حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

حتى لو كان النظام أكلته الشيخوخة والفساد.. يمكن أن نبدأ من جديد

فيلم «جولى وجوليا».. لا يحمل رسالة «عظيمة» لكنها بسيطة ووجدانية

أحمد يوسف

فى المشهد الافتتاحى لفيلم "جولى وجوليا" سوف يفاجئك أن السيناريو يقوم على خطين متوازيين، يبدوان كأنهما لن يلتقيا أبدا، لأن كلا منهما يتتبع حياة شخصية تعيش فى زمان يختلف تماما عن الأخري، إذ يكاد أن بفصل بينهما ما يزيد على نصف قرن. وللوهلة الأولى سوف يذكِّرك هذا البناء بالعديد من الأفلام المعاصرة التى تقوم على خطوط درامية متعددة، تلتقى أحيانا وتتباعد أحيانا أخري، لكن أرجو ألا يدعوك ذلك إلى تصور أن الفيلم سوف يحاول أن يكتسى ثوب العمل الفنى المعقد، فالعكس هو الصحيح تماما، فالفيلم "يلعب" بهذا البناء فى استمتاع يضفى عليه قدرا كبيرا من خفة الظل، برغم أنه يحتوى أيضا على فكرة جادة لا يهملها أبدا، فهو يحاول أن يصل إليها ويوصلها إليك. الفيلم إذن "يستمتع" إلى أقصى درجة بهذا القفز فى الزمان - والمكان أيضا - بين شخصيتين، دون أن يتعسف أسبابا منطقية زائفة لهذه القفزات، إلا أن الدافع الفنى الوحيد لديه هو أن يعرِّفك على من هى "جولي"، ومن هى "جوليا"، وما هى العلاقة التى تربط بينهما برغم تباعد الزمن بينهما. 

سوف أحكى لك حبكة الفيلم فى البداية، وإن كنت أعيد التأكيد فى مقالاتى على أن "حدوتة" الفيلم ليست هى الفيلم نفسه، ولعل ذلك أكثر وضوحا فى فيلم "جولى وجوليا" الذى يعتمد تماما على عشرات التفاصيل الصغيرة التى لا يمكن لمقال نقدى أن يحتويها. وإذا كان هذا الاهتمام بالتفاصيل يكاد أن يكون قاعدة بديهية فى الإبداع السينمائى فى أية صناعة سينمائية راسخة وراقية، فإن هذه التفاصيل تأخذ أهمية أكبر عندما يكون صانع الفيلم فنانة سينمائية، فهذه اللمسة "الأنثوية" (ولا نقول "النسوية"، وهو فرق سوف نتناوله لاحقا)، هذه اللمسة الأنثوية تتوقف بعين سينمائية متفحصة عند تفاصيل قد نعبر عليها فى الحياة اليومية دون أن نلتفت إليها، لكن المرأة فى العادة هى الأقدر على التقاط هذه التفاصيل الصغيرة. إنها التفاصيل التى تخلق أو تؤكد (أو هما معا) عمق المضمون الذى يهدف إليه العمل الفني، وهى اللمسة الأنثوية التى يمكن أن تجدها، على سبيل المثال لا الحصر، وقد اكتسبت نزعة راديكالية ساخرة فى أفلام المخرجة مارى هارون مثل "سايكو أمريكي"، أو نزعة إنسانية فى الفيلم الذى تناولناه منذ أسابيع قليلة "ويندى ولوسي" للمخرجة كيلى ريتشارد، بينما نجد فى "جولى وجوليا" نظرة عميقة التفاؤل تجاه العالم، خاصة أن كاتبته ومخرجته هى نورا إيفرون، التى اشتهرت بأفلام كوميدية رومانسية لا تخلو أبدا من رؤية إنسانية رحبة، مثل "عندما تقابل هارى وسالي" و"المؤرَّق فى سياتل" و"لقد وصلك بريد" و"المسحورة". 

