حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

كيف نقرأ فيلماً -6-

د. جواد بشارة

خاص بالمدى

سمح غودار لنفسه بتغيير مواقف وآراء شخصيات الرواية حسب فهمه هو لأجواء ورسالة الرواية من جهة والفيلم من جهة أخرى، فنسب أطروحة الإخلاص والأمانة والمحافظة على نص ملحمة هوميروس الأوديسا للمخرج فريتز لانغ  ـ وهو كما نعرف أحد أبطال فيلم الاحتقار ـ بينما جعل من كاتب السيناريو والمعد لملحمة الأوديسا، أي بول،

شخصاً متواطئاً مع المنتج براكوش في عمليته التجارية الاستعراضية لتشويه نص وهدف الملحمة وتحويلها إلى دراما غرامية ذات بعد بسيكاناليتيكي  أو تحليلي ـ نفسي ولكن في صيغة هوليوودية جداً، أي استبعد جزئياً أطروحات ونظريات سيغموند فرويد  من الإعداد السينمائي للملحمة، على العكس مما ورد في رواية مورافيا. واستند في ذلك إلى سيناريو  المخرج كاميريني الذي قام بأول محاولة لتحويل الملحمة الهوميروسية إلى الشاشة. كما أضاف غودار إشارات ومرجعيات ثقافية جديدة لم يتطرق إليها مورافيا في روايته، مثل الإشارة إلى هولدرلان مع الاحتفاظ بما ذكره مورافيا من إشارات واستشهادات تتعلق بدانتي صاحب " الجحيم" وهوميروس بالطبع، وألغى تلك التي تذكر  ببيترارك دون أن يؤثر على البنى السردية للرواية، وكذلك جياكومو ليو باري الذي استشهد مورافيا عمداً ببعض فصائده وأشعاره في الرواية، وأيضاً بجيمس جويس صاحب رواية " أوليس" ، وأوجين أونيل صاحب " الحداد يليق بإليكترا"  التي تناقش بشأنها رينغولد وموليتيني ، بينما أضاف غودار في الفيلم كل الإشارات المتعلقة بالتاريخ الكلاسيكي للسينما " غريفيث، شابلن، الفنانون المتحدون، وحالة صناعة السينما في فترة وقوع  الحدث/ أي موضوع الفيلم، وهو عند مورافيا يقع في أواسط سنوات الخمسينات، وبإصرار متعمد، بينما يحدث ذلك لدى غودار سنة 1963 بعد العرض التجاري لفيلم"سايكو" لهتشكوك وفيلم فانينو فانيني. ناك تغيير آخر يستحق التنويه والإشارة إليه قام به غودار. ففي الرواية يدعو المنتج باتيستا الكاتب المسرحي والسيناريست مولتيني للتعاون مع المخرج رينغولد من أجل إعداد ملحمة هوميروس، أي مجرد مشروع لكتابة سيناريو مأخوذ عن ملحمة الأوديسا ، أي لم يبدأ تصوير الفيلم بعد في الرواية، بعد وفاة إيملي، إذ أن المنتج باتيستا يبقى على قيد الحياة في الرواية. بينما يميت غودار شخصيتي فيلمه الرئيسيتين أي كلا من المنتج بروكوش  وزوجة السيناريست بول الخائنة كامي في حادث سيارة. كما نجد المخرج فريتز لانغ في فيلم غودار منغمساً في معمعة الإخراج والتصوير الفعلي للفيلم ومشاهدة المشاهد  واللقطات والفصول التي تم تصويرها " الرشيز" قبل المونتاج، وإن المنتج بروكوش استدعى بول ليعدل سيناريو الفيلم الجاري تصويره، أي الذي سبق أن بدأ تنفيذه، لكن المنتج أراد أن يضمن  نتيجة أكثر تجارية فرغب بإجراء التعديلات أثناء التصوير وذلك إثر نزاع وخلاف عنيف نشب بين مخرج الفيلم، وهو من نوع المخرج ـ المؤلف  المستقل عادة في أسلوبه، ومنتج ديكتاتوري، كما قال غودار. فرواية عن مشروع كتابة سيناريو تحولت على يد غودار إلى تصوير فيلم داخل فيلم وقد أتاح ذلك للمخرج غودار أن يقدم فريق التصوير والإخراج  الحقيقيين لفيلمه بأدوار ممثلين ثانويين  وهم في خضم العمل والتحضير لتصوير مشاهد فيلم الأوديسا والتي ستحتل موقعها جمالياً داخل فيلم الاحتقار ذاته، بل وإن المخرج غودار منح لنفسه دوراً صغيراً داخل فيلمه وهو دور مساعد المخرج وهي التفاتة جميلة تذكرنا بهتشكوك الذي كان دائماً يظهر في لقطة ما قصيرة أو خاطفة في جميع أفلامه. وبالتالي لم يعد الأمر في الفيلم ما كان وارداً في الرواية عن مشروع سيناريو مستقبلي محتمل  سوف يشارك