جديد الموقع

 
 
 
 

عنوان الصفحة:

مجلة «الثقافة الجديدة»: علامات في تاريخ السينما المصرية (ملف خاص)

 
 
 

مجلة «الثقافة الجديدة»:

علامات في تاريخ السينما المصرية (ملف خاص)

 

السينما المصرية الناكرة للجميل!

محمود الغيطاني

في البدء كان أندريا رايدر

أندرو محسن

الرائدات الثلاثة.. وجوه نسائية شكلت ثورة الإنتاج السينمائى فى مصر

رامي المتولي

سينما داود عبدالسيد.. واقعية بلا حدود - البحث عن سيد مرزوق (نموذجاً)

حسن حداد

من علامات الموجة الجديدة في السينما المصرية - داوود عبد السيد الفليسوف

خالد عبد العزيز

خيري بشارة في السينما الأمريكية المستقلة - موندوج: فيلم خارج التصنيف

صفاء الليثي

 
 
 
غلاف عدد فبراير 2018
 
 
 
 
 
     
 

 

محمود الغيطاني

فبراير 2018

 

 

السينما المصرية الناكرة للجميل!

 

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان المجتمع المصري- لاسيما الإسكندرية- مكونا من خليط كبير من العرقيات والديانات المختلفة القادرة على التعايش مع بعضها البعض بسهولة وتقبل الآخر من دون وجود أي شكل من أشكال التمييز العرقي أو الديني، بل كان المجتمع عبارة عن نسيج واحد قادر على التعامل والتعاطي الاجتماعي بسهولة قلما نجدها في أي مجتمع آخر.

هذا الخليط الكبير جعل من المجتمع المصري عبارة عن فسيفساء قلما نجدها في أي مجتمع غيره؛ ومن ثم كانت مصر هي كعبة العديدين من الجنسيات الأخرى المهاجرة إليها، ومن مختلف الديانات؛ فرأينا الكثيرين من الشوام الذين استوطنوها وعاشوا فيها مرتبطين بها أكثر من وطنهم الأم، كذلك الحال بالنسبة للإيطاليين الذين كانوا يرون في مصر وطنا حقيقيا لهم، وغيرهم من اليونانيين الذين كانوا يشكلون جالية كبيرة لا يُستهان بها لاسيما في الإسكندرية- ربما لتشابه المدينة مع اليونان-. أي أن مصر كانت وجهة كل من يرغب في الحياة فيها نظرا لما تتمتع به من انفتاح على الآخر وقبول غير المصريين، حيث كان الوافد إليها يندمج في النسيج الوطني المصري ويعيش معه باعتباره مصريا غير شاعر بالغربة فيها، وهذا ما كان يدفع جميع الجاليات الأجنبية المهاجرة إليها إلى العمل على مصلحتها سواء من الناحية الاقتصادية أو الوطنية، بل اعتبرها كل من هاجر إليها وطنه الثاني والأكثر ارتباطا به سيكولوجيا من وطنه الأول مفضلا البقاء والحياة فيها على العودة إلى الوطن الأم.

هذه الفسيفساء المتنوعة من الأعراق التي عاشت وتعايشت في مصر كان يقابلها تنوع ديني لم يحدث من قبل في أي مكان آخر، فكان هناك اليهود من المصريين وغير المصريين، كذلك المسيحيين من أهل مصر وغير المصريين كذلك، ورأينا كل هذه الأديان تتعايش مع بعضها البعض من دون أي شكل من أشكال التمييز الديني أو العرقي، بل كان الجميع يتعاملون مع الآخرين باعتبارهم مصريين وشركاء في الوطن من دون تمييزـ وهو ما جعل مصر مضربا للمثل في مدى التسامح والتعايش مع الجميع.

صحيح أننا لا ننكر أن كل ديانة أو عرق كانت لها عاداتها وتقاليدها المختلفة عن الأخرى، لكن هذا الاختلاف لم يُشكل من قبل أي عائق دون التواصل مع الآخر، بل كانت كل جالية أو ديانة تحترم غيرها ثقافيا ودينيا؛ الأمر الذي جعل المجتمع ذا نسيج واحد لا يمكن التمييز فيه بين ديانة وأخرى، أو بين عرق وغيره.

لعل هذا التنوع الكبير في المجتمع المصري هو ما جعل اليهود مكونا أساسيا من نسيج المجتمع المصري منذ قدم التاريخ؛ فاليهود المصريين لعبوا دورا كبيرا في التأثير على المجتمع المصري بالكامل منذ عهود مبكرة؛ فنراهم في عهد الفاطميين مثلا يعملون في العديد من المهن اليدوية والتجارة، كما كان لهم دورا متميزا في تكوين علاقات تجارية مع الهند، وقد أسهموا في حماية الممرات البحرية والطرق البرية، ونال التجار شيئًا من الحكم الذاتى في تجارتهم، كما شاركوا في الحياة الثقافية والسياسية في مصر في القرن العشرين، وكان من أشهر من عمل بالسياسة هو القطاوي باشا الذي أصبح وزيرًا للمالية ثم النقل والمواصلات بعد ثورة 1919م، كما كان عضوا في مجلس النواب حتى وفاته، وربما كان اندماجهم الكبير في نسيج المجتمع المصري هو ما ترك بأثره على المصريين جميعا الذين أخذوا عنهم الكثير من الأعمال التي برعوا فيها في العديد من المجالات والتي كان منها المسرح، والسينما، والغناء، والتلحين، وصناعة الجواهر، والحياكة وغير ذلك من المهن التي أخذها المجتمع عن اليهود المصريين؛ ففي مجال الغناء مثلا لا زالت مصر تحتفل حتى الآن بذكرى الفنان اليهودي المصري الشهير داود حسني، واسمه الحقيقي "دافيد حاييم ليفي" في العاشر من شهر ديسمبر من كل عام، باعتباره أحد أعمدة التلحين والغناء المصري الذين أسهموا في تطوير الغناء في مصر، ولا ننسى كذلك أن مصر عرفت المسرح من خلال يعقوب رفائيل صنوع الشهير بلقب "أبو نضارة"، وهو الكاتب والشاعر والمخرج والموسيقي والصحفي، وهو من مواليد حي باب الشعرية عام 1839م، وكان يتقن عدة لغات أجنبية، وعمل مدرسًا في مدرسة الفنون والصناعات إلى أن اتخذ من مقهى في حديقة الأزبكية مسرحًا لفرقته المسرحية سنة 1870م، وظل يقدم الروايات الكوميدية والتراجيدية، مثل "العليل، والصداقة، والبرجوازى، وبورصة مصر، والأميرة الإسكندرانية"، وقد حظي يعقوب صنوع بتقدير الخديوي إسماعيل، مما جعله يطلق عليه لقب "موليير مصر" ودعاه لتقديم بعض رواياته في مسرحه الخاص في القصر.

إذا كان اليهود المصريين قد ساهموا بإسهامات كبيرة في صناعة المسرح الذي نشأ على أيديهم، كما ساهموا في الغناء والتلحين فنحن لا نستطيع إنكار فضلهم الكبير على نشأة السينما المصرية؛ حيث كانوا بمثابة أعمدتها الأساسية التي نشأت عليها هذه الصناعة، أي أنه لولا إسهامات اليهود المصريين وغير المصريين في صناعة السينما المصرية لما كانت مصر قد عرفت السينما بسهولة ولتأخر بها الوقت كثيرا من أجل معرفتها وريادتها في هذا المجال في منطقة الشرق الأوسط بالكامل؛ فمن خلال اليهود ودورهم الريادي في تعريف المواطن المصري على السينما، ومن خلال أموالهم وروادهم الأوائل واستديوهاتهم وممثليهم عرف المجتمع المصري صناعة السينما كأول دولة في الشرق الأوسط يكون لها دورها في هذه الصناعة استهلاكا وصناعة أيضا؛ لتصبح من أقدم وأهم السينمات في العالم فيما بعد بفضل الإسهامات القيمة التي قدمها اليهود المصريين وغير المصريين.

هذا يعني في حقيقة الأمر أن هناك ثقافة يهودية عربية كان لها أكبر الأثر على السينما والثقافة المصرية- رغم رفض الكثيرين من العرب والمصريين اصطلاح الثقافة اليهودية العربية-، ولكن التاريخ لا يمكن إنكاره، وبالتالي فهو يفرض نفسه علينا فرضا باعتبار أنهم كان لهم الكثير من الفضل في العديد من الأمور الثقافية والفنية لاسيما صناعة فن السينما المصرية الذي كان من الصعب أن يكون له الريادة في منطقة الشرق الأوسط لولا جهودهم المتواصلة والأمينة من أجل وجود صناعة سينما مصرية، كما أن اليهود المصريين كانوا بالفعل جزءً أصيلا من نسيج المجتمع المصري، ينتمون إلى مصر كغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، ويعملون من أجل الصالح المصري العام، ولم يكن هناك أي تمييز ضدهم، بل يحترمهم الجميع باعتبارهم مصريين، وقد تركوا الكثير من العادات على المجتمع ككل، أي أن يهود مصر هم في نهاية الأمر مصريين مخلصين لمصريتهم، لم يكن يرفضهم أحد؛ ومن ثم فرفض مُسمى الثقافة اليهودية العربية، أو الثقافة اليهودية المصرية الآن إنما هو نتاج حركات المد القومي والثوري والعروبي التي جاءت بعد ثورة 1952م التي عملت على اضطهاد اليهود المصريين والتضييق عليهم من أجل ترك وطنهم ودفعهم إلى الهجرة ورفض كل ما هو يهودي داخل نسيج المجتمع اعتقادا أن جميع اليهود متواطئين مع الحركة الصهيونية العالمية وهو ما ينافي الواقع؛ فليس كل اليهود المصريين قد تواطئوا مع الحركة الصهيونية، بل كان منهم من هو أكثر وطنية من أي مصري مسلم، ولكن تيار الثورة المصرية في الخمسينيات رفض تواجدهم في المجتمع المصري كما رفض الكثير من الجاليات الأجنبية التي اتخذت من مصر وطنا لها كاليونانيين والإيطاليين والشوام وغيرهم من الجاليات التي خدمت مصر كثيرا على المستويات الاقتصادية والثقافية والوطنية باعتبار أن مصر وطنا حقيقيا لهم، الأمر الذي جعل العسكر بعد ثورة 1952م يعمل على دفع الجميع لمغادرة مصر بالتضييق عليهم وبالفعل نجحوا في ذلك؛ مما أدى إلى انقلاب المفاهيم والمعايير الثقافية وعدم القدرة على تقبل الآخر المختلف في العرق أو الدين وصولا إلى رفض مُسمى الثقافة اليهودية العربية، أو المصرية.

لكن لم كانت مصر هي البلد الذي يهاجر إليه كل من رغب في التعاطي مع الفن حتى أن الجميع تقريبا قد تجمعوا فيه منذ عهود مبكرة؟

الحقيقة أنه في عهد الدولة العثمانية كان هناك الكثير من التخلف والقهر والرفض لكل من يأخذ بأسباب التنوير، أو بأسباب الفنون الأوروبية، وعلى اتساع الدولة العثمانية كانت مصر الخديوية هي الدولة الوحيدة القادرة على التعاطي مع أسباب المدنية أو التطور آنذاك؛ ومن ثم هاجر إليها كل نجوم الفن والتمثيل والموسيقى وغيرها من الفنون من جميع الأمصار العربية باعتبار أن مصر هي الدولة الوحيدة القابلة للتطور ولا ترفضه؛ لذلك رأينا الكثيرين من مبدعي الخلافة العثمانية في الشرق يفضلون النزوح إلى مصر القادرة على تقبلهم بسهولة نظرا لما تتمتع به من حرية وقدرتها على تقبل الآخرين وإدخالهم في نسيجها الوطني؛ لهذا السبب هاجر إلى مصر منذ فترة مبكرة "أبو المسرح العربي" أبو خليل القباني" بعدما أحرق متشددو دمشق المقهى الذي كان يُحيي فيه تمثيلياته وكادوا أن يهلكوه معه، أي أن مصر كانت وجهة المشرق والمغرب بالكامل من أجل ممارسة الفن والثقافة في ذلك الوقت.

لكن هل من الممكن الحديث عن سينما مصرية من دون ذكر دور اليهود في هذه الصناعة وبنائها؟

الحقيقة أنه لولا اليهود لما كانت هناك سينما مصرية تُذكر؛ فالسينما لم تنشأ سوى من خلالهم، وهم أول من أدخل هذا الفن إليها، بل كانوا هم العمال الأساسيين فيها على طول مراحل الصناعة بداية من السيناريو والتمثيل، والمونتاج، والتصوير، والموسيقى وصولا إلى الإخراج والإنتاج، أي أن جميع مراحل الصناعة بالكامل نشأت على أكتافهم في الوقت الذي كان المجتمع المصري المسلم ما زال باقيا على نزعته المحافظة التي ترفض دخول المرأة من أجل المشاركة في هذا الفن الذي يراه الكثيرون منهم خروجا عن الأخلاق والعادات؛ ومن ثم فقد كان وصف "المشخصاتي" أي الممثل يكاد أن يكون عارا على صاحبه وكل عائلته؛ الأمر الذي جعل كل المشاركين في فن صناعة السينما المصرية منذ بداياتها من اليهود والمسيحيين في حين اعتزل المسلمون المصريون هذا الفن ووقفوا منه موقف المتفرج منذ البداية، وهذا ما يُفسر لنا أن جل الممثلات اللاتي عملن في صناعة السينما المصرية منذ بداياتها المبكرة كن من اليهوديات أو المسيحيات فقط؛ فرأينا الكثيرات منهن مثل ليلى مراد، وكاميليا، وراقية إبراهيم، ونجمة إبراهيم، وغيرهن من الممثلات اليهوديات المصريات اللاتي لا يمكن إنكار وجودهن المهم في العقل الجمعي المصري والعربي حتى اليوم بما قدمنه من أدوار لا يمكن نسيانها.

لعل هذه النظرة الاجتماعية تجاه فن السينما هي ما دفعت أبو السينما المصرية- أو أول من أدخل هذه الصناعة إلى مصر ونهض بها- إلى تغيير اسمه تخوفا من غضب أهله رغم أنه كان يهوديا؛ فرأينا أحمد المشرقي، وهو الاسم المستعار الذي اتخذه توجو مزراحي لنفسه كي يكون اسمه لفترة طويلة في عالم صناعة السينما، والحقيقة أن توجو مزراحي لم يلجأ لاتخاذ هذا الاسم البديل/ المستعار حتى يتقبله المجتمع المصري باعتبار أن المجتمع سيرفضه لأنه يهوديا كما ذهب بعض النقاد المصريين، بل حرص مزراحي على تغيير اسمه بسبب عائلته التي كانت ترغب له العمل في التجارة مثلهم ولكن حبه وعشقه لفن السينما جعله يترك دراسته وعمل أهله في التجارة، ويتفرغ تفرغا كاملا لصناعة السينما التي أفنى حياته بالكامل من أجلها.

ربما كان كل المهتمين بصناعة السينما وتاريخها يعرفون قصة حياة توجو مزراحي اليهودي المصري الإيطالي الأصل، فهو كما يقول عنه الكاتب هشام مكين: ولد في 2 يونيو عام 1901م لأسرة مصرية من أصل إيطالي كانت من أغنى عائلات يهود الإسكندرية في فترة العشرينيات، حيث كان يعمل والده وأعمامه في تجارة القطن، وكان والده مديراً للشركة الجمركية للمستودعات التجارية، وفي سن السابعة عشرة، أثناء مرحلة تعليمه الجامعي، التحق توجو بالعمل في شركة والده محاسباً، وأكمل دراسته وحصل على دبلوم في التجارة وتم تعيينه موظفاً في الشركة الكبرى للأقطان في الإسكندرية، وفي العشرين من عمره، أي عام 1921م ترك توجو العمل نهائياً وسافر إلى إيطاليا لاستكمال تعليمه بناء على رغبة والديه، آملين في عودته لتوسيع تجارة العائلة، ثم انتقل إلى فرنسا وحصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد، لكن أثناء إقامته في باريس، تمكن من زيارة واحد من أشهر ستوديوهات السينما في فرنسا وهو "ستوديو جومون"، حيث شاهد تصوير العديد من الأفلام الفرنسية، وتابع عملية سير إنتاج الأفلام السينمائية، وبين أروقة ستوديوهات باريس وجد توجو مزراحي حلمه في العمل بصناعة السينما، فقرر أن يتخلى عن العمل التجاري ويتفرغ تماماً لدراسة السينما، وشارك ككومبارس في العديد من الأفلام ولعب بعض الأدوار الثانوية، وكان يقضي في الاستوديوهات والبلاتوهات ساعات طويلة حتى أصبح ملماً بكل تفاصيل المهنة من إخراج ومونتاج وديكور وماكياج وموسيقى تصويرية وغيرها من مفردات صناعة السينما.

اشترى مزراحي في ذلك الوقت كاميرا تصوير حديثة، وتمكن من تصوير بعض الأفلام القصيرة عن معالم باريس وروما؛ فتعاقدت معه "الشركة السينمائية العالمية" في باريس على شرائها وتسويقها. بذلك، يُعد توجو مزراحي أول مصري درس وتعلم صناعة السينما في الخارج. وبعد 8 سنوات من التعلم في باريس، قرر العودة إلى مصر عام 1928م ناقلاً خبرته السينمائية إلى الإسكندرية، فقام بإنشاء أول ستوديو سينمائي خاص به ويحمل اسمه "ستوديو توجو" لإنتاج الأفلام الروائية الطويلة، في حي باكوس- مكانه الآن "سينما ليلى"- وجهزه بالمعدات اللازمة من ديكورات وإضاءة وأعمال المونتاج وغرف للممثلين وغيرها.

