جديد الموقع

 
 
 
 
عنوان الصفحة:

نديم جرجورة يكتب عن: "آخر أيام المدينة" المُقصى من مهرجان القاهرة.. الشيء بالشيء يذكر

 
 
 

 

 

نديم جرجورة يكتب عن:

"آخر أيام المدينة" المُقصى من مهرجان القاهرة:

الشيء بالشيء يذكر

 

     
     

نديم جرجورة
 
ناقد سينمائي

من أسرة

"العربي الجديد"

اللندنية

 
 
 

 

"آخر أيام المدينة" المُقصى من مهرجان القاهرة:

الشيء بالشيء يذكر

نديم جرجوره*

 

الأسئلة المطروحة في "آخر أيام المدينة"، الروائي الطويل الأول للسينمائي المصري تامر السعيد، كثيرةٌ، ككثرة التساؤلات المحيطة بعلاقته بـ "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، في دورته الـ 38 (15 ـ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016).

لكن الأسئلة أهمّ من التساؤلات، لأنها معنية بصنيع سينمائي، وبحرفية مهنية، وبجمالية سردية وبصرية، وبعمل يُمكن اعتباره بمثابة تأكيدٍ إضافيّ على انتقال السينما المصرية الجديدة، وإن يكن بهدوء، إلى آفاق أوسع وأبهى وأعمق، بمستوياتها المختلفة في الشكل والمضمون والبناء الفيلمي والمعالجة السينمائية، في حين أن التساؤلات تُدخِل الجميع في نزاعات تُسيء إلى جماليات الفيلم، وأسئلته الحسّاسة والدقيقة والعميقة والآنيّة، وتمنع المشاهدين السينمائيين، الذين تتسنّى لهم مشاهدته، من التمعّن في مفرداته السينمائية، التي تُغلِّف أسئلته المتنوّعة.

التساؤلات مشروعة. مُشاهدةُ "آخر أيام المدينة" تؤكّد شرعية تساؤلاتٍ، تُختصر بواحدٍ: لماذا يُسحب الفيلم من كلّ مسابقةٍ أو برنامجٍ في المهرجان، عشية بدء دورته الأخيرة هذه؟ لكن المُشاهدة إياها تكشف، في الوقت نفسه، عن أكثر من سببٍ، يبقى أبرزها توغّله في صميم الاجتماع المصري، في الأعوام القليلة الفائتة، بمآزقه واختناقه وشقائه وتعثّراته وأكاذيبه، في السياسة والاقتصاد والسلوك الفردي والعام. فالتقاطٌ واقعيٌّ لصدامٍ محتدم بين سلطةٍ (تَبُثّ إذاعات عديدة أخباراً عن الرئيس، حسني مبارك، وكلّها عن إيجابيات كثيرة يقوم بها لمصر ولناسها وللمنطقة وشعوبها، في مقابل الخراب اليومي الحاصل في أُسس الحياة اليومية تلك) ومواطنين، مزعجٌ لسلطةٍ آنية تُشبهها، فتنقضّ السلطة الآنية على فيلمٍ يقول واقعاً، ويعيش إحساساً، ويبوح بانفعالٍ متأتٍ من هذين، الواقع والإحساس، إذْ يُردِّد البعض أن "تمنّياً" سلطوياً على المهرجان يفضي إلى سحبه، فتُساق حججٌ واهية لتبرير الفعل. وهذا غير مؤكَّد، مع أن الفيلم واضحٌ في مواقفه وحساسيته الإنسانية والأخلاقية والتأملية إزاء البلد والمجتمع والناس، والمواقف هذه تُقلِق كلّ سلطة.

قلقٌ وانهيارات

أما أسئلة الفيلم، فموزّعة على معنى العلاقة بالمدينة، راهناً وماضياً؛ كما على معنى الصداقة، والانهيارات الجمّة التي تعيشها المدينة، بمساحاتها وعماراتها ومناخها وفضائها، وناسها أيضاً. والمدينة، إذْ تكون القاهرة صورتها الأولى، تذهب، بالتالي، إلى بيروت وبغداد، في حوارٍ مبطّن بينها، عبر حوارٍ مباشر بين أربعة أصدقاء ينتمون إليها، فتتحوّل المدينة إلى مساحة أوسع لرؤية أوضح، تعكس قسوة الانهيار وبشاعته، في عيونٍ تُراقب وتنظر إلى ما هو أبعد من الواضح، وفي انفعالٍ يلتقط وينتبه إلى ما هو أعمق من الملموس.

