حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الانعتاق الأنثوي الصارم من العتمة وسجن الأم الكئيب

دمشق - فجر يعقوب

«أسرار مدفونة» للمخرجة التونسية رجاء عماري، ويسمى أيضاً «الدوّاحة» لارتباطه بهدهدة الأطفال بالغناء قبل النوم، وهو ما ستكشف لنا عنه المخرجة منذ الكادر الأول، ربما لتقول لنا أن ثمة أسراراً بالفعل تختفي وراء هذه الهدهدة، وأن الحكاية المغلفة بالغموض – كلياً – إنما تبدأ من هنا.

يبدأ الفيلم من عند ثلاث نساء، أو هو يبدأ بهن – أم وابنتيها – يعشن متخفيات في قبو قصر منيف ومهجور نسبياً، إذ يبدو بوضعه كما تطلعنا عليه عماري، وكأن الأشباح هي من تتخاطب في داخله، وأن لا وجود لإنسي في جنباته، باستثناء هذه الشخوص الشاحبة، وقد كوتها وأضنتها العتمة ليلاً ونهاراً، وإن جاءت العتمة في مصلحة الفيلم عموماً بسبب من أجواء الضيق التي فرضتها على بطلاته، ورسمت أمامهن وضعيات حاضنة لتخلفهن وانكماشهن النفساني على مستويات عدة.

تصحو عيشة، الابنة الصغرى (حفصية حرزي) على محاولة فاشلة منها في «تثبيت» أنوثتها التي لا تعرف منها شيئاً سوى القيام ببعض الأفعال الأنثوية غير المكتملة في ذهنها أمام المرآة. وواضح أن الفتاة تريد من خلال سلوكها غير المدرب أن تنعتق من هذه «العيشة» التي تحياها و «تتنعم» باسمها، ربما في إشارة مقصودة من المخرجة إلى مغزاه أيضاً. ولكن الأم، وهي صاحبة وجه شمعي متموت لا حياة فيه تقوم دائماً بكبح محاولات عيشة بشتى الطرق والأساليب من دون سبب مفهوم. فهن يعشن بعيداً من البشر بمختلف صنوفهم، ولا فكرة واضحة في ذهن عيشة عن الرجل ومفرداته وطرائق عيشه المختلفة. في المقابل تجد رضية (سندس بلحسن)، الأخت الكبرى تقوم ببعض الأشغال اليدوية التي تسمح لها بزيارة المدينة بين الفينة والأخرى بهدف بيع منتجاتها لبعض المحلات التجارية، وهي من الواضح قد خبرت الحياة بعكس شقيقتها الصغرى، وتقوم أحياناً بمساعدة أمها في قمع عيشة واستجوابها في الكثير من الأمور الأنثوية، وعلى رغم ذلك لا يبدو أن رضية تمتلك هذا الحس القوي بمحاولات الانعتاق من شبح حاضر كئيب وثقيل. وهي تظهر مستسلمة وناقمة على شيء لا يمكنها معرفته بسهولة كما تعبر لاحقاً، وسرعان ما تعود إلى الوكر الساكن الذي لا يخلخله في الظاهر شيء من دون أن تبدو عليها أدنى علامات التأثر بما يدور حولها من ضجيج وصخب في المدينة.

انقلاب

لا تقول لنا المخرجة عماري شيئاً عن سبب وجود هذه العائلة في قباء هذا القصر، حتى أننا لا نعرف شيئاً عن الأب. ولا تهتم المخرجة بأن تقص علينا سبب غيابه عن فيلمها، فالمشهد الأنثوي طاغٍ على ما عداه، وهو من يقود إلى تسلم مفاتيح هذه الحكاية الغريبة التي تنطوي على كشف المكبوت الداخلي الذي تعانيه كل واحدة منهن على حدة، وإن بدت عيشة هي محور الحكاية كلها، فهي لوحدها طاقة حبيسة بأنثى متعددة الدلالات والأصوات، وتحاول دائماً أن تجد لها متنفساً في الموجودات الأنثوية التي تقوم بتجميعها بطرق مختلفة.

بعد مرور أربعين دقيقة ينقلب الفيلم رأساً على عقب، وتنقلب عيشة معه، وإن بدا هذا الانقلاب غير مفهوم أو غير مقنع درامياً، إذ تصل سالمة (ريم البنا) وحبيبها علي للإقامة الموقتة في القصر هرباً من وحشة المدينة وصخبها على ما يبدو. وتصبح ابنة المدينة هدف نظرات عيشة و «بحلقاتها»، لتفرغ من مكبوتاتها الداخلية من خلال مؤنثات سالمة التي تنتمي إلى مذاق العصر: الحذاء ذو اللون الأحمر الصارخ. قلم أحمر الشفاه. العطر الأنثوي الثمين. الملابس الأنثوية الفاخرة. والأهم من كل ذلك، هو «نجاح» عيشة بالوصول إلى سالمة، وهي تعيش اللحظات الحميمة مع حبيبها علي، وهي أكثر اللحظات قسوة عليها، لأنها لا تعرف عنها شيئاً، وتبدو وكأنها تستفيق عليها للمرة الأولى في حياتها. فحتى التلفاز، وسيلة الترفيه الممكنة التي يمتلكها أهل القبو لا يبث سوى أشياء مضجرة عن صيد سمك السردين وتعليبه في اللحظات الوحيدة التي يتاح فيها لهن متابعته.

