حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

رؤية خاصة

العظام الحلوة

رفيق الصبان

من الصعب حقاً وضع تصنيف صحيح لفيلم بيتر جاكسون الأخير »العظام الحلوة« والذي يعود به إلي الشاشة بعد ثلاثيته الشهيرة »ملك الخواتم« التي أثارت إعجاب العالم أجمع بخيالها الجامع وبُعدها الأسطوري ورموزها السياسية المدهشة والتي استغرقت منه وقتاً طويلاً.. احتار بعدها.. في الفيلم الذي يمكنه أن يعود فيه إلي جمهوره بعد هذه التحفة السينمائية التي جمعت إلي جانب فنياتها وجمالياتها الكبيرة جماهيرية لا حد لها.. وإعجاب نقدي بلا تحفظ.

في العظام الحلوة.. وجد جاكسون المادة المثيرة التي يمكن أن تصنع فيلماً خارقاً يثير التساؤل ويطرح شارات الاستفهام، ويثير القلق والتفكير معاً.

إنها قصة الموت والحياة، الجريمة والعقاب، الروح والجسد.. من خلال قصة جريمة تتأرجح أبعادها بين البعد التشويقي والبعد الميتافيزيقي.. تذكرنا أكثر ما تذكرنا بعالم ادجار آلان بو بكل شاعريته وغموضه ورعبه وميتافيزقيته.

القصة تروي علي لسان طفلة في الرابعة عشر من عمرها.. تعرضت للقتل علي يد سفاح احترف قتل الفتيات الصغيرات.. بعد استدراجهن إلي أمكنة منعزلة.. ووفق تخطيط شيطاني رهيب.

إنها تروي حكايتها مع أمها وأبيها وأخوتها.. تفتح حواسها علي الحب.. هيامها بشاب جميل في مدرستها وحلمها بالقبلة الأولي التي ستطبع علي شفتيها.. ولكن قبل أن تتم الصبية تحقيق جزء من أحلامها تسقط في الكمين الذي أعده جارها السفاح والذي تقتل علي يده بطريقة وحشية.

وتعود الفتاة من عالم الموتي إلي عالم الأحياء لتري وتروي ماذا يحدث بعد اختفائها وبحث العائلة المجنون عنها، والجار السادي الذي يراقب كل شيء بعين هادئة لامبالية.

في هذه المقاطع التي تجول فيها الصبية بين عالم الأحياء وعالم الموتي.. تتدفق شاعرية جاكسون بطريقة مذهلة.. يستغل فيها كل ما تملكه السينما من أبعاد في اللون والتشكيل والخيال الجامح.. كما فعل في أجمل مقاطع ثلاثيته الفلمية الشهيرة.. حقول صفراء وخضراء تمتد إلي ما لا نهاية.. شجرة وحيدة عملاقة في سهل منبسط.. تترنح أوراقها بكثافة.. مياه ووديان يجللها السحاب.. طيور بيضاء وفراشات، ومنارة بعيدة تلقي أضواءها في كل اتجاه، وبرجولا خشبية صغيرة تبدو وكأنها مخبأ أو ملجأ.. تقف وسطها الصبية تتأمل وتنظر وتراقب.

إنها تري حبيبها.. وتراه يمنح القبلة الأولي التي كانت تتمناها لزميلة لها.. تري أخاها الصغير الذي أنقذته من الموت في بداية الفيلم، وتري حزن أبيها الشديد وعدم قدرته علي الاحتمال وصبر أمها، وتري كيف يتصرف القاتل وهو يري حيرة البوليس وتحقيقاته التي لا تثمر عن شيء سوي التأكيد أو اختفاء الصبية جاء نتيجة جريمة ارتكبها مجهول.

يقال إن الفيلم السينمائي الجيد هو الفيلم الذي لا يمكن وصفه.. بل عليك أن تراه بنفسك وأن تعيش في صوره الخلابة التي لا يمكن للكلمات أن تعبر عنها.

وهذا بالضبط ما نحسه تجاه جميع المقاطع التي تدور في هذا العالم الآخر الذي تعيش فيه الصبية القتيلة، وتراقب منه ما يجري في عالم الأحياء.. ترشدها في ذلك صبية آسيوية في مثل سنها.

ويعجز البوليس عن إيجاد الجثة، أو العثور علي أي دليل يرشد إليها.. لكن الأب الذي كانت تربطه بابنته صلة روحية وثيقة وحب لا حدود له.. يشير له قلبه أن جاره الغامض قد يكون وراء اختفاء أو مقتل ابنته.. فيحاول مواجهته ثم مطاردته.. ولكن الأمور تنقلب عليه ويهاجمه الجار بوحشية ويكاد أن يقتله، ولا تنفع أية شكوك في هذا الموضوع ما لم تكن مقترنة بالأدلة، والأدلة معدومة، وليس هناك إلا ظنون القلب.

