حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مقابلة
الجندي الصامت إيليا سليمان عن فيلمه "الزمن الباقي":

لا حاجة لأن نصنع سينما اذا كان الهدف الذهابَ من واقع الى واقع

هوفيك حبشيان

للظالم والمظلوم قدر واحد في فلسطين: أن يعيشا معاً حتى إشعار آخر. هذه الفكرة وحدها أرض خصبة لإيليا سليمان الذي يروي 60 عاماً من التاريخ الفلسطيني، متنقلاً بتكثيف مبدع بين الشخصي والجماعي، في جديده "الزمن الباقي"، الذي شارك في مسابقة الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ السينمائي. يسعى سليمان دائماً الى خلق امكانات توصل المساحة الشعرية الى نوع من الدمقرطة، يستطيع المشاهد من خلالها ان يتشارك عملية انجاز الفيلم على النحو الذي يراه، وليس فقط بالشكل الذي يريده المخرج. "السينمائي يخطئ في الاعتقاد انه يلتقط ما يدور امامه من حقائق، لسبب انه يصوّب الكاميرا الى مكان، بينما تكون الحقيقة احياناً على بعد سنتيمترات من ذلك المكان". هذا ما قاله لنا المخرج بعد لقائنا معه للحديث عن "يد الهية"، عام 2002. في "الزمن الباقي" يواصل سليمان هذا الهمّ، وإن بوحي أقل (الأم بدلاً من الأب)، مصرّاً على سينما ذات وظيفة أخلاقية (ليس بالمعنى البشع للكلمة!)، دافعاً بالعدو التقليدي الى خارج الكادر، كاشفاً عن صورة أخرى له أقل ارتباطاً بالذاكرة الجماعية العربية.

لكنه كعادته، يفتح المجال لأسئلة كثيرة: ما مدى امكان تصوير شريط سينمائي في ظل الاحتلال؟ ما صعوبة تسجيل واقع معقد على مادة تلتقط تفاصيل الحياة على اشكالها وألوانها؟ كيف يمكن ان تتحول هذه المادة "وثيقة سينمائية" ما دام صاحب النظرة أو العين قد اختار مسبقاً معسكره؟ ما احتمالات النجاح الجماهيري عندما يأتي العمل الإبداعي معاكساً للتيارات السائدة والمتمثلة في شعارات فارغة وبلهاء لا تؤخر ولا تقدم؟ وأيٌّ من الكتابات السينمائية والخيارات الجمالية هي الحريصة على نقل "الحقيقة" من خلال يوميات تؤكد ان الحياة مستمرة على رغم كل شيء؟ هذا الجندي الصامت لا يجيب عن هذه الأسئلة، الا ايماء وايحاء، عملاً بمقولة "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب". وعلى غرار ممثل من زمن السينما الصامتة، يغوص أكثر فأكثر في جذور الفن السينمائي، موجداً مساحة شعرية بينه وبين المشاهد، ومستخدماً عوامل الضحك والفكاهة والسخرية والكوميديا السوداء اللاذعة كحزام أمان يخوّله عبور الحواجز الابداعية بكل اطمئنان.

·         هناك جوّ ترقب في "الزمن الباقي". هل كان مقصوداً؟

- لم يكن ترقباً بمقدار ما هو معايشة اللحظات التي تكون مؤلمة حين يمرض شخص عزيز عليك ويضطر الى مغادرتك.

·         أثناء كتابتك للنص، انطلاقاً من أي لحظة بدأت تطغى فكرة الزمن الباقي؟

- العكس هو الصحيح. لا أعنون فيلماً الا بعد أن ينتهي السيناريو. وغالباً ما اجد عنواناً في آخر أيام المونتاج، عندما يكون هناك مسافة بيني وبين الفيلم. احب العناوين الشاعرية التي تلمح عن بعض ما سنراه في الفيلم.