في كتابته ريشار أو يكتبه لوحده، بل ما كان موجوداً هو فيلم قد بدأ المخرج تصويره وهو على وشك الانتهاء منه إلا أن المنتج ليس راضياً عنه ويريد أن يعيد كتابة بعض مشاهده وإعادة تصويرها ومراجعة بعض المشاهد التي تم تصويرها لمنحها مصداقية أكبر لكي تتطابق مع النص الهوميري وتأثيره على تاريخنا، على حد تعبير السيناريست المتملق، وهذا أمر مهم حسب طباع ورؤية ومزاجية بول فهو هنا عكس ما هو في الرواية، يدافع عن مفهوم رومانتيكي سينمائي ـ تجاري للأوديسا ، وإنه لم يكن مرغماً على التظاهر بالاعتقاد بذلك حقاً، بل يبدو له منطقياً أن يقوم بهذا العمل لرغبته في أن يتألق أمام الآخرين ولتأكيد ذاته وقيمته وإشباع نرجسيته كما جاء في شرح المخرج للشخصية في حواشي السيناريو  الذي كتبه غودار بنفسه سنة 1963 . بعد هذه المقدمة التمهيدية الطويلة جداً لكنها ضرورية لطبيعة المادة التي ندرسها أي تحليل الفيلم ولغته الإخراجية لكي نتمكن من قراءته قراءة دقيقة وصحيحة، سنقوم في محاضرات قادمة بالقراءة الفعلية والتحليلية ـ التفكيكية على امتداد مشاهده والتأمل فيها والتدقيق في بنية الفيلم وحركته وإيقاعه وبعده الدرامي ومعمارية الفيلم وتقطيعه وانتقالاته ومونتاجه وتيمته الرئيسية وشخصياته ، من خلال تحليل المشاهد الفيلمية ، ودراسة التكوينات البصرية  والصوتية  والجمالية  أي التكوينات المكانية وطول اللقطات والمشاهد وعلاقتها بالإيقاع العام للفيلم ونظرات الشخصيات وموسيقى الفيلم ومؤثراته الصوتية ـ البصرية ، وأخيراً إلقاء نظرة نقدية ختامية تكون بمثابة الكتابة التقويمية النهائية للفيلم بعد معرفة كل المعطيات المحيطة به  وبالعاملين فيه، حيث سنلج مباشرة إلى دراسة وتحليل مشاهد الفيلم ولقطاته بعد المونتاج والعرض التجاري لنكتب نحن ديكوباج الفيلم ولكن تنبغي الإشارة إلى أن طبيعة الديكوباج التقني للفيلم ولغته مملة وغير جذابة ولا يمكن أن تهم القارئ العادي لجريدة بل يصلح لأن يكون داخل مجلة سينمائية متخصصة للمحترفين ولطلاب الفن السينمائي لذلك سنأخذ مثالاً واحداً فقط عبارة عن مشهدين من بداية الفيلم لتقديم فكرة أولية فقط لا أكثر.لقطة للوحة كارتونية صامتة للعنوان اللقطة من 1 إلى 3 ، وتستمر 16 ثانية تقريباً، ثم تليها  لقطة العناوين  وهي ناطقة وتمتد من اللقطة رقم 4 وتستغرق دقيقة و47 ثانية عرض.المشهد الأول : تمهيد أومدخل، شقة كامي وبول . نهار داخلي: لقطة رقم 5  ثابتة تستغرق 3 دقائق و 7 ثواني .داخلي ـ إضاءة إصطناعية : زوجين شابين ، رجل وإمرأة، هما كامي وبول، مستلقيين على السرير عاريين، كامي تستجوب بول الذي يرد عليها بعدم جدية وبشبه استهزاء واستخفاف خاصة عندما يعلن لها أنه يحبها بكل كيانه  وبرقة وبصورة تراجيدية.المشهد الثاني : استوديو سينسيتا . خارجي ـ نهار  لقطة متحركة ، إضاءة طبيعية.يصل بول إلى إحدى شوارع الاستوديو سينسيتا حيث يجد فرانسيسكا فانيني بانتظاره. تأخذه معها إلى المنتج جيريمي بروكوش وتترجم بينهما كل الكلام والجمل التي يتبادلانها ثم يغادرون معاً باتجاه إحدى صالات العرض . نرى بول وكامي يسيران على الأقدام، وجيريمي بروكوش  يركب سيارة رياضية حمراء بمقعدين من طراز ألفا روميو.المشهد الثالث: اللقطات من 10 إلى 40 ويستغرق 9 دقائق و 54 ثانية ستوديو سينيستا : داخلي ـ نهار  داخل صالة العرضوهكذا على هذا المنوال كل مشاهد ولقطات الفيلم حسب تسلسلها في نسخة العرض بعد المونتاج.الاحتقار هو الفيلم السادس الطويل من أفلام غودار الروائية وحصل معه بالضبط ما حصل مع بطل فيلمه المخرج فريتزلانغ مع المنتج  حيث حاربه المنتج الأمريكي بعد انتهائه من المونتاج الأولي وأجبره على إضافة مشاهد جديدة  ومراجعة مونتاج الفيلم وإعادة النظر في مشاهد عديدة أخرى.  