زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

برلين السينمائي الـ 70

"أيام" للتايواني تساي مينغ - لينغ.. أزماننا الجامدة ووحْشَتها

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 

كُلّ شيء في سينما التايواني تساي مينغ - لينغ مرهون الى حكايات متوازية وأحداثها التي تجري في أماكن مختلفة، في زمن واحد، تنتهي دوما في مقام متفرد وأصيل. رؤيته جارحة لمجتمع إستهلاكي وليد يستعجل حداثاته الغربية/ المتأوربة. تايوان مينغ - لينغ ليست الصين العميقة، التوتاليتارية والكاسحة لإقتصادات العالم، بل أهل جزيرة مرفَّهة ومتأنَّقة وثريّة، يرون إن رأسماليتهم الإقتصادية المنسوخة هي أعجوبة محميّة من قوى دوليّة نافذة. أرض محروسة بالماء من كل الجهات، لن تُهدد أو تُكتسح أو تُحتل. عوالم مينغ – لينغ غير سويّة. أبطالها عبثيون، تقودهم صدف غير معقولة، أو على الأقل لا حسبان لها. نتائجها، على الدوام، غير كافية لضحاياها، وجلَّهم من شباب يعيشون على هوامش مدينة عصرية (العاصمة تايبيه غالبا) خالية من رأفة أو ودّ، ومليئة بقسوات ورزايا.

أسَّس مينغ - لينغ بصيرته السينمائية وفلسفتها حول الإغتراب. قصصه، هي لقاءات سريعة بلا جذور بين أناس عابرين، تتحكم بمصائرهم أقدار غامضة وعبثية وإقصائية. بسببها، هم شحيحو الكلام. يصبح الصمت والوجوم والغُمَم قرائن لوحشات إنسانية، وأسى كاسح. تختصر باكورته "متمردو إله النيون" (1992) نزعته الأخلاقية ـ التأثيمية، التي تتعاظم في أشرطته التالية الى فظاظات مكتومة، وجفوات سوداء بلا رحمة. ست شخصيات تداور، بلا تدبير واضح، أخلاقيات فاسدة وتدميريّة. البطل هيشاو كانغ هو ضحية لوحدة ذاتية، ومحيط فارغ من العواطف، وعلاقة مأزومة بوالد، يرى في إبنه شخصاً فاشلاً. كلما إلتقى هذا الشاب بأخرين، تنتهي العلاقة أما بموت أو عنف. في نهاية المطاف، يكسر كانغ عطالته بالعمل في شركة للمواعدة بين الجنسين عبر الهاتف، لكنه لن يطيل المكوث، ويغادر من دون سابق إنذار، لإنه يفشل في الردَّ على أيّ مكالمة. يشعّ هذا الفشل كقيمة إعتباريّة في منجز مينغ ـ لينغ، ذلك إن المواطن العادي لا يملك حياة متوازنة. هو رهينة الى مؤسسات غامضة وإستعباديّة وشرهة، لن تتيح له إمكانية تساؤل أو إحتجاج أو إنتفاض. وكما إن الصيني العادي أسير هوس المقامرات وحظوظها، تضع سينما مينغ ـ لينغ (1957) بشرها ضمن عجلة درامية لمراهنات لا تنتهي، الجميع فيها مهزومون، يتهافتون على الحياة وخساراتها في عالم مفبرك ومزاجي ومثير .. . زمنه مكثف وشديد البطء. يظهر نموذجه الأبرز ضمن صيغة إستفزازيّة في عمله الثاني "يعيش الحُبّ" (جائزة الأسد الذهبي لمهرجان فينيسا السينمائي، 1994) حين تجمع المصادفات ثلاث شخصيات في حيّز واحد. شاب يكتشف مفتاحاً في باب شقة فارغة، فيستعمرها، قبل أن تأتي المشرفة على العقار فجأة برفقة رجل عازم على شرائها. يمارسان الحب من دون معرفة مسبَّقة، فيما يرقد البطل تحت السرير، يستمع الى مواقعتهما بعد نجاحه في إيقاف نزف جرح، تسببت به محاولة إنتحاره الفاشلة التي تعرقلت إثر "غارة جنسية" غير متوقعة، إخترقت عزلته.

هذه العزلة، تتكرر لاحقا كثيمة وصفية لإحوال شخصيات المعلّم التايواني  ونبضها الحياتي. تارة، تتفجَّر كطرفة عابثة تفضح خيباتها، كما في عائلة شريطه "النهر" (الدبّ الفضي لمهرجان برلين السينمائي، 1997) ومعاناتها من الفشل في التعامل مع مرض غريب يصيب عنق إبنها الشاب، أو تبان، في أخرى، كإنتقاد جارح لإنانيّة جماعيّة تسحب سكان فيلم "الثقب" (1998) الى فانتازيات تباغض وعداوات ويأس، حين "تُحشر" ساق شاب في فتحة تؤدي الى غرفة معيشة سيدة وحيدة، تقع تحت شقته المنكوبة، أو تتجسَّد، في ثالثة، كتشنيع بخيبات حظوظ تجمع