حينما عاد مزراحي إلى مصر قام بصناعة فيلمه الأول "الهاوية" وقد كان فيلما روائيا طويلا صامتا من إخراجه ومن إنتاج "ستوديو توجو"، وقد عُرض هذا الفيلم للمرة الأولى في دور العرض السينمائية في الإسكندرية في 25 نوفمبر 1930م، ثم عاد لعرضه مرة أخرى في القاهرة بعنوان جديد هو "الكوكايين" بعد ثلاثة أشهر من عرضه في الإسكندرية، ومن اللافت للنظر أن توجو قد قام بالتمثيل في هذا الفيلم باسمه المستعار "أحمد المشرقي" تخوفا من غضب العائلة التي كانت ترغب له العمل في مجال التجارة، وقد شاركه في بطولة هذا الفيلم الممثل اليهودي "شالوم" الذي قام مع توجو بسلسلة من الأفلام عن شخصية اليهودي، كما أن الاسم الحقيقي لهذا الممثل كان مجهولا إلى أن أكد جابي إشكنازي، ابن عم توجو مزراحي، المهاجر إلى عكا والذي عمل كمساعد مخرج لمزراحي في 15 من الأفلام التي أخرجها بأن الممثل الذي لعب دور "شالوم" اسمه "ليون أنجل" وهو يهودي بسيط عمل كموظف في بلدية الإسكندرية وضمه مزراحي إلى أفلامه، وقد حقق هذا الفيلم نجاحاً كبيراً أثناء عرضه في القاهرة، ولاقى استحسان الحكومة المصرية، إذ أرسل له حكمدار القاهرة الإنجليزى "راسل باشا" خطاب شكر على صناعة هذا الفيلم الذي يُعالج قضية اجتماعية كبيرة هي الإدمان، وتدور أحداث فيلم "الهاوية" أو "الكوكايين" حول عامل يحاول إغراء زوجة صديقه الجميلة بالمال واستمالتها فيفشل، فيسعى للوصول إليها عن طريق دفع هذا الصديق إلى إدمان الكوكايين، فينحرف ويُطرد من عمله، وتنهار الأسرة، وتتطور الأحداث إلى أن يقتل هذا المدمن ابنه ويُحكم عليه بالإعدام، أما الصديق الشرير فيموت بالسقوط من فوق إحدى السقالات التى يعمل عليها فى إحدى العمارت. ومن اللافت للنظر أن الذى قام بتصوير الفيلم هو "ألفيزي أورفانللي" وفي عام 1934م أصبح فيلم "الكوكايين" ناطقاً ومصحوباً بالموسيقى التصويرية، وقد ساعده فى بداية العمل في "ستوديو باكوس" المصور عبدالحليم نصر وشقيقه محمود نصر.

في عام 1932م، أنتج توجو مزراحي فيلمه الثاني "خمسة آلاف وواحد" الذي شارك في بطولته مع الممثل "شالوم"، ومنذ بداية هذا الفيلم ستكون شخصية شالوم الكوميدية التي قدمها مزراحي وقام بها الممثل اليهودي "ليون أنجل" في هذا الفيلم موجودة في العديد من الأعمال السينمائية اللاحقة، وهي تُعد أول حضور قوي للشخصية اليهودية في السينما المصرية، وتعكس حياة اليهود في مصر من خلال مواقف كوميدية تتعرض لها الشخصية، مؤكدةً على اندماج اليهود في المجتمع المصري في ذلك الوقت، وقد أنتج توجو وأخرج عدة أفلام تعتمد على الشخصية نفسها. فى عام 1935م أنتج توجو مزراحى وأخرج قصة فيلم "شالوم الترجمان"، ويدور حول زيارة سائح أمريكي مع ابنته المخطوبة لشاب أمريكي للإسكندرية، فيتعرف على بائع اليانصيب "شالوم" ويتخذه دليلاً وترجماناً له أثناء زيارته لمصر، رغم أن شالوم لا يعرف أى لغة أجنبية، وينتقل شالوم مع السائح وابنته إلى القاهرة، وحين تتحدث الابنة عن غرامها بحبيبها الأمريكي يعتقد أنها تحبه هو، ويصل الخطيب الأمريكي إلى القاهرة فيدرك "شالوم" الحقيقة، ثم أعقبه عام 1937م بفيلمه "العز بهدلة"، تمثيل شالوم أيضا، وفي نفس العام قدم أيضاً فيلم "شالوم الرياضي" وهى الأفلام التي استثمر فيها بذكاء المنتج إقبال جمهور السينما عليها، وهى قمة التناقضات التى كان يتمتع بها مزراحي بين تناقضات حسابات المنتج وحرفية المخرج المتمكن من أدوات عمله.

فى عام 1933م أنتج توجو وأخرج فيلم "أولاد مصر" الذى قام بالتمثيل فيه مع حنان رفعت وشقيقه الذى كان يمثل أيضا تحت اسم مستعار هو عبد العزيز المشرقي، ويعتبر هذا الفيلم من أوائل الأفلام التي قام بتصويرها مدير التصوير الرائد عبد الحليم نصر، وقد قام بتصوير جميع أفلام "توجو مزراحي" التي أخرجها بعد ذلك فيما عدا فيلم "ليلة ممطرة" 1939م.

تدور أحداث فيلم "أولاد مصر" عن شاب فقير لكنه متفوق فى دراسته ويقع فى حب شقيقة زميله فى الدراسة وهي ابنة باشا، ولكنه ابن لرجل يعمل على عربة كارو، ويتقدم لخطبتها لكن أسرتها ترفض هذا الزواج احتقاراً لمهنة والده، فيصاب الفتى بالجنون، وينتهي الفيلم بشفائه وفوزه بجائزة كبرى فى مسابقة هندسية وزواجه من فتاة أحلامه والفيلم يتناول مشكلة الفوارق الطبقية. كما كان مزراحي أول من اكتشف الثنائيات في السينما المصرية حينما قدم فيلمه "المندوبان" 1934م من تأليفه وإنتاجه واخراجه وتمثيل فؤاد الجزايرلي الشهير بـ"المعلم بحبح" وإحسان الجزايرلي "أم أحمد" وهو الفيلم الذى حقق نجاحا فاجأ صناعه أنفسهم؛ فقدم لهما فيلمين آخرين عام 1935م هما "الدكتور فرحات"، و"البحار" تمثيل أمينة محمد، وفوزي الجزايرلي، وأحمد المشرقي "توجو".

بعد ذلك كانت أهم محطة في تاريخ مزراحي السينمائي حينما تعاون مع الممثل المصري علي الكسار "بربري مصر الوحيد" 1936م، الذى قام توجو بإنتاج وإخراج الفيلم الأول لتعاونهما معا وهو "100 ألف جنيه" تمثيل علي الكسار، وفى نفس السنة أنتج وأخرج فيلم "غفير الدرك"، ثم "الساعة سبعة" عام 1937م بطولة علي الكسار وبهيجة المهدي التي كان اسمها الحقيقي هنريت كوهين، وفيلم "التليغراف" عام 1938م، و"عثمان وعلي" عام 1939م، و"ألف ليلة وليلة" عام 1941م، و"علي بابا والأربعين حرامي" عام 1942م، و"نور الدين والبحارة الثلاثة" عام 1944م، وقد استلهمت آخر ثلاثة أفلام من التراث العربي بنكهة مصرية، إذ أضاف إليها علي الكسار حس الكوميديا الساخر معتمداً على الشخصية السيئة الحظ، كذلك قدم للكسار فيلم "سلفني 3 جنيه" 1939م فى سينما كوزموجراف تمثيل علي الكسار، وبهيجة مهدي، ورياض القصبجي.

قدم عام 1938م فيلم "أنا طبعي كده" تمثيل فؤاد شفيق، واستيفان روستي، لكن المرحلة الفنية الحقيقية من حياة توجو مزراحي كانت حينما انتقل إلى القاهرة تاركا الإسكندرية؛ ففي عام 1939م مع بداية الحرب العالمية الثانية، انتقل مزراحي إلى القاهرة واشترى ستوديو "وهبي" في شارع حسني في ميدان الجيزة خلف سينما "الفنتازيو"، وسماه ستوديو "الجيزة" مع الاحتفاظ بستوديو "توجو" في الإسكندرية، وأسس "شركة الأفلام المصرية" واتخذ علم مصر شعارًا لها، ويُعد ستوديو الجيزة من أكبر الاستوديوهات السينمائية في تلك الفترة، إذ أضاف إليه مزراحي غرف صناعة السينما، وغرفاً للممثلين، وغرفاً خاصة بالإنتاج والديكور والمكياج والصوت، بالإضافة إلى قاعة لاستقبال الضيوف.

في هذا العام اكتشف مزراحي الفنانة المصرية اليهودية ليلى مراد وقدمها للجمهور في فيلم "ليلة ممطرة" 1939م مع الفنان يوسف وهبي، كما أخرج لها أربعة أفلام أخرى، هي "ليلى بنت الريف"، و"ليلى بنت المدارس" عام 1941م، و"ليلى" عام 1942م و"ليلى في الظلام" عام 1944م، وتعتبر تلك الأفلام بصمات فنية مميزة في بداية مسيرة الممثلة ليلى مراد، إذ فتح لها توجو مزراحي أبواب النجومية لتواصل سلسلة من النجاحات في مسيرتها السينمائية والغنائية.

في عام 1940م أنتج فيلم "الباشمقاول" للفنان فوزي الجزايرلي، وبشارة واكيم، وحسن فايق وعرض فى 18 يناير1940م في سينما كوزموجراف، وفي نفس العام أنتج وأخرج فيلم "قلب امرأة" بطولة سليمان نجيب، وأمينة رزق، وأنور وجدي وعرض فى 6 مايو 1940م في سينما رويال، وفي بدايات عام 1943م أنتج وأخرج فيلم "الطريق المستقيم" تمثيل فاطمة رشدي، ويوسف وهبي، وأمينه رزق وعرض فى سينما كوزمو بالقاهرة فى 17 أكتوبر 1943م، وأعقبه فيلم "تحيا الستات" تمثيل ميمي شكيب، ومديحة يسري، وليلى فوزي، وأنور وجدي، ومحسن سرحان وعرض فى 3 نوفمبر 1943م في سينما كوزومو، وفي عام 1944م قدم فيلم "كدب فى كدب" بطولة أنور وجدي، وببا عز الدين، وبشارة واكيم وعرض فى 21 سبتمبر 1944م في سينما أوليمبيا.

عرض لمزراحي فيلمين من إنتاجه فقط هما "ابن الحداد" بطولة وإخراج يوسف وهبي، وبمشاركة مديحة يسري، ومحمد أمين وعرض بسينما كوزمو في القاهرة، وفيلم "شارع محمد علي" إخراج وقصة نيازي مصطفى، وبطولة عبد الغني السيد، وهاجر حمدي وعرض فى 21 ديسمبر 1944م في سينما كوزمو. وقام توجو عام 1945 بإنتاج فيلم "المظاهر" للمخرج كمال سليم وبطولة رجاء عبده، ويحيى شاهين، وعرض فى 1 فبراير 1945م في سينما كوزمو، وفى نفس العام أيضا قام بإخراج وإنتاج فيلم "سلَّامه" عن قصة علي أحمد باكثير وحوار وأغاني بيرم التونسي، وتصوير عبد الحليم نصر وبطولة أم كلثوم، ويحيى شاهين، واستيفان روستي، وعبد الوارث عسر، وفؤاد شفيق وعرض فى 9 أبريل 1945م في سينما ستوديو مصر، ويُعد "سلامة" أول فيلم تاريخي قام بإخراجه مزراحي، وتدور أحداثه في فترة الدولة الأموية، وفي نفس العام قام توجو مزراحي بإنتاج فيلم "الفنان العظيم" من إخراج وقصة وسيناريو يوسف وهبي وبطولة مديحة يسري، ويوسف وهبي، وسراج منير وتم عرض الفيلم فى 25 أكتوبر 1945م في سينما كوزمو في القاهرة، وقامت شركة الأفلام المصرية "توجو مزراحى" بإنتاج فيلم "قصة غرام" للمخرج محمد عبد الجواد، وقصه وسيناريو كمال سليم، وبطولة المطرب إبراهيم حمودة، وأميرة أمير، وبشارة واكيم.

في عام 1946م قام بإنتاج فيلم "يد الله" من إخراج وقصة يوسف وهبي، وتمثيل أمينة رزق، ويوسف وهبي وعرض فى 31 يناير 1946م، وفى نفس العام أيضاً قام بإنتاج وإخراج فيلم "ملكة الجمال" تمثيل ليلى فوزي، وكارم محمود الذى عرض فى 25 أبريل 1946م وقبل انتهاء العام، قام مزراحي بإنتاج فيلم "إكسبريس الحب" من إخراج وقصة حسين فوزي وتمثيل المطربة اللبنانية صباح، وفؤاد جعفر، وعرض فى 6 ديسمبر 1946م في سينما كوزمو.

يُعد هذا الفيلم آخر الأفلام التي قام بإنتاجها مزراحي، حيث لم يقم بإخراج أو إنتاج أي أفلام أخرى، بعد أن أنتج وأخرج 32 فيلماً في تاريخه السينمائي ووجوده فى مصر من عام 1930م حتى عام 1946م، بالإضافة إلى قيامه في نفس هذه المدة بإنتاج 4 أفلام ناطقة باللغة اليونانية، بسبب كثافة عدد أفراد الجالية اليونانية فى الإسكندرية وهى نسخ طبق الأصل من الأفلام المصرية التي قام بإنتاجها وإخراجها ومنها فيلم "الدكتور فرحات" الذى قام ببطولة نسخته المصرية فوزي الجزايرلي، واستيفان روستي، وفؤاد شفيق، إذ كانت تُعد من أكبر الجاليات في مطلع القرن العشرين حتى الخمسينيات، وكانت تُقام العروض الفنية اليونانية على المسارح المصرية وتكثر الأنشطة والمهرجانات الثقافية اليونانية في الإسكندرية تحديداً، حيث التقى توجو بإحدى الفرق اليونانية المشهورة في تلك الفترة وتعاقد معها على إنتاج وإخراج فيلم طبق الأصل لفيلم "الدكتور فرحات" الذي أنتجه عام 1935م ناطقاً باللغة اليونانية وتم عرضه في اليونان عام 1937م ولاقى نجاحاً كبيراً. بالإضافة إلى قيامه بإنتاج 8 أفلام لمخرجين آخرين ليكون مجموع ماقام بإخراجه وتمثيله وإنتاجه 44 فيلماً فى باكوس وستوديو الجيزة الذى استأجره، قبل أن يغادر مصر ويُهاجر إلى إيطاليا عام 1949م بعد إعلان تأسيس دولة اسرائيل، إذ طالته أصابع الاتهام بالصهيونية؛ ففضل أن يهاجر إلى البلد التي انحدر منها أجداده، حيث توفى فيها فى 5 يونيو 1986م، ورفض الذهاب إلى إسرائيل طوال حياته.

لعل هذا الحرص على تقصي الحياة الفنية لتوجو مزراحي باعتباره أول وأهم من قدم السينما المصرية وأول من قام بإنتاج قسم كبير من أفلامها منذ بدايتها كان لابد منه للتدليل على أهمية اسم مزراحي كيهودي مصري قامت على أكتافه السينما المصرية، كما أنه قدم العديدين من الممثلين المصريين إلى هذه السينما والتي كانت ليلى مراد من أهم هؤلاء الممثلين، بالإضافة إلى سعيه مع المخرج أحمد بدرخان لإنشاء نقابة السينمائيين المصريين وهو الحلم الذي تحقق عام 1955م بتدشين هذه النقابة.

يقول الناقد السينمائي الراحل سمير فريد: "لم يتمكن مخرج يهودي قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945م) من التعبير عن ثقافته كيهودي كما تمكن توجو مزراحي (1901 ـ 1986م) في وقت صعود الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا ووصول العنصرية ضد اليهود إلى ذروة جديدة في العالم، وبخاصة في أوروبا"، ولعل أهمية ما قاله الناقد سمير فريد تعود إلى تصوير حالة التقبل والتسامح لكل الثقافات في مصر في هذه الآونة قبل بداية المد القومي الذي أدى إلى الكثير من العنصرية والرفض لكل ما هو غير مصري، وغير مسلم؛ الأمر الذي جعل المجتمع المصري فيما بعد شديد التعصب غير قادر على قبول اليهود المصريين أو حتى غيرهم من أبناء الجاليات الأجنبية الأخرى مثل اليونانيين والشوام، والإيطاليين، بل وصل الأمر بهذا التعصب نحو كل ما هو عروبي وقومي وإسلامي إلى إلغاء اسم توجو مزراحي من على أفلامه عندما كانت تُعرض على شاشات التليفزيون المصري في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهذا ما يُشير ويُدلل على خطورة الوضع الثقافي المصري بعد ثورة 1952م التي تشدقت كثيرا باسم القومية والعروبة؛ مما دفعها إلى التنكر لكل ما هو مصري وحقيقي وأصيل لمجرد أنه مختلف الديانة أو يهودي رغم كونه مصريا أصيلا؛ الأمر الذي جعل السلطات المصرية تُضيق عليهم وتضايقهم لدفعهم إلى الرحيل، في حين أن مزراحي نفسه لم يكن متعصبا لكونه يهوديا وهو ما جعله يقدم أم كلثوم في فيلمه "سلامة" وهي ترتل القرآن.

