حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

سينما تَلْعن ولا تعارض وتقلد وتنتج للمهرجانات

زياد الخزاعي

لنختلف على أن السينما العربية في العشرية الأولى من الألفية الثالثة لم تشهد انقلاباتها المرتقبة (نحن نعني الفيلم الروائي الطويل تحديداً). هي مع الجموع المتضخمة العدد لعامليها لم تحقّق ريادات متجددة. هذه الصناعة بقيت رهينة نزعات التقليد والاستسلاف السينمائيين. ما تغيّر قليلا هو مشاغباتها في مجال الديجيتال والصرعات المتولّدة منها وعنها، بالإضافة إلى الاستعارات الشكلية من الجوار الأوروبي بالدرجة الأولى، التي قلّلت من تهافت الصنعة التي شاعت في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. هذه السينما لعبة سياسية من نوع متخلّف، كونها لا تقارب سوى الممنوعات، وتساجل بلسان ناقص قيم الدين والأخلاق والتربية العائلية والهجرات وذل الاحتلالات. وهي، في مسّها للحكايات المفتعلة لثيماتها، نجدها تلعن كثيراً من دون أن تفي معارضاتها بالحكمة والحصافة والاقناع. فـ«عرس الذيب» (2006) للتونسي جيلالي السعيدي داور حكايته الأخلاقية حول العاهرة التي تُغتصب، لكنها تصب انتقامها على البطل البائس الذي احتكم الى حُلمه وبيوريتانيته الجنسية، ليحوّل ذكوريته الناقصة الى انتصار لاحق، حين تقع الفتاة في ولهه ويتطارحا الغرام، قبل أن يغسلهما نور الصباح، لتعود هي إلى دورة حياتها الليلية، فيما يفشل هو في الانتحار جرّاء فعله الناقص. هنا تضيع الحكمة المسيّسة، التي يشير اتهامها إلى السلطة المغيبّة الحضور في العاصمة تونس، وتتوارى خلف شخصيات من دون ملمس وهدف. هي الحالة نفسها، التي نصادفها لدى مواطنته رجاء عماري في جديدها «الدواحة» («أسرار دفينة»، 2009)، حيث النسوة الثلاث القابعات في القصر الفارغ، قبل أن تتفجّر رغباتهن كلّ بحسب عمرها، حين يعود الذكر الشاب الى إرثه العائلي مع خطيبته الحسناء.

تنقلب الأمور ليس إلى طريق الاكتشاف، بل من باب الشتم المبطّن لسلطة الخارج وقمعها اللاحق لهن. وبقدر ما حاول السعدي توسيع رقعة جيلان أبطاله في المدينة، أبقت عماري نساءها ضمن جدران خيبتهن. ذلك أن ذكورية السعدي وعطالتها الاقتصادية تدفعهما دوماً إلى الخارج، بينما تفرض القيم على نساء عماري البقاء في الخباء. ما بان في النصين انهما اختتما خطابيهما بحالات غير كاملة المعاني، خائفة من المساءلة في اغراضها وتورياتها. ويمكن ان نضع هنا افلاما اخرى تتشارك في لسانها السينمائي المثلوم كـ«سهر الليالي» (2004) للمصري هاني خليفة و«حراقة» (2009) للجزائري مرزاق علواش و«دار الحي» (2009) للإماراتي علي مصطفى و المصرية كاملة أبو ذكري في «واحد ـ صفر» (2009) وغيرها.

الرقابات

لنختلف ايضا على ان هذه السينما بقيت تدور ضمن موازين الرقابات والارتهان الى القرار الحكومي، لذا برزت ضمن خطاباتها المتضاربة نبرة تصالحية مع قوة المال كتكتيك ضد تغييبها عن المشهدية الثقافية. انها تابع نادر لقرار مؤسسات يحكمها اداريون بلهاء او مدعو رؤى كاذبة، همهم ان يعبر النص السينمائي الحدود والموانع نحوالمهرجانية الخارجية من دون الاهتمام باي شكل من الاشكال بفرادة مهمتها في ما يتعلق بتشكيل ذائقة محلية متنورة، والتي لها علاقة وطيدة بامراض العروض وجغرافياتها ونسبها وسياسات المحاصصة فيها، اضافة الى الاختراقات الحاسمة التي سببها تهافت اسعار اسطوانات القرصنة التي فاضلت النصوص الاجنبية على المحلية ما ادى الى انحسار الاهتمام بمنجزات صناع الفيلم العربي اليوم وانعكس بحسم على قدرتها للوصول الى جمهرتها المطلوبة. وهذه قضية يرتأى مقاربتها بروية اكبر. فما معنى ان تنجز اشرطة متهافتة القيمة والغرض والهدف والمتعة مثل «ليلة البيبي دول» (2008) للمصري عادل اديب، أو «بوابة الجنة» (2009) للسوري ماهر كدو، أو «كل ما تريده لولا» (2007) للمغربي نبيل عيوش.