·         للأماكن أهمية كبيرة في عملك. كل نافذة، كل شارع، كل شرفة، تصير حاجة درامية. هل الأماكن هذه تكون في بالك وأنت تكتب النص؟

- ليس كل الأماكن بل البعض منها. عندما أعيش شيئاً أدوّنه في دفتر صغير للملاحظات. سواء أكان هذا الشيء عاطفياً أم مؤلماً. فأمّي مثلاً كانت تجلس بصحبة أبي، وذلك على مدار 30 عاماً، بالضبط في المكان الذي تجلس فيه في الفيلم. لم يكن عندي حاجة الى الذهاب الى أي مكان آخر، لأنه يتكون احساس عندك بأن "هناك مكاناً واحداً فقط لا غير هو هذا المكان". أحياناً، أكون متأكداً من مكان، لكن للمزيد من التأكد أجرّب أماكن أخرى، ثم اعود الى حيث كان احساسي الاول، لأنه فقط في ذلك المكان اشعر بالكاميرا وأشعر باللحظة. من البيوت التي ترى في الفيلم، هناك بيتنا وكذلك بيت جدي. اذا عدت الى التاريخ، ترى أن الهاغانا دخلوا الى شارعنا. في هذا المكان ايضاً ألقوا القبض على والدي. هذه الحارة هي المكان الذي "عشته".

·         لكن، ماذا بالنسبة الى الأشياء التي لم تعشها. هل أجريت أبحاثاً مثلاً؟ ماذا عن استنادك الى مراسلات عائلية؟

- دوّن أبي مذكراته عندما طلبت اليه ذلك بعد إصابته بالمرض. اعتاد أن يحكي لي هذه القصص، ليس فقط ما حصل في الـ48، بل ما قبل وما بعد. كان حكواتياً فظيعاً. أثناء مرضه شعرت بالخوف لأنني لم أكن اريد أن يذهب هذا كله سدى، وكانت لي رغبة في انجاز فيلم استناداً الى تجربته. ما تراه في الشق المختص بالـ48 هو ما عاشه والدي. على سبيل المثال، الفصل الذي نرى فيه الهاغانا وهم يسرقون البيوت، استوحيته من امرأة تعيش بالقرب من منزل العائلة. أخبرتني انها كانت عائدة مع زوجها من شهر العسل وحين وصلت الى حيث تعيش فوجئت بأن بيتها يتعرض للسرقة. بكت هذه المرأة وهي تحكي لي هذه القصة وكأنها حصلت في الأمس. شعرت بالآلم اثر ذلك ووعدتها بالانتقام. لدينا كاتب اسمه حنا بو حنا، وقد دوّن سيرة ذاتية عن الوضع السياسي الذي كان قائماً آنذاك. استشرته كثيراً. ثمة أشياء كنت أجهلها لكن كنت اريد أن اعرف اين حصلت تحديداً، حتى وإن اردت تغييرها في ما بعد، لأن معرفتي بها تشكل انطلاقة للخيال. خذ حكاية المرسيدس: كان هناك في شأنها أكثر من عشرين نسخة، وأحياناً كان ثمة نسخ متضاربة، وبعض العجزة كانوا يقولون ان السيارة لم تكن موجودة وأن ركابها المفترضين ذهبوا سيراً على الاقدام. غني عن القول إنني لم أعرف الحقيقة.

         معك، لدينا دائماً هذا الاحساس بأننا لا نعرف أين يبدأ الواقع وأين ينتهي الخيال. ثم نتذكر هذه المقولة الشهيرة لغودار: "الواقع الفلسطيني وثائقي والواقع الاسرائيلي روائي"...

- هذه المقولة شاعرية أكثر منها واقعية (ابتسامة). انطلاقة الروائي عندي هي الواقع في غالبية الاحيان. استنبط دائماً من قصص، وأحياناً من قصص لا اعيشها بل تروى لي، لكني اتبناها بعد تعاطفي معها. أبني على اساس هذا المعطى. لم يكن الخيال يوماً مطابقاً للواقع، لأن هناك ما يسمّى البُعد السينمائي، ونشكر الله على ذلك، لأن لا حاجة لنصنع سينما اذا كان الهدف الذهاب من واقع الى واقع. على المشاهد أن يقرر هل ما يشاهده هو لحظة حقيقية أم لا. هنا تتدخل قدرتك كفنان في التعبير عن نفسك استناداً الى البُعد السينمائي. أنا لي طريقتي، ولا ألغي احتمال أن يكون هناك طرق أخرى.

         على غرار المحو المستمر للحدود بين الوثائقي والروائي، نلحظ أن الحدود بين العام والخاص هي بدورها غير واضحة....

