تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

سينما النساء، جناتٌ موصدة، وتفاحات آثمة: 'الدوقة' لوحة مسلوبة أم وثيقة ألم؟

لينا أبو بكر

في لوحة الإنكليزي Thomas Gainsborough 1727 - 1788، التي رسمها لجورجينا سبنسر دوقة ديفونشاير، عام 1784 تبدو الدوقة كجذوة هادئة، ساكنة تماما على مرمى بركان يلوح للناظر بابتسامة مطفأة، وهي غير تلك التي ظهرت فيها جورجينا عام 1775 - 76، قبل حوالي عقد من الزمن، حيث بانت محتفظة بشيء من التحفز، ورقة تتلصص على شغب مؤجل غير أنه مقهور، سلفا!

هنالك انكسارات لنساء عبرن في دوامة التاريخ قد لا يمكن لغير نساء اخريات في دوامة تاريخ آخر التقاطها، رغم ان ريشة غاينسبورو كانت دليلا على جريمة زواج من طرف واحد، لامرأة بدت مستسلمة تماما لقدر محترق في أحشاء البورتريه!

بينما كانت Amanda Lucy Foreman - 1968 البريطانية - الامريكية، هي من رسمت حزنا رديفا لذلك الذي باحت به شياطين غاينسبورو، فللنساء كيد إبداعي قادرعلى تحفيز الهلاك كغواية سينمائية، وما على الحياة حينها سوى الاستسلام للأبعاد البصرية في التقنيات السينمائية التي تتعامل مع الحكاية على اعتبارها صورة وليست نسخة مصورة!

في المحصلة لك أن تجزم بأنه لن يوجد يوما ما يسمى بسينما الواقع، لأن الفن لا يوثق للحقيقة بل يتأملها، مادمنا نتفق على ان الحياة ليست مادة تاريخية في المنظور السينمائي الأكثر احترافا للتأمل!

جورجينيا الحقيقة لم تمتد بها الحياة أكثر من ثمانية وأربعين عاما (1757-1806) وهي أول زوجات الدوق وليم غافنديش الدوق الخامس لديفونشاير، وأم الدوق السادس لنفس المقاطعة، تزوجت منه في عيد ميلادها السابع عشر، وعقد الزواج في الكنيسة قبل يومين من موعده كي يتم تجنب تجمع الحشود التي ستجتمع لرؤية الحدث والدها هو حفيد الدوق الاول لمقاطعة Marlborough، وتتحدر من سلالتها الأميرة ديانا سبنسر أميرة ويلز، كانت جورجينيا تتمتع بجاذبية وسحر وروح اجتماعية مكنتها من جمع عدد من المثقفين والسياسيين ومصممي الأزياء، حولها في صالونها الشهير، بل كانت تحب هذا الحضور وتسعى اليه، للفت الانتباه وحب الآخرين، وهذا ما تحقق فعلا، حيث نجحت في الوصول الى قلب العامة وأسر لب الطبقات الارستقراطية بشخصيتها التي لا تجاريها فيها امرأة أخرى.

نشطت في الحقل السياسي في فترة من الزمن كانت فيه المرأة معزولة تماما عن الانخراط في الحراك العام للمجتمع، بل ان مجرد تشجيعها لحزب ما كان كفيلا بنجاحه، فقبلاتها التي كانت توزعها على الناخبين شكلت عنصرا اكثر سطوة من القوة التي كان الملك يتمتع بها على بيت اللوردات البريطاني آنذاك!

بل أن أحد عمال النظافة الايرلنديين الذي صادفته مرة وهي تركب عربتها الفاخرة تغزل بها وأعرب لها عن حبه، ولم تتوان بدورها عن ذكره في كل مجالسها ليشعر الآخرون بعجزهم أمامه، وفي هذا شيء من جنون العظمة حتى وإن كان الرجل ابن شارع!