إليك الآن حبكة الفيلم، الذى يحكى عن امرأتين حقيقيتين، الأولى هى جوليا تشايلد (ميريل ستريب) التى تزوجت فى الأربعين من عمرها بالرجل المهذب بول (ستانلى توتشي)، بعد أن تقابلا خلال الحرب العالمية الثانية بالعمل معا فى "مكتب الخدمات الاستراتيجية" (الذى أصبح فيما بعد "وكالة المخابرات المركزية")، ولأن بول انتقل للعمل فى السلك الدبلوماسى فى نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، فإن جوليا تنتقل معه من مكان إلى آخر، ونحن نراهما فى بداية الفيلم وقد وصلا إلى باريس حيث تشعر جوليا بسعادة غامرة، غير أنها _ وقد تقاعدت عن العمل _ تبدأ بالإحساس بمللها من كونها مجرد زوجة، فتجرب بمساعدة زوجها الحنون أن تتقن بعض الهوايات، مثل صنع الحقائب أو لعب البريدج، لكنها لا تشعر بالإشباع، وفى النهاية تقرر الالتحاق بمدرسة لوصفات الطهى الفرنسية، وبرغم الصعاب التى تواجهها فإنها تمضى بعزيمة لا تلين بفضل تشجيع الزوج بول، حتى أنها تنجح فى آخر المطاف فى تأليف كتاب، بالاشتراك مع امرأتين فرنسيتين، لتعليم الأمريكيين طريقة طهى الأكلات الفرنسية، وسوف يحمل الكتاب عنوان "إتقان فن الطهى الفرنسي"، وتكون شهرة الكتاب سببا فى أن تقدم جوليا تشايلد برنامجا تليفزيونيا، تصبح بعده من نجوم عالم الإعلام فى أمريكا خلال الستينات والسبعينات. 

بعد نصف قرن من صدور كتاب جوليا تشايلد، وفى عام 2002، نلتقى مع المرأة الثانية فى الفيلم، الشابة جولى باول (آمى آدامز) وزوجها إيريك (كريس ميسينا)، إنهما شابان يحاولان شق طريقهما فى الحياة الأمريكية المعاصرة بقدر غير قليل من الصعوبة، حيث يضطران للانتقال إلى شقة متواضعة فوق محل بيتزا، وعلى الطريق العام الذى لا يتوقف عن الضجيج فى الليل أو النهار، لأن هذه الشقة أكثر اتساعا وأقل إيجارا. إن جولى تشعر بالإحباط الكامل من عملها، الذى يحصرها فى "مكعب" صغير داخل صالة تحتشد بالموظفين، فى وكالة تتلقى شكاوى ضحايا أحداث الحادى عشر من سبتمبر، حيث تتعرض جولى لعدوانية المتصلين أحيانا أو لبكائهم المستمر أحيانا أخري. لا تدرى جولى كيف تجد الخلاص من هذا الواقع الذى يحاصرها، خاصة أنها كانت خلال دراستها الجامعية تحلم أن تكون "كاتبة"، وبفضل نصيحة الزوج المتعاطف تقرر جولى أن تبدأ مشروعها الخاص: إن كتاب جوليا تشايلد يحتوى على 524 وصفة طهي، سوف تحاول جولى أن تنجزها خلال عام، وأن تنشر على الإنترنيت مدونة تحمل عنوان "مشروع جولي/جوليا"، تسجل فيه كل يوم تجاربها مع وصفات جوليا تشايلد، ومدى نجاحها أو فشلها فى ذلك، وتأثير هذا النجاح أو الفشل على حياتها اليومية. 

وشيئا فشيئا سوف يزداد عدد زوار المدونة على الإنترنيت، خاصة أن جولى تتلقى عرضا من جريدة "نيويورك تايمز" بإجراء مقابلة صحفية معها، تصبح جولى بعدها شخصية تتمتع ببعض الشهرة، وفى نهاية العام تنجح جولى بالفعل فى الاقتراب من اكتمال "المشروع"، الذى تنوى أن تحوله إلى كتاب، غير أنها تتلقى صدمة بأن جوليا تشايلد "تكره" ما فعلته جولى بكتابها، وتصفه بأنه "تهريج" استعراضى مما يصيبها بالتعاسة، لكن الزوج إيريك يساعدها على أن تستجمع إرادتها المشتتة، وفى اليوم الأخير تنجح فى تنفيذ أكثر وصفات الطهى صعوبة: نزع العظام من بطة دون تقطيعها، وتحتفل بهذا "الإنجاز" مع زوجها وأصدقائها. ولأنها لم تنجح أبدا فى أن تقابل جوليا وجها لوجه، فإنها تذهب إلى "المتحف الوطنى للتاريخ الأمريكي" (!!) الذى يحتفظ بمطبخ جوليا تشايلد ضمن مقتنياته، وتقف جولى إلى جانب صورة جوليا لتلتقط صورة معها. 