تجيء الانعطافة الحادة في سردية الفيلم الحكائية بقيام «المثلث الأنثوي» باعتقال سالمة وحبسها في القبو والحجر عليها من دون سبب وجيه أو مقنع، وهي هنا – للمفارقة على رغم كونها ممثلة للحياة ونداوتها وتقف على النقيض منهن، تبدأ بالانجذاب بالتدريج إليهن في سلوك غير مفهوم حتى تبدو لنا محاولات هروبها خجولة لا تقصدها في العمق النفسي لشخصيتها، وكأنها في أعماقها اللاشعورية تبدو غير منتسبة للحياة العصرية التي تعيشها، وتجيء وكأنها تحن من دون إرادتها إلى صور من يقمن باعتقالها وحبسها في هذه اللحظات الغرائبية. بالطبع هذا لا يعفي المخرجة من تفسير ما يحدث، وإن لم تكن هذه وظيفتها، ولكن ليس ثمة قراءة هنا للنص السينمائي يمكن أن تفيد المشاهد في معرفة سبب انكسار سالمة بهذه الصورة وجنوحها للاستسلام لرغباتهن، وإن بدت تفاصيل هذا الاستسلام مشغولة بلغة سينمائية عالية وفيها الكثير من الجدة والابتكار، وبخاصة في ما يتعلق بعلاقتها بعيشة، وانجذاب هذه الأخرى إلى كل مكوناتها الأنثوية الفارقة، وهي غارقة في البحث عن مخارج للانعتاق الذي لا يحتمل التأجيل أو الإلغاء في مثل حالتها.

«الدوّاحة»، أو الهدهدة من زمن الطفولة قبل النوم لا تعود مفهومة إلا بعد حوار بين رضية وسالمة في حوض الاستحمام، إذ تبدو «المعتقلة» مستسلمة لمن تقوم باعتقالها، وكأنها تستسلم أيضاً لطريقة تفكيرها، وهي تعاني خدراً غير مفهوم يمنعها من محاولة الهرب الجدي، فيما تفصح لها رضية بأنها حملت مرة سفاحاً، وقامت بالإجهاض، لا لشيء، إلا لأنها تكره وجود أثر لرجل في أحشائها. وبعد هذا الاعتراف (البراغماتي) التطهري، بطريقة رجاء عماري، تقودها عيشة، الأخت الصغرى، إلى قبر الجنين المفترض تحت شجرة زيتون معمرة بالقرب من القصر، لتكتشف بمساعدة سالمة بعد نبش القبر أن من تقوم بهدهدته في حضنها الآن في لحظة جنون ليس إلا كلباً ميتاً، ما يجعلها تصاب بنوبة بكاء هستيرية تغرقها في سؤال لجوج عن الجنين وأحواله.

بالطبع يعاني الفيلم من رضّات نفسية واضحة في علاقات بطلاته ببعضهن بعضاً، فبعد أن يختفي علي إثر اختفاء حبيبته سالمة من دون أن يسأل عنها، ولا يعود مهتماً بها، ولا نعرف عنه شيئاً في المقابل. وهو ما تقابله سالمة وهي محتجزة بنوع من الطمأنينة الداخلية المشرعة على كل التفسيرات، فتقتادها النسوة الثلاث إلى الطابق العلوي من القصر، ويقمن بمساعدتها بـ «احتلاله» ويبدأن العيش فيه، وهو أصلاً كان متوافراً لهن من قبل، ولم يرغبن بالاستيلاء عليه، لأن حياة الغموض قد آلفت بينهن أيضاً وحفرت فيهن عميقاً. وما يحدث في النهاية لا يعود يتعدى انسحاب سالمة من حياتهن بعد شجارعرضي مع رضية، وقيام عيشة بخنق أمها بالمخدة في سريرها وهي نائمة في إشارة صارمة منها على انعتاقها الذي لا يكتمل إلا بجنونها أيضاً. فنحن سنشهد عليها تسير هائمة في شوارع المدينة التي لم تزرها سوى مرة واحدة من قبل، وهي تختار شارعاً طويلاً اصطفت الأشجار على جانبيه من أجل رحلتها الأخيرة، وبابتسامة غامضة تكشف عن لحظة انتشاء مجنونة وتسير بقدميها نحو حريتها المكلفة ظاهرياً، على رغم وجود كل فرضيات انعتاقها بين يديها دائماً.

الحياة اللندنية في

26/02/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)