عاشت هذه الاميرة حياتها كمحنة، الموت كان حلها الوحيد، فعداك عن إدمانها القمار الذي أغرقها بالديون ولم تساعد ثروة عائلتها الطائلة ولا ثروة عائلة زوجها بتخليصها منها، فإن الصداع النصفي الذي أصابها بمرحلة مبكرة، كان كفيلا بان يقتلها، معاناتها مع المرض دفعتها إلى الصراخ بشكل دائم حتى انه كان يتم إخلاء القصر من أبنائها كي لا يسمعوا صراخها، وأشهر ثلاثة أطباء من بينهم طبيب الملك،عجزوا عن السيطرة على مضاعفاته، حيث انتفخت عيناها وتقرحتا، وقادها رأسها إلى الموت !

ماري أنطوانيت ملكة فرنسا كانت صديقتها المقربة، التي عاشت حياة تماثلت ظروفها مع ظروف حياتها، بل ان ما ذكرته هي مرة عن رؤيتها لشبح انطوانيت في حجرتها جعلت البعض يجزمون بجنونها!

هذا واقع لم تتناوله الشاشة الفضية في فلم الدوقة انتاج 2008، والذي جسدت فيه الممثلة البريطانية الشابة كيرانايتلي (23 عاما) دور جورجينيا سبنسر.

ما عكسته الرؤية الفنية ركز على علاقة الدوقة بزوجها، وسلطت الضوء على طبيعة التطور العاطفي بين الزوجين، متخذة من جميع التفاصيل الأخرى زاوية التقاط ثانوية أو ربما معتمة تماما، وهذا شأن الفن، فليست الاحاطة او الشمولية هي التي تحدد النسبة الابداعية في صلب العمل، إلا ان الاقناع المستند إلى سياق فني متين له كامل الاثر بدعم الواقع كقيمة فنية تؤثر على مصداقية الحدث الدرامي في الحكاية السينمائية، وهو ما أخفق فيه الفيلم إذ تناول خيانة الدوقة للدوق بشكل عابر، بدا واهنا لم تمهد له أية شحنات عاطفية قصوى او توترات نفسية كافية، بينها وبين أحد أعضاء الحزب الليبرالي اللورد 'تشارلز غراي' ولم ينجح هذا في تأجيج حمى الصراعات اللاهبة بين الحب والخطيئة، كما يليق بعروش تحمل نعوشها على أكف التيجان المرمرية، و تمضي الى المقبرة بكامل ابهتها، وخطاياها الارستقراطية .

ما عدا هذه، فلك ان تعد الدوقة عملا ملحميا، استعار من التاريخ زمنا آخر ليس له، واتكأ على المخيلة كحقيقة وحيدة لا تتعامل مع الزمن كشاهد عيان بقدر ما تحوله الى متهم في محكمة استئناف فني، لواقع لم يتبق منه شيء سوى الكاميرا.

مما لا شك فيه أن الجرعة الفنية بدت عالية جدا، مما يحسب لصالح العمل، وكله بمقدار لم ينهك الحقيقة التاريخية ولم يشذ عنها، أما الانزياحات الدرامية التي ذكرت لم تقلب الواقع بل روضته لصالح السياق التقني، ليضيف الى السيرة الفنية للمخرج البريطاني الشاب (Saul Dibb (1968 الكثير في حلبة فنية يتنازع فيها المتنازعون على الجمال والجنون .

Ralph Fiennes الممثل الانكليزي الذي ادى دور 'المريض الانكليزي' الاكثر شهرة هو من اقتسم البطولة مع الممثلة الشابة Keira Knightly ابنة الممثل الانكليزي ويل نايتلي والكاتبة المسرحية شارمان ماكدونالد .
الجهة المنتجة كانت ال بي بي سي فيلم بالتعاون مع 'Pathe'، وقد كان للبي بي سي بعض الأحكام حول مشاهد الاغتصاب الذي تعرضت لها الدوقة من زوجها، حيث بدات بالصراخ وسمع صوتها عاليا خارج غرفة النوم مما خرج عن سياق الاحكام الاخلاقية المسموح بها من حيث مراعاة الضمنية والتلميح والحكمة في تناول هذه المشاهد.