كما أنه بعد هزيمة الجيش المصري في فلسطين على يد العصابات اليهودية تغير الجو الاجتماعي المصري وبدأت العديد من التيارات المعادية لكل ما هو مختلف عنها في الظهور على السطح، وكان من بين هذه التيارات من أبدوا عداوة حقيقة وواضحة لليهود المصريين، وبلغ الحال إلى ارتفاع الكثير من الأصوات من أجل محاربة شركات وأعمال اليهود في مصر، حتى ولو كانوا من المصريين، وتم تخريب متاجر اليهود، كما حدث لمتجر شيكوريل سنة 1948م، وهنا أدرك توجو مزراحي والجميع أيضا أن نهاية الثقافة الكوزموبوليتانية في مصر قد أوشكت على الأفول، بل إن الإنتاج السينمائي المصري في عصره الذهبي قد أوشك على الخفوت؛ ومن ثم فإذا ما استمر على الإنتاج لابد سيتكبد خسائر فادحة وكانت هذه الأسباب من أهم أسباب رحيله إلى إيطاليا رافضا النزوح إلى إسرائيل، وهذا ما يؤكد عليه الناقد أحمد رأفت بهجت في كتابه المهم "اليهود والسينما في مصر والعالم العربي": "الواقع أن مزراحي كان قد أتم رسالته السينمائية لحساب الصهيونية وانسحب في الوقت المناسب لسببين: أولهما أن تقارير وزارة الداخلية بدأت تُشير صراحة بعد إنتاجه فيلمه الأخير "إكسبريس الحب" إخراج حسين فوزي 1946م، إلى دوره في مساندة الصهيونية، وتأتي مذكرتها المؤرخة بتاريخ 19 سبتمبر 1946م لتشير دون أي لبس إلى ذلك: "المعروف عن منتج الفيلم أنه يهودي متصل بالصهيونية ويعمل بإيعاز من الصهيونيين لعمل أفلام دعاية لنشر أفكار معينة"، ومع ذلك فهذا السبب لم يكن كافيا لتوقفه عن العمل فغيره من الصهاينة استمروا يعملون في مصر حتى نهاية الخمسينيات وفي مقدمتهم عائلة موصيري التي كانت تسانده من خلال شركة "جوزي فيلم"، ومن هنا يأتي السبب الثاني ليرجح كفة الانسحاب، ويرتكز على أنه كان يتوقع المحنة التي مُنيت بها السينما المصرية بعد الحرب العالمية الثانية، وما زال معاصروه يتذكرون ما قاله يوم أن أعلن هذا الانسحاب: "سأكون متفرجا من اليوم سأراقب من بعيد ما سيعانيه الفيلم المصري من محن، وما ستكابده شركات الإنتاج من أزمات وصعوبات، وقد يستطيع غيري من المنتجين أن يحتمل الظروف المقبلة، لكني أنا شخصيا لن أتحملها، بل أعتقد أن المنتج الذي يزج بنفسه ليقف أمام هذه العاصفة، إنما يغامر بإنتاجه ويغامر بأمواله، ومن العبث أن يُكابر الإنسان في مثل هذه الظروف، ومن أراد أن يُكابر فعليه أن يتحمل وحده وزر تفكيره وتبعة اندفاعه".

إذا كنا قد حرصنا على سوق هذا الاقتباس بالكامل من كتاب الناقد أحمد رأفت بهجت فقد كان حرصنا لسببين مهمين، أولهما: توضيح أن مزراحي قد ترك مصر لأن ظروف الإنتاج والأزمة التي مرت بها السينما المصرية بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن لتساعده على الاستمرار؛ لأن معنى الاستمرار هنا هو الخسارة، وهو من حقه كمنتج مهما كان محبا للسينما أن يحافظ على أمواله والتوقف عن الصناعة ما دام يرى أنها تمر بأزمة وباتت خاسرة بالنسبة له، كما أنه قد بدأ التضييق الفعلي عليه باتهامه بالعمل من أجل صالح الحركة الصهيونية، أما السبب الثاني فهو التدليل على نكران الجميل فعليا لكل اليهود الذين عملوا في مجال السينما المصرية رغم وطنيتهم ومصريتهم وانتمائهم؛ فلم يوجد يهودي مصري واحد منهم إلا وتم اتهامه بتهمة العمل من أجل الصهيونية، وإذا كان مزراحي بالفعل يعمل من أجل خدمة الحركة الصهيونية كما ذهب المؤلف أحمد بهجت فلم لم يذهب إلى الكيان الصهيوني ولو مرة واحدة طوال حياته بعدما ترك مصر وفضل البقاء في إيطاليا حتى وفاته عام 1986م، ورغم الكثير من الدعوات الموجهة له لزيارة الكيان الصهيوني إلا أنه لم يفعل ذلك حتى على سبيل الزيارة؟

كما أن التقرير الأمني الذي ساقه بهجت يقول: "المعروف عن منتج الفيلم أنه يهودي متصل بالصهيونية ويعمل بإيعاز من الصهيونيين لعمل أفلام دعاية لنشر أفكار معينة"، وهنا لا بد من التساؤل: إذا كان الرجل منذ بدأ العمل في مجال السينما المصرية يعمل من أجل صالح الصهيونية كما يذهب التقرير الأمني، لم لم يتم توقيفه أو طرده من مصر، أو على الأقل منعه من تقديم أعمال سينمائية في الوقت الذي كان مزراحي مسيطرا على كل مقدرات الصناعة السينمائية في مصر وحده؟ هل يُعقل أن تعلم السلطات المصرية كونه عميلا أو جاسوسا وتتركه بكل هذه الحرية لدرجة أنه كان المحتكر الأول لصناعة السينما في مصر، ومختلط بكل ممثليها ومن يعملون في هذه الصناعة؟! يبدو من خلال ما ساقه المؤلف أن ثمة تحاملا وتوجها أيديولوجيا مسبقا للناقد ينطلق منه في كتابة ما يكتبه.

لعل في إصرار توجو مزراحي على البقاء في إيطاليا وعدم مغادرتها إلى إسرائيل حتى ولو كان من أجل الزيارة ما يُدلل على أن السينما المصرية كانت بالفعل ناكرة لجميل كل اليهود الذين عملوا فيها بتهميشهم ومحاولة نسيانهم وتوجيه العديد من الاتهامات لجميعهم تقريبا رغم أنه لم تثبت على أي منهم تهمة العمالة، أي أن المد القومي بعد ثورة 1952م جعل من أبناء الوطن المصريين أعداء وعملاء لمجرد أنهم مختلفين في الديانة، أو لأن ديانة العدو هي نفس ديانتهم؛ مما جعل الجميع يعادونهم، ويتم محوهم من الذاكرة الجمعية والثقافية للمصريين رغم أفضالهم الكبيرة على فن السينما وغيرها من الفنون؛ مما جعل السينما المصرية ناكرة للجميل فعليا.

بطبيعة الحال لم يتوقف الأمر على توجو مزراحي باعتباره أهم اليهود الذين ساهموا في صناعة السينما المصرية، بل ساهم في هذه الصناعة الكثيرون من اليهود المصريين الذين لا يمكن تنحيتهم من الوعي الجمعي المصري، أو محوهم من الثقافة المصرية، وكان من أهم هؤلاء اليهود المصريين الممثل المصري ميشيل ديمتري شلهوب أو عمر الشريف الذي قدم تاريخا طويلا من الأفلام السينمائية المصرية المهمة حتى وفاته، والممثلة الراحلة ليليان زكي موردخاي أو ليلى مراد التي قدمها للسينما توجو مزراحي وهي الممثلة التي أثرت السينما المصرية بالعديد من الأفلام المهمة والتي ما زالت موجودة في الوعي الجمعي المصري باعتبار أن أفلامها من أهم أفلام السينما المصرية، وقد لدت في عام 1916م في الإسكندرية لأب هو المغني والملحن الحلبي إبراهيم زكي موردخاي "زكي مراد" وأمها جميلة سالومون وهي يهودية من القاهرة. كانت من أسرة متواضعة الحال تخرجت في مدرسة راهبات نوتردام ديزابوتر للبنات بالزيتون، والممثلة نظيرة موسى شحاتة أو نجوى سالم وهي من عائلة مصرية الجنسية، رغم أن أباها لبناني وأمها يهودية إسبانية لكنها أسلمت كما فعلت ليلى مراد عام 1960م، وتزوجت من الناقد الفني الراحل عبد الفتاح البارودي، وبعد نكسة 1967م راحت تشجع القوات المصرية على القتال، ومنحها قائد الجبهة الشمالية درعًا لجهودها أثناء حرب الاستنزاف، والممثلة بوليني أوديون نجمة إبراهيم صاحبة شخصية 'ريا' في فيلم 'ريا وسكينة' والتي ظلت على ديانتها اليهودية حتى وفاتها، وفي عام 1976م خصصت عوائد عرضها المسرحي 'سر السفاحة ريا' لتسليح الجيش المصري، وأوفدتها الدولة للعلاج في الخارج على نفقتها عام 1962م لمواقفها الوطنية، والممثلة ليليان فيكتور كوهين أو كاميليا عشيقة الملكة فاروق التي احترقت بها الطائرة عام 1950م، وهي من أصول يهودية وأبوها إيطالي 'فيكتور' هجر أمها فنسبتها لصديق لها ليصبح اسمها ليليان ليفي كوهين، وكانت تعمل بالتجارة حتى التقى بها أحد منتجي السينما وعرض عليها العمل على أن تكون خليلة له فقبلت، إلى أن التقت بالسينمائي 'أحمد سالم' فوضعها على طريق النجومية، ثم دخل مع الملك فاروق في صراع عليها، ولكنها لم تقطع علاقتها بالملك، والممثلة راشيل إبرامينو ليفي أو راقية إبراهيم التي مثلت البطولة أمام محمد عبد الوهاب في فيلم 'رصاصة في القلب' 1944م، وكانت تعمل في خياطة ملابس الأفلام، وكان أول ظهور لها من خلال فيلم توجو مزراحي 'ليلى بنت الصحراء' 1937م، ثم تعددت أدوار بطولتها حتى قامت ثورة 1952م فأعلنت تأييدها ودعمها لاستقلال مصر، ثم غادرت إلى أمريكا عام 1954م، والراقصة كاترين فوتساكي أو كيتي التي أجادت عدة أدوار في بعض أفلام إسماعيل يس مثل "عفريتة إسماعيل يس" 1954م، و"متحف الشمع" 1956م، ولكن سرعان ما اختفت في الستينيات، والممثل والملحن القدير موريس زكي موردخاي أو منير مراد شقيق الممثلة ليلى مراد الذي بدأ حياته كبائع للبطاطس والجبنه وأمواس الحلاقة، وترك الكلية الفرنسية للعمل في التمثيل والغناء والتلحين، حيث دخل مجال السينما كعامل كلاكيت ثم عمل كمساعد مخرج مع أنور وجدي وكمال سليم، كما اشتهر بتقليد الفنانين وقام بالتمثيل في خمسة أعمال أشهرهم "نهارك سعيد" عام 1955م، وقد اعتنق الإسلام ليتزوج من الفنانة سهير البابلي، واستمرا معاً لمدة عشر سنوات، لم ينجبا خلالها، حتى تم الطلاق بسبب غيرة "منير" من المعجبين بزوجته، والممثل بدرو لاماس أو بدر لاما، والممثلة فيكتوريا كوهين، والممثلة إستير شطاح التي قامت بدور زوجة أبو الوفا العجوز سليطة اللسان في فيلم "سلامة" 1945م، كما مثلت في العديد من الأفلام الأخرى منها "رباب" 1943م، و"عنتر وعبلة" 1945م، و"هذا جناه أبي" 1945م، و"القلب له واحد" 1945م، و"حرم الباشا" 1946م، و"تمر حنة" 1957م، و"آه من حواء" 1962م وغيرها من الأفلام.

لعل المصريين جميعا لا يستطيعون نسيان أدوار الممثل اليهودي المصري إلياس مؤدب الذي ينسبه البعض إلى لبنان بينما يؤكد الآخرون أنه مصري، بينما هو في حقيقة أمره مصري من أب سوري اكتسب الجنسية المصرية وأم مصرية، واسمه الحقيقي هو إيليا مهذب ساسون، وقد تعرف على بشارة واكيم وإسماعيل ياسين اللذين فتحا له الأبواب للعمل في أماكن عديدة، وكان أول أفلامه مع المخرج محمود ذو الفقار في فيلم "هدية" 1947م، بينما كانت شهرته الحقيقية في فيلم "عنبر" 1948م إخراج أنور وجدي حينما غنى في اسكتش "اللي يقدر على قلبي" مع ليلى مراد حينما غنى "جيتك من آخر لبنان مشغول الفكر وحيران".

كذلك  كان من بين الممثلين اليهود الذين ساهموا في إثراء السينما المصرية جمال وميمو رمسيس اللذين ظهرا في نهاية الخمسينيات في بعض الأدوار الثانوية، فجمال هو الممثل الذي قام بدور لوسي ابن طنط فكيهة خالة سعاد حسني في فيلم "إشاعة حب" 1960م، بينما شقيقه ميمو كان هو رجل العصابة في فيلم "إسماعيل ياسين بوليس سري" 1959م، وفيلم "ملاك وشيطان" 1960م، كما كان هناك الممثل اليهودي والمطرب زكي الفيومي الذي اشترك في العديد من الأفلام منها "الدنيا لما تضحك" 1953م، و"فتوات الحسينية" 1954م، كذلك سامية رشدي وكان اسمها الحقيقي "إستير" وقامت بالعديد من الأدوار في أفلام منها "ألمظ وعبده الحامولي" إخراج حلمي رفلة 1962م، و"رابعة العدوية" إخراج نيازي مصطفى 1963م، كذلك الممثلة سرينا إبراهيم الأخت الكبرى غير الشقيقة للمثلة نجمة إبراهيم، والممثل سلامة إلياس الذي ظهر في الكثير من الأفلام السينمائية منها "أرض النفاق" 1968م، و"العتبة جزاز" 1969م، و"العوامة 70" 1982م وغيرها.

من تركيا كذلك جاء إلى مصر الممثل والمنتج اليهودي وداد عرفي الذي اشترك بالتمثيل في خمسة أفلام مصرية، كما قام بإخراج ثلاثة أفلام لم يعرض منهم سوى فيلم واحد فقط هو "غادة الصحراء" 1929م، بينما تم حرق فيلم "تحت سماء مصر" بواسطة منتجته وبطلته فاطمة رشدي بعد اكتماله وقبل عرضه؛ حيث رأت فيه مهزلة من الممكن أن تؤثر على سمعتها المسرحية، بينما منعت الرقابة الفيلم الأخير ولم يعرض نهائيا لأسباب تمس الأخلاق العامة.

هنا يتضح لنا أن عدد اليهود الذين شاركوا في صناعة ونهوض السينما المصرية لا يمكن الاستهانة به، وأنهم كان لهم عظيم الفضل على هذه السينما من أجل الارتقاء بها، رغم أن المصريين فيما بعد اتهموا الغالبية العظمى من هؤلاء اليهود المصريين بالخيانة والعمل من أجل صالح الصهيونية، وبدأ الجميع يُشككون في كل ما يذهبون إليه حتى أن الناقد أحمد رأفت بهجت يرى أنهم كانوا يلعبون دورا صهيونيا كبيرا منذ البداية ويعملون على إفساد القيم والأخلاق المصرية في شكل من أشكال الكتابة المؤدلج الذي يُعادي كل ما هو غير مسلم، أو يعمل على التشكيك في كل ما هو يهودي من خلال نظرة دينية ضيقة لا علاقة لها بالفن؛ الأمر الذي يؤكد أن الثورة المصرية تركت بالكثير من الآثار السلبية على العقلية والثقافة المصرية لدرجة أن يعملوا على تنحية جزء كبير من ثقافة مصر بسبب ديانتهم التي يدين بها أعدائهم، رغم أن هؤلاء اليهود كانوا مصريين حقيقيين، بل كان هناك منهم من هو أكثر وطنية من أي مصري آخر، ولكن يبدو أن السينما المصرية التي انساقت للعقل الجمعي فيما ذهب إليه كانت بالفعل ناكرة للجميل العظيم الذي قدمه لها اليهود.

     
     
 
 
 
     
 

 

أندرو محسن

فبراير 2018

 

 

في البدء كان أندريا رايدر

 

خلال تاريخ السينما المصرية الطويل، مرت فترات أو أجيال تعاني من الجدب في مناطق فنية بعينها تشهد ندرة الأسماء التي تتألق فيها، أو حتى تضيف أو تدفع بالصناعة إلى الأمام، لكن يمكن استثناء الموسيقى التصويرية من هذه القاعدة.

طوال تاريخ السينما المصرية منذ بدايتها كان صناع الموسيقى التصويرية يظهرون بقوة ويفرضون أنفسهم بشكل يجعلنا نفتش دائمًا عن أسمائهم بعد انتهاء الأفلام، ثم نبحث عنها قبل بدايتها لنطمئن أننا سنتمتع بموسيقى رائعة، مررنا بفؤاد الظاهري وجمال سلامة وعمار الشريعي وعمر خيرت وعمرو إسماعيل وهشام نزيه، بالإضافة للأجانب الذين قدموا أيضًا موسيقى تصويرية مهمة للأعمال المصرية مثل طارق الناصر وليال وطفه.

لكن قبل كل هؤلاء كان هناك اسمٌ مهد الطريق لكل الأسماء التالية، وزاد من قيمة واضعي الموسيقى التصويرية المعاصرين له.

من السهل جدًا التعرف على هذا الاسم، فهو يحضر إلى الذاكرة بمجرد ذكر كلمة ”موسيقى تصويرية“، الاسم هو أندريا رايدر.

بالتأكيد لم تكن الموسيقى التصويرية في السينما المصرية ستنطلق إلى ما وصلت إليه دون وجود أندريا رايدر، في البداية.

قبل ظهور أندريا رايدر كانت هناك بالتأكيد موسيقى تصويرية في الأفلام، لكنها كانت عادة تعتمد على استخدام مقطوعات موسيقية عالمية، مع كتابة هذا في التترات، أو يضعها بعض الملحنين الكبار مثل فريد الأطرش أو محمد عبد الوهاب أو محمد فوزي، سواء للأفلام التي كانوا أبطالها وأحيانًا لبعض الأفلام الأخرى، فنجد عبد الوهاب يضع الموسيقى التصويرية في فيلم غزل البنات، ومحمد فوزي يضع الموسيقى لظلموني الحبايب، بجانب ألحان الأغنيات بالطبع.

على الرغم من عظمة الأسماء السابقة إلا أنه من الصعب أن نتوقف عند بصمة حقيقية تركوها في موسيقى أفلامهم، وهذا بالرغم من تكرار مشاهدة هذه الأفلام لعشرات المرات، ويمكن أن نُعزي هذا إلى سببين رئيسيين، الأول هو أن موسيقاهم التصويرية لم تكن إلا تنويعات أو إعادة توزيع للمقدمات الموسيقية أو أجزاء من ألحان أغنيات الأفلام، والسبب الثاني هو أن هؤلاء لم يتعاملوا مع الموسيقى التصويرية كفن منفصل يجب أن له قواعده الخاصة في صياغة مقطوعاته وموتيفاته لتصنع بطلًا آخر يحضر داخل الفيلم، وليس لمجرد إضافة صوت للصورة أو تأكيد نفس الحالة الموجودة.