- بالتأكيد. أشعر أحياناً أن ما يجذبني الى السرد السينمائي الذي أتبعه هو هذا الخليط بين ما عشته ـــ أكان فعلياً أم بالاستعانة ـــ والواقع السياسي أو المسيس الموجود من حولي. استطيع أن اشبّه نفسي بالاسفنجة التي تمتص هذا الواقع فأعبّر عنه بالخيال. يتداخل فيه الـ"بورليسك" والساخر وكل ما تراه في الفيلم، علماً انه لا يمكنك أن تعزل هذا كله عن شخصيتي الميالة الى النكتة والدعابة. لا أملك استراتيجيا اختار على اساسها، وأقول "هذا يجب أن يكون مضحكاً". إما أن يكون الشيء مضحكاً وإما لا. هذا الأمر أتداركه في اللحظة التي أدوّن فيها المشهد على دفتري الصغير. عندما يلفتني شيء يتضمن مثلاً حركة معينة، فإني اسارع الى تدوينه. لكن ليس من الضروري أن يكون هذا الشيء الذي أدوّنه هو ما تشاهده على الشاشة، في خلاصته النهائية، اذ دفتري هو فقط انطلاقة اضيف اليها طبقات عدة

         نادراً ما شاهدنا هذه البيئة (عائلة مسيحية من الناصرة تنتمي الى الطبقة الوسطى، الخ)، في الأفلام الفلسطينية...

- صحيح، هذه المرة الاولى تشاهد في فيلم ماذا تعني عائلة فلسطينية من الناصرة. هناك هندسة معينة سواء في داخل البيت أو الحديقة. فيها شيء من بيروت، أليس كذلك؟ في خيال بعض الذين يملكون أفكاراً مسبقة عنا، نحن معتبرون ناساً مشردين وفقراء لا بيوت لنا. هذا غير صحيح، اذ هناك طبقة وسطى وحتى طبقة غنية هاجرت الى لبنان. الذين جاؤوا من حيفا ويافا كان لديهم املاك ويتعاطون الصناعة او التجارة، واصبحوا بعض أهم الصناعيين أو التجار في لبنان. كان لدى هؤلاء خجل من القول بأنهم فلسطينيون! في المرة الاولى جئت فيها الى لبنان لأعرض "يد الهية"، لم يجرؤ بعض هؤلاء على القول انهم فلسطينيون الى حين شاهدوا الفيلم وتأكدوا ان ليس ثمة ما يخجلون منه. كان هناك خجل ممزوج بالخوف (...). للمناسبة، هناك أشياء كثيرة تتشابه بين الواقعين اللبناني والفلسطيني، ولا ينبغي ان ننسى انك لا تحتاج الى أكثر من ساعة ونصف ساعة بالسيارة كي تصل من بيروت الى الناصرة.

         ما قصة "الحاضر الغائب" في الفيلم؟

- عبارة "الحاضر الغائب" وضعها الاسرائيليون كي ينهبوا الفلسطينيين. هناك ناس وضعوا أيديهم على أملاك، فكان اللجوء الى هذه الوسيلة كي يحصن السارق نفسه قانونياً. حتى من كان حاضراً سمِّي بالغائب! الفيلم اصلاً ولد من رغبة في قص حكاية الذين طردوا في الـ48. يجب ألاّ تنسى انني انا أيضاً، حاضر غائب في الفيلم، كوني آتي من الخارج، ولي تالياً نظرتان، واحدة من الخارج وأخرى من الداخل.

         الغيت ايضاً من حسابك احتمال انجاز فيلم "جانر"، وتحديداً ملحمي، يكون عابراً للأجيال والأزمنة، انطلاقاً من القضية الفلسطينية...

- فيلم الملحمة يقيّدني. يسلّيني القول انني أنجزت فيلماً ملحمياً بأكثر طريقة غير ملحمية. تجربتي السينمائية لا تتقبل معالجة نوعية كتلك التي تتحدث عنها. على سبيل المثال، فيلم الملحمة يفرض عليك تواريخ معينة، بينما التحدي عندي تجسد في عدم وضع هذه التواريخ الكبيرة (48، 67، الخ)، وتركت المشاهد يستنتج الحقبة التي هو فيها من خلال كلمة هنا، وصوت يخرج من تلفاز أو راديو هناك. كنت اريد ان اتحرر من هذه الكلاسيكية في السرد. لم يكن الامر سهلاً، لأنني كنت اتعامل مع اطار من الجماليات لا يخلو من البُعد الشعري، وكما تعلم فإن التأريخ ضد هذا النوع من الشاعرية. وأظن انني نجحت، وأقولها بعجرفة!

