حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

إدانة صامتة للموقف العربى الدعائى من القضية الفلسطينية

«الزمن الباقي».. صورة شديدة الشاعرية بريشة إيليا سليمان

انتصار محمود

ما أصعب أن تكتب عن فيلم أحببته و خطفك من المشاهدة الأولي، اختار أن ينحاز للإنسانى واليومى والبسيط، محملا بطاقة روحية قادرة على الاستحواذ على المشاهد فى اى مكان فى العالم ليتماهى مع عالمه، ايليا سليمان مخرج شاعر انجز قصيد سينمائى فى فيلمه "الزمن الباقي" ـ عرض فى إطار بانوراما الفيلم الاوربى ـ والفيلم الذى حاز تقديرا نقديا عاليا اينما عرض فى مهرجانات العالم فائز بجائزة اللؤلؤة السوداء من مهرجان أبو ظبى لأفضل فيلم من منطقة الشرق الأوسط. 

وكعادته قدم إيليا سينما شاعرية بإخلاص جاء صمته الشعرى أكثر كثافة ورهافة، الفيلم يحتفى بالصمت ليتيح مساحات لتأمل لغات أخرى من الصورة والتكوين والمشاعر الصامتة وأصوات الحياة والطبيعة، فهو بارع فى الهرب من الحوار والثرثرة، فمشاهده حبلى بالإيحاءات التى تتوالد عنها دلالات أعمق وأكثر اتساعا، محملة بنظرة تجمع بين الرؤية الفلسفية التى تنشغل بما وراء الصورة المباشرة والتقديس للإنسان البسيط، يحب اللغة ويستخرج منها طاقة الإيحاء والتأثير التى للشعر ويراهن دوما على البعد الميتافيزيقى لتأثير الإحساس بالصدق الفنى وهو مع هذا لا يفرط لحظة فى دقة وحرفية عمله، يبحث طويلا عن الرواية الحقيقية للأحداث، يدور على بيوت العجائز باحثا عن الأشياء التى تحمل رائحة زمن فات، لا تستطيع إلا أن تتواصل مع تجربة مخرج الذاتية على الشاشة التى يشاركنا فيها بمزيج من التاريخ الوطنى والشخصى لعائلته، فيشاركنا بعضا من ذاته وعالمه ومن حميمية عائلته ودفء البيت، من قهر ابيه من انهيار ورشته ومن طرب الأم بالموسيقي، من عشقها الايس كريم وهى مريضة السكر، من حب الجار الذى صار جنديا فى البوليس الإسرائيلى لزوجته الفلبينية الحنونة عالم، وهو مفرط فى العناية بالتفاصيل، الملابس، الإكسسوار، الاغانى التى تسترجع الزمن حيا. 

فى فيلمه الثالث بعد "سجل اختفاء" و "يد إلهية" الذى حاز جائزة لجنة التحكيم من مهرجان كان 2002 يواصل سليمان أسلوبه السينمائى الحداثى الذى يجمع بين السخرية والتضخيم الكاريكاتيرى لبعض الشخصيات والأحداث والروح المرحة فى مواجهة عبث واقع شديد القسوة والمرارة، فى سخرية عذبة مغلفة بطاقة محبة إنسانية. 

ولأنه مخرج مفرط فى استهداف الصدق الفنى يحكى كيف كان يمضى وقتا طويلا لضبط زاوية الكاميرا سنتيمترات ضئيلة لنرى الكادر معه مضبوطا من الزاوية التى رآه منها، صدق فنى وأنسانى معذب، يراه جسرا للتواصل مع الآخر، رغم انه يقول أنه لا يفكر فى المشاهد لكنه يأتمن نفسه ويحاسبها بميزان صدق مرهف، حتى فى الأغنيات التى وضعها فى فيلمه جاءت كأنها بحث فى الموسيقى فاختار للمرة الأولى فى أفلامه أن يستعين بموسيقى لبنانية للمشاركة فى بناء الإطار الموسيقى للفيلم، اختيارات من الأغانى التى تبقى الزمن حيا، من ليلى مراد إلى فيروز ونجاة وعبد الوهاب. 