لاحقًا بدأ الاهتمام بوجود مؤلف للموسيقى، وهكذا كانت بداية الظهور لفؤاد الظاهري، وأندريا رايدر في توقيت قريب هو النصف الأول من الخمسينيات. كان فؤاد الظاهري مخلصًا للموسيقى الشرقية، وللتراث، هكذا أعاد توظيف عدد من موسيقى الأغنيات في إطار موسيقاه التصويرية، بينما اتجه أندريا رايدر لخلق قالب جديد ومختلف، غير من شكل الموسيقى التصويرية بعده.

أندريا رايدر يوناني الأصل الذي حصل لا حقًا على الجنسية المصرية كان نقطة التلاقي الحقيقية بين المشاهد والموسيقى التصويرية، وألف الموسيقى لحوالي ستين فيلمًا من أهم أفلام تاريخنا السينمائي.

أول ما يلفت الأنظار في موسيقى رايدر، قبل الالتفات للتيمات التي صنعها، هو أن موسيقاه دائمًا قادرة على الظهور، مهما كانت قوة الفيلم وكِبَر الأسماء المشاركة فيه نجد موسيقى رايدر حاضرة بقوة، تشكل مكونًا رئيسيًا داخل الفيلم وليس مجرد إضافة خالية من الروح.

تظل الموسيقى التصويرية فن يجب أن يُقاس بميزان حساس في أثناء صناعتها، إذ يجب أن تكون حاضرة لها هويتها وفي الوقت نفسه تتكامل مع المَشاهد، تضيف إليها ولا تأخذ الأضواء منها.

من بين الأعمال المميزة التي قدمها رايدر، يظل فيلم دعاء الكروان للمخرج هنري بركات في مكانة خاصة تتفوق على بقية الأفلام. يرى الموسيقار الكبير عمار الشريعي أن موسيقى دعاء الكروان ليست فقط من أفضل ما كُتب في الموسيقى التصويرية في السينما المصرية، بل هي الأفضل على الإطلاق، ويعد ما قدمه رايدر في هذا الفيلم نموذجًا على بصماته في هذا الفن خلال مسيرته.

موسيقى دعاء الكروان، على تعدد مقطوعاتها إلا أنه يسهل الخروج من الفيلم بتيمة رئيسية مكونة من نوتات قليلة يمكن حفظها ومعرفة الفيلم بمجرد الاستماع إليها دون حتى أن نرى الصورة، وهو أمرٌ كان نادر الحدوث في الموسيقى التصويرية في ذلك العصر، وقد برع في صناعته رايدر، هكذا نجد تيمات محفوظة في عدد من الأفلام التي قدمها، مثلما فعل في الرجل الثاني إخراج عز الدين ذو الفقار.

يأتي بعد ذلك التوزيعات الأوركسترالية الفريدة التي برع فيها رايدر، على الرغم من بعض الانتقادات القليلة التي توجه إليه، إذ يرى البعض أن موسيقاه وتوزيعاته كانتا غربيتين، إلا أنه من النادر الاستماع لهذا الزخم من الآلات بهذا التوزيع الذي يوظفها جيدًا.

بالعودة إلى موسيقى فيلم دعاء الكروان، سنجد التوظيف المميز من رايدر للوتريات وكيف تعزف كل مجموعة جملة موسيقية مختلفة، تشاركهم آلات النفخ ليخرج الناتج مبهرًا، في معظم توزيعاته لموسيقاه لم يتخل رايدر عن هذا الشكل الأوركسترالي، والذي أضاف شكلًا مميزًا لا تخطئه الأذن لمقطوعاته، كما أضاف في الوقت نفسه حالة من الفخامة على هذه الموسيقى تجعل خروجها من السينما إلى قاعات الأوبرا للاستماع إليها أمرًا غاية في السهولة، كما صار يحدث مع عدد من واضعي الموسيقى التصويرية لاحقًا.

التوزيعات التي كان يقدمها رايدر يندر تقديمها الآن، ربما بسبب الاعتماد بشكل أكبر على الموسيقى الإلكترونية أو هي الرغبة في التخفف من استخدام الأوركسترا لتكلفتها العالية.

تأثير موسيقى رايدر امتد بالطبع إلى توزيع الأغنيات، المجال الذي ترك فيه بصماته أيضًا، ولكن بما أننا نتحدث عن السينما، فيمكن الالتفات إلى ما أضافه توزيعه إلى الأغنية نادرة التكرار ”جبار“ من كلمات حسين السيد وألحان محمد الموجي وغناء عبد الحليم حافظ في فيلم معبودة الجماهير لحلمي رفلة، هذه الأغنية التي يعد توزيعها نموذجيًا، إذ نستمع إلى توظيف الآلات المختلفة والانتقال بسلاسة بين الإيقاعات وإعطاء مساحة لآلات النفخ ثم الوتريات، وعلى موسيقى ”جبار“ كانت تمضي مرحلة تحول رئيسية في الفيلم، صعود إبراهيم (عبد الحليم) وسقوط سهير (شادية) وكأن موسيقى رايدر تأبى إلا أن تلعب دور الموسيقى التصويرية مرة أخرى حتى وإن لم يكن هو واضع الموسيقى التصويرية في هذه الحالة، بل واحدًا من أهم الأسماء التي ظهرت بعده وهو علي إسماعيل الذي لاسمه بريق لا يقل عن بريق رايدر، وفي نفس العالم، الموسيقى التصويرية والتوزيع الموسيقي.

من بين الكثير من الأسماء التي ساهمت في تغيير شكل صناعة السينما في مصر، يبقى أندريا رايدر محتفظًا بمساحة شديدة الخصوصية، يتمتع بامتياز الوصول إلى قلب المشاهد حتى لو أخفقت الصورة في ذلك.

     
     
 
 
 
     
 

 

رامي المتولي

فبراير 2018

 

 

الرائدات الثلاثة.. وجوه نسائية شكلت ثورة الإنتاج السينمائى فى مصر

 

نساء السينما المصرية في بدايتها جميعًا كانوا رموز للاستقلال والقوة والموهبة مع تعدد الأسماء لم تقتصر منافستهم على أسماء النجوم الرجال فقط بل نافسن بعضهن البعض، روزاليوسف في مواجهة فاطمة رشدي وأمينة رزق تدخل على الخط في المنافسة وغيرها من الأسماء اللائي لمعن كنجمات صعدن من رحم المسرح ووجدوا متنفس أخر لابداعهن في السينما، الوسيط الجديد الذى كان في زمنهم ساحة للتجريب والتعامل معه وفق ما يتوفر من معدات مع الذكاء والخيال لصناعة فيلم متكامل بمقاييس هذا العصر الذى كان يصعب فيه على شخص في حجم وأهمية يوسف وهبي أن يدير فرقة مسرحية فما بالك بوضع النساء في هذه الفترة المبكرة من القرن العشرين.

حتى نساء السينما المصرية من الجيل التالى والذى يليه كانوا ايضًا رموز للاستقلال والتفرد سواء على مستوى الموهبة وإدارتها وأيضًا على مستوى مواكبة التطور والتماشي مع العصر فاتن حمامة وشادية وتحية كاريوكا وسامية جمال وغيرهن من الفنانات بمختلف أشكال ظهورهم على الشاشة الكبيرة أيا كان المدخل الفني سواء من الغناء أو التمثيل أو الرقص، الأسماء المذكورة وغيرها قدمت نماذج في التفرد والاستقلال لا يمكن اغفالها أو حتى تجاهل إسهاماتها في دفع الحركة الفنية بقوة كند قوي للرجال الذين يملكون في ذلك الزمن تحت بند التقاليد زمام الأمور لحد كبير.

الندية في المنافسة بين الرجال والنساء في المجال الفني لم تكن الوحيدة بل نافس كلاهما في التأثير والقوة "الرائدات" اللاتي لم يكتفين بمجرد تحدى الجميع وخوض المعركة في سبيل الظهور وترجمة ابداعهم فنيًا حسب القالب فقط بل سعين بشكل مستمر رغم الصعاب والنكبات على صناعة وتشكيل فن السينما بل وإضافة رؤاهم الشخصية إلى ابداعهم بغرض التضخيم وتحويل هذه الرؤي من مجرد وجهات نظر لاتجاهات فكرية تترجم على الشاشة الكبيرة لتصل على شريحة من الجمهور في عصر السيادة السينمائية ثم شريحة أكبر من حيث العدد والتنوع العمري مع عصر التليفزيون الذى أعاد عرض الكثير من الروائع السينمائية المشبعة بالاتجاه الفكرى للرائدات وساهم في غرس وإعادة تأسيس فكرى ربما كانت سبب في مقاومة الكثيرين للمد المتشدد ضد الفن، وليست مبالغة اذ اقررنا بشكل قاطع أن جزء كبير من المدافعين عن حرية الفن ودور المرأة في صناعته وتقديمه قد تأثر بشكل او باخر بتجارب هؤلاء الرائدات حتى لا شعوريا.

 

ماجدة الصباحي ام سيدة الشاشة؟!

 

قد يتبادر للذهن أن الرائدات منهم فاتن حمامة بدعمها المستمر للصناعة وطول الفترة التي ظهرت فيها كممثلة فذة منذ طفولتها ومناوشتها مع الموسيقار محمد عبد الوهاب من خلال فيلم "يوم سعيد" طفلة ثم مراهقة تشارك الكبار أفلامهم ثم نجمة شابة تدعم الكثير من الوجوه الشابة من خلال وجودها  كعضو مؤثر وفاعل في عائلة ذو الفقار الفنية أو حتى كسرها للنمطية فى تصوير المرأة كانها السبب في كل الشرور والمغالاة في تبعيتها للرجل حسب قواعد المجتمع بشكل متدرج بداية من ظهورها بشخصيات مستقلة قوية لتتحول إلى مدافعة عن المرأة ومشاكلها بشكل صريح فى منتصف سبعينيات القرن وتكون سبب مباشر فى تغيير قانون الأحوال الشخصية بفيلم "اريد حلا".

الحقيقة أن هناك من سبق سيدة الشاشة إلى كل هذا وفى فتره مبكره، ماجدة الصباحى التي تحمست وأنتجت فيلم "أين عمري" عام 1965 وتصدرت بطولته مع زكي رستم، يحيي شاهين، أحمد رمزي، أمينة رزق، وبدأت تترجم تصورها الخاص لمواجهة القيود المجتمعية على المرأة التى مثلتها فى الفيلم على مراحل فى البداية اناء هش قابل للكسر تحافظ عليه الأم بصرامة ولا تجد اى مشكلة فى تزويجها لرجل فى عمر والدها فقط لتتخلص من هذا العبء لتنتقل من مرحلة الرقابة الصارمة التى لا تمنحها الحرية فى تكوين خبراتها إلى مرحلة التملك الذكوري للمرأة الممثل فى عزيز (زكى رستم)، ومن جانب آخر هناك الشاب الفاسد الذى يمثل الجانب السيئ المستغل للحرية دون اى مسئولية عادل (احمد رمزي)، وفى الوسط هناك المنطقه التى تبحث عنها ماجدة صانعة الأفلام ذات الفكر التقدمى صاحبة الـ25 عام وقت إنتاج الفيلم، علاقة الحب السوية الطبيعية بين عليه (ماجدة) ودكتور خالد (يحيي شاهين) شاب وشابه متعلمان ينجحان فى النهاية فى فرض رغبتهما على الجميع وتأسيس عالمهم الجديد، عليه هى النموذج للمستقبل فى الفيلم التى وسط كل الأمواج التى تضربها تحولت لكيان مشوه بسبب الأمراض المجتمعية والتسلط الممارس عليها لكنها على الرغم من ذلك لما تسئ استغلال الحرية التى نالتها.

ربما يكون هذا الفيلم هو المنهج الفكرى الواضح الذى تبنته ماجده وترجمته فى الأفلام التى تصدرت بطولتها أو أنتجتها أو كلاهما معًا، لكنها ايضًا لم تنغمس فى هذا الاتجاه الأجتماعى وحده بل رسمت اطار سياسى قومى فيما تقدمه  يتماشي من جانب مع الطرح المجتمعي الصاعد بقوة بعد ثورة 1952 والداعم للشباب وتفعيل دورهم -المرأةعنصر أساسى فيه- في المجتمع وكسر الكثير من العادات والتقاليد الجامدة، ومن جانب اخر تبنت ماجدة الطرح السياسي للمرحله وهو القوميه المصريه العربيه الافريقيه وذهبت بفيلمها "جميلة" عام 1958إلى دولة الجوار الجزائر واختارت النموذج النسائي المثالي وفق قواعدها، سيده ليست فقط متمردة علي القواعد المجتمعية القاسية لكن ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر ووضعت يوسف شاهين مخرجًا للفيلم وهي جميلة بو حريد المناضلة المقاومة وكتبت على أفيش فيلمها "ماجدة تهدى إلى الشعوب العربية القصة التى هزت الضمير الأنساني" وهى فقط فى الـ 27 من عمرها.

من هذان الفيلمان يمكن ببساطة تحديد الإطار الفكري ومنهج ماجدة في إنتاج واختيار أدوارها والتي كانت الأسبق والأكثر وضوحًا فى التعبير عنه من سيدة الشاشة فاتن التي كانت في تلك الفترة تقدم شخصيات نسائية مستقلة لها شخصية قوية لكنها لم تصل لحد التمرد والثورة علي القواعد الجامدة وتبني خط سياسي واجتماعي واضح قبل عام 1963 بفيلمها "الباب المفتوح" والذي يعتبره الكثيرون ايقونه في ما صنع من افلام داعمة لاستقلالية المرأة حيث جسدت فاتن مراحل تحول الشابة الثوية التى تبنى الوطن مع حبيبها وتقاوم المعتدى معه ومع أخيها، لكنه لم يكن منهجها بل الكلمات والثورة منسوبة فى الحقيقة للكاتبة لطيفة الزيات ولم يكن قبل 8 سنوات أخري حتى بدات بوادر تبنى فاتن حمامة قضايا المرأة ومقاومة التعسف ضدها بفيلم "الخيط الرفيع" عام 1971 ثم أربع سنوات أخرى ليظهر "أريد حلا" ثم الايقونات الأخرى  فى الوقت الذى لخصت ماجدة كل ما ترغب وحققت طفرة على مستوى الانتاج والفكر وحتى التمثيل فى فيلم "المراهقات" عام 1960.

 

إيزيس واللوتس.. وجهي عملة البداية

 

ربما تكون ماجدة صاحبة الريادة في تبني إطار فكري داعم للدفاع عن المرأة وحقوقها ضد المجتمع لكنها ليست الرائدة عندما نتحدث عن فكرة خوض امرأة شابة للانتاج السينمائى بكل صعوباته، فقد سبقتها مبدعة رائدة أخرى رسخت فكرة خوض سيدة مصرية الانتاج السينمائي واتخاذ قرارت صعبة في الوقت ذاته دون ان يخل ذلك بنجاحها علي الصعيد الشخصي في حياتها الأسرية أو المهنى كممثلة ، عزيزة أمير المنتجة والممثلة وصاحبه الرؤية والزوجة لفنان وصانع افلام هو محمود ذو الفقار والأم ليست فقط لأبنائها لكن لكل تفوق جاء بعدها في مجال خوض المرأة لفروع هذه الصناعة الصعبة عموما المعاصرين لها مثل أسيا داغر أو اللاحقين مثل ماجدة الصباحى.

عزيزة أمير امتلكت القوة والشجاعة لخوض المغامرة وإنتاج أول فيلم سينمائى مصري صامت وكانت أكثر شجاعة مع النكبات التى تعرض لها الفيلم الذى حمل عنوان "نداء الرب" فى البداية قبل أن يتسبب مخرجه القادم من تركيا وداد عرفى فى أزمة تداركتها هى مع أحمد جلال واستيفان روستى فيما يتعلق بالسيناريو والحوار وحلت مشكلة الإخراج مع استيفان روستى ليخرج فيلم آخر هو "ليلى"  ظهرت فيه كوجه جديد أسيا داغر الفنانة القادمة من لبنان لمصر والتى تشعبت وتوسعت مواهبها مع مرور وقت قليل لتصبح هى الأخرى رائدة كبيرة تمثل تفوق فى الهجرة بالموهبة وحسن إدارتها فى المناخ المناسب.

عزيزة كانت أسبق من أسيا فى خوض مشقة الإنتاج السينمائى بشركتها "إيزيس" وفيلمها كان المدخل لأسيا التى وجدت المناخ المناسب وقتها سواء في الحركة الفنية المزدهرة في القاهرة والتى جعلتها أشبه بهوليوود وسط المنطقة بأكملها وشجعها ان تفتح الباب علي مصراعيه وما ان تمر سنوات قليلة حتى تدشن شركة الإنتاج الخاصة بها وتختار لها أسمًا مصريًا قديمًا هو "لوتس" وبمساعدة ابنه اختها ماري كوينى التى ستتحول لمنتجه هى الأخرى تؤسس عائلة فنية كبيرة لم تدفع السينما المصرية فى المرحلة المبكرة والحرجه من عمرها فقط بل فى فترات لاحقة أقدمت مارى كوينى كما فعلت خالتها على مخاطرات إنتاجية فقط دعمًا للصناعه،  بكل نديه هذه السيدة القادمة من لبنان نافست الصانعة المصرية المغامرة التى لا حد لطموحها ورغبتها فى الريادة وكذلك الصناع المصريين الرجال وأسست امبراطورية واصبحت البذرة التى نمت وتفرعت وعلي الرغم من أصولها الغير مصريه الا انها نالت جنسيتها المصرية ان لم يكن بالقانون فبالواقع العملى الذى يصفها بعميدة المنتجين فى مصر كونت عائلة واختارت أن تنثر ابداعاتها هنا، صعدت من تحت مظلة عزيزة وانطلقت لفترة  أطول وهيئات مناخ لماجدة الصباحى التى حولت العملية لإطار فلسفي وفكرى اصبح اساسا لمن جاء بعدها،  3 أسماء علي الطريق سلمن الرايه لبعضهن البعض تطورت أساليبهم خرج من تحت رايتهن الكثير من الاسماء اللامعه حاليا والتي سنجد في اسلوبهم ملمح من الرائدات الثلاثة

     
     
 
 
 
     
 

 

حسن حداد

فبراير 2018

 

 

سينما داود عبدالسيد.. واقعية بلا حدود - البحث عن سيد مرزوق (نموذجاً)

 

كل فيلم جديد للمخرج داود عبدالسيد، يمثل تظاهرة سينمائية استثنائية.. ترى لماذا..؟! هل لأنه يقدم فيلماً كل خمس أو أربع سنوات.. أو لأنه يبقى في بحث دائم ودراسة متأنية لما سيقدمه في عمله التالي.. أو لنقل بأنه لا يجد المنتج الجريء والمؤمن به كفنان صاحب رؤية سينمائية وفكرية..؟! كلها أسئلة تنتظر الإجابة، لمن لا يعرف هذا الفنان المتميز، ولم يتعرف على مجموع أفلامه التي قدمها على مدى ربع قرن.