والمدن تلتقي وتتنافر. والأصدقاء الأربعة يلتقون ويبتعدون ويتخاصمون ويقولون ويغضبون ويتوترون، لكنهم يبدون جميعهم كأنهم يعيشون لحظات أخيرة، في حياة أخيرة، لمدنٍ أخيرة لن يقدروا على الخروج منها، إما لأنهم يرفضون، وإما لأنهم لا يتجرّأون، وإما لأنهم يعجزون، وإما لأنهم يتآمرون معها على أنفسهم فيبقون، أو يتآمرون مع أنفسهم إكراماً لها، فيبقون (أيضاً). والتباسات كهذه طاغية بقوة، على المدينة وناسها، وعلى الأصدقاء والمحيطين بهم، وعلى الفضاء الخانق، وعلى مغزى البقاء أو الهجرة، والعلاقة بأهلٍ وتفاصيل صغيرة ومنشآتٍ تقضي على روح المدينة، أو تُعيد صوغها بلغة أخرى.

في هذا كلّه، تمتلك اللغة السينمائية حيوية اشتغالها في مقاربةٍ بصريةٍ تتوغل في أعماق المدينة والناس، وفي متاهات المدينة والناس، وفي مآزق المدينة والناس. الحبّ المعلَّق جزءٌ من انهيارٍ يمتد من الجسد إلى الروح، في المدينة والأفراد. والذاكرة مُعلَّقة أيضاً، كراهنٍ منشغلٍ بتحوّل قاتل، في الاجتماع والاقتصاد والسلوك والعلاقات، قبل بدء "ثورةٍ" معلَّقة، هي أيضاً، بين أحلامٍ يستحيل تحقيقها مع أنها بسيطة وطبيعية ومشروعة، ووقائع مأسوية أصعب من أن تُفكَّك وتُحلّ تعقيداتها الجمّة.

والصمت، في "آخر أيام المدينة"، ردة فعل على ضجيج القاهرة، أو هكذا يبدو، على الأقلّ، مع أن غلياناً عنيفاً يعتمل في ذات كلّ شخصية، خصوصاً خالد (خالد عبد الله)، المُصوّر الساعي إلى إنجاز فيلم عن المدينة والماضي والذاكرة، لكنه عاجزٌ ومرتبكٌ وقلقٌ في بحثه عن فهمٍ للأشياء، وفي تنقيبه عن معنى الصورة في تأريخ لحظة منهارة، وفي استعادة ماضٍ هائم في غيابه.

لكن، هل يستطيع خالد الاستماع إلى الصمت في ضجيج القاهرة؟ يُحيل السؤال إلى لغة السينما في سردٍ درامي تتداخل فيه ثنائية الواقع ـ الحلم، بثنائية الوثائقي ـ الروائي. وهذا لن يكون انتقاصاً من القيمة الدرامية ـ الجمالية لـ "آخر أيام المدينة"، لأنه يؤكّد براعة السينمائيّ تامر السعيد (كاتب السيناريو، بالتعاون مع رشا سلطي) في تجاوز الخطوط الفاصلة بين الثنائيات كلّها، لتشييد عمارته البصرية، بلغة الصورة، في مواجهة انهيار العمارات الأخرى.

عمارةٌ سينمائيةٌ

وخالد، إذْ يكون ركيزةً أساسية للعمارة السينمائية تلك، يُصبح شاهداً يُصوِّر ـ بعينيه، وآلة الكاميرا الخاصة به، وجهاز هاتفه الخلوي ـ ما يراه هنا وهناك. لكنه يُصوِّر أيضاً (أو بالأحرى يحاول ذلك) ما يريد أن يراه ويكتشفه ويعرفه، وهذا صعبٌ في زمن شقاء يُعاند الحياة، ويغلبها أحياناً، وفي زمنٍ يلفّه النسيان (أبلة فضيلة تنسى، أم أنها تتناسى، ماضياً قديماً في راهنٍ ضاغط يُمزّق الروح ويُشرّدها في أكثر من متاهة وألم). يريد خالد حباً ينسلّ من قلبه وروحه، ويريد بيتاً صغيراً يُدمَّر أمام عينيه وكيانه، ويريد مدينةً تنهار حوله ومعه، ويريد صداقات تنكسر في غربةٍ أو موتٍ أو متاهةٍ. يريد ذاته، لكن ذاته تضيع في أزقة روح محطّمة، وفي شوارع مزيّنة بالأحمر منذ "ألف عام"، وفي مدنٍ مسحوقةٍ بحداثةٍ أو خرابٍ أو وجعٍ أو توهانٍ أو حصارٍ أو تلاعبٍ.

في مقابل تجاوز الخطوط الفاصلة بين الثنائيات كلّها، يُزيل تامر السعيد خطوطاً تفصل بين كاميرا يُصوِّر بها فيلمه، وكاميرا يُصوِّر خالد بها ما يُصوِّره. في لقطات عديدة، تنعدم الفواصل بين المشاهد التمثيلية والواقعية، أو بين شغل خالد وشغل تامر. هذا طبيعي في أفلامٍ تريد كسر مألوفٍ سردي، للذهاب عميقاً في الجرح أو الأسئلة. لكنه، هنا، يتّخذ أكثر من بُعدٍ جمالي، إذْ بقدر ما تقترب كاميرا خالد من وجوه من يُحاورهم ويسألهم ويتحدّث إليهم، تقترب كاميرا تامر من حساسية الاقتراب الأول، كما من ارتباكاته والتباساته ومساراته المعلَّقة.