الا ان النقد في الصحافة البريطانية كان منصفا الى حد لاباس به، بحيث اعتبروا أداء نايتلي مميزا يرشحها لأن تحتل مرتبة الأفضلية بين بنات جيلها السينمائي لما تتمتع به من جدية و مثابرة، بل ان أحد البرامج التلفزيونية الامريكية استضافها للحديث حول هذه التجرية تحديدا، ليثني على انجازاتها السينمائية الـ'13' وهي ذات الـ23 عاما فقط، دون ان يغفل هذا الربط بين الدوقة القادمة من القرن الثامن عشر وبين دوقة ويلز التي قتلها قلبها، ولست أدري ماوراء هذا الربط بل قل ما وراء تلك الاجابة الهاربة من نايتلي التي تجنبت الخوض في هذا الاسقاط التاريخي، متذرعة بان عمرها كان 11 عاما عندما رحلت ديانا ولم تستطع ان تلم بالقصة، إلا أنها تشعر بالشفقة اتجاه الدوقة'! هذه ذريعة لا تليق بمن أيقظت تاريخا امتد لأكثر من ثلاثة قرون من الزمان وتقمصته بهذه البراعة كأنها ابنته، والاجدر ان تتأمل التاريخ الاكثر قربا والذي لم يفت عليه أكثر من 11 عاما! أليس كذلك؟! إن في براعة التقمص ما يشي بمقدرة عالية على اقتناص اللحظة الزمنية مهما بعدت، وهو تأمل يقترب من التحليل والمساءلة، وان كان هذا مؤشرا على حس فني ناضج قبل اوانه، فهل له ان يخذل صاحبه عندما يتعلق الأمر بالفن كمصير لا كنزوة إبداعية عابرة؟

استهلك الفيلم القصة الواقعية تجاريا؟

لا يمكنك أن تقول ذلك رغم ما أثاره من لغط حينما أرفق ببعض الملصقات الإعلانية ترويجا لتركة حب مخذول في عروق سلالة سبنسر الحوائية !

هذه مرام إنسانية تتخذ من الفن سبيلا للبوح التاريخي، كلما أدينت الحقيقة بالفن، كأن الفن تهمة سياسية!

لا عليك، سينجو الفن بالنهاية من أية إحالات أو إسقاطات متعمدة، وما سيبقى في الذاكرة ثنائية واحدة لزمن أحادي الظلال منشطر التكوين، الحب 'الضحية والجلاد'.

كان الدوق رائعا في أدائه البعيد كل البعد عن المبالغة والتعقيد، واستحق بجدارة جائزة أكاديمي اوورد، كممثل مساند، بالاضافة الى الجوائز العديدة الاخرى عن التصاميم والاخراج الفني والبطولة النسائية الملفتة، غير ان الدوق الذي احال الرحمة الى غواية مستحيلة لما امتكله من برود وقسوة فظة استحق بهما أن تبادله زوجته خيانته وقسوته بخيانة ونفور مرتدين، ولا تقنع نفسك ان هذا زمن وذاك آخر، فكل الأزمنة تسير ضد تيار حواء، وطبيعة الرجل في المجتمعات الارستقراطية البريطانية - إجمالا- تحتمل كل هذا الجمود، والا كيف تخرج أميرة ويلز عن الاعراف الملكية الصارمة في قصور مغلفة بالحرير والساتان ومقتبسة من متاحف الشمع الملكي؟

ولماذا تموت شقيقة الملكة من الوحدة والبؤس والكآبة؟

لسنا بحاجة الى التاريخ كي نصدق أن الزمن لم يكن يوما مآساة المرأة، ولا الحرية كانت مطلبها الوحيد، هنالك ازمنة لاتعيد نفسها لأنها لم تزل واقعا راهنا لم يمض بعد، ولم ينته، وهنالك آمال تتحول الى تركة ثمينة لا يحب التبرع بها او اعتبارها فائضا عن حاجة الأحلام، لأن الشيء الوحيد الغير قابل للمساومة هو الظلم!