* * * *

منذ المشاهدة الأولى لفيلم (الصعاليك ـ 1984) باكورة أعماله الروائية الطويلة، يتضح جلياً بأننا أمام مخرج فنان ومفكر، يحاول تقديم فيلم ذو مضمون فكري وفني متميز.. فنان يبحث عن أسلوب مختلف في الطرح والأسلوب.. وتأكد ذلك مع أفلامه اللاحقة، حيث كان كل فيلم جديد له، بمثابة بحث متواصل عن العلاقات الإنسانية المتشابكة، بحث عن مكنون الإنسان النفسي والاجتماعي..!! فالمخرج عبدالسيد، بالرغم من قلة أعماله (8 أفلام في 25 عام)، إلا أننا نلاحظ هذا التأني والدقة المتناهية في الاختيار، من أجل تقديم سينما ذات مضمون فني وفكري متميز.. سينما حملها رؤية وأسلوب خاص.

نحن إذن.. أمام مخرج يحاول دوماً الخروج على السائد والتقليدي، والتحرر من أسر تلك السينما التقليدية العتيقة.. يصنع السينما التي يريدها، مهما كلف الأمر، حتى ولو بقى بعيداً عن صناعة السينما التي يحب أعوام وأعوام.

بدأ عبد السيد حياته العملية بالعمل كمساعد مخرج في بعض الأفلام، أهمها (الأرض) ليوسف شاهين، (الرجل الذي فقد ظله) لكمال الشيخ، (أوهام الحب) لممدوح شكري. ثم بعد ذلك توقف عبد السيد عن مزاولة هذا العمل.. (...لم أحب مهنة المساعد، كنت تعساً جداً وزهقان أوي.. لم أحبها، إنها تتطلب تركيزاً أفتقده.. أنا غير قادر على التركيز إلا فيما يهمني جداً.. عدا ذلك، ليس لدي أي تركيز...). ولهذا السبب، قرر أن يحمل الكاميرا وينطلق بها في شوارع القاهرة، يرصد الحزن والألم في عيون الناس، ويصنع أفلاماً تسجيلية اجتماعية عنهم. حيث قدم العديد من الأفلام التسجيلية، أهمها (وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم ـ 1976)، (العمل في الحقل ـ 1979)، (عن الناس والأنبياء والفنانين ـ 1980). وهي بالطبع أفلام قد حققت لعبد السيد فرصة للاحتكاك المباشر مع الناس، ومعرفة أوسع وأعمق بالمجتمع المصري بكافة طبقاته، إضافة إلى أنها أكسبته الإحساس بنبض الحياة المتدفق.

(...لم يكن ضمن طموحي في الطفولة أن أصبح مخرجاً سينمائياً، ربما أردت أن أكون صحفياً.. إلا أن ما غير حياتي هو ابن خالتي، وكان يعشق مشاهدة الرسوم المتحركة. وتطور معه الأمر لشراء كاميرا، وعمل بعض المحاولات في المنزل. وتدريجياً تعددت علاقاته بالعاملين في مجال السينما. وأذكر، وكنا آنذاك في السادسة عشر، أن أخذني لأستوديو جلال، وهو القريب من سكننا بمصر الجديدة، وكانوا يصورون فيلماً من إخراج أحمد ضياء الدين، الذي كنت أعرفه بحكم زمالتي وابنه في المدرسة. ما حدث يومها أني انبهرت بالسينما بصورة مذهلة. وهذا الأمر أفشل تماماً في تفسيره حتى الآن، المؤكد إنه ليس النجوم وليس الإخراج وليس التكنولوجيا، بل شيء آخر غامض حقاً.. قررت بعدها دخول معهد السينما...).

* * * *

على مدى خمسة عشر عاماً، ظل داود عبد السيد يصنع بأفلامه حواراً من طرف واحد.. حواراً مفرداته الصورة لا الكلمة، يصنع الحوار الصامت بالكاميرا. لكن عبد السيد لم يستطع الاستمرار في هذا الصمت.. شعر بضياع جهده، حيث لا يصل إلى جمهوره الحقيقي. فكان قراره بأن يكتب ويخرج فيلماً روائياً، ليخرج من دائرة الأفلام التسجيلية المغلقة، ويلتقي بالطرف الآخر.. الجمهور.. (...عشت أحلم بهذه اللحظة، وللأسف رحلتي مع الأفلام التسجيلية لم تحقق أي شيء، لأنه لا يوجد من يهتم بها.. وطالما نادينا بعرضها في دور السينما فبل الفيلم الروائي. من هنا وجدت أنه لا يمكن الوصول لعقل المشاهد إلا من خلال الفيلم الروائي الطويل...).

(...الفيلم التسجيلي يتيح لك حرية التجريب بدون خوف من الخسارة المادية مثلاً.. أقصد بالتجريب هو أن تعبر عن المضمون الذي لديك بصورة متحررة .. وحين تعبر فقد صار في إمكانك التجريب ، ولو نجح التجريب فستكسب الثقة فيه وتجد القدرة على المزيد منه...).

ولا ننسى الإشارة إلى أن جانباً من أسباب تأخر تجربة عبد السيد في مجال الفيلم الروائي الطويل، تعود إلى أنه قد رفض الاستمرار بالعمل كمساعد مخرج، وكان دخوله المجال الروائي من ميدان خارجي، ومظلوم إعلامياً، هو مجال الفيلم التسجيلي، الذي هيئه حقيقة لخوض المجال الآخر.. (...تخلصت من بعض الخوف من الكاميرا، وشعرت أنني قادر على تجسيد فكرة في شكل سينمائي.. هذا أعطاني ثقة في أني قادر على تجسيد فكرة، لا تكون مجرد ورق.. والجزء الأساسي في التعليم هو من كتابة السيناريو. فلا أرى أن هناك إخراجاً وهناك كتابة سيناريو.. عندما تتعلم كتابة سيناريو تتعلم الإخراج.. والأساسي الذي تتعلمه كيفية أن توصل فكرة...).

وخلال هذه الرحلة مع الفيلم التسجيلي لم ينسى حلمه، وهو إخراج فيلم روائي. لهذا كان يكتب القصص والسيناريوهات، حيث بدأ في كتابة أول سيناريو له بعد بضعة أشهر فقط من تخرجه من معهد السينما. البدايات كانت محاولات غير ناضجة، حتى كتب سيناريوهات (كفاح رجال الأعمال + الوباء + الصعاليك + بيت الست حياة).

ويقول عبد السيد: (...إن المحاولات الأولى لم تكن ناضجة بما يكفي، لكي تقنعني بمحاولة إخراجها للنور.. ولكن بمجرد انتهائي من أول أعمالي الناضجة (كفاح رجال الأعمال)، لم أتردد لحظة واحدة (...) وبالفعل تعاقدت على إخراج هذا العمل سنة 1980.. ولكن للأسف ولأسباب تخص المنتج، لم أتمكن من تنفيذ الفكرة...).

* * * *

هنا لابد لنا من الحديث عن مجموعة من المميزات والخصائص التي اتسم بها أسلوب داود عبدالسيد، باعتباره واحداً من الفنانين المتمردون على السائد، في بحثهم عن سينما مختلفة ذات أسلوب خاص يحمل رؤيته الفنية والفكرية، ومصراً على صنع السينما التي يريدها.. السينما الذاتية والخاصة به..!!

ذاتية الفيلم :

يؤكد عبد السيد في أحد تصريحاته الصحفية، بأن السينما الجديدة هي نتاج للسينما القديمة وتراثها. وأن السينما الجديدة ليست سينما مختلفة، وإنما لها طابعاً شخصياً. فذاتية المخرج تظهر في العمل بشكل واضح.. إنه يؤكد دائماً على السينما الذاتية.. (...أنا أقدم الموضوعات التي أشعر بها وأتفاعل معها، دون النظر لأي ظروف أخرى. والحمد لله فقد استطعت أن أقدم جزءاً يسيراً من أحلامي، وأتمنى بأن أوفق في تقديم الكثير من هذه الطموحات...).

كاميرا القلم :

ولتحقيق عبد السيد طموحاته في السينما التي يصنعها، فهو يكتب بنفسه سيناريوهات أفلامه.. أي أنه يتبنى مفهوم "سينما المؤلف". وهذا بالطبع يجعله في حرية فنية، يستطيع بها تجسيد ما يريده هو من رؤى فنية وفكرية، يصبح مسئولاً عنها مسئولية كاملة.. (...أنا أكتب لأنني أريد أن أخرج أفلامي. والحقيقة أنني أحب الكتابة، فهي مهنة صعبة ومتعبة، ولكني في الأساس مخرج أحاول أن أبحث عن كاتب يجسد رؤيتي على الورق، فلا أجده بسهولة...).

والكتابة ـ كما يقول عبد السيد ـ مهمة صعبة، باعتبار أن الكاتب يعمل على ورق أبيض، أي على فراغ، أما المخرج فعنده جسم يحققه. لذلك فتحقيق الرؤية في الكتابة، بالنسبة لعبد السيد، أصعب من تحقيقها في الإخراج. فعبد السيد لا يمانع في إخراج سيناريو لكاتب آخر، ولكن المشكلة كما يقول هي أنه لا يجد الكاتب الذي يشاركه نفس الهدف في العمل. لذلك فهو لا يرحب بإخراج سيناريوهات الآخرين.. (...أنا أقوم بكتابة أفلامي لأنني مؤمن بأنه يجب أن يكون هناك تفاهم كامل بين كاتب السيناريو والمخرج. ومن هنا فأنا لا أفكر لحظة واحدة في إخراج أعمال من تأليف الآخرين، مهما استهوتني الأفكار التي تطرحها...).

الحائط الرابع :

هناك خاصية أخرى لسينما عبد السيد، تتعلق بأماكن التصوير. فهو يفضل التصوير في الأستوديو على الأماكن الطبيعية، حيث يقول: (...لا أكره التصوير في الأستوديو، بالعكس أفضله، وهذه هي السينما. أن تكون لك الحرية في فتح الحائط الرابع للديكور، وأن تعيد الواقع في شكل قد يكون أقوى اكتمالا من الواقع...). وهو بذلك مقتنع بأن الأستوديو والديكورات هي ما يوفر الإمكانيات المثلى للتصوير. وهذا بالطبع لا يمنعه من اللجوء أحياناً إلى الواقع والأماكن الطبيعية إذا لزم الأمر.. (...لو كان في إمكاني بناء الميناء في الصعاليك، لما ترددت...).

من الواضح جداً بأن عبد السيد دقيق وحذر في اختياره لأماكن التصوير والديكور والإكسسوارات، وحريص أكثر على مطابقتها للواقع.. وذلك لإضفاء مصداقية وواقعية على كادراته، لتكون أكثر قرباً وإقناعاً للمتفرج. وعبد السيد، كما سبق وأشرنا، قد صور في الأستوديو وفي الأماكن الطبيعية، ولكن لا أحد يستطيع التفريق بين الإثنين، ولا يمكن أن ننسى ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ بأنه قد توصل إلى أعلى درجات الإيهام بالتماثل مع الواقع في فيلم (الكيت كات).

التواصل والتوصيل:

بالنسبة لقضية التوصيل والتواصل مع الجمهور، فهي قضية هامة تشغل عبد السيد، هذا لأنه فنان تهمه قضايا ومشاكل واقعه، بل وحريص على مخاطبة أكبر عدد من الناس. كما أنه في نفس الوقت يريد أن يكون راضياً عن عمله، ويحقق من خلال العملية الإبداعية نضجاً فنياً. إنها طبعاً معادلة صعبة، لكنه مصر على تحقيقها، بل ونجح فعلاً في تحقيقها، وأفلامه تشهد له بذلك. فهو يتحدث في هذا الصدد، ويقول: (...أريد فيلمي فيه الحد الأدنى من الجاذبية.. أحد أهدافي المهمة جداً هو الاتصال، وداخل هذا الإطار في الوصول، يقف الواحد ويقول: عايز أعمل اللي أنا عايزه، داخل إطار أن هناك مبدئياً جسراً بينك وبين الناس...).

سينما الشخصيات:

يهتم عبد السيد كثيراً بشخصياته أكثر من اهتمامه بالقضية المطروحة كقضية، مقتنعاً تماماً بأن أية قضية إنما تبرز عندما تتألق الشخصية وتعبر عن أحلامها وطموحاتها بصدق. وهو بذلك لا يبحث إطلاقاً عن حكاية تقليدية، وإنما يبحث عن نماذج وحالات نمطية تعيشها شخصياته. ثم أنه يقدم هذه الشخصيات ويتركها تعيش واقعها وتتصرف بتلقائية حتى ولو أدى ذلك إلى تصرفات لا أخلاقية.. إنه يتابعها فقط، ويقدمها كما هي.. لا يدينها بل ينظر إليها برحمة ويتلمس لها الأعذار والدوافع، ويتفهم حاجات النفس والجسد.. (...عندما أكتب أفلامي أكون في حالة خاصة ولا أتدخل في تطور الشخصيات، بل أتركها كما هي، تأخذ امتدادها الطبيعي...).

نهايات متعددة:

ويتميز عبد السيد بتقديم نهايات مختلفة عن التقليد في أفلامه. فبناء النهاية عنده يشكل أسلوباً خاصاً، حيث تبدو الأفلام متعددة النهايات. ففي مشهد من (الكيت كات)، عندما يظهر الشيخ حسني متوجهاً إلى عمق الكادر وهو يجر العربة التي تحكل جثمان عم مجاهد، يعتقد المتفرج بأن هذا المشهد، المؤثر والمليء بالحزن والأسى، هو النهاية.. إلا أن عبد السيد يتجاوز كل هذا الحزن، ليدفع بنا إلى أكثر مشاهد الفيلم مرارة وسخرية، وهو مشهد حديث الشيخ حسني في الميكروفون.. وبالرغم من عبثية هذا المشهد وجماليته كنهاية طبيعية للفيلم، إلا أنه لا يحقق لعبد السيد هدفه ورؤيته، ليعود إلى يوسف ـ بعد أن تخلص من عجزه ـ وهو منطلق مع والده في شوارع القاهرة في مغامرة مجنونة على الدراجة، لينتهي بهما المطاف في نهر النيل، مع إشراقة الصباح الرائعة، ليخرجان بثياب مبللة تجمعهما ضحكات صافية وساخرة، معلنة انهزام اليأس والإحباط والعجز. هذا ما أراد عبد السيد الوصول إليه في فيلم (الكيت كات).

الفرسان الجدد والسينما المختلفة:

يحاول مخرجنا داود عبد السيد ـ مع قلة من زملائه المخرجين ـ المغامرة بأفلام مختلفة، والخروج على التقاليد السائدة للسينما المصرية. ويجمع هؤلاء المغامرين شيء رئيسي واحد، وهو أن السينما بالنسبة لهم ليست وسيلة لأكل العيش فقط.. يقول عبد السيد: (...الترفيه جزء مهم لا ينكره أحد، والأهم هو كون السينما وسيلة تعبير، وهو ما لا نجده في السينما التقليدية. إن السينما من وجهة نظري شخصية.. وأعتقد بأن هذا هو ما يجمعني بمحمد خان وخيري بشارة وعلي بدر خان، مع اختلاف كبير جداً في الأساليب وفي الأفكار الفنية والسياسية وغيرها.. إننا مهتمون بالسينما كفن...).

 

البحث عن سيد مرزوق

(نموذجاً) 

خمس سنوات، هي الفترة التي أمضاها عبد السيد حتى يقدم فيلمه التالي بعد باكورة أعماله (الصعاليك - 1984). وهي بالطبع ليست فترة قصيرة بالنسبة لإخراج فيلم آخر. لكن البحث عن منتج يقتنع به وبأفكاره، كان أمراً صعباً، في ظل سينما يهيمن عليها التيار التجاري. إلى أن اتفق مع الفنانة سميرة أحمد على إنتاج فيلم له، وكان فيلم (البحث عن سيد مرزوق ـ 1990). إذ يتحدث عبد السيد عن تجربته في هذا الفيلم، فيقول: (...لن أسمح لنفسي بتنازلات في النوعية، والى اليوم أشعر أنني لم أتنازل والحمد لله. في تصوير سيد مرزوق شعرت في أكثر من يوم أنني أتساهل، أنني أتنازل، لأنه لا وقت لدي لشيء من التفكير، لشيء من التأمل. جزء من الاستمتاع بالعمل أن تتأمله، أن تكون مطمئناً أن كل مشهد صورته تناولته بطريقة صحيحة. أما أن ترجع البيت ولديك شكوك فيما صورته، فهذا هو الأمر المتعب، وقد عانيت منه في سيد مرزوق...).

وفيلم (البحث عن سيد مرزوق) عمل فني مختلف ومتميز، ليس فقط عن الأفلام المصرية السائدة، بل أنه يتميز أيضاً عن أفلام رفاق عبد السيد الذين وصفناهم بالفرسان، في مقدمة موضوعنا هذا. فقد حطم عبد السيد كل تقاليد الفيلم المصري البالية، بل وتجاوز الواقعية الجديدة التي صنعها الفرسان. وانطلق إلى آفاق فنية رحبة، وقدم أسلوب تعبيري أقرب إلى السريالي أو الفنتازي، على نحو لا مثيل له في السينما المصرية. هذا بالرغم من أن الفيلم لا يبتعد عن الواقع، بل ويعبر عنه بجرأة وصدق.