لنختلف ايضا على ان السينما العربية في العشرية الاخيرة صَنْعة مقلدين ومقتبسي سرديات، لذا نرى جلّ منتوجها يميل الى نبرة متأوربة، مخادعة يبان انحيازها بعجالة ضد المتدين والمتزمت واشتراطاتهما الربوبية التي تدعي عصمتها الجماعية، وايضا انحيازها لما هو ضد الحاكم وسلطاته ورجال امنه ومؤسساته واعتبارها كتلة مريضة لا يجب استأصالها، بل اللعب حولها ومراوغتها، لتكون دورة حكاياتها في الغالب الاعم مركزة حول المدينة وطبقاتها ومتنفذيها وعسكريها. ولتعاند سيناريوهاتها على ان فاسديها هم اهل فراديسها، فيما يقع الاخرون في حضيض جبري ممتهن وقمعي. ويكون باكورة المخرج الاماراتي ماهر الخاجة «الغرفة الخامسة» (2008) مثالا صارخا على التقليد الاعمى، فهذا العمل المتباسط الذي ادعى انه اول فيلم رعب خليجي لم يكن سوى مجموعة افلام عالمية شهيرة في هذا المضمار قدمت بلسان بدوي لا غير! وعلى منواله جاءت باكورة زميله السعودي وليد عثمان الذي تجلت موهبته في «الانتقام» (2008) كنسخة طبق الاصل الى روح «مدينة الرب» البرازيلي! من دون ان نغفل نص «البوسطة» (2005) للبناني فيليب عرقتنجي الذي لم يكلف نفسه الاعتراف بتوارد خواطره السينمائية مع نص الاسترالي ستيفن أليوت «مغامرات بريسيلا ملكة الصحراء» الذي عرض في العام 1994. وبسبب هذا، تُبان المفارقة في التغييب المقنن للريف واهله ومشاكله وانحطاطاته الطبقية واقصائه الى الحدود الدنيا في الخطاب الاعلامي لسينما يجب عليها عدم التفاضل وتأمين توازن منطقي بين الانتاج المتصدي للموقعين الاساسيين في عالمنا العربي العالمثالثي.

وفي السياق نفسه، نرى ان منجزي افلام هذه السينما حيانو فرص وندابو حظوظ، كثيرا ما يظهر الامر جليا في سلوكهم العام الذي يتماشى مع بناء افلامهم وشخوصها التي تجادل بكم متضخم من الكلام الفارغ والحوار الناقص في ابعاده الدرامية لقضايا اتهامية كبرى، ولعل نص اللبناني سمير حبشي «دخان بلا نار» دليل على تزلفه الايديولوجي الذي صب لعناته على الوصاية السورية واذرعتها اللبنانية ليوصل مشاهده الى بطولية فارغة لصحافي مصري يسعى الى كشف مستور القمع العربي!!. ان اتساع رقعة المعونات الغربية ـ وهي احد الفضائل التي تسربت الى الثوب السينمائي العربي ـ اوجدت زمرا كثيرة من السينمائيين الجدد الذين تفوقت عندهم صنعة الـ«فيجول» (اي البصري، ونستعمل رطانتها الغربية نظرا لتباهي شباب السينما الان بأوروبيتهم) على حرفة القول السينمائي ومستلزمات روايته من تجديد في التوليف والصوت والسيناريو والقص وبناء الشخوص. ويمكن القول بثقة ان اهمية هذا الجيل الجديد الذي ولد من عباءة هذه الفضائل تكمن في الثقة المالية التي تسمح لهم بالتواصل مع القدر الامثل مع التجريب والتمكن السينمائيين ولكن ضمن اشتراطات غير مباشرة تصب في غالبيتها على تضخيم السوداوية والظلم والتوحش والتغابي المرتبط بالسوقية الاجتماعية.

لنختلف ايضا على ان السينما العربية في العشرية الاخيرة لم تأت بفكرتها (افكارها) الكبيرة وبقيت نازعة الى السويّة العدائية لها. ويمكن القول من دون تردد ان السينمائيين العرب الشباب تنقصهم مقاربة البطائن الاجتماعية، وهم يتكلمون ويدورون حول مراكز حكائية متشابهة وذات وجوه انتقادية واحدة السحنة، الامر الذي يعكس مديات النقص الكبير والمخجل في المعرفية المسيسة لجواراتهم الاجتماعية خصوصا القاطنة في الاطراف العشوائية التي اسبغت عليها توصيفات مزيفة ومهينة، فما الذي سيُفسر المشهديات المتهافتة في نصوص مثل «ابراهيم الابيض» للمصري مروان حامد حينما حول شخصية قاطع طريق الى سُبة اجتماعية أُنزلت من عل ميثيولوجي لا علاقة له بفقر الشارع المصري وعبوديته الاجتماعية، بينما تجاوز شريط «كباريه» لمواطنه سامح عبد العزيز حده الاجتماعي ليختصر الموار السياسي في بلد كبير مثل مصر في ترهات سينمائية داخل مرقص!

وكما ان الفكرة الكبيرة توّلد نصا رائيا كبيرا ومتمعنا بالابتكار وسطوته، فان نصوصا تبقى في ذاكرة المشاهد والناقد على حد سواء تعد حقا من الامور الحميدة. في المحصلة العامة لهذا، يمكننا تسجيل ان غالبية سينمائيي العشرية هذه متشابهون بتنميطهم لحالات السياسة والتحزب والتمترس الديني وفي اسفلها جميعا الحب وعلاقاته المتوجرة بالحكايات، من دون أغفال غل الجهالة في ما يتعلق بالاسرة ومؤسسات المجتمع المدني والقانون واحوال الشارع الشعبي. ان التحولات المفترضة في العالم العربي بدت في نصوصهم اشبه بجلسات ديوانيات تلفزيونية تفترض بدورها ان مشاهدها ومتابعها غير جاهز للتغيير بقدر ما هو مستوفز الى الفضيحة المرتهنة الى المضاربات الجنسية . انها في الغالب لعبة «قص ولزق» لانطباعات متهافتة وقناعات قاصرة لا تتوافر فيها جدّة الرؤى التي ستفترض ان هناك شيئا ما حقيقي قد قيل ويجب التمعن فيه برويّة سواء فيما يتعلق باشكال التحريض السينمائي واساليب تماسه مع «المشاهد الجديد» وقيمه الوافدة.

النقص

ولنختلف ايضا على ان ما يفتقر اليه اهل السينما اليوم لا يكمن في مواهبهم، فهذا اشكال عصيّ يرتبط بالتقييم وليس بالانطباع العام الذي شاع اخيرا بين متعاطي النقد ممن يمارون بعض السينمائيين ويدلسون على اقرانهم بسبب وطأة الصداقات، بل يكمن في غياب المفهوم العقلاني والعملاتي لجمالية افلامهم واصرارهم على التأني في رسمه وتوظيبه، وهو ما لا علاقة له بما اسلفنا بشأن تقدم «البصري» ومزاحمته لـ«السردي»، وانما يصب في ابتداعيته لبنى لا تتشابه مع اخريات وافدة اوعلى الاقل النأي عنها باكبر قدر، وهذه الاخيرة آفة تستمرئ الكثير من الشباب. ويمكننا توصيف هذه النقطة باتضاح هذا الانتقاص في الشريط الأخاذ للمغربيين عماد وسهيل نوري «الرجل الذي باع العالم» الذي تبع باكروتهما المفاجئة «ابواب الجنة» (2006) حيث تمكنت هذه الاخيرة من بيع أصالة اشتغالهما السينمائي الى الشريط البرازيلي «مدينة الرب» لفرناندو ميريليس وكاتيا لاوند كمرجع في مقابل تركيبة هجينة من التوليف المشهدي في العمل الجديد المقتبس عن رواية الكاتب الروسي فيدور ديستوفيسكي «قلب ضعيف». عمد الاخوان الى الانتصار الى شبك الحدوته المتباسطة لعجز الكاتب ـ البطل مع فتاته اولا ومن ثم محيطه وصديقه الحميم. والطرفان لا يساعدانه على الابداع بل الى الاستنساخ، فهو كائن ذو عاهة ومعطوف في دواخله وعواطفه التي تنتهي حسب الاخوين نوري الى ارساله الى المصح كعقاب قدري. تتبدى شجاعة النص السينمائي هنا باعلانه المباشر انه لا يرتزق اختلافه من كونه انتاجا اوروبيا في المقام الاول مع مساعدة من المركز السينمائي المغربي بل انه لا ينتمي البتة الى العقلية السينمائية العربية القائمة على العواطف واللغو والتباسط. ان جمالية «الرجل...» قائمة على تصادم الصورة وموازينها البصرية والشكلية واللونية مع التوليف المتعجل الى القصر والقفز والتكرار الرؤيوي وموسقة الكادر وحجومه التي استفادت من وسع عمق مجال الصورة لشواطئ الدار البيضاء ومواقع الخراب التي استعارت روح الحرب ودمارها. فكلما هبط الكاتب في محنة العجز الابداعي يُسرع الاخوان من ايقاع فيلمها ليتحول في النهاية الى خَبْصَة بصرية يصل منتهاها الى جمالية الحروف التي يتكون منها المنافيستو الدرامي لحالة البطل، لنفهم لاحقا ان الاستشهادات المكتوبة التي زخر بها الشريط وتم نثرها على الشاشة ومع رقم كل فقرة من الفيلم انما هي وسيلة تعريفية بروحها ومزاجها، نظرا لان حوار الشخصيات الثلاث ملتبس ولا يقود الى افق معرفي بمحنها الشخصية.