حكاية الفيلم بدأت مع إيليا نفسه، فبعد إصابة والده بالسرطان، طلب منه ان يكتب الذكريات والحكايات التى طالما حكاها له، كان يعرف انه سيكتب منه سيناريو يوما ما، وعندما مرضت الأم، كان عليه ان ينجزه ليبقيهما معه، الأم فى الفيلم تكتب خطابات للاهل فى الشتات وهو مع عائلته نموذج للفلسطينى الذى اختار الاصعب البقاء فى الارض التى احتلت رغم حالة العبث المؤلم للحياة تحت الاحتلال عندما يجبرالاطفال فى المدارس على ترديد النشيد الوطنى للمحتل والمدرس يعنف الصبى ايليا على اصراره على ان امريكا إمبريالية، عبث و سخرية بلا حدود نراها مع الجار السكير الذى يقترح حلولا مجنونة لدور العرب فى الصراع ضد إسرائيل، العمة التى ترى رؤى وهمية عن حال الاهل فى عمان، مصابة بقصر نظر وتشوش رؤية طبيعى مع ازدواجية الحياة كعملها فى مدرسة للاقلية العربية فى دولة اسرائيل تسعى للاندماج فى المجتمع و تنتظر الخلاص من العرب خارج الواقع اليومى للاحتلال، فى الفيلم ادانة صامتة للموقف العربى الدعائى من القضية الفلسطينية والجهل المتعمد بحقيقية قضايا وحياة الفلسطينيين، مغلف بمرارة التجنى العربى الطويل وفرض العزلة على الفلسطينيين الذين تمسكوا بأرضهم وعاشوا تحت الاحتلال منذ النكبة، بوسمهم بعرب اسرائيل أو عرب الخط الاخضر أو غيرها من التسميات، رغم ذلك يحفل الفيلم بذكرى حميمية لصوت خطابات عبد الناصر من التليفزيون، وحضور جليل لحدث وفاته، صورة ايليا بالشوارع الخالية وأصوات تلاوة القرآن الكريم وقرع أجراس الكنائس خلفية لخبر الوفاة ودموع أسى صامت فى بيت ايليا الطفل و مشاهد الجنازة يشاهدها الأب فى التليفزيون. 

يستعرض الفيلم أربعة أزمنة تبدأ فى 1948 مع النكبة والمقاومة الفلسطينية فى مواجهة جيش الهاجاناة الاسرائيلى ودور الأب والجد فيها وعبث المشاركة العربية التى لا تعرف ما تفعله، إلى نهاية الستينيات وذكريات الطفل ايليا ـ ولد 1960ـ فى المدرسة والحياة تحت الاحتلال ويدرس فى مدرسة للأقلية العربية إلى زمن السبعينيات ومرض الأب وايليا شاب صغير، ثم مرض الام فى الزمن الحاضر وعلاقته بها، تعلقها بصورة فوتوغرافية للاب الراحل لا تفارقها فى كل لحظة فى انتظار اللحاق به. 

أحداث الفيلم تدور بين مدينتى الناصرة ورام الله وفى الأخيرة نتابع معه الاشتباكات بين الشباب المقاوم وجيش الاحتلال، وفى سخرية كاريكاتيرية فى النظر للتاريخ يقدم احد مشاهده المحملة بالدلالات فى مشهد الصراع على شاب فلسطينى أصيب فى الاشتباكات بين الفلسطينيين الذين يريدون علاجه والجنود الإسرائيليين يريدون اعتقاله وفى لحظة يبدو أن سلاح المحتل يحسم الصراع لكن يعود الصراع على الجريح فى مشهد ممتلئ بالدلالات، أيضا التغيرات فى حال الشباب الفلسطينى اليوم صباحا اشتباكات ضد الجنود وامرأة تجر عربة طفلها وتتحدى جندى الاحتلال ليذهب هو الى البيت عندما يأمرها بالعودة للبيت، ومساء حفل صاخب راقص فى "ديسكوتيك" لكنه أيضا تحد لقرار حظر التجوال. 

مشهد آخر لشاب يخرج من بيته ليلقى كيس القمامة فتتابعه فوهة دبابة تقف امام المنزل ويتحدث مع صديق فى الهاتف فتتابعه فى ذهابه وإيابه متمشيا أمام بيته، فى مشهد ساخر ساحر والشاب يعيش لحظة بسيطة ويتواعد على سهرة راقصة لكنه اليومى العبثي، نفذه ايليا بشكل كاريكاتورى لأن كاميرات فضائيات العالم ترصد يوميا ما يجرى لكنك هنا ترصد ما يجرى متأملا حياة أصرت ان تستمر رغم الاحتلال والعبث والمطاردة اليومية. 

الممثلون واجهوا تحديا كبيرا فى الاداء الذى يتسم ببساطة وحوار مقتضب جدا لعب بطولته صالح بكري، سمر قضة طانوس، شفيقة باجالي، طارق قبطي، ياسمين حاج، وإيليا سليمان فى دور صامت كعادته فى كل أفلامه، وشارك بإنتاجه فرنسا وبلجيكا وانجلترا وايطاليا. 

العربي المصرية في

05/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)