والوفاء للظلم ضرب من ضروب الخلاص منه، والخلاص ليس وشيكا بل على بعد موتين أو أكثر!

لسنا نحتاج الى جثث من سفر التاريخ كي تحكم عروش المجد من وراء مقبرة على طريقة الملكة البرتغالية، ولكننا نحتاج إلى حدوتة نابضة تحيا فينا كصرخة كي نستدل على مكمن الألم.

اليست تلك عوالم نساء جاءت الى السينما كي تسترد دور البطولة الذي لطالما سلب منها في الواقع؟

لم نكن لوحة الدوقة بالطاقية الفرنسية احدى المسلوبات الرئيسة التي تهافت عليها المتاحف وتم استردادها عبر لجنة تحقيق لم تتوصل حتى الآن لسبب وتقنية السرقة، إنك إذا ما تأملت عودة اللوحة الى الدوق الحادي عشر لدوفانشير توقن أن الزمن أحد اهم مقتنيات العائلة هناك، وأن أهم ما تم استلابه هو الألم! أماندا فورمان - ابنة الكاتب السينمائي الكبير الذي وضع على القائمة الماكارثية السوداء في زمن كان الجميع فيه عرضة لتهمة الجاسوسية للشيوعية الحمراء، هي المرأة التي نفضت الغبار عن لوحة غانسبورو الحزينة، لتستل المرأة من غمد البورتريه، وترد للزمن خيباته المريرة لذات العرش والسلالة!

أما من قتلتهن الغيرة من قبعة الدوقة، ولم يحصلن عليها، اختفظن بالصورة لانهن اكتشفن ان السحر والفتنة بمن ارتدت القبعة لا بالقبعة ذاتها!

آلامنا غوايتنا الأجمل نحن معشر النساء، ليس لاننا مازوشيات أمام سادية الزمن، إنما لان الانتقام من حوائيتنا لا يكون بقنص التفاح، ولا بقضمه، إنما بالاحتفاظ به في أحشاء الشجرة.

لطالما كانت الأمومة فطرة، لكنها تتحول في المجتمع الذكوري الى ورقة ضغط، وعامل انتقام، فإما قلبك وإما كبدك!

بل إن تحويلها حتى الى قرار شخصي مرفوض طالما أننا نتحدث عن أقفاص دجاج وديكة لا بيوت سكن ورحمة!

يقال ان جورجينيا كانت عاشقة لكتابة الرسائل، غير ان ما ظهر منها ليغير مجرى الحدث ماهو الا تلك التي كانت بحوزة جبلها الجليدي 'الدوق' الذي زودها بها بعد أن جاءها قصرها ليخيرها بين حبيبها وبناتها، ومجرد قراءتها لكلماتهن عادت إليهن رافضة كل توسلات غراي لها، لكن معضلة أخرى كانت قد واجهتها هي التخلي عن ابنتها من عشيقها، اليزا التي كانت تراها سرا، والتي اسمت ابنتها على اسم أمها. صديقتها التي خانتها مع زوجها- متذرعة بأنه ليس بوسع المرأة أن تقول لا - ستصبح هي الدوقة بعد رحيلها.

وتذكر دائما ان الزمن لا يتغير والألم يبقى على حاله، تلك الدوقة التي أنجبت طفلتها بعيدا عن عيون الأوساط الثرثارة، بمعاونة صديقتها الخائنة، اقتلع الحب كبدها منها، ليرسم في ذاكرة السينما مشهدا من اروع مشاهد الامومة على الاطلاق!

لا تستغرب ايها المشاهد الكريم، ولا تتكبر على الزمن، لأنه يجاس إلى جانبك في قاعة العرض السينمائي! ولم يبارح مقعده يوما!

شاعرة عربية ـ لندن

القدس العربي في

18/08/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)