حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ادوار الاطفال الحديثة في السينما المصرية توظف ثقافة الشتيمة وقلة الادب

لينا أبو بكر

لم تزل فيروز الصغيرة حاضرة في الذاكرة كبرعم سينمائي لا يشيخ بريقه مهما تقادم الزمن وجادت المراحل بطاقات فنية خصبة أو مبشرة، لأن ما يبقى راسخا في الذهن هو الذي يكسب رهانه في الصراع الدائر بين جدلية البقاء والفناء، فالعمر الإبداعي أكثر امتدادا لأي عبقرية فذة من العمرالزمني على اعتبار أن الزمن يدخل في النطاق المرحلي بينما يعد الإبداع متكئا ونموذجا يسند ويغذي المراحل التالية فيندغم فيها ويتمازج طبيعيا ليوهبها من روحه وملامحه أيضا، دون أن يأخذ منها، طالما أنه دخل في مرحلة التاريخ المتحرك لا الجامد، مما يؤكد قهره للسكون والاكتفاء بالتمثيل المرحلي، لكن ما يجعله أكثر امتداد هو عجز الأزمنة اللاحقة عن مضاهاته أو حتى الإتيان بمن يشبه عبقريته.

لم تكن دهب أو ياسمين أو غيرها من الشخصيات التي أدتها الفنانة فيروز الصغيرة شخصيات عابرة في ذاكرة السينما العربية، وكيف يمكن أن تكون كذلك وهي التي سحبت البساط من تحت أقدام كبار النجوم لتعد أفضل من يمثل الطفولة بآلامها وآمالها ومواهبها الخلاقة، بل والأقدر على اقتناص البطولة السينمائية بكل تلك العفوية الأقرب إلى ما يشبه التنويم المغناطيسي القائم على اجتذاب الوعي دون إلغائه في ذات اللحظة التي يستسلم بها المشاهد لذلك الأداء العاطفي المبهر والأداء الحركي الغاية في الإتقان والدقة، وتلك تماما هي العبقرية التي تسبق زمنها وزمن أجيال من بعدها دون أن تسعى للابتذال أو 'الشخبطة' العشوائية على وجه الشاشة السينمائية التي أصبحت تعج 'بالتكني كلر' حتى تشوهت ملامحها وبدت أشبه بالسيرك الشيال والذي يصعب تمييز وجهه من قفاه!

عرج على أفلام فيروز الصغيرة والتي تمثل بها دور اللقيطة والمشردة وأحدى أطفال الشوارع او الفتاة الفقيرة اليتيمة ووو، لتعثر على القيمة الإنسانية الذي يكرسها ذلك الأداء الفني الأروع على الإطلاق، فلم تستغل قدراتها على الصعيد التجاري بشكل يخل بالقيمة الاخلاقية أو التربوية أو النموذج السينمائي الراقي، ولم يتم تحويلها الى سلعة لأن ما لديها من قدرات ومن خلفها من طواقم فنية لم ترق كرامتها ولا وظفت ابداعها بما يتجاوز الأطر الاجتماعية المحمودة ولا الانماط السلوكية الايجابية، مما حول حضورها على الشاشة الى ثورة اجتماعية قبل كونها فنية لانها تستند وتعبر عن قضية، لتخرج بذلك من بوتقة الاداء او الحضور العبثي والعشوائي الفارغ الذي تحركه مافيات التجارة السينمائية البخسة والرخيصة وتنتمي الى البصمة أو العلامة الفنية الأجمل.

لم تكن اعمال فيروز الصغيرة ملاحما استعراضية - على الصعيد الاجتماعي رغم أنك تستطيع أن تعدها كذلك على الصعيد الفني - بمعنى أن الشحنة الدرامية كانت مطعمة بقدر موزون من التراجيديات المحصورة في مشاهد تشير وترمز دون أن تغرق في استجداء العاطفة، وتحرك الفيلم من وراء ستار بلا تطفل على التطور الفني والقصصي للفيلم، ولكن هذا لا يعني ابدا ان عنصر الضحك والمتعة لا يعبر عن نفسه من خلال جرعات كوميدية بارعة في التلقائية والعفوية التي يتطلبها الحدس السينمائي في هذا النوع من الأفلام الموجهة للأطفال، لأن التعامل مع الكوميديا بوعي وحكمة يحيلها إلى لقطات فطرية في صلب العمل ولا يقحمها كنوع من البهلوانية او الاستعراض السيركي، الاشبه بالكليشيهات التي لا تتصل مع بعضها من خلال حلقات مشهدية مبررة، وهنا يحيلك السؤال الى المعرفة، ما الذي تقدمه سينمانا المعاصرة من تلك العفوية الكوميدية الواعية التي تحترم ذكاء الطفل ولا تستخف بمشاعره أو حقه في الحصول على متعة نظيفة خالية من الشوائب البلهاء أو الحمق الفارغ الذي يحرض على التمرد الأعمى والأبله وكسر كل المعايير والضوابط التربوية ليس لهدف الا العشوائية والتخبط، يعني لفت الانتباه أو السعي لإثبات الوجود من خلال التفاني والاستبسال باتباع كل ما يخل بهذا الوجود وهو الأدعى لفقده لا ترسيخه.