ويبدأ السفاح بعد أن نجح في إخفاء جريمته الأولي بالتفكير في جريمة ثانية تكون ضحيتها هذه المرة شقيقة القتيلة التي تكبرها بعام واحد، وتحس الشقيقة بعد مهاجمة أبيها وجرحه أن عليها أن تجد هذا الدليل الذي يفتش عنه البوليس.. فتتسلل مرة إلي بيت الجار الغامض بعد أن رأته يبتعد بسيارته، وهنا يقدم جاكسون خلال عشر دقائق ومن خلال مونتاج يصل إلي حد الإبهار مشهداً تشويقياً لا مثيل له، ويكاد أن يوازي بين المشاهدة التشويقية التي اشتهر بها هيتشكوك والتي اعتقدنا جميعاً أن ما أحد بعده قادراً علي صنعها.

الفتاة في المنزل وقد عثرت علي مذكرات تدين القاتل.. والقاتل نفسه يعود فجأة إلي البيت، والفتاة الميتة تراقب ما يدور، والعائلة في منزلها تتناول الطعام.

في مونتاج يصل إلي حد العبقرية، وتوتر يصل إلي حد الغليان مع إيقاع لاهث يقطع الأنفاس.

وتنجو الفتاة بمعجزة، وينجو القاتل بنفسه ويبعد عنه كل آثار الجريمة والجثة الموضوعة في صندوق ليرميها في حفرة كبيرة للنفايات.

وهناك وبعد أن كاد القاتل يقع في يد البوليس.. نجد الشجرة العملاقة التي جردت من أوراقها قد عادت للحياة وكأنها شجرة العدالة.. ونري ضحايا السفاح الصغيرات يظهرن في كوكبة حلوة في سهل منبسط أخضر، ويشكلن باقة صغيرة وكأنها باقة من الورود.. يتركن زميلتهن الجديدة إليها.. في مشهد رومانسي ساحر.

ولكن البوليس لا يضع يده علي القاتل الذي يجد مع ذلك نهاية قدرية عشوائية تنتظره، وتعود الأم الغاضبة العاقلة إلي زوجها الذي كاد أن يفتك به الحزن واعتداء السفاح.

وترفرف الروح الهائمة.. وقد وجدت آخر الأمر مستقراً لها.. خاصة بعد أن حققت حلمها في الحلول مكان صديقتها لتتلقي القُبلة الأولي من الشاب الذي أحبته وتمنت لو ضمها بين ذراعيه.

فيلم بيتر جاكسون.. قصيدة حقيقية من الشعر الميتافيزيقي.. تتكلم عن الموت بنشوة شاعر ولحن موسيقي، ومن خلال أسلوب بوليسي تشويقي.. يمسك الأنفاس.. ويثير المشاعر.. ووفق إيقاع هندسي موسيقي يشبه أنغام السيمفونية بحركاتها الثلاث السريعة والهادئة والمتوازنة.

الصورة في هذا الفيلم هي البطل.. رغم إجادة الممثلين لأدوارهم خاصة الشابة الصغيرة التي لعبت دور الفتاة القتيلة، والممثل المدهش الذي لعب دور السفاح بوجهه الهادئ اللامبالي الذي يخفي وحشية وسادية لا نهاية لها.. ونظرته الحجرية المتجمدة.

الفيلم بعد ذلك مليء بالتفاصيل الصغيرة التي لا يقدر عليها إلا مخرج شديد التمكن من مهنته.. شديد الوثوق في نفسه.. عرف كيف يوازن بين عالم الأرض وعالم السماء.. ورسم صوراً للعالم الآخر.. تشبه في خيالها الجامح رسوم مصوري القرون الوسطي الذهبية.. كل شيء في الفيلم محاطاً بسرية غامضة تدعوك لكشف سرها.. أو تثيرك لتغوص في مياهها العميقة.

لقد فتح جاكسون أبواب خياله جميعاً.. ومن خلال أحداث معاصرة استطاع أن يعطيها أبعادها الجمالية الخارقة رغم قسوة الموضوع الذي يعالجه ووحشيته أحياناً.

المشاهد التي يحملها الفيلم والتي يلصقها بذاكرتك وكأنها وشم ناري سحري.. كثيرة ومتنوعة.. وإن كان أكثرها إثارة وغموضاً وشاعرية.. هذه المشاهد التي تدور فيما وراء السماء بألوانها وسحرها وغموضها وسريتها والتي تدفعك رغماً عنك أن تنظر للسماء نظرة جديدة.. بعد خروجك من القاعة المظلمة التي كنت تشاهد فيها رؤيا جاكسون السينمائية.

قليلة هي الأفلام التي حاولت أن تكسر غطاء السماء لترينا ما وراءه.. وقليلة أكثر الأفلام التي تجعلك تحس أنك كنت حقاً في رحلة إلي الجنة.. حتي لو كان قوام هذه الرحلة.. مصرع وموت فتاة بريئة في الثالثة عشر من عمرها علي يد سفاح لا يعرف الرحمة ولا يؤمن بالسماء.

نعم.. لقد حقق بيتر جاكسون عودة مظفرة للشاشة.. وعرف كيف يسدد هدفه بضرية موفقة.. إنها »ضربة معلم«.

أخبار النجوم المصرية في

18/02/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)