أصارحك بأننى شعرت بنوع من الاستفزاز عند مشاهدتى الأولى للفيلم، وقلت لنفسي: "ما هذه الناس الرايقة؟! واحدة فى الخمسين من عمرها تكتب للأمريكيين كتابا عن وصفات الطهى الفرنسية، وأخرى تصنع مدونة وكتابا عن تجربتها مع هذا الكتاب؟! ثم تأتى واحدة ثالثة لتصنع فيلما عن هاتين الاثنتين؟!". لكننى اكتشفت بقدر من مصارحة النفس أن هذا الاستفزاز الذى شعرت به ليس إلا نوعا من هذا الحسد لهذا "الروقان" الذى نفتقده بالطبع، وإن كان الأهم هو افتقادنا لأى أمل فى قدرتنا على صنع حياتنا كما يفعل هؤلاء الناس، الذى لا أدرى من أين لهم بكل هذا التفاؤل وحب الحياة. الحقيقة ياقارئى العزيز أننى أدرى تماما، فهم يحبون الحياة ويتفاءلون بها ومعها لأنهم يصنعونها بأنفسهم، فليست هناك نظم سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تقهر البشر، وتحرمهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية، حتى لو كانت لدينا انتقادات لهذه النظم. إنهم عندما يمرون بالصعاب يواجهونها ولا يديرون ظهورهم لها كما نفعل نحن، وإذا أصيب وطنهم بالمرض فإنهم يعالجونه، بينما حكامنا ينكرون أصلا أنه مريض!! وبرغم أن الفيلم - فى حدوتة جوليا التى تدور فى الخمسينات _ يلمس القهر "المكارثي" الذى يجثم على الأنفاس، فإنك تعلم أن نظام المؤسسات لديهم قد أزاح هذا القهر، من خلال مقدم برامج تليفزيونى قام الممثل والمخرج والمنتج جورج كلونى بصنع فيلم عنه باسم "حظا سعيدا وتصبحون على خير"، (قارن ذلك بحال الإعلامى السياسى القدير بحق حمدى قنديل)، مثلما سقط نيكسون فى السبعينات بفضل تحقيق صحفى اشترك فيه كارل بيرنستين الذى تزوج فى تلك الفترة من نورا إيفرون مؤلفة ومخرجة فيلم "جولى وجوليا". كما أن الفيلم فى جانبه المعاصر يصور إمكانية أن تخرج المرأة جولي، التى تشعر بالتعاسة لأنها بلغت الثلاثين من العمر دون أن تحقق شيئا، بينما نحن نطلق على المخرج الذى تجاوز الأربعين من عمره "المخرج الشاب" لأن الفرصة لم تأته إلا فى هذه السن المتأخرة! 

لست بالطبع أحتفى وأتغنى بالنظام الأمريكي، لكننى لا أستطيع أيضا أن أنكر الجانب الإيجابى فيه، وقدرته على تجديد نفسه، ومنح الفرصة أمام معظم مواطنيه للحياة الكريمة، كما لا أستطيع _ بعيدا عن الفيلم _ أن أتجاهل أن هذا "الأسلوب الأمريكى فى الحياة" يكون فى أحيان كثيرة على حساب الشعوب الأخري. لكن فلنعد إلى الفيلم: سوف يدهشك أداء ميريل ستريب ذو المسحة الكوميدية، التى كنت أتصورها نوعا من "الفرسكة" فى تقليد جوليا تشايلد، لكننى غيرت رأيى تماما حين رأيت جزءا من البرنامج التليفزيونى لجوليا تشايلد الحقيقية على موقع "يوتيوب". وفى الحقيقة أنه ليست هناك مبالغة كوميدية فى أداء ميريل ستريب، فقد كانت جوليا تشايلد بالفعل تلك الشخصية العفوية التى تتحدث وتتصرف كأنها "مخمورة" قليلا، ولا تخشى أن ترتكب بعض الأخطاء الصغيرة خلال الطهى لأن أية ربة منزل ترتكب تلك الأخطاء (وربما كان هذا هو السبب وراء شعبيتها آنذاك)، بل إن فيلم "جولى وجوليا" يتضمن فقرة كوميدية حقيقية، من برنامج "ليلة السبت على الهواء" فى عام 1978، يقلد فيها الممثل الكوميدى دان أكرويد (فى شبابه) حلقة لجوليا تشايلد، تجرح السكين فيها إصبعه فتتدفق منه الدماء كالشلال، لكنه يستمر فى وصف "الطبخة"!! مصدر إعجابى أيضا بميريل ستريب هو قدرتها الهائلة على التنوع والتلون، فهى المرأة المتعجرفة فى فيلم "الشيطان يرتدى ملابس ماركة برادا"، أو الراهبة المتشددة فى فيلم "الشك"، والأم التى كانت فى شبابها من "الهيبيز" فى الفيلم الغنائى الراقص "ماما ميا!"، ومن الغريب أنها تقوم (إلى جانب عملها فى المسرح أحيانا) فى العام الواحد بإنجاز فيلمين أو ثلاثة بنفس الإتقان، فى الوقت الذى يحدثنا فيه نجومنا المزعومون عن "تعبهم" فى بطولة فيلم واحد كل عام أو عامين. (أرجو أن تقارن أيضا التنوع فى اشتراك ستانلى توتشى فى فيلم "برادا"، واشتراك آمى آدامز معها فى فيلم "الشك"). 