         كيف تطبّق أفكارك على اسلوب صار خاصاً فيك؟

- أهم شيء أن أكون صادقاً مع نفسي. هذا مبدأ لا أخونه. ايماني انكَ اذا كنت صادقاً مع نفسك فستكون صادقاً مع المشاهد. وهذا لا يأتي من العدم، بل من شيء أساسي هو سؤال مستمر أوجهه الى نفسي: ما افضل السبل لتعبّر عن نفسك؟ أحياناً، ترى لحظة وتعتقدها سينمائية، لكن عندما تأتي لنقلها الى الشاشة، تصاب بانسداد. يجب ألاّ نغفل ايضاً ان الظروف التي نصوّر فيها تشكل تحدياً اضافياً الى ما كنا نتوقعه.

         هل كان انجاز هذا الفيلم أكثر صعوبة من "يد الهية؟".

- كان اصعب بأشواط. لأنه كان أكثر ضخامة ولكن ليس أغنى من حيث الموازنة المرصودة.

         هل افتقدت أومبير بالسان؟

- كنت افتقده كل يوم. تعاملت مع منتج سيئ جداً في هذا الفيلم، وقد تم اختياره في اللحظة الأخيرة. قبلت بالأمر لأنني كنت اريد أن أبدأ بالتصوير. بدلاً من ان يحمي الفيلم، كان يساهم في امكان أن يُهاجَم. كان هناك تقليص دائم في الامكانات الانتاجية، وهذا ما جعلني أشعر بأنني مكشوف وغير محمي. مع اومبير، لم أسمع يوماً بمشكلة. حتى عندما كانت توجد مشكلة كبيرة يُفترض أن أكون مطلعاً عليها، كان يخفيها ريثما يجد لها الحلّ المناسب. وعندما استشيره يقول لي "لا تهتم بهذا الموضوع، قل لي فقط ما تحتاج اليه". وعندما كان يتخلف عن الوفاء بوعد، كان يختفي من شدة الخجل. كان دائماً يحارب من أجل الفيلم. وعندما كان يشعر بأنني في حاجة الى شيء يخدم الفيلم، لم يكن يمانع أن يسرق! لم يكن يأتي الى موقع التصوير ليقول لي ما أفعل، بل كان يأتي ويجلب معه زجاجة شمبانيا أو كونياك من النوع الذي أحبه. للأسف، لم أحظ بهذا كله في تصوير "الزمن الباقي".

         لكن، لماذا ضيّعت هذا الوقت كله بين "يد الهية" وهذا الفيلم؟

- بين "سجل اختفاء" و"يد الهية" هناك سبعة أعوام، امضيت ثلاثة منها وانا ابحث عن تمويل. افلامي تثير مخاوف المنتجين لأن فيها مجازفة كبيرة وليس من مردود في المقابل. الكذب في هذا الوسط السينمائي كبير. بعض الذين هاجموا الفيلم قبل انجازه هم أنفسهم قالوا بعد انجازه انهم كانوا خلف تحقيقه. من الصعب ان تجد بين المنتجين شخصاً يعشق السينما مثل أومبير.

         دائماً تهتم بما يدور في هامش الصورة. لكن ما المكان الذي تحتله مثلاً لقطة قفزك فوق الجدار الفاصل الذي أشبهه بمشهد النينجا في "يد الهية"؟ ولماذ اللجوء الى الاستعراضية؟

- هذه القفزة هي نتيجة تراكمات كل ما شاهدته في الفيلم من أشياء وسمّيتها أنت بالهامشية. يمكنك اعتبارها انفجار هذه الاشياء الصغيرة. أحياناً تستهويني هذه النشوة الاستعراضية. ولا يمكنك اعتبارها هروباً من الواقع، لأن الجدار موجود، لكن ما اريده طرحه هو نوع من الرغبة في تكسير هذا الجدار، وتبيان أن احتمالات القفز فوق هذا الجدار موجودة بلا شك. كل حلم هو احتمالات لواقع.

         الصورة في الفيلم من أبدع ما يكون...

