حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«كلمة واحدة منك»، «نبي»، «ويسكي وفودكا» و«منزل» في مهرجان السينما الأوروبية

جحيم السجن والكحول والأوتوستراد

نديم جرجوره

لم يكن اختيار فيلم افتتاح الدورة السادسة عشرة لـ«مهرجان السينما الأوروبية» موفّقاً. في السادس والعشرين من تشرين الثاني الجاري، عُرض الفيلم الإسباني «كلمة واحدة منك» (2008) لآنخليس غونزاليز ـ سيندي، في صالة سينما «متروبوليس/ أمبير صوفيل» في الأشرفية، حيث تُقام الدورة المذكورة كلّها لغاية السادس من كانون الأول المقبل. جرت العادة، منذ أعوام طويلة، أن يكون إنتاج فيلم الافتتاح معقوداً على البلد المترّئس الاتحاد الأوروبي، للحدّ من الخلاف الداخلي حول عملية الاختيار. تردّد قولٌ مفاده أن إلغاء تاماً لهذه العادة سيتمّ في العام المقبل، بسبب إلغاء التقليد المعمول به في رئاسة الاتحاد المذكور، إذ تمّ انتخاب رئيس له لأربعة أعوام مقبلة. لكن، ما هي الآلية الجديدة للاختيار؟ لا تزال المسألة رهن التداول. وهذا ما يحيل إلى تكرار رأي نقدي تناول سياسة انتقاء الأفلام كلّها: لا شكّ في أن مهرجاناً كهذا، تنظّمه «بعثة المفوضية الأوروبية في لبنان»، مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بسفارات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. هذا يعني أن للسفارات «الدور الأول» (والوحيد ربما) في اختيار أفلام بلادها، ما يُسقط الجانب الفني والسينمائي والثقافي من الأفلام المختارة، غالباً. الرأي النقدي يشير إلى ضرورة إيجاد هيئة مستقلّة، تضمّ ممثلين عن البعثة (وليس السفارات، بسبب كثرتها) إلى جانب متخصّصين بالسينما، قادرين على اختيار سينمائي أفضل. تساهم السفارات في إنجاح المهرجان بتسهيل الأمور اللوجستية: الحصول على الأفلام. استيراد نسخ منها إلى بيروت. دعوة عاملين في أفلام مختارة. تأمين المستلزمات كلّها التي يحتاجها المهرجان للاستمرار بفعالية ثقافية مؤثّرة.

انطلاقة عادية

بانتظار ما ستؤول إليه مسألة اختيار فيلم افتتاح الدورة المقبلة وما يليها لاحقاً، بدا الفيلم الإسباني المختار لافتتاح الدورة الأخيرة هذه عادياً للغاية. هناك من رآه سيئاً. هناك من اعتبر اختياره للافتتاح لا يتلاءم والروح السينمائية للمهرجان ولمحبّي السينما. هناك، في المقابل، من دافع عنه من منطلق سينمائي بحت. «كلمة واحدة منك» (يُعرض مجدّداً الخامسة والنصف بعد ظهر الأربعاء في الثاني من كانون الأول المقبل في الصالة الأولى) محتاج إلى صوغ درامي أعمق لنصّ إنساني شفّاف، كان يُمكن أن تكون معالجته السينمائية أفضل. شرّح النصّ وقائع عيش خاصّ بصديقتي طفولة. كل واحدة منهما تعاني كَمّاً من الأزمات والمشاكل. تحاول أن تجد في يومياتها شيئاً من السكينة والاطمئنان. لكن الحياة قاسية، والقدر صعب. فقدان الذاكرة للأم يُعقّد أموراً شتّى في حياة ميلاغروس (إسبيرنزا بيدرينو). ضياع روزاريو (مالينا آلتيريو) وارتباكها الداخلي مشحونان بطاقة سلبية حادّة. هذه عناوين إنسانية مهمّة، لم تعثر على ترجمة بصرية عميقة، درامياً وجمالياً. بدا التشتّت في المعالجة واضحاً. بدا المسار الحكائي ضعيفاً. بدا المناخ العام منقوصاً. التفاصيل الصغيرة لا تكفي وحدها لإنقاذ بناء متداع، وإن كانت جميلة. التحليل النفسي/ الاجتماعي لا يؤدّي إلى صنيع سينمائي، وإن مال قليلاً إلى كتابة درامية. في المقابل، بدا أداء الممثلتين آلتيريو وبيدرينو جيّداً. عكستا شيئاً كثيراً من التمزّق الداخلي لشخصيتي الصديقتين ميلاغروس وروزاريو، اللتين التقتا صدفة بعد مرور زمن ما، فبدأت تداعيات النفس والزمن ترسم ملامح الحكاية.

