل كان شادى يبحث عن نفسه عن جذوره فوجدها فى إخناتون فى هذه الشخصية التاريخية؟! أم كانت هذه الشخصية تبحث عمَّن تتوحد معه..تتجسد فيه..تبعث من خلاله فوجدت ضالتها فى شادى عبد السلام ابن المنيا؟!. 

إن وجه الشبه -بل أوجه الشبه- بينهما كثيرة، وأظن أن هذا ما وحد بينهما وقرب وقصر المسافات بين عالميهما، فكلاهما كان حالما بشكل ما، وكلاهما كان باحثا عن الحقيقة أيضا بشكل ما، وكلاهما لم يتحقق حلمه لسبب أو لأسباب ما. 

وأعتقد أن نشأة شادى عبد السلام بالمنيا وتجوله بين أطلال "تل العمارنة" -مدينة إخناتون- واقترابه من عالمها ومعمارها كمعمارى جعله يقارن بين ما كان.. وما هو كائن أمامه من أطلال أعاده إلى زمن كان.. أقامه من وسط الأطلال والبقايا فارتبط بصانع المدينة أو صاحب المكان دون أن يدري، وتنامى الارتباط مع الأيام حتى أصبحت الشخصية حية بداخله تثير فى نفسه السؤال الأبدي: أين الحقيقة؟! وأظن إن إخناتون الباحث عن الحقيقة هو صورة أخرى أو وجه آخر لـ"ونيس" الذى هو صورة لشادى نفسه.. كل منهم بحث عن الحقيقة بطريقته وكل منهم ذاق مرارة المعرفة. 

لقد قضى شادى أربعة عشر عاما من عمره فى الإعداد لهذا الحلم -فيلمه عن إخناتون- لم يكتف بكتابة السيناريو أو الحوار بل قام بتصميم اللوحات الفنية لكل شخصيات الفيلم.. تصورهم بتفاصيلهم على الورق، وصنع الحلى والملابس وإعداد الديكور ووضع تفاصيل المشاهد والكادرات بل وحركة الممثلين والكاميرا ومساقط الضوء. 

لقد صنع للفيلم كيانا حيا على الأوراق.. كيانا ينبض بل ينبض كل حرف أو خط فيه بالحياة. 

لقد عايش شادى إخناتون سنوات طويلة.. اقتربا فيها من بعضهما البعض رغم البعد الزمنى الساحق.. إلا أن الاقتراب النفسى والفكرى جمع بينهما وقصر كل مسافة. 

رفض شادى طوال كل تلك السنين عروضا أجنبية كثيرة لإنتاج الفيلم، لأنه كان يرى انه لن يبعث الحياة فى إخناتون إلا مصر الذى هو جزء منها وهى جزء منه. 

تكامل الحلم بداخله _ لكن الظروف والقدر حالا دون تحققه على أرض الواقع. 

كان إخناتون _ ولم يزل- حقيقة.. حقيقة تحولت إلى حلم كان يتمنى شادى أن يعود إلى الواقع فيصبح من جديد حقيقة فأصبح فيلم إخناتون بحق حلما لم يكتمل. 

وهذا ما يجعلنى أتساءل فى النهاية كلما تذكرت شادى وحلمه: هل تقودنا الحقيقة للأحلام أم تقودنا الأحلام إلى الحقيقة؟!!. 

العربي المصرية في

21/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)