يتناول الفيلم، وبأسلوب جديد، يوماً حافلاً في حياة بطله يوسف كمال (نور الشريف)، وهو موظف يعيش ما بين عمله وبيته، في عزلة عن العالم منذ عشرين عاماً. نراه يستيقظ صباحاً كعادته ليذهب للعمل، لكنه يكتشف بعد خروجه من المنزل، بأن اليوم هو الجمعة وأجازة. هنا يقرر في أن يخرج من عزلته الطويلة هذه، ولو ليوم واحد، يقضيه خارج المنزل. وبالتالي يبدأ رحلة مليئة بالأحداث الغريبة عليه، ويلتقي بشخصيات عدة، أيضاً غريبة عن عالمه. ومع تطور استيعابه ـ تدريجياً ـ لهذا العالم، يشعر بخطئه بعزلته الطويلة تلك. ولكي يتطور استيعابه وينمو وعيه، بخروجه من هذه العزلة، عليه أن يصطدم مع الآخرين ومع السلطة أيضاً. فهو يلتقي بشخصيات غامضة تظهر وتختفي.. شخصيات تبدوا وكأنها متصلة ببعضها في لعبة ضحيتها هو، ومخططها وقائدها شخص يدعى سيد مرزوق.

والفيلم في تناوله وتشخيصه للمجتمع المصري في مطلع التسعينات، يتحدث عن أربعة عوالم يتكون منها الواقع الراهن. عالم السادة الذين يملكون كل شيء ويحميهم القانون، وعالم المطاريد الخارجين على السادة وقوانينهم، وعالم الغلابة القابعين في منازلهم، وأخيراً عالم المتمردين المشاغبين الذين يواجهون ويجابهون بقوة وشجاعة. وبهذا التقسيم للمجتمع، يدين الفيلم ـ وبعنف ـ تلك السلبية التي تكمن في أمثال بطله يوسف كمال، والذين سمحوا لبعض الطفيليين بأن يتبوؤوا مراكزهم في حاضرنا، وإنهم بسلبيتهم وعجزهم عن المواجهة، قد أتاحوا الفرصة لأمثال سيد مرزوق أن يفرضوا وجودهم وسلوكياتهم على واقع الحياة في مصر. فبطل الفيلم يوسف قد آثر العزلة، وأحجم عن الخروج إلى الحياة والمشاركة فيها، خوفاً وهلعاً وامتثالا لصوت قاهر أمره بالرجوع إلى بيته. ولأن الفيلم يرفض حالة الإذعان والامتثال والسلبية التي يعيش فيها يوسف، فهو بالتالي يقدم تحليلاً دقيقاً ـ عبر بناء درامي محكم ومتماسك ـ عن نقل بطله من حالة الهزيمة الداخلية إلى حافة الفعل المجهض والتمرد الأخرس.

في بداية الفيلم، ومنذ اللحظات الأولى، يكتشف يوسف عالم سيد مرزوق ويقع أسيراً له.. بل ويعلن بصراحة وبراءة «أنا بحب سيد مرزوق.. أنا عايز سيد مرزوق». إلا أنه يدرك، وعبر رحلة يوم واحد فقط، مدى زيف هذا العالم الذي انبهر به، ومدى توحشه وكذبه. فسيد مرزوق هو نموذج لعالم السادة المتحكمين في كل شيء.. عالم بدأ يزحف ليستعيد مواقعه السابقة.. عالم نجح تماماً في أن يتسيد عن طريق ثروته ونفوذه. هذا بالرغم من أنه عالم يتصف بالسوقية والابتذال والخواء الروحي، والمستند أساساً على تاريخ مزيف، ساعياً نحو لذائذ الحياة بتطرف، حتى ولوكان ذلك على حساب العوالم الأخرى. ومع ذلك النمو المتواصل لوعي يوسف كمال، نتيجة توالي الأحداث وتأثيرها عليه، يقرر مواجهة سيد مرزوق والتمرد عليه. فهو يشعر برغبة في التحرر والتحدي، إذ يعلن في ثقة «ح أقتلك يا سيد مرزوق»، وبذلك يعتبر من عالم المطاريد في نظر السلطة، التي تحمي سيد مرزوق.

وهنا لا يفوتنا الإشارة إلى أن الفيلم يقدم هجائية متواصلة للسلطة/ الشرطة، ممثلة في رجلها المقدم عمر وبقية رجال الأمن والمباحث، وذلك من خلال عشرات المشاهد المشحونة بالتفاصيل الصغيرة الموحية. فنحن مثلاً نفهم بأن الذي أمر يوسف بالرجوع إلى منزله، هو مخبر.. والذي يطارد شابلن المصري ويقاسمه في رزقه هو عسكري أو ضابط.. ويد المقدم عمر هي التي تضغط على جرح يوسف وتؤلمه، حين يدعي بأنه يربت عليه ويعتذر منه.. ورجال عمر هم الذين يقتحمون الحضّانه.. وكلابه هي التي تسعى لنهش جسد يوسف وحماية جسد سيد مرزوق. إن السلطة/ الشرطة، كما قدمها عبد السيد في فيلمه هذا، مشغولة بحماية حرية السيد، وتكبيل حرية المسود.

وفي مشهد موحي ومؤثر، يعلِّم عبد السيد يطله درساً بليغاً، حين يقول بأن الحرية أقرب إلينا مما نتصور، وإن القيد الحديدي، أو أي قيد آخر يكبلنا، من السهل التحرر منه إذا امتلكنا الإرادة. جسد عبد السيد هذا المعنى في مشهد يظهر المقدم عمر وهو يحرر قيد يوسف، حيث نرى كيف أن القيد يخرج بسهولة من معصم يوسف، وهو الذي ظل يربط يوسف بالكرسي، وجعله يحمله على كاهله أينما ذهب، متوسلاً عمر كي يفكه. وتركيز الكاميرا على الكرسي، والقيد يتدلى منه، لهو تأكيد بالصورة على أن الحرية أقرب إلينا من حبل الوريد، إذا شئنا أن نراها وفكرنا في انتزاعها.

ثم لا ننسى الإشارة إلى وجود ذلك الشيء الوحيد الذي كان يهون على يوسف رحلته ومشواره اليومي ذاك.. ألا وهو وجود تلك الشخصية، والغامضة أيضاً، في ثنايا يومه الصعب. فمنى أو عبلة أو رضا أو نجوى، كلها أسماء للشخصية التي تلعبها الفنانة آثار الحكيم.. شخصية تحلم بالسفر والانسحاب من هذا الواقع غير المتعاطفة معه، والذي يحاول امتلاكها دون أن يكون مؤهلاً لذلك.. شخصية ترمز إلى ذلك الشوق الغامض للحب، وتبدي بعض التعاطف نحو يوسف، الذي يهيم بها دون أن يعرفها. حيث تبدو، كلما ظهرت في مشهد أو في لقطة، كقطرة ماء في صحرائه المجدبة. ولا يستطيع الإمساك بها إلا في اللحظة التي يقرر فيها أن يكون إيجابياً. وفعلاً أصبحت هذه الشخصية بمثابة القوة الدافعة ليوسف للخلاص من سيد مرزوق وعالمه.

نحن في (البحث عن سيد مرزوق)، أمام سيناريو خلاق يتصف بالدقة والحذر، ويبلغ درجة عالية من الحرفية والإحكام، هذا إضافة إلى اهتمامه بكافة التفاصيل الكبيرة والصغيرة. وربما نلاحظ، ويلاحظ المتفرج أيضاً، ذلك الانقطاع واللاتتابع في العلاقة بين كل مشهد وآخر. هذا لأن عبد السيد، في كتابته للسيناريو، اعتمد على منطق اللاوعي، وعبر عن منطق الحلم أو الكابوس، في بنائه السردي، دون أن يجعلنا نفقد الصلة بالواقع. وبحكم تعدد مستويات الفيلم، فهو لا يفصح عن نفسه بسهولة، بالرغم من إيغاله في الواقعية. وذلك بسبب عملية الترميز التي بدت مكثفة وشديدة التركيز.

وهذا هو المنطق الخاص لأسلوب السرد الفيلمي في (البحث عن سيد مرزوق)، وعلينا نحن كمتفرجين ـ قبلنا هذا أو رفضناه ـ مشاهدة الفيلم بمنطقه الخاص، وليس لنا فرض منطق آخر دخيل عليه. علماً بأن عبد السيد قد نجح، إلى حد كبير، في دعوتنا للتعامل مع منطق فيلمه هذا منذ البداية. كما يبرز أيضاً، ذلك الاعتماد من عبد السيد على منطق الصدفة في أحيان كثيرة، إلا أن هناك ما يبرر هذا. وهو أن السيناريو، في تناوله لمشوار أربعاً وعشرون ساعة متواصلة، قد اهتم أساساً بشخصياته. وهذا ـ بالطبع ـ لا يعني الفوضى في السرد الدرامي والتنامي الحدثي، فالسيناريو يراعي وحدات الزمان والمكان والموضوع الكلاسيكية، بل ويلتزم بها بشكل واضح. فالزمان: أربعاً وعشرون ساعة من حياة موظف في وقتنا الحاضر. والمكان: مدينة القاهرة. أما الموضوع: فهو عن حيرة مثقف الطبقة المتوسطة وأزماته الفكرية والروحية، وبحثه الدائم عن العدالة والحرية. يتحدث عبد السيد في هذا الصدد، فيقول: (...وجهة نظر المتخصصين درامياً، ترى أن يكون لكل شيء يقدم نتائج حتمية وواضحة جداً. ولكني أرى أن الحياة ليس فيها ذلك، فليس شرطاً أن يبدأ الفيلم بالبداية وينتهي بالنهاية المتوقعة كالزواج أو الموت. أنا لا أحب الدراما المغلقة بين قوسي البداية والنهاية، وأرى ضرورة وجود توازن بين الضرورة والتلقائية.. كل شيء لا بد أن تكون له ضرورة، ولكن في نفس الوقت لا بد أن تكون هناك تلقائية الحياة.. أنا أحب ذلك، ويجب أن تكون التلقائية ضرورية...).

أما بالنسبة للإخراج، فقد كان عبد السيد أيضاً دقيقاً جداً، إذ يقدم أسلوباً خاصاً للإخراج يتناسب وذلك السيناريو الخاص. فلكي يقنعنا عبد السيد بذلك المنطق السردي اللاواعي للسيناريو ـ مع إصراره على تقديم الأماكن والشخصيات بشكل واقعي ـ يصبح عليه كمخرج اختيار زوايا خاصة للتصوير، وأحجام خاصة للقطات، وإيجاد علاقات خاصة بين الصوت والصورة وبين الضوء والظل والألوان. وهذا ـ بالضبط ـ ما نجح عبد السيد في تجسيده، بجهوده وجهود فريقه الفني، الذي أدرك بالفعل تلك الخصوصية للإخراج، وهي خصوصية تقوم على التناقض بين الواقعي واللاواقعي. فبالرغم من مراعات الإضاءة لحركة الزمن الطبيعية، إلا أنها تتجاوز الواقع في مشاهد كثيرة.. كمشهد المقابر مثلاً. كما أن المونتاج كان دقيقاً في ضبط حركة الانتقال بين مشهد وآخر.. من انتقال بالقطع الحاد إلى غيره، كالإظلام التدريجي، هذا إضافة إلى خلق إيقاع تراجيدي متناغم بين لقطات الفيلم ومشاهده. ثم لا ننسى دور الموسيقى التي عبرت بصدق عن ذلك الواقع الفكري والروحي للفيلم. وفي صدد حديثه عن (البحث عن سيد مرزوق)، يقول عبد السيد: (...كان فيلماً مرهقاً بالنسبة لي، وطيلة التصوير كنت أشعر بقلق.. بخوف من أن تأتي النتيجة غير جيدة. لأنني كنت مرهقاً، أعمل حوالي أربع عشرة ساعة في اليوم. إنما عندما بدأت في تركيب الفيلم، شعرت بقيمته. لا أقول إنه خالٍ من نقاط الضعف، مؤكد أنه كان من الممكن الاعتناء به أكثر من ذلك، ولكن النتيجة تبدو معقولة.. أراها جيدة...).

و(البحث عن سيد مرزوق) فيلم مثير للاهتمام على أكثر من مستوى. فالفكرة والأسلوب جديدان على منهج السينما المصرية، وإسقاطاته الرمزية على الواقع متعددة. هذا إضافة إلى منهج الأسلوب الفنتازي السريالي، الذي حاول عبد السيد ونجح ـ إلى حد كبير ـ في إضفائه على الفيلم، وذلك رغم الفقر التكنولوجي الذي تعاني منه السينما المصرية. وبالتالي افتقار المخرج لبعض أدوات التعبير المناسبة لمثل هذا الأسلوب في الإنتاج. إلا أن الفيلم قد أثار جدلاً كبيراً عند عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي، وحصل على جائزة الهرم الفضي من لجنة التحكيم في المهرجان. كما حصل على ثلاث جوائز في مهرجان جمعية الفيلم السنوي، وهي: أفضل ممثل ثانٍ، أفضل صوت، أفضل تصوير.

وبالرغم من كل هذا الاحتفاء الفني بالفيلم، إلا أنه لم ينل ذلك النجاح الذي يستحقه في عرضه الجماهيري، حيث لم يستمر عرضه سوى أسبوعين.. إلا أن عبد السيد يبرر ذلك، فيقول: (...عدم استمرار الفيلم في دور العرض كان لأسباب خاصة بظروف عرضه، فالفنانة سميرة أحمد (منتجة الفيلم) لم تقم بعمل الدعاية المناسبة له. كما أن موعد عرضه جاء عقب انتهاء مهرجان القاهرة السينمائي، وهو موعد غير ملائم للأفلام المعروضة بعد المهرجان، بعدما يكون جمهور السينما قد حصل على جرعة سينمائية كبيرة من الأفلام...).

     
     
 
 
 
     
 

 

خالد عبد العزيز

فبراير 2018

 

 

من علامات الموجة الجديدة في السينما المصرية - داوود عبد السيد الفليسوف

 

ظهر مصطلح الواقعية الجديدة للمرة الاولى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبعد تهدم وتدمير الأستديوهات في ايطاليا، لم يجد صناع السينما سوى الشارع لتصوير أفلامهم، فجاءت تجاربهم مُعبرة عن الواقع، مثل المخرج الايطالي " دي سيكا "في فيلم " سارقوا الدرجات "، وفيلليني وغيرهم من المخرجين، ليُطلق علي أفلام تلك المرحلة " الواقعية الجديدة " في اشارة الى واقعية تختلف عن السينما الايطالية المعاصرة.

مقدمة تاريخية

وفي مصر ظهرت حركة السينما الجديدة بعد تخرج الدفعات من معهد السينما عام 1963 ومع بداية عمل القطاع العام حتى حلت هزيمة يونيو 1967 ومظاهرات الطلبة عام 1968، ليبتدل الوضع وتصبح الرغبة هي التعبير عن المجتمع سينمائياً، وتحديداً بعد انشاء المركز القومي للأفلام التسجيلية القصيرة عام 1967، لتظهر أفلامهم في تأثر واضح بالموجة السينمائية الجديدة في فرنسا وبريطانيا والمانيا الغربية. ومن هذه الحركة ظهرت الواقعية الجديدة للسينما المصرية في الثمانينات بأفلام لا تُعبر عن الواقع الاجتماعي فقط بل امتدت إلى الفانتازيا والسيرة الذاتية والكوميديا وغيرها من الأفكار والرؤى. ومن أبرز روادها محمد خان وعاطف الطيب وداوود عبد السيد.

داوود عبد السيد .. الفليسوف

يقول الناقد " سمير فريد " في كتاب الواقعية الجديدة في السينما المصرية " الفرق بين الفنان السينمائي والمخرج السينمائي أن الأول يصنع الأفلام تحت ضغط حاجات روحية وفكرية، اما الثاني يصنع الأفلام تحت ضغط حاجات أخرى ". وبتطبيق تلك المقولة على المخرج " داوود عبد السيد " سنجد أنه ينتمي وبجدارة للنوع الاول، فهو ليس مخرجاً عادياً بل فيلسوفاً يمارس الأخراج. يُعبر عن رؤاه تجاه الانسان والمجتمع والعالم بطريقة تخصه وحده، باعثاً السؤال تلو السؤال، ليس بالضرورة أن تُشفى بالاجابة، لكن تظل الرغبة في الفهم وطرح الأفكار هي الباعث الرئيسي لإبداعه.

بدأ داوود عبد السيد العمل في السينما منذ تخرجه عام 1967 في معهد السينما كمساعد مخرج في فيلم الأرض للمخرج يوسف شاهين، كما عمل مع المخرج كمال الشيخ وممدوح شكري، ليترك بعدها مهنة المساعد ويتفرغ للأفلام التسجيلية، لينجز من خلالها العديد من الافلام المهمة مثل فيلم " عن الناس والأنبياء والفنانين " عام 1980، ليكون ذلك الفيلم هو المحطة الأخيرة في رحلة الفيلم التسجيلي، لتبدأ مرحلة أخرى ممتدة في الفيلم الروائي، كانت إنطلاقها بفيلم الصعاليك عام 1985، ليبرز بعدها اسم داوود عبد السيد. لكنه يبحث لمدة ستة سنوات عن منتج لفيلمه الكيت كات المأخوذ عن رواية مالك الحزين لإبراهيم أصلان، حتى يتحمس المنتج " حسين القلا " للتجربة ويخرج الفيلم للنور عام 1991، ليصبح من ايقونات السينما المصرية وواحداً من أهم مائة فيلم في تاريخها، ليخرج بعد ذلك فيلم أرض الأحلام من تأليف هاني فوزي، ليعود مرة أخرى في عام 1995 لكتابة السيناريو بفيلم سارق الفرح المأخوذ عن قصة لخيري شلبي. ويصل للذروة عام 2000 بفيلم أرض الخوف الذي قام بكتابة السيناريو والحوار له، ليتجه بعد ذلك لإخراج فيلم مواطن ومخبر وحرامي عام 2001، لينتظر بعدها 9 سنوات حتى يظهر فيلم رسائل البحر، ثم نصل لأخر أعماله فيلم قدرات غير عادية عام 2015.