في اليومين الأولين، الجمعة والسبت الفائتين، عُرضت أفلامٌ مهمّة، وإن تفاوتت درجات الأهمية السينمائية بينها. أول هذه الأفلام وأبرزها، «نبي» لجاك أوديار (يُعرض ثانية العاشرة ليل بعد غد الأربعاء في الصالة الثانية، ويُفترض بعروضه التجارية اللبنانية أن تبدأ في العاشر من كانون الأول المقبل). هذا فيلم بديع. مدّته الزمنية الطويلة نسبياً (ساعتان وخمس وثلاثون دقيقة) لا تحول دون متعة البصر والروح والانفعال معاً. ضيق المساحة الجغرافية الأساسية (أي السجن)، التي شهدت أحداثه، عاملٌ إضافي على براعة الإخراج في صناعة الصورة، وفي جذب العين والقلب إلى عمق الحكاية وتفاصيلها.

الشخصيات الثانوية الكثيرة لا تقف حائلاً دون التواصل المباشر والمؤثّر بين المُشاهدين والشخصيتين الرئيستين مالك أل دجبينا (طَهَار رحيم) وسيزار لوتشياني (نيلز أرستروب). الأداء التمثيلي الخاصّ بهم جميعهم جميل. لكن الممثلين رحيم (الفرنسي ذو الأصل الجزائري) وأرستروب (الفرنسي) أبدعا في تقديم دوريهما، وفي رسم الملامح المختلفة للشخصيتين السينمائيتين. بدا أنهما متمكّنان من الأداء الباهر. كما بدا أن مخرجاً قديراً أدرك كيفية التعامل معهما أيضاً، وأخذ أفضل ما لديهما. هذا فيلم فرنسي مختلف. مع أوديار، دخول في عالم السجن من خلال مسار شاب عربي، وجد نفسه وحيداً وسط عصابات خطرة، قبل أن يعثر على مكان له بينهم. نزاعات داخل السجن وخارجه. صراعات مافياوية بين كورسيكيين وإيطاليين ومسلمين ملتحين. مالك أل دجبينا محور كل شيء، منذ دخوله السجن لتمضية ستة أعوام، إلى خروجه منه. تفاصيل كثيرة أشبعت البنية الحكائية الأساسية بصُوَر وقصص متفرّقة، تكاملت في ما بينها، فصنعت إحدى الجماليات الأساسية للفيلم.