- اجرينا بحثاً دقيقاً عن كل لون في كل حقبة. وعدت الى ذاكرتي لأحاول أن أتذكر كيف كنت ارى الأشياء آنذاك. فمثلاً، لم يكن الجو ملوثاً مثلما هي الحال الآن. وهذا فتح الباب لنقاش طويل بيني وبين مدير التصوير. في حقبة الـ48، كان مهماً لي أن احصل على كونتراست بين الداخل والخارج؛ بين خارج عنيف يسيطر عليه الهاغانا والداخل الدافئ حيث العائلة والحماية والجماليات. فكان القرار القاضي بتصوير الخارج في عزّ النهار وتحت أشعة الشمس الحارقة. وحين كانت الكاميرا في داخل البيت ويُفتح الباب ليدخل أحد من الخارج الى الداخل، فإن الكمية الهائلة من الضوء التي تُستخدم من أجل لحظة كهذه، كانت تتطلب أحياناً يوماً كاملاً من العمل. كنت اريد الا ترى شيئاً من الخارج من كثرة الضوء. هذا الكونتراست كان مدروساً. أما الضوء الذي نراه في حقبة السبعينات فهو على علاقة بالضوء الذي كنت اراه في بيتنا حين كنت صغير العمر.

         الصمت هنا أكثر حضوراً من السابق، أليس كذلك؟

- هذا احساسك وهو مشروع، لكن ليس صحيحاً بالمقاييس، اذ هناك مساحة أكبر للحوارات. لكن الوطأة التي تعيشها تزيد احساسك بالصمت.

         حتى الموسيقى لا تمنع الاحساس بالصمت أحياناً، وفي بالي المشهد الذي تضع فيه جهاز الراديو أمام والدتك.

- نعم. أنت محق عندما تقول كلمة صمت. لكن ليس الصمت بالمعنى الحرفي، ذلك لأن الصورة دائماً مصحوبة بضجيج وأصوات اضافية. بالنسبة اليَّ الصوت، على غرار بعض الأعمال الأخرى، ليس خلفية بمقدار ما هو شيء يوازي الصورة. كل صوت تسمعه في الفيلم ينم عن نقاش مع المونتير حول طبيعته. حتى العصفور واللحظة التي سيغرد فيها، مادة لنقاش بيننا

(•) يُعرض في صالة "صوفيل ــ متروبوليس".

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb)  

 

مهرجان

استعادة كاملة لأفلام روبير بروسون في "متروبوليس"

إنه السينماتوغراف على الأرجح

يحلّ شبح روبير بروسون (1901 - 1999) ضيفاً عزيزاً على بيروت في صالة "متروبوليس"، بدءاً من هذا المساء، لمناسبة استعادة كاملة لمجموعته الفيلمية التي انجزها بين عامي 1943 و1983. أكثر من عشر سنين مرت على رحيل المخرج المؤسس لنمطية سينمائية شرعت الأبواب أمام أهم معالم الحداثة في الجزء الثاني من القرن العشرين، ولا يزال التأثير الذي لأعماله في الوجدان العالمي كبيراً حدّ انه يبعث على الاستغراب أحياناً. لكنه استغراب غالباً ما يقترن بتدارك سريع لمنطقه الفريد في التعاطي مع الأمور، والذي لم يكس وجهه بالتجاعيد على رغم مرور الزمن. اذ، حتى بعد مضي أكثر من ربع قرن منذ تقديم آخر أفلامه، "المال"، لا تزال فيلموغرافيته ملأى بألف درس يمكن الاستناد اليها لفهم السينما فهماً عضوياً، فهماً أفضل، أي فهماً فلسفياً أكثر ايماناً بالوسيط السينمائي. بروسون بالنسبة الى السينما الفرنسية، هو ما هو دوستويفسكي للرواية الروسية، وموزار للموسيقى الألمانية، والكلام هذا لغودار، أول المهللين لمنجز بروسون السينمائي. أما مارغريت دوراس فكانت تعتبر انه وحده يمكن أن يختصر السينما كلها.

كان بروسون من القلائل المنتمين الى جيل الأربعينات والخمسينات الذين غازلهم اعضاء "الموجة الجديدة"، معتبرين اياه استاذاً كبيراً ينبغي اقتفاء آثاره. كثيرون يعترفون بتأثيره في شغلهم: كيارستمي مثلاً. شأنه شأن ستانلي كوبريك الذي سبقه الى الموت ببضعة اسابيع في عام 1999، تقتصر تركة بروسون على 13 فيلماً نموذجياً جعلت منه السينمائي الفرنسي الأكبر على مرّ التاريخ. رئيس التحرير الأسبق لمجلة "دفاتر السينما" جان ميشال فرودون الذي سيحضر هذه الاستعادة في بيروت بدءاً من مساء غد، يعتبر بروسون في كتابه "مخرجاً يثير الحرج"، وهذا التصنيف يليق الى حدّ بعيد بصاحب "موشيت"، ولا سيما عندما نشاهد أفلامه على هذا النحو التراكمي الذي تقترحه علينا البعثة الثقافية الفرنسية، وهي الجهة المنظمة لهذا الحدث الكبير.