يبدأ "آخر أيام المدينة" في ديسمبر/ كانون الأول 2009. هذا ليس هامشاً، بل متن حكاية يرويها خالد بأشكالٍ مختلفة، أثناء بحثه عن شقّة، يُفترض به الانتقال إليها خلال وقتٍ قريب. والوقت القريب ضيّقٌ: ليلى (ليلى سامي) تختار طريق الغربة، وهو باقٍ حيث هو. أسئلة ماضيه وماضي مدينته تتوه، معه، فيهما (الماضي والمدينة). وحنان (حنان يوسف) تغادر الإسكندرية، ولا تقول سبباً، بل تبوح بعينين أو ملامح وجه أو معالم ذاكرة مخفية في الأعماق، عن مدينتين وأحوالٍ، وعن أولوية العيش راهناً، بدلاً من الارتهان لماضٍ. أصدقاؤه الثلاثة، اللبناني باسم (باسم فياض) والعراقيان حسان (حيدر حلو) وطارق (باسم حجار)، يأتون القاهرة ويغادرونها إلى بيروت وبغداد وبرلين، واحتدام نقاشٍ عن بقاء في مدينة أو اغترابٍ عنها إلى مدينة أخرى. الأم (زينب مصطفى) ممدّدة على فراشٍ في "مشفى السلام" (أي رمزٍ هذا، وأية حكاية؟). اختلاط المصائر المعلَّقة مكثّفٌ، درامياً، بسردٍ متقطّع بسبب ارتباك الجميع وقلقهم، وبتصوير يلوّنه الغموض والغبار والأصفر الغامق أحياناً أولى، وانعدام وضوحٍ في الرؤية أحياناً ثانية، وانبثاقُ الفجر والعتمة كمن يُصارع من أجل بقاء غير مفهوم، أحياناً ثالثة.

لا أحد على ما يُرام

لن يكون أي شيء على ما يُرام، ولا أي أحدٍ، في محيط خالد وأصدقائه، والناس الذين يلتقيهم. المدينة تعاني احتضاراً قاسياً، كوالدة خالد. والمدينة تنهار أمام عينيه، كانهياره هو أمام ذاته، وكانهيار كلّ شيء فيه. مقتل الصديق العراقي، ومتاهة الصديق اللبناني، واغتراب الصديق العراقي الثاني، ومتاهته هو، أمورٌ تنفلش في المساحات الضيّقة للعيش، وفي المسافات البعيدة التي تفصل انفعالاتهم عما يريدون، والتي تصنع من البقاء/ الاغتراب توقاً إلى خلاصٍ لا يأتي.

لكن، هل يصحّ تحليلٌ كهذا، في قراءة فيلمٍ يمتلك من السينما أجمل ما في ارتباكاتها وقلقها وحسّها الملتبس والمعلَّق؟ أم أن "آخر أيام المدينة" أجمل من أن يُختزَل بقراءة ذاتية؟ أميلُ، ولو قليلاً، إلى الخروج من كتابةٍ تبغي مقاربة نقدية، كي يُتاح للفيلم فرص تواصل مطلوب مع مشاهدين يتوقون إليه. والفرصة العربية الأولى تُلغى، لأن إدارة "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" تتراجع عن قرارها بإدراجه في مسابقة أو برنامجٍ، لأسبابٍ مبهمة، يُلمِّح بعضها إلى ضغطٍ أمني يحول دون عرضه (وهذا غير مؤكَّدٍ البتّة)، ويُردِّد بعضها الآخر أن ضغطاً "سينمائياً" يُمارَس على إدارة المهرجان، من قِبل إلهام شاهين، مُنتِجَة "يوم للستات" لكاملة أبو ذكري (افتتاح الدورة الـ 38)، والممثلة الأولى فيه، كي يُتاح لهذا العمل مساحة أكبر، إلى جانب "البر التاني" لعلي إدريس، الذي يعتبره كثيرون "فاشلاً"، نقدياً وسينمائياً وفنياً، مما يُخفِّف من حدّة المنافسة على "يوم للستات"، على المستوى المصري تحديداً، في المسابقة الرسمية، في حين أن سحبه من البرامج الأخرى يعيد طرح سؤال السبب الخفيّ لذلك. أم أن "الحكاية فيها إنّ"؟

أقاويل ونزاعات وصراعٍ من أجل حقٍّ طبيعيّ لفيلمٍ سينمائي، يتمثّل بعرضٍ عربي أول في بلده. لكن، يبدو أن فيلماً سينمائياً متين الصُنعة الفنية والدرامية والجمالية، يُخيف مسؤولين وإداريين لشدّة جماله البصريّ في كشف بعض عورات بيئة وحياة ومعنى.

*ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

 

العربي الجديد اللندنية في

21.11.2016

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)