جحيم

مشاهدة «نبي» أوديار متعة حقيقية. في اليومين الأولين، كادت المتعة تكون حكراً عليه. لكن، هناك «ويسكي وفودكا» للألماني أندرياس درايسن مثلاً (يُعرض ثانية العاشرة والنصف ليل اليوم الاثنين في الصالة الثانية) و«منزل» للسويسرية الفرنسية أورسولا ماير (يُعرض ثانية العاشرة والنصف ليل الخميس في الثالث من كانون الأول المقبل في الصالة الثانية). لم تبلغ متعة مشاهدتهما ذاك المستوى الخاصّ بـ«نبي»، غير أنهما امتلكا مناخات جميلة في اللعبة الفنية. دارت الأحداث الدرامية الخاصّة بالفيلم الألماني داخل بلاتوهات التصوير السينمائي. روت ماير قصّة عائلة مقيمة في اللامكان، قبل أن تسقط في الانغلاق التام عن محيطها. في «ويسكي وفودكا»، الممثل السينمائي المشهور للغاية أوتو كولبيرغ (هنري هوبشن) يعاني مآزق شتّى جرّاء إدمانه الكحول. لكن المخرج مارتن تيلّيك (سيلفستر غروث) مُصرّ على العمل معه، على الرغم من انزعاج المنتجين. الحكاية كلّها تدور أثناء تصوير أحد الأفلام الأخيرة له. كأن جحيماً مفتوحاً على الاحتمالات كلّها سيطر على البلاتوه و«ضواحيه». العلاقات متداخلة ومتضاربة. قصّة حب قديم بينه وبين زميلته بيتّينا مول (كورّينا حرفوش). مناخ درامي مصقول جيداً، ومسار حكائي مكثّف. الحوارات لاذعة أحياناً. المواقف انتقادية قاسية أحياناً أخرى، طالت السينما والوحدة والعزلة والوجود والانتماء. الاشتغال السينمائي جميل. سلاسة التفاصيل والسرد تتجاور وعمقين إنسانياً ودرامياً واضحين. الأداء التمثيلي متقن الصنعة، خصوصاً بالنسبة إلى هوبشن في تأديته دور الممثل الكحولي، البارع في مهنته، والقاسي في تعاطيه مع كل شيء. هذه البراعة السينمائية موجودة، أيضاً، في «منزل». الفيلم الروائي الطويل الأول لأورسولا ماير (38 عاماً) عكس موقفاً إنسانياً وأخلاقياً إزاء الحياة. فالعائلة المكوّنة من والدين وثلاثة أبناء مرتاحة إلى عيشها في منزل واقع على أوتوستراد مهجور منذ عشرة أعوام. يومياتهم روتينية جداً. مجبرون هم على الانتقال من جهة إلى أخرى على الأوتوستراد، لأن لا طرق مؤدّية إلى المنزل. هذا تفصيل مهم. لأن الحاجة الجماعية للأوتوستراد دمّرت العيش الهانئ للعائلة. مزّقتها من داخل. عَزَلتها في المنزل. حاصَرتها في شكل عمراني تحوّل إلى مقبرة. منذ عودة النبض/ الحياة إلى الأوتوستراد، تبدّل مسار الفيلم ومناخه وأمزجة ناسه. دخل الجميع، شخصيات وممثلين ومشاهدين (على الأرجح)، في متاهات قاسية. انقلب الهدوء إلى جحيم. بلغ أفراد العائلة حدّاً كبيراً من الجنون. ضجّة وتلوّث خانقان. انكسار وإحباط قاتلان. الابنة الكبرى جوديث (أديلايد لورو)، الأكثر استرخاء و«تنبلة» من شقيقتها ماريون (مادلين باد) وشقيقها الصغير جوليان (كاسي موتي كلاين)، أدركت اللحظة الخطرة، فهربت. ماريون مُصابة بقلق فظيع جرّاء التلوّث. الأم مارت (إيزابيل أوبير) لامست الانفصام الذاتي الأخطر. الأب ميشال (أوليفييه غورمي) متوتر وتائه. أراد راحة للعائلة، لكنه أسقطها في الجحيم. جحيم العيش واضحٌ تماماً. بات المنزل قبراً. لا نافذة أو ثقب مفتوح على الخارج. الخلاص على يديّ الأم، لأنها حطّمت القيود كلّها قبل الموتين الفردي والجماعي. الفيلم مثقل بالأسئلة الإنسانية والوجودية. أسلوب العمل مرتكز على تفكيك البنية الأساسية للحبكة، بهدف إعادة تشكيل الصورة/ الحياة. ملامح وجه إيزابيل أوبير مرآة بديعة للقهر والألم والموت الرمزي.