ومن يعرف غودار جيداً سيستغرب من انصياعه لرغبات المنتج الأمريكي التجارية  البحتة البعيدة عن أي هم فني أو جمالي . ولد غودار في باريس من أبوين يحملان الجنسية السويسرية، وذلك في 3 ديسمبر 1930 والده طبيب وأمه تنتمي لعائلة مصرفيين بروتستانت المونود. تابع دراسته الثانوية في نيون ومن ثم في  ثانوية بوفون في باريس وحصل على الباكلوريا في غرونوبل وحصل على ليسانس علم الأنثروبولوجيا من جامعة السوربون . ومنذ سنة 1949 ، عندما كان عمره 19 عاماً كان مولعاً بالسينما ويرتاد الصالات السينمائية بكثرة لا سيما عروض السينماتيك الفرنسية أي أرشيف السينما ونادي السينما في الحي اللاتيني وتعرف هناك على فرانسوا تروفو وجاك ريفيت وإريك رومير الذين ربطتهم صداقة متينة وأصبحوا كلهم مخرجين طليعيين وأسسوا معاً مدرسة الموجة الجديدة .بدأ غودار بكتابة النقد السينمائي تحت إسم مستعار هو هانس لوكاس وهو الترجمة الألمانية لجان لوك في مجلة لاغازيت دي سينما عدد 2 سنة 1950 بمقال عن جوزيف مانكيفيتش وتطرق فيه لإعجابه بألبيرتو مورافيا ومنذ سنة 1952 بدأ يكتب في مجلة كاييه دي سينما أي كراسات السينما وكان قريباً من إريك رومير، أستاذي لمادة الإخراج السينمائي، وحاولا معاً عدة تجارب ومحاولات مجهضة . وفي سنة 1954 التحق بورشة بناء سد في سويسرا وأخرج أول أفلامه الوثائقية بطول 20 دقيقة تحت عنوان عملية الإسمنت ثم عاد إلى باريس ليواصل تعاونه مع مجلة كراسات السينما وكذلك في المجلة الأسبوعية " الفنون"  سنة 1956 . وإثر نصيحة المخرج الإيطالي الكبير روسيلليني انطلق زملائه النقاد في مجلة الكايية دي سينما للعمل في مجال الإخراج السينمائي فأخرج كلود شابرول أول أفلامه سيرج الجميل سنة 1958 من إنتاجه الشخصي بعد أن حصل على إرث مالي مهم، بينما أخرج فرانسوا تروفو وإريك رومير وجاك ريفيت أفلاماً قصيرة وأخرج غودار على حسابه الخاص وبكاميرا 16 ميللم فيلماً قصيراً بعنوان إمرأة مغرية وصوره في جنيف سنة 1955. وكان آخر زملائه ممن خاض تجربة إخراج الأفلام الروائية الطويلة بين زملائه في كراسات السينما. حيث وفر له المنتج جورج بوريغار فرصته الأولى سنة 1959 واختار سيناريو كتبه زميله فرانسوا تروفو بعنوان اللاهث أو على آخر نفس أو النفس الأخير، وتم توزيعه في آذار 1960 على نطاق تجاري في صالات العرض التجارية. وبالرغم من صعوبات الإنتاج والتصوير وضيق الحال المادية أو صغر الميزانية وعدم تحمس الممثلين والممولين،  لقي الفيلم نجاحاً جماهيرياً أدهش وفاجأ الجميع حيث شاهده في باريس وحدها 259000 متفرج وبقي على شاشات العرض سبعة أسابيع كما تم توزيعه دولياً في أوروبا وأمريكا. وفجأة تحول غودار إلى الطفل  المدلل والرهيب في مجموعة الموجة الجديدة حيث يتحدث عنه الجميع في كل مكان ويشيدون بموهبته وفرادته. واستمر بالإنتاج بالرغم من منع فيلمه الثاني من العرض التجاري من قبل الرقابة الفرنسية وهو فيلم الجندي الصغير سنة 1960.وفي سنة 1961 تزوج من الممثلة الدانماركية الشابة ذات الـ 21 ربيعاً وهي آنا كارينا وأخرج لها فيلماً موسيقياً  هو "المرأة هي المرأة" . وكان سكوب وبالألوان مع جان بول بلموندو وجان كلود بريالي. وكان فيلماً متوسط النجاح. وفي سنة 1962 أخرج رابع أفلامه الروائية الطويلة وهو " عاشت حياتها" عن غانية باريسية شابة وتكريم لأسلوب السينما الصامتة لسنوات العشرينات. وبالأخص لفيلم جان دارك من إخراج كارل دراير ثم أخرج فيلم القناصون أو حاملو البنادق سنة 1962 وتبعه بفيلم الاحتقار سنة 1963.

jawadbashara@yahoo.fr

المدى العراقية في

17/02/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)