كنت قد أشرت لك أن الفيلم يخلو من أية نزعة "نسوية"، ولتلاحظ أن الزوجين فى الفيلم كانا من أهم عوامل نجاح الزوجتين فى تحقيق حلمهما، ومن اللمسات الكوميدية أن الزوجين كانا يعانيان فى صمت من عسر هضم أكلات الزوجتين! من جانب آخر فإن العين "الأنثوية" لصانعة الفيلم التقطت الكثير من التفاصيل برهافة أعتقد أن معظم المخرجين من الرجال لا يمتلكونها، خاصة فى علاقة النساء بعضهن بالبعض. لاحظ مثلا الصداقة الحميمة على البعد بين جوليا وصديقة لا تعرفها إلا بالمراسلة، وتأمل تلك اللحظة التى علمت فيها جوليا أن شقيقتها أصبحت حاملا: إن جوليا تنفجر فى البكاء وتقول أن ذلك بسبب سعادتها، لكن أداء ميريل ستريب، وتعاطف الزوج معها، يشير بطرف خفى إلى حزنها العميق لأنها لم تنجب. قارن أيضا كيف أن مديرة مدرسة الطهى الفرنسية، مدام براسار، تعامل جوليا بعدوانية لا تعكس فقط ازدراء الفرنسيين للأمريكيين لأنهم لا يملكون الذوق فى الطعام، وإنما أيضا لغيرتها من أن تنجح جوليا _ كامرأة _ فى أن تتقن فن الطهى مثلها، بدعوى أنه فن لا يتقنه إلا الرجال. على الجانب الآخر، هناك مشهد أثير فى معظم أفلام نورا إيفرون، وهى جلسات النميمة بين النساء، والجلسة هنا تدور فى الزمن المعاصر مع جولي، إن صديقات الدراسة تلتقين بها وتبدين معها تعاطفا لأنها لم تصنع "شيئا" قبل أن تبلغ الثلاثين من العمر، لكنهن "من تحت لتحت" تلقين بكلمات لاذعة كأنهن تقلن لها فى شماتة أنها أصبحت "لاشيء" فى الوقت الذى استطعن فيه هن تحقيق أنفسهن. 

يقول بعض صناع الأفلام عندنا أنه ليس من الضرورى أن تحمل الأفلام أية رسائل، وهذا غير حقيقى على الإطلاق، فلكل فيلم رسالته، حتى لو كانت هذه الرسالة هى فراغ عقل ووجدان صناعه من أى فكر جاد، وأنت مع فيلم "جولى وجوليا" أمام فيلم لا يحمل بالضرورة رسالة "عظيمة"، لكنه فى رسالته البسيطة ينقل إليك حالة وجدانية مرحة وجادة فى وقت واحد، حالة تقول لك أنه يمكنك دائما أن تبدأ من جديد، فى مجتمع يتيح لك أبسط الشروط الإنسانية لتحقيق ذاتك، وفى مجتمع يفخر بكل من يستطيع أن يحقق إنجازا حتى لو كان كتابا أو برنامجا للطهى (قارن "الشرشحة" التى تعاملت بها بعض صحفنا القومية "جدا" - !!! - مع الدكتور محمد البرادعى الحاصل على جائزة نوبل)، مجتمع يحافظ على تاريخه فى متحفه الوطنى حتى لو كان "المطبخ" الخاص بجوليا تشايلد، بينما ضاعت جرائدنا السينمائية وخطب ووثائق زعمائنا! ولكن هذا هو حال وطننا فى ظل نظام أكلته الشيخوخة والفساد، فلا تستغرب أن تأتى معظم أفلامنا على صورة هذا النظام. 

العربي المصرية في

29/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)