تسعة أفلام روائية فقط أبدعها "داوود عبد السيد " طوال ستون عاماً من العمل، قد يبدو الرقم ضئيل مقارنة بغيره من أبناء جيله، لكن بقليل من التأمل لعوالم داوود التي يخلقها في أفلامه والتي تهتم بالإنسان في المقام الأول، سنجد أن ذلك الرقم رغم ضألته ألا أنه شديد الثقل والتكثيف، فكل فيلم من هذه الأفلام يُمثل حلقة تتصل بالفيلم الذي يليها، وكل حلقة منها تطرح العديد من الرؤى والقضايا المُحملة ببعد فلسفي عن ماهية الإنسان في هذا الواقع الذي يتغير ويتبدل باستمرار. وفي هذا الإطار اخترت نموذجاً من أفلام داوود نتناوله بالتحليل .. وهو فيلم رسائل البحر، الذي كتب له السيناريو والحوار وأخرجه عام 2010 وحصل عنه على العديد من الجوائز مثل جائزة أفضل إخراج في المهرجان القومي للسينما المصرية.

رسائل البحر .. ذلك العالم لا يشبهنا

قد يبدو ظاهرياً أن الفكرة الرئيسية لفيلم " رسائل البحر " تدور حول قصة حب، لكن هذا ما يبدو على السطح، لكنه يحوي معنى اخر باطنياً شديد الحساسية وهو ببساطة أن ذلك العالم خانق، يكبت الحرية، يدفع نحو البعد والإنزوء حتى يحتفظ الانسان بذاته كما هي على فطرتها.

تدور الأحداث حول يحيى ( آسر ياسين ) الطبيب الذي يُعاني من التلعثم مما يُعيقه عن ممارسة حياته بشكل طبيعي، ليعمل صياداً في الأسكندرية بعد تركه لمنزل الأسرة، لتبدأ رحلة بحثه عن ذاته.

في بداية الفيلم نرى مشهداً يجمع بين " يحيى " وشقيقه قبل سفره للولايات المتحدة يُخبره فيها أن منزل الأسرة أصبح كبيراً عليه، ليأتي رد " يحيى " التلقائي بأن ذلك المنزل أصبح صغيراً عليه، في اشارة بأن تلك الحياة التي كان يعيشها من قبل في ذلك البيت تخنقه وتحاصره، ولا تجعله يلتفت لنفسه بالشكل الكافي، فيلجأ للهروب بعيداً عن هذا العالم وذلك الماضي الذي لم يصب شخصيته سوى بالكبت. ذلك الكبت والحصار الذي يحاول يحيى طوال الفيلم أن يتخلص منهما، بسعيه لعالم جديد، باحثاً فيه عن دفء مفقود في حياته التي غطى فيها الجليد مسام روحه، فنجده أحياناً يبحث عن الدفء في الموسيقى التي يسمعها تحت المطر غير عابئ بأي شيء، فقد رسم السيناريو شخصية يحيى تواقة للحرية، مُحبة للحياة، فحالة التلعثم التي يُعاني منها ما هي ألا حالة رمزية لما تُعانيه نفسه من قهر، وبالنظر الى حياته سنجد انه مفعول به وليس فاعلاً، لم يختر شيئاً حتى مصيره لم يكن بيده، فدراسته للطب كانت تحقيقاً  لرغبة أسرته. وبالتالي حينما اتيحت له الفرصة للخروج من منزل الأسرة، لم يتوان عن تنفيذها، لينتقل الى الاسكندرية التي لم تكن هجرته إليها مجرد هجرة عادية، لكنها هجرة تحوي بحثاً عن الاحتواء والدفء، كان البحر هو الوحيد القادر على على اعطائها، فهو الحاوي والملاذ.

يلتقي يحيى بنورا ( بسمة ) في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم،  تسير نورا بالمظلة تحت المطر، تدعوه للرفقة تحت المظلة، يقبل دعوتها بأن يسيرا سوياً تحت مظلتها حماية له من المطر، لتبدو العلاقة منذ البداية وكانها تحتويه تبعث إليه بالأمان والدفء الذي يبحث عنه. لتظهر العلاقة بينهما رغم تشابكها وتعقدها مُفعمة بالدفء والشاعرية، كل منهما يحتاج الأخر، يبحث عن شيء لا يجده سوى عند الطرف الثاني، يحيى الباحث عن ذاته التواقة للحياه والدفء، حيث نراها في أحد المشاهد وهي تقف في مواجهة يحيى وظهرها للشمس، وكأنها هي الباعثة والحاوية للدفء، وبالتالي نجد ان حالة التلعثم تقل تدريجياً وهو في صحبتها، على عكس حالته الطبيعية حينما يكون بمفرده. أما هي تبحث عن حياة جديدة تُلهمها روح أخرى بدلاً من حياتها الأشبه ببائعات الهوى، حياة تعتد بروحها أكثر من جسدها، فالعلاقة بينها وبين زوجها أشبه بالعلاقة مع بائعة هوى، وبالتالي تنساق هي كلياً في تلك الحياة، وتُصدر تلك الصورة ليحيى، حتى يقتنع تماماً بها. وهنا تتطور الأحداث للأمام، كل منهما يرغب في الأخر، لكن كل منهما يُحيط به عوائق تمنعه من الأستمرار، سواء كانت تلك العوائق خارجية مثل علاقة نورا بزوجها، او داخلية مثل عدم تكيف يحيى مع صورة نورا كبائعة هوى، وعدم قدرته على قبولها كما هي، لنلمح اشارة ثرية عن قبول الأخر مهما كانت درجة اختلافنا معه.

التقط السيناريو الحس الكوزموبوليتاني للأسكندرية وعبر عنه بشكل جيد، من خلال زاويتين، الأولى من خلال الشخصيات والثانية من خلال الصورة، فقد جاء اختيار الشخصيات متنوع ومقصود ومُعبر، جيران يحيى الايطاليين فرانشيسكا (نبيهة لطفي) وكارلا ( سامية أسعد )، وأيضاً صديقه قابيل (محمد لطفي)، كل شخصية منهما محملة بثقافتها وتاريخها المختلف عن حياة يحيى، لكن يجمعهم أولاً المكان، وثانياً العلاقات الإنسانية. أما الناحية البصرية، فمن خلال الفوتومنتاج الذي التقط بنايات الأسكندرية الأثرية ذات الطابع الإيطالي على انغام موسيقى راجح داوود الشجية.

كما عبر السيناريو عن التغير والتبدل المجتمعي الذي طرأ على مصر في السنوات الأخيرة، من خلال شخصية الحاج هاشم الذي يرغب في هدم العقار لبناء مول تجاري، رغم ان ذلك العقار يُمثل تاريخاً ومظهراً جمالياً هو بالتأكيد بعيد كل البعد عنه، كل ما يعنيه هو تحقيق الربح والمكسب السريع، هو نموذج للعشوائية التي تسيطر على المجتمع، ففي أحد مشاهد الفيلم نراه وهو يُخبر يحيى بأنه يصطاد السمك بالديناميت، مما يعود عليه بأكثر من عشرون كيلوجراماً يومياً، على عكس يحيى الذي يصطاد السمك بالطريقة التقليدية، كل منهما مختلف عن الأخر، وهنا أيضاً تنشأ نقطة صراع، يحيى لا يرغب في التخلي عن المنزل، والحاج هاشم يسعى لهدم المنزل، ليتطور الصراع بينهما، حتى يُطرد يحيى ونورا من المنزل ولا يبق سوى البحر هو الملاذ لهما، فنراهما في المشهد الأخير من الفيلم وهما بداخل القارب في البحر وجثث الأسماك التي قتلها الحاج هاشم بالديناميت متناثرة حولهما، لتبدو الصورة مُعبرة عن الحصار الذي يعُانيان منه القبح والموات يقبع في كل ركن من حياتهما.

رسائل البحر فيلماً شديد الشاعرية والعذوبة، تجربة شجية دافعة للتأمل في ذلك العالم الذي يكبت أرواحنا ببلادة.

     
     
 
 
 
     
 

 

صفاء الليثي

فبراير 2018

 

 

خيري بشارة في السينما الأمريكية المستقلة - موندوج: فيلم خارج التصنيف

 

"نبح أبي في وجهي: لا تنبح في وجه الطبيعة أم الكائنات أيها الغبي. وتركني أبي مع أمي، ونط فوق سور البستان".

(من حكاية على لسان كلب .. يحي الطاهر عبد الله) يجري فيها حوارا مع أبيه وهم في أسرة من الكلاب البلدية، هل تأثر خيري بالجنوبي الذي أخذ عنه سيناريو فيلمه الهام "الطوق والأسورة" أم أننا إزاء كلب آخر مخلط اختاره بشارة أسودا ، هرب من هيئة البشر إليه حبا في الإخلاص وطاقة الحب التي يتميز بها الكلب. الحكاية الرئيس في فيلم "كلب القمر" عن اختفاء الأب وهربه في هيئة كلب، مختلطة مع الفيلم الذي يصوره خيري بأمريكا، ومع حكايات الابن والابنة والزوجة وحكاياته التي يمكن اعتبارها سردا وثائقيا بصوت كل منهم، في الفيلم أيضا زوج الأخت يحكي قصة هجرته مع الأخت وكيف طلبوا الجدة لتبقى مع الحفيد ترعام، نحن إذن بصدد عمل مركب من مشاهد تمثيلية وأخرى تسجيلية أقرب إلى عمل من أعمال السينما المستقلة التي تصلنا من أمريكا، سينما قليلة التكاليف، مصورة بكاميرا ديجيتال، لا تهدف إلى العرض في سوق داخلي ولا بالسوق العالمي، فيلم حققه صاحبه كمبدع يفضل حريته وقدرته على التجريب ، يصور الفيلم على مراحل طبقا لحالته المزاجية، يقوم بالمونتاج بنفسه، إنه عمل خاص به وبأسرته سينتهي منه عام 2012، هل حققه لمتعته الشخصية؟

الفيلم لم يكن متعة شخصية ولكن رحلة عبر ١٢ سنة (بداية التصوير عام ٢٠٠٠ وإنجازه عام ٢٠١٢) فيه أوجاعي وآالامي الخاصة، ولذلك هو بمثابة التطهير، ومعه تحررت من الماضي وتوازنت.

فقط في العام الحالي وبعد مرور خمس سنوات يضعه على موقع "فيمو" كشريط خاص ويرسله لأصدقاء ينتقيهم ، تصله ردود أفعال إيجابية ويكون السؤال ، لماذا أجل عرضه خمس سنوات طوال، ولماذا لا يدفع به ليوزع ويشاهد على نطاق واسع، لماذا لم يعرضه عرضا عاما حتى الآن؟

أنا صنعته وأحسست بجهد الرحلة ولَم أبالي بتوزيعه لأنني لم أاصنع فيلما لأحقق مكاسب مالية، ولكن من دفعني إلى خطوة Vimeo هم الآخرون.

عام 2007 أجرينا حوارا مع خيري للعدد الثالث من مطبوعة النقاد (عالم السينما) أجرى الحوار معه الناقد أحمد يوسف وأنا معه، في الحوار حدثنا خيري عن عمله هذا وكان فكرة لم تختمر، وتلى علينا جزءا من التعليق كان منتشيا كامرأة حبلى بوليد انتظرته طويلا، قرأ : هذا ليس صوتي، وتلك ليست لغتي، وهذا ليس أنا، أنا مصري قبطي) عشق قلبه آذان المساجد الذي يأتي من بعيد كرقة النسيم، لقد عشت كل حياتي الماضية أعشق بلدي، أعشق رائحة بلدي وناسها، ثم استيقظت ذات يوم على " أنا آخر "  لم أعرفه ولم أكن أرغب أن أعرفه، من أنتم؟. خيري في مواجهة الكاميرا يخاطبنا من شرفة منزله في " موندوج" بهذا التقديم كافتتاحية للفيلم. أنا كنت منزعجا لأنني استيقظت يوما ما لأكتشف أنني مسيحي، في العوامة ٧٠ كان اسمي أحمد، وهذا هو مغزي كلامي في بداية الفيلم قبل التترات.

وتكتب العناوين روبرت ابني، مونيكا زوجتي،ميرندا ابنتي ، عايدة أمي وهكذا، صور فوتوغرافية خاصة لأسرته الوالد والوالدة ، وأثناء العمل منها خيري مع أبطال فيلمه الهام " عبد العاطي صائد الدبابات"  الفيلم لخيري ولكن روبرت الابن هو من يحكي، سبب هذا لي اعتقادا بأنه عمل مشترك بين الابن والأب، الابن يحكي عن حب أبيه للمرأة النحيفة بشعر مقصوص كما الصبيان (الآجرسون) وصور من فيلم جودار " اللاهث" الذي يعشقه خيري. نعرف أن خيري اقتنى كاميرا ديجيتال صغيرة ليصور أول فيلم في أمريكا، وبها نشاهد مونيكا وروبرت في شارع أمريكي حيث الغناء والعزف. يترك خيري لقطة لزوجته وهي تتكعبل في رصيف، كان من الممكن أن يحذفها، الحركة وابتسامة مونيكا الخجلى تعطي انطباعا بارتباكها في بلد غريب. ومنه إلى مشهد لزواج الابنة في حفل نهاري بكنيسة وزفاف بسيط. ثم بورتريه عن الأم البولندية ، روبرت هو من يحكي وصور فوتوغرافية تقربنا لصورة العلاقة بين الأب العاشق ومعشوقته التي تشبه بطلات جودار ينقلها لنا الصور بالأبيض والأسود، لقطة ملونة لروبرت طفلا يحمله عزت العلايلي ومعه شريهان، بطلي فيلمه التحفة " الطوق والأسورة "، ميرندا الابنة تحكي بفخر كونها نصف بولندية، ثم عيد ميلاد الحفيد، حتى الآن نحن نشاهد بورتريه عائلي تسجيلي، خيري ومونيكا في المنزل، الابنة المتمردة كأبيها تصرح للأم برغبتها في الخروج من شرنقتها عبر خطابات متبادلة مقروءة بصوت ميرندا.

ومن لقطة لبجع أبيض مرفرف في ثلوج أمريكا  سيعود إليها خيري أكثر من مرة لتصبح موتيفة عن الرغبة في التحررمنها ندخل تدريجيا في السرد الروائي ، تصاب الأم بفيروس نادر،  مونيكا في أداء تمثيلي مع روبرت تمسح دموعها وتخبره أنها لا تريد السفر إلى أمريكا فكيف ستترك فريسكا كلبتها العجوز الحبيبة.  تستطرد في البوح وينقلنا خيري مع لقطات (هوم فيديو) تصوير منزلي وتقاطع مع لقطة البجع، روبرت 16 عاما ولكنه يبدو لمونيكا أكبر من عمره، ينبهها أن السنوات مرت وأنهم الآن عام 2008 ، تنتهي الوحدة المشهدية التمثيلية بطلاها روبرت بشارة ومونيكا كوفالتشيك بقولها ( إننا نحلم ولكنه حلم من ؟).  أنا غبي فيما يتعلق الأمر بالبزنس والمال، وكنت أعامله ك home video لأنه كان صادما للكثيرين حين عرض في مهرجان دبي ٢٠١٢ وعاقبته لانه في ذلك الوقت كان” underrated” وكأني أقول طز، كأنني لم أصنعه، للأسف تلك هي عادة ردود أافعالي أمام الصدمات.

ينتقل خيري إلى عائلة فهمي زوج الأخت، رجل مسن على عكاز، يحكي عن هجرته كمسيحي ويتحدث عن خيري الذي اختفى، ثم الأم عايدة في عدة لقطات صامتة، ثم كريم زوجة الابنة ينتقد تغير الطبقات وخطابها في أمريكا، ميرندا تغير الحديث لتحكي عن مطعم (الوردة المعفنة) وأن والدها (خيري بشارة) سيحبه، إنه الغائب الحاضر في أحاديث الأسرة وخاصة بعد اختفائه، ونعرف من روبرت راوينا الأساس أنهم تركوا نيوجيرسي إلى نيويورك للبحث عن الأب المختفي. أنا لم أوافقه عن هجرته بسبب كونه مسيحي ولكنني عرضت وجهة النظر السائدة عند الأقباط،عن نفسي أرى أن المضطهدين حقيقة هم المسلمين لأنهم الأغلبية التي تعاني من التهميش الاقتصادي والسياسي، ومشكلات الأقباط مهما كانت تافهة، هي مشكلة وطن ومواطنة وليست أديان.

ومع أغنية مصرية ومناظر من مصر، موتيفة أخرى ستتكرر عربة كارو تحمل تلاميذ مدارس في طريق زراعي بمصر، ونعرف وجهة نظر مونيكا التي بنت جذورا بمصر ولم تكن ترغب في الحضور إلى أمريكا، روبرت يتلتقي بسائق مصري يثرثر بالمصري ، لا مهرب من مصر ولا من المصريين، السائق يتطوع ليشرح كخبير في نيويورك مرشدا سياحيا لروبرت. كل هذا الغنى بين الخاص والعام في فيلم خيري بشارة ولم تمض نصف ساعة بعدها سيظهر الكلب الأسود ونسمع تعليق الرجل الذي يمثل صوت المخرج وخيري وتساؤل، هل هناك كلب فنان، مثل كلب حرب وكلب سيرك؟ ومنها إلى تساؤلات مشروعة لروبرت ، لماذا أبحث عن أبي، لم لا أعيش حياتي وأترك المستقبل يعتني به.