لم يكن بروسون سينمائياً رائداً فحسب، بل أيضاً أحد المنظّرين لحداثة بصرية، ومبتكر كلمة "سينماتوغراف"، التي هي في الواقع التسمية الاولى للفن الذي اخترعه الاخوان لوميير. انها ايضاً مبادرة للعودة الى أصل الكلمة والتعصب لها، لعلها تساعد في انقاذ السينما من قبضة المسرح والفن التشكيلي والأدب، علماً ان بروسون، وعلى رغم عدائه للاقتباسات، نقل الى الشاشة برنانوس ودوستويفسكي وتولستوي، وأعلن ذات مرة: "الأفكار التي نستقيها من القراءة هي أفكار تليق بالكتب. اذهبوا الى الشخصيات والأشياء مباشرة بلا وسيط". لا شك في أن هذا التعصب لـ"السينماتوغراف" لم يكن يوماً الا رغبة في قلب المفاهيم، وفي قول ما لا تستطيع أن تقوله الكلمة في كتاب أو أن يوحي به اللون في لوحة. وهذا ما يتأكد لنا في كتابه المرجع حيث يطرح رؤيته لصناعة الفيلم مدوِّناً ما يجوز اعتباره خواطر يمكن الانطلاق منها لبيان تأسيسي حديث النبرة.  

فيلماً بعد فيلم، صنع بروسون لنفسه هالة سينمائية تصعب إطاحتها، قوامها الصفاء. نوع من سينما خالصة تجهد في البحث عن الحقيقة وإسقاط الأقنعة. من أجل التوصل الى هذه النقاوة التي كان ينتصر لها، كانت لبروسون نمطية معينة لم يزح عنها طوال حياته، بدءاً من اختياره ممثلين غير محترفين (كان يطلق عليهم تسمية الـ"موديل" وليس الممثل) وصولاً الى ايلائه التفاصيل الأهمية المطلقة، ايماناً منه بأن "هذه هي" الطريقة المثلى للوصول الى فضيلة سينمائية وحقيقة موثوق بها. وهو من القلائل على سبيل المثال استخدموا الكاميرا الخفية (في "بيكبوكيت") لسرقة لحظات حقيقية. لكن هذا كله لم يمنعه البتة من أن يترك باباً مشرعاً أمام كل مفاجأة تدخل الى موقع التصوير أثناء عملية التقاط المشاهد.

سينمائي الـ"ضد" لكن بهدوء (ألم يقل يوماً أمام مجموعة تلامذة "إذا أردتم أن تنجزوا أفلاماً، فعليكم أولاً أن تكونوا ضد شيء ما"؟)، كان دائم البحث عن المصادفة الخلاّقة لإعطاء الحقيقة جسداً تنام عليه أفكاره. معه، ثمة منحى كان يهيمن دائماً على غيره من المناحي: جعل المُشاهد يشعر انه يرى الأشياء للمرة الاولى، وذلك ببساطة تامة. هذه البساطة التي اعتُقد ذات زمن انها مرادف للسهولة، بدت في ما بعد امتداداً لنمطية تسعى الى البحث عن الصفاء. وكما نعلم، كلما زادت البساطة زادت التعقيدات.  

كان بروسون في بداياته يريد اعتناق الفنّ التشكيلي، لكنه قرر الاستغناء عن هذا الفن والتوجه الى السينما، مستبدلاً اللوحة البيضاء بشاشة. أنجز فيلمه القصير الاول عام 1934، وكان ينبغي انتظار عقد كامل من الزمن كي ينكبّ على انجاز فيلمه الطويل الأول، "ملائكة الخطيئة"، عام 1943، فيما كانت بلاده فرنسا تحت الاحتلال النازي، علماً انه شارك في الحرب العالمية الثانية قبل أن يتعرض للاعتقال. وبعدما نال تشجيع معاصريه، لم ينتظر طويلاً قبل الانطلاق في مغامرته الثانية، "سيدات غابة بولونيا"، المستوحى من نص لديدرو، كتب له الحوارات جان كوكتو، والأخير كان يجله ويعتبره "حالة خاصة في مهنة فظيعة". مني الفيلم بفشل جماهيري ذريع، على رغم استحسان فيلمه الأول، وهذه اللعنة في ملاقاة الجمهور ظلّ يجرجرها من فيلم الى آخر، حتى صرح ذات يوم: "الجمهور لا يعرف ما يريد. عليك أن تفرض عليه رغباتك".