بعد عمر ظهرت فيروز الصغيرة في احد البرامج التلفزيونية 'البيت بيتك' ولاول مرة لتتحدث عن ذاكرة تلك الطفلة أو ربما عن ذاكرتنا نحن، وتطرقت لمدى القسوة التي كان أنور وجدي يعاملها بها عكس ما كانت تلقاه من رأفة بالغة من ليلى مراد، وبررت قسوة وجدي بانها نوع من الالتزام الشديد والجدية اتجاه العمل الفني وهذا ما يربي الطفل على مبدأ احترام العمل والفن، فيقصيه تماما عن الاستهانة أو اللعب كانه ينط الحبل بحارة سينمائية لا أكثر .

ليس من المفترض طبعا ان يكون الوعي مختمرا انما هو الطقس المهني الجاد الذي يخلق لديه احساسا مرهونا بالمسؤولية وان لم يكن بالطبع مطلوب منه تفسيره او فهمه على هذا النحو انما يكفي ان يترجمه من خلال أداء مميز وبراعة منفلتة العقال ورحبة لا اداء متشنج أو اي كلام، وهوما نفتقر إليه في ايامنا هذه حقيقة.

خلال الثمانينات والسبعينات برزت مواهب لفتت الانتباه إليها إلا أنها لم تحظ بما يليق بها من اهتمام المنتجين لتتمكن من التعبير عن نفسها او عن طاقاتها او قضاياها من خلال إتاحة مساحة سينمائية لها كما تستحق لأن من أهم اولويات تلك المرحلة كانت الأفلام التجارية البحتة التي بدأت تدخل بالسينما مرحلة الخرف الفني المبكر .

في الألفية الثالثة الوضع ليس أفضل بكثير إنما على العكس تماما، إنه الأسوأ على الإطلاق، لأن حمى الأرباح الانتاجية استولت على الذائقة المهنية والجماهيرية، فباتت البطولات السينمائية التي يتم اسنادها للاطفال ليست سوى 'بون بون' سينمائي مسموم يستدرج المواهب التي لديها الاستعداد غير المكتمل لعالم الشهرة والاضواء فيغدو الامر اختطافا علنيا واراديا بموافقة الاهل والطفل معا.

افلام 'الفيتنا' الموقرة ما هي الا اعادة برمجة لسلوكيات الطفل بحيث تدمر البنية الأخلاقية التي تستغرق اعصاب ووقت وجهد الاهل لتستبدلها ببنية هشة ولكنها اسرع تأثيرا ومفعولا لأنها تخترق كل المعايير وتستهين بها وتغري الطفل بحرية واهمة ما هي الا الوجه الاخر للعبث.

وهو تحديدا ما يدمر اية طاقة تبشر بالخير لان الهم الاول للمنتج اليوم ليس صنع الموهبة بقدر تلقفها ولو من قارعة الدرب السينمائي وزجها في أي عمل بشكل لا يليق بالحرفية ولا الالتزام الاخلاقي والفني، فيلتغي عنصر المتابعة والاشتغال على الطاقات المتاحة ويتم استنزافها حتى تحترق اوراقها في شباك التذاكر بلا اية رحمة او ضمير.

هنالك أدوار ثانوية قامت بها الفتاتين مها عمار ومنة في 'خالتي فرنسا' على سبيل المثال و'الحب كده ولكن يا حرام'!