مشاهد الانبهار بأمريكا كناطحات السحاب تظهر فقط مع شرح السائق المصري،  من وجهة نظر خيري مع الغناء نشاهد مناظر عادية جدا وليس بها ما يبهر، غناء روبرت ( أنظر حولي أرى الحرب ) ثم مشهد تمثيلي حيث يلتقي روبرت بممثلة صورها أبوه ، وهي من تخبره أن المخرج خيري بشارة تحول إلى كلب، هي مصدقة وغير مندهشة، الكلب الأسود يغازل كلبة بيضاء صغيرة، تركز اللقطات على هومليس ( رجل يفترش الشارع) ومشهد لشاب مع رسام يشتري الكلب من المتسول ، وككل عمل درامي لابد من ظهور الأشرار، مروجي الهيروين وصاحبة الكلبة البيضاء التي يغازلها الكلب الأسود –بطلنا خيري – وتشتريه ولكنه سيهرب منها . نشاهد بحرا هائجا وروبرت وقد فشل في الوصول إلى والده في هيئة الكلب الأسود، وعودة للقطة البجع الأبيض ، تعليق روبرت بالإنجليزية وحواره مع أمه بالعربية، الكلب الأسود وقد عرفنا أنه خيري المتحول يراقب المشهد ويعبر عن رفض المثلية الجنسية بين الفتى والرسام ومتعاطفا مع أم الفتى المسيحية المتدينة.  المونتاج يربطنا دائما بماضي الشخصيات في لمحات سريعة، ونشاهد مشهد لخيري يصور بائع المخدرات الروسي، يصور بكاميرا الديجيتال ومعه روبرت، فيلم مستقل يصوره خيري ونصبح مع فيلم داخل الفيلم عن عالم الجريمة في أمريكا التي تحفل بجنسيات مختلفة، وصعاليك وأشرار وطيبون، الآن الكلب مع تيتو وعشيقه الرسام وهما نباتيان مما يدفعه إلى الهروب، الكلب طليقا الآن يصل إلى المتسول الذي يعزف ويغني أو لنسميه (فنان شوارع) وهو أستاذ جامعي اختاره خيري للقيام بالدور وبدا لي وكأنه شخصية حقيقية قبلت أن تصور واندمجت مع مخرجنا في أداء الدور. يلتصق الكلب بفنان الشارع الذي يسميه مووندوج ونكون قد وصلنا إلى منتصف الفيلم، وانتقال بين الديلر مع السيدة صاجبة الكلب الأبيض، بينما فنان الشارع سعيد بأن يضيف الكلب إلى ممتلكاته السابقة، الجيتار وأغنيته والآن كلبه مونندوج. ونسمع أغنية جميلة منه مع عزفه على الجيتار ونسمع المعلق بلسان الكلب ( أحب هذا السكير العجوز كريه الرائحة) وهنا أشعر بنفس خيري وضحكته التي كانت ترن كلما سمع منادي القرية في فيلمه "طبيب في الأرياف" أشعر بروح خيري مسيطرة على المشاهد، يؤكده استخدامه لأغنية الوداع يا جميلة ( بيلا تشاو بيلا تشاو) أغنية المقاومة الإيطالية التي تعلق بها كل الثوار في العالم ونحن منهم. الممثلة الشابة تتعرف على الكلب ونسمع تعليق( كيف سأقبل ابني وهو ليس له ذيل) الأشرار يستردون الكلب . ننتقل إلى وحدة مشهدية مع ابن الأخت شاب ثائر يحطم أشياء العائلة منفثا عن غضب ما، زوج الأخت يحكي كيف ترك مصر وكيف تغيرت حياته  في مونولوج حزين، الجدة تسير صامتة حزينة وجهها يعبر عن روح كلامه، هي جاءت لترعى أحفادها. اختلاط الوثائقي بالروائي في ذروته مع ظهور فنان الشارع الذي وظفه خيري في الفيلم  وكأنه يرى أمريكا فيه وليس في المناظر الخلابة ولا في الكوبري الفخيم. روبرت يلقي شعرا، ملامح معدلة للأب واضحة على الابن ، نظارة خيري ولكن خلفها عينان ملونتان، يموت فهمي ويستعرض خيري صوره على الحائط وتفاصيل من حياة الأسرة ، زيارة إلى المقبرة وشاهد ( أمين كمال فهمي 1939/2004)  أغنية جميلة وهم يعيشون حياتهم. ونعود إلى الأشرار والكلبة ترفض مونندوج وتقول ( تفوح منك رائحة كرائحة البشر) . أثناء الفيلم مات زوج أختي فذهبت ثانية لأصور نفسي ككلب حزينا عند مقبرته وكان يومها إعصار كبير في نيويورك واتسخت تماما في الأوحال، ولهذا لم يكن العمل متعة وإنما تطهير.

مرت ساعة ونصف ، نقترب من النهاية مويكا تشاهد قناة بولندية، روبرت يغني بطريقة خيري المفضلة (أغنية السمك المقلي) ولا يتركنا خيري قبل أن نشاهد ونسمع أغنية أيرلندية طريفة تنتهي بعبارة ( لذلك فإن كل مثيري الشغب والبلطجة لابد أنهم كانوا مصريين منذ عهد بعيد ) . الأغنية صدرت عام 1942.

عودة إلى فنان الشارع، لقطات لثورة 25 يناير 2011 ، مع فيلسوفة الفيلم الابنة ميرندا (عرفها أصدقاء خيري باسم لا لا ) والحكاء راوي الفيلم الابن روبرت، والشخصية الدرامية الزوجة البولندية مونيكا وقصة مرضها المأساوية . في النهاية يصطحب روبرت مووندوج ونعود إلى لقطات القرية المصرية والعربة الكارو وعليها تلاميذ من الجنسين، الكلب الأسود مع الزوجة في منزل القاهرة ، تأليف وإخراج خيري بشارة . صور الفيلم بشكل متقطع بين 2000 ، 2009 . قام خيري بعمل المونتاج له وأنهاه عام 2012 ، عرض بمهرجان دبي وكانت ردود الأفعال صادمة لخيري، فقرر عدم عرضه عرضا عاما، واكتفى بإضافته على موقع  ( فيموVIMEO ) وتواصل مع أصدقاء مختارين ونقاد منهم محمد عبد الشكور وكاتبة هذه السطور المحبة لأعمال خيري والتي تجد أن مووندوج معبر تعبيرا مزدوجا عن الأسلوب الذي اختاره خيري بكسر الثوابت والقوالب، وعن الشخصية التي ترى جمالا وسحرا في أشياء غير عادية.

 

قالوا عن مون دوج 

يصنفه صاحبه كفيلم تجريبي، إنه فيلم عابر للنوعية بين الروائي والتسجيلي يتسم بقدرة خيري بشارة على التجديد الدائم وولعه بكسر القوالب الثابتة شكلا وموضوعا.

وهذه ردود أفعال الفيلم بعد مشاهدات بسماح خاص من خيري على فيمو:

 

·      الفيلم أكتر من رائع يا أستاذ.

( تامر عيسى)

 

·      ياأستاذ خيري ،ده فيلم حلو جداً ومعمول بمزاج وصبر وقد ما فيه من حزن فيه كمان شجن، أنا عجبني واتسليت جداً وضحكت كما ، وروبرت طلع ممثل جامد ، تسلم ايدك يا أستاذ.

(بهاء غزاوي)

 

·      أعجبنى الفيلم كثيرا يا أستاذ، أحببت فيه هذه الحرية فى السرد، وهذه التحية العظيمة للصورة من خلال أشكالها المختلفة، ولعلها أيضا تحية للعائلة وأفرادها. ليس تحولا هروبيا أبدا، ولكنه تحول لرؤية أعمق وأكثر اتساعا للذات وللآخر، مع تعاطف واضح مع الإنسان العادى فى كل مكان، رأيت فى الفيلم خروجا من الإنسان للعودة إليه ، الفيلم ليس أداة لتغيير العالم، ولكنه بالأساس للتعبير عن الذات بطريقة فنية حرة وخلاقة ، وقد تحقق ذلك الى حد كبير، هذه الحرية مدهشة، وفيها تحريض ذكى للمتفرج بأن يتلقى الفيلم بحرية، ومن دون قوالب جاهزة .

بالمناسبة، أحببت أيضا فيلمك" ليلة فى القمر"، شاهدته عندما عرض تجاريا فى سينما كوزموس، وأدهشنى بالذات اكتشافك لقدرات ياسمين الجيلانى، أتمنى أن يعرض "موندوج"  للجمهور المصرى أيضا، على الأقل فى عرض خاص بالأوبرا مثلا.

(محمود عبد الشكور)

 

·      كنت في حالة جميلة ومبتسمة طوال المشاهدة فوجئت بالتاريخ 2012 ، هل هو تقصير مني أم أنك لم تعرضه؟ لم أسمع به ولم يأتينا مثلا لنشاهده في لجنة اختيار مهرجان القاهرة؟ عموما رأي مخلصة أنه تجربة مستقلة وبها ملامح من سينماك مع جدة في تناول العالم وأمريكا المتواضعة كما أظهرتها في الفيلم. عرضت لجوانب خاصة أهمها علاقتك بروبرت ولجوانب عامة لأسرة نازحة مسيحية . ما زلت أجدك مخرجي المفضل في السينما المصرية ،اختيارك للممثلين أحببت –عفوا – الكلب الأسود و روبرت، ومن قام بدور المتسول رائع.

(صفاء الليثي)

 

·      أولا عايزة أشكرك على المشاركة بالمشاهدة في تجربة جريئة ومغامرة سينمائية بديعة. ثاني جاجة عجبني الفيلم وانبسط واتسليت وفكرت وافتكرت وتساءلت وضحكت. تعدد الأصوات، ابنك بنتك الكلب ومراتك ولو مش بنفس الأسلوب لكن ساعات بنشوف الحاضر والماضي الهزل والجد إلخ، عجبني التأرجح المستمر من الخيال والواقع التسجيلي والروائي التهكم والجدية والنهاية المفتوحة أمينة مع التساؤلات دي

وعجبني إنك أصلا قررت تعمل الفيلم دا – فيه روح مغامرة وعلاقتك مع ابنك رائعة في الفيلم والموسيقى حلوة وكلمات الأغاني بتضيف للمشروع في العموم

يعني أصلا مغامرة بافتقدها بمرارة في السينما المصرية – شكرا على الجرأة وروح المغامرة

عندي ملحوظة نقدية هل مهتم تسمعها في المرحلة دي؟

ومبروك علينا وعليك فيلم غير كل الأفلام

(نادية كامل)

 

·      يا أستاذ مساء الفل

انا اتفرجت علي الفيلم امبارح مع واحد صديقة فيلمه المفضل في العالم فيلم" ايس كريم في جليم " وانبسطنا جدا من الفيلم وأن قد ايه الفيلم في روح مستقلة تماما في التنفيذ والتجريب بشكل مرتاح جدا، كل سنة وانت طيب، وفِي انتظار الفيلم الجاي

(ماجد نادر)

 

·      كل سنة وانت سعيد ومبدع ومنطلق يا خيري.. وعقبال ميت سنة

فيلمك اللي بعته لي اتفرجت عليه واستمتعت به جداً.. متعة وتحليقة جامدة

خذ بالك من نفسك

قبلاتي وإلى لقاء

(توماس جورجسيان)

 

·      شاهدت الفيلم المدهش "موندوج" لخيري بشارة، فيلم مؤثر جدا، وشريط صوت رائع لروبرت بشارة، مسحور بالحرية والابتكار لهذا الفيلم

(يسري نصر الله)

 

·      الطوق و الأسورة - ايس كريم في جليم - يوم مر .. يوم حلو - العوامة رقم 70 - أمريكا شيكا بيكا، وغيرها أعمال تانية مهمة و مختلفة، مخرج مكانش شبه حد ومختلف  ساحر وجرئ وعمل كل الأنواع بروح وعين مختلفة وجميلة، القاهرة بتاعته حلوة ومجنونة.

النهاردة عيد ميلاد الاستاذ خيري بشارة ، أحد أهم مخرجي السينما المصريه على مدار تاريخها، كل سنة وحضرتك طيب يا أستاذ خيري

(محمد العدل)

 

·      إيه الجمال والعظمه دي.. فيلم روعه ياصديقي...عالمي بالفعل..الف مبروك.

(بشير الديك)

ويكمل:

كلب القمر أو "موون دوج" هو اسم لفيلم روائي طويل لا يمكن أن يصنعه سواه.. فيلم يليق به وحده كلب القمر هو آخر أفلام المخرج الفذ خيري بشارة الذي تعرفت عليه في نهاية السبعينات وكان يخرج أفلاماً تسجيلية مهمة أذكر منها "صائد الدبابات" وعندما عرض له فيلمه الروائي الأول "العوامة رقم 70" كان فيلماً مختلفاً وتبعه بعد سنوات قليلة فيلمه الثاني "الطوق والأسورة" عن رائعة المبدع يحيى الطاهر عبد الله فتأكد الاختلاف وبعمق... وقد كتب السيناريو والحوار للفيلمين الموهوب "فايز غالي" رحمه الله... خلال هذه الفترة صرنا أصدقاء ومعنا محمد خان وداوود عبد السيد وآخرين.. فكرنا كثيراً أن نعمل معاً ولكن ذلك لم يحدث طوال ثلاثين عاماً... كانت هناك مشروعات لم يكتب لها الاستمرار.. وصادفته بعد ذلك ظروف صعبة فاختفى ولم أعرف عنه شيئاً إلى أن التقينا منذ عدة سنوات... ومن أيام أرسل لي رسالة "sms" عليها رابط فيلمه الجديد التجريبي والذي أسماه "موون دوج" أو كلب القمر وقد توقعت أن يكون فيلماً تسجيلياً قصيراً ولكنه كسر توقعي كما هي عادته وشاهدت الفيلم وخرجت بالنتيجة المؤكدة أنه فيلم يليق فقط بخيري بشارة المجنون الجميل.

الفيلم روائي طويل ساعة ونصف تقريباً.. من إخراج وكتابة وتصوير ومونتاج خيري بشارة نفسه وهو يحكي عن رحلة حياة خيري المختلفة وليس به ولا ممثل محترف بل كل أبطاله من أقاربه أو أصدقائه وكل منهم يلعب دوره في الحياة على رأسهم خيري نفسه الذي يلعب دور خيري بشارة المخرج السينمائي و"مونيكا" زوجته وابنته ميراندا أو "لالا" كما كنا نناديها وابنه "روبرت" وزوج ابنته "عبد كريم" وأخت خيري وزوجها وأقاربهم وأصدقائهم. الفيلم يحكي عن الحياة الحقيقية والرحلة الحقيقية لكل هؤلاء والعمود الفقري للقصة هو ما حدث لمونيكا حيث هاجمها فيروس غريب ونادر جداً أثر عليها تأثيراً كبيراً وقد أثر مرضها هذا على زوجها حبيبها ورفيق عمرها تأثيراً بالغاً، كما أثر على "لالا" ابنتها و"روبرت" ابنها تأثيراً قاسياً ولكن بدون ميلودراما، الفيلم يحكي عن رحلة الأسرة وعن غربتها وذلك التناقض الحاد بين رغبتهم العارمة في الحياة وبين الخوف الرهيب من الموت بفعل ذلك الفايروس الذي ا صار ينهش الأسرة كلها، إنها حقاً رحلة قاسية وخاصة جداً، قد نتصور أنه فيلم ميلودرامي بدائي أو على الأكثر فيلم هواه ولكن هذا ليس صحيحاً بالمرة. إنه فيلم أكثر حقيقية من الحياة ذاتها، لا أذكر أنني شاهدت فيلماً عربياً بهذا العمق ولا بتلك الرؤية الفلسفية والاجتماعية والإنسانية المستقطرة من تجربة خاصة، أنا أعرف مونيكا منذ عرفت خيري ولم أعرف أبداً أنها ممثلة، وفي الفيلم اكتشفت أنها عبقرية تمثيل، ويبدو أن مخزون الألم كان هائلاً فظهر على وجهها الصامت المعبر في صمته عن أعمق درجات الحزن الوجودي، وعن أصفى لحظات السعادة والفرح النادرين، لا أعرف من أين جاءت مونيكا بهذه القدرة.. إنه خيري هو الذي استطاع أن يفعل ذلك حتماً.. قام خيري بتصوير الفيلم خلال ثماني سنوات كما أخبرني، أظنها سنوات مرض مونيكا، ويدهشك أنه صور أفراد الأسرة خلال مراحل العمر المختلفة بتقنية عالية جداً سواء في الإخراج أو التصوير أو المونتاج وفي المقدمة من ذلك التمثيل الطبيعي بلا أي افتعال أو مبالغة، حرفية عالية في عناصر الفيلم كلها، يذكرك هذا الفيلم بأفلام مخرجين عظام أمثال فيلليني وأنطونيوني وودي الن وبرتولوتشي وآخرين.  يصل الجنون إلى أقصاه عندما يستيقظون ذات صباح ليجدوا أن الأب خيري قد تحول إلى كلب، نعم كلب أسود شديد القدرة على التعبير والأداء حتى لحظات الحزن التي تصل إلى حد البكاء بالدموع ولحظات الفرح عندما رأى روبرت ابنه أو مونيكا زوجته، لم أرَ على كثرة ما رأيت مثيلاً لهذا الكلب في سنيمانا العربية، الإخراج والتصوير والموسيقى واختيار أماكن التصوير وحركة الكاميرا بين الناس في الشارع، السيناريو والحوار والانتقال بين الأزمنة والقدرة التعبيرية العالية لكل عناصر الفيلم مستوى عالمي محترم، وقد قام بكل ذلك خيري يساعده ولده الجميل "روبرت" صانع الموسيقى ومؤلف بعض الأغاني التي تُجَنِّح على أحداث الفيلم وتصنع له هامشاً شاعرياً وتعبر في شجن جميل عن المغزى العميق للفيلم وشاركه خيري في كتابة الأغاني كما تذكر العناوين، نحن بصدد فيلم أوغل كثيراً في الاختلاف والتميز، لقد فوجئت حقاً بمستوى الفيلم، وقد طالبته أن يعرضه على الجماهير ولكنه يرفض ذلك حتى الآن، إلا أنني لن أزهق أو أمل، بل سأطارده وألح عليه أن يعرض الفيلم جماهيرياً، إنها تجربة فريدة لرجل فريد ومتفرد هو الآخر. (بشير الديك) أما داوود : "من المهم مقاربة الفيلم من منظوره لأنه يعصف بالتقاليد تماما، لا يمكن رؤيته عبر منظور أكاديمي أو واقعي..) داوود عبد السيد ) التمثيل في الفيلم عموما خارج المألوف في السينما المصرية، الناس الحقيقية في قصصهم الحقيقية كانوا شديدي الطبيعية، والناس في القصص المتخيلة خارجين من عوالم الأفلام، الفيلم أسلوبي وانطباعي ولا يمكن قياسه بالسينما الواقعية أنه دَاوُدَ عبد السيد المفتون جدا بالفيلم ويري أن اُسلوب أداء روبرت في الفيلم لا يوجد نظير له في السينما المصرية .

     
     
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)