وكان ينبغي انتظار مطلع الخمسينات من القرن الفائت، كي تتشكل ملامح مَن كان سيتحول في العقود اللاحقة مؤسسة اخراجية. وجاءه التكريس الفعلي والنهائي بشريط واحد هو أفلمة لرواية برنانوس، "يوميات قس قروي"، الذي كان يحمل توقيع صاحبه الصارم. على رغم ذلك، فإن هذه الأفلام الثلاثة المذكورة، كانت على أهميتها، عرضة للانكار من جانب مخرجه، ما ان دخل مرحلة أكثر نضجاً من مساره.

ثم جاء "فرار محكوم بالإعدام" (1956) الذي قال الكلمة الفصل في ما سيكونه بروسون بدءاً من الستينات. هذا الفيلم دفع بالطريقة البروسونية الى مناطق جديدة وغير مظنونة من تجربته، آخذاً المخرج الكبير الى ما سيكون شغله الشاغل في أفلامه اللاحقة: رد الفعل بدلاً من الفعل. بدءاً من هذا الفيلم ايضاً بدأت تتوضح اتجاهاته التيماتيكية المفضلة، واهمها كيفية صمود الروح الانسانية أمام عذابات ظالمة تنزل بالجسد. بطله يقبض عليه المصير الجماعي من حيث لا يدري. بلغ بروسون من خلال أفكاره الروحانية، وإن بدت في بعض الاحيان كاثوليكية ودينية، صميم الروح الانسانية، في أفلام مثل "الشيطان على الارجح" (1976) و"موشيت" (1967) و"محاكمة جان دارك" (1962) وغيرها. في مقابلة مع هاتاي وانغ، قال: "اريد أن اتوصل الى ابعد من مجرد اظهار اجساد متحركة على الشاشة. أود ان احرك احاسيس هذا الشيء المتسلط والحاضر دائماً فوقنا والذي يدعى الله".

عبقري مؤسس لا يقبل الجدل بحسب بعضهم، ومثير للملل بحسب بعضهم الآخر، عُرف بروسون بنظرياته الخلاقة بقدر ما عُرف بمنجزه، لأنه سيد حرفة وتأمل في آن واحد. كان يكرر مثلاً أن تعظيم المواقف ودعمها بالنفس الدرامي، من الأشياء التي لا ترتاح اليها سينماه، مصراً على مسألة انه كلما كان تلقائياً واوتوماتيكياً، خرج من دواخله فيض من الاحاسيس المتجانسة. بالنسبة اليه، هناك نوعان من الأفلام: الأول يستعمل الكاميرا وأدوات المسرح لإعادة انتاج أو تسجيل ما يقدّم الى العدسة؛ والثاني يستل آلة التصوير مستعيناً باللغة السينماتوغرافية لإنجاز ما كان يسمّيه بروسون خلقاً. علاوة على انه كان يريد لدورة الحياة في أفلامه أن تبدو طبيعية، بعيداً من التصنع، وهذا ما يفسر لجوءه الى "موديلات" بدلاً من الممثلين، ونظريته في هذا الشأن كانت معروفة: "في الحياة عندما تحرك يدك، لا تفكر، بل تفعل ذلك من تلقاء نفسك".

من هذا التفاوت بين فنّ سينمائي مملوء بالتقليد والكيتش والميل الى اعادة انتاج الحياة بتكرار بليد، وفنّ يمجد الصفاء ويوظف فلسفة معقدة جداً لبلوغ الخلق، ولدت عظمة روبير بروسون. على الأرجح ان في هذا الخطين المتوازيين، اللذين لا يلتقيان أبداً، يكمن الفرق، كل الفرق، بين السينما والسينماتوغراف.

هـ. ح.

النهار اللبنانية في

03/02/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)