تم توظيف ما نالتا من شهرة توظيفا مقيتا في تلك الاعمال بحيث كانت ثقافة الشتيمة وقلة الادب هي القيمة الوحيدة التي تروج لها هاتان الفتاتان دون وعي منهما مما يثبت جريمة الاستغلال، فان كنا نبحث عن قيمة كوميدية أو تسلية أو متعة فهل يصبح 'الشبشب' هو الوسيلة الأمثل للتصفيق في قاعات العرض عوضا عن اليدين طالما ان لغة الحوار السينمائي الحديثة تستند الى الشباشب والاحذية لصناعة مواقف كوميدية حافية بل قل بلا قدمين اصلا؟

وإن شاهدت فيلم 'الدادا دودي' الذي تقوم بدور البطولة فيه ياسمين عبد العزيز مع شلة اطفال يمارسون ما لايخطر ببال بشر من المشاغبات الأشبه بالشعوذات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وتصب في ذات القناة التجارية، فأية بلوى وأية طامة؟

قد أستثني مما يتم عرضه للأطفال فيلم 'الآباء الصغار' لدريد لحام وحنان ترك لما فيه من عبرة رائقة وسائغة خالية من التخبط والتلطيش وموحية بالابداع الجماعي لعمل له ضمير فني وانساني.

حدث في تاريخ السينما العالمية أن احتوت بعض افلام الاطفال على عبارات بذيئة رغم أنه تم استدراكها بفعل الرقابة والاعتبارات الاخلاقية التي لا تسمح المنظمات الانسانية باختراقها في صميم العمل، ففي فيلم جون ترافولتا 'انظر من يتكلم ايضا' والذي قام طفلان ببطولته لم يتجاوزا العامين، كانت هنالك عبارة مشينة تم استثناؤها في الاشرطة المطروحة للتداول التجاري في الاسواق، بل ان مدة الفيلم مع القص والحذف غدت اقل مما تم عرضه في السينما وقد راعى المراعون هذه المعايير ولم يغفلوها أو يتجاهلوها مطلقا.

هل علينا ان نسلم اذن بنفاذ المخزون الإبداعي لدى كتاب الاعمال الكوميدية في شرقنا العربي؟

ولكن ماذا عن عنصر الابهار الذي تعتمده السينما بشكل اساسي؟

ليس هذا ما يلقي له صناع السينما العربية بالا، فالجهد القليل والمكسب السريع هو الاهم، وغض النظر تماما عن تاريخ العمل السينمائي ومستقبله و سمعة السينما العربية بين سينمات العالم، كل هذا الى الجحيم، لان المطلوب منك كمشاهد ليس ذاكرتك بل جيبك!

لا أحد يهتم بترسيخ ذاكرة سينمائية إبداعية، لأنا في عصر الذاكرة الرقمية ذاكرة الأرقام وليست ذاكرة الصور.

لن أتطرق لفيلم 'وحيد في المنزل' الذي مثله ذلك الطفل العبقري الامريكي 'Macaulay Culkin وتم عرض كل انواع الشغب فيه وكسر الدنيا لسنوات، لان كل مانراه من سينمانا نسخا مشوهة ومقرفة عن تلك النسخة الاصل' Kevin Mccallister' للشخصية البطلة في الفيلم، انما ساسترسل في موضوعة الابهار التصويري الذي قد يعوض خسارتنا -وهو ما استبعده ولو الى حين على الأقل - في الاداء الابداعي للطفل البطل في العمل السينمائي.

ففي السينما الهوليوودية تعود هذه الايام 'أليس إلى بلاد العجائب'، بحلة تكنولوجية جديدة تأخذ مخيلة الطفل إلى آفاق إبداعية تبتكر المشاهد السينمائية المبهرة بتدفق وتوازن وروعة مما ستحثه على تأمل الفن والايمان به كيف لا وهو يستفز لديه طاقاته التخلية والتأملية من خلال نسج صوري رديف للنسج القصصي في اقتراح ابداعي بارع فأي تأريخ وترسيخ وقفز فاتن في فضاء الابتكار والخلق هذا؟

الطفولة هنا بطولة لأن البطل الحقيقي في هذا العمل السينمائي الضخم هو الطفل المشاهد الذي يدرك فطريا ان ما سيأتي لمشاهدته هو انجاز وعظمة ليست اعتيادية ولا تخل بالمنظومة السلوكية لديه، انه يشارك بذلك الابداع لانه تعود ونشأ على البحث عن الابداع كذاكرة نابضة ومناقشته ونمذجته لا اللهاث خلف التخاريف او المعلبات الكوميدية المنتهية الصلاحية التي يدلل عليها اصحابها كما لو انها عانس فاتها قطار الزواج ..

في المحصلة : اذا خلا العمل السينمائي الخاص بالأطفال من المعايير المنضبطة أخلاقيا ومن عنصر الابهار الصوري الذي لا يخل بتلك المعايير ما الذي يتبقى من سينما الأطفال؟

لن يتبقى شيء سوى الطيش السينمائي الذي بلا ذاكرة!

القدس العربي في

15/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)