يقف نموذج الاخوين نوري على الضد من الذائقة العربية السائدة، انه لا يشرح بل يُعقد، لا يبتغي المتعة بل الصدمة الانفعالية، وهو في بابه المشرع على المغامرة السينمائية لن يعبأ ان تم شرحه ام لا، ولا يخشى سوء فهم مغازيه. ويمكننا الاستشهاد ايضا بنص مشابه هو باكورة اللبنانية ديما الحر «كل شيء عيد» الذي عاند مشاهده بغموض مواقفه وقطيعته مع ثقافة المتابع الى حكايته المتداخلة سياسيا بالدرجة الاولى. فشريط الحر عمل احتمالات يسعى الى جمالية خاصة عمادها المحيط والبيئة كتورية عن خيبة البطلات الثلاث الساعيات كل من جانبها الى فك محنتها الاجتماعية والعائلية. اذن اين السياسة؟ انها كامنة في الترميز واللغة الحوارية التي لا يفهمها سوى القريب من الشأن اللبناني. ولن تقنعنا اية حجة بانه لو تم عرض الشريط على مشاهد اجنبي فانه سيفهم باللمحة ان حكايته هي تاريخ حرب لبنان، ولولا صور مفقوديها وهي تخرج محمولة من النفق المظلم والتي كانت المفتتح والختام لتحول جيلان النسوة الثلاث الى هوام فارغ. ما فعلته الحر هو الحل الامثل حين سعت الى وضع مشاهدها امام موهبتها وشجاعتها في عدم الارتهان الى الاستسهال والاطناب في الشرح، عليه اختزلت وعقدت مفاتيح نصها ورمتها في سجايا بصرية بعضها اصاب مثل مشاهد اللجة البحرية وبعضها خاب مثل توريتها الى العدو الشقيق الذي يهرب من دون دجاجاته.

لعل من الخطأ اجتزاء حكايتي فيلمي الاخوين نوري والحر بخطين من الكلمات، بيد انهما من دون شك اشتركا في هاجس جمالي عالي الجودة لا يملك قاعدته ولا يمكنه بسرعة تأسيس ذائقة عربية يتوجب عليها التفاعل مع نص سينمائي لا يُغري على المشاهدة وازجاء الوقت.

لكن، لنتفق على ان السينمائي العربي اليوم وهو في عديده من الشباب لا يملك سوى ان يصنع افلامه ويحقق نصوصه. ومن المفرح حقا ان نشاهد شبابا تتنازعهم المنافسة على «حرق» افلامهم على الشاشات غير عابئين الى ردود الفعل، مسبقين اختراقاتهم المأمولة للقاعدة المفترضة لجمهور عربي نادر الاهتمام بما ينجزونه. ان موهبة الاماراتي نواف الجناحي في «الدائرة» تثبت كما في نص «كازانيغرا» للمغربي نور الدين لخماري، كما تجليها في «يوم أخر» للبنانيين جوانا حاجي توماس وخليل جريج و«روما ولا انتما» للجزائري طارق تقية و«البيت الاصفر» لمواطنه عمور حكار و«ملح هذا البحر» لآن ماري جاسر و«مرّة اخرى» للسوري جود سعيد و«المسافر» للمصري احمد ماهر، ان السينمائيين الشباب ماضون نحو تكديس منجزاتهم، فعسى ان يفجر تراكمها المامول ثورة افلام حقيقية يوما ما.

)كاتب عراقي(

السفير اللبنانية في

25/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)