السفير اللبنانية في

30/11/2009

  

كلاكيت

إنه محمد دكروب

نديم جرجوره

لا أذكر اللحظة الأولى التي التقيته فيها. لكنّي مدركٌ تماماً أنها لحظة جميلة لا تُنسى. كانت الحرب الأهلية مندلعة. الطرقات مغلقة. المدينة ممزّقة. وكان الهوس بالخروج على القبيلة العائلية مفتاحاً لاختراق معابر نابتة كالجدران السميكة بين مدينتين. شارع الحمرا أولاً، ومنه إلى مقاهي «بيروت الغربية» وصحفها ومجلاّتها ومكتباتها ومؤسّساتها الثقافية وناسها المختلفين. وكان هو حاضرٌ. في نصّ يكتبه. في تحرير يصنعه لمجلة أو كتاب. في كتب يجعلها مرايا الذاكرة والاختبارات. في مقاربات تجعل القارئ المهتمّ أكثر وعياً وأقلّ عصبيّة.

«جذور السنديانة الحمراء» عنوان يليق به. فهو، في نصوصه واشتغالاته ونبشه التاريخ وسرده الحكايات، أشبه بعمارة شاهقة من المعرفة والعطاء والنبض الحيّ. وهو، بانفلاش ثقافته على محيط أكبر من أن يستوعب اجتهاداته، إضاءة سليمة لمنقلبين على مساحات ضيّقة من التقوقع داخل زقاق أو طائفة. يومها، أثناء اندلاع الحرب الأهلية في الأمكنة كلّها ببراعة الميليشياويين والطائفيين في إشعال النار وتحقيق الخراب، بدا الرجل مكافحاً من أجل صفاء لغة رافضة الانزلاق في صراعات مذهبية دموية. يومها، جعلني الرجل، بكتبه الزاخرة حبّاً بالكلمة، أدرك أن مكاناً ما محفوظٌ للمتمرّدين على جنون الموت وأمراء الطوائف. وإن كان المكان صغيراً. يومها، دفعني الرجل، بنصوصه المفتوحة على الحياة، إلى اختبار المعنى الجميل لمقارعة أبطال الأزقّة الضيّقة بناسها المنسحقين أمام زعيم طائفي محلي.

مرّت الأعوام. توقّفت آلة القتل المباشر عن العمل. ظنّ الناس أن سلماً أهلياً بدأ. لكنها الحرب في شكل آخر. وهو، إذ ثابر على الاشتغال الحرفي في شؤون الثقافة كلّها، ازداد حماسة للكلمة، جاعلاً أفراداً مثلي يخجلون من قوة شبابه الدائم. وهو، إذ بات تاريخاً بحدّ ذاته، منح الكتابة زخماً لا يُضاهى. دقيق في متابعاته المتفرّقة. حساسيته إزاء التجارب الشابّة جميلة. مرافقٌ لا يتعب لمن يناضل من أجل المعرفة. يقرأ لكثيرين، من دون أن يأبه بأعمارهم أو التزاماتهم التي قد تكون نقيضاً لارتباطاته الثقافية والسياسية. يُعلّق. ينتقد. لأن همّه الأول إشباع الذات بمزيد من المعرفة، وتحريض الآخر على ملاحقة الجديد والمفيد، من دون أن يقطع مع الذاكرة. ينقّب في الماضي عن أسماء وحالات أنارت الجغرافيا العربية بإبداع سجالي. يبحث في الراهن عن شبيه لها. وبهذا كلّه، يريد تحصين مناخ حواري سليم، وإن وسط الحرائق المدوّية في فضاء البلد وامتداده العربي المنقبض على الدمار والفراغ.

روّاد حداثة وأقطاب فكر وذكريات نابضة و«وجوه لا تموت». أعلام فن وأدب. هذه مفاتيح تُقدّم بعض اشتغاله منذ أكثر من نصف قرن في شؤون الثقافة والسياسة. هذه نوافذ قادرة على منح المهتمّ حصانة علم وابتكار. هذه دروبٌ مؤدّية إلى تحريض العقل على التفكير، والانفعال على التفلّت من قيد العزلة.

إنه محمد دكروب. لا داعي لقول المزيد.

السفير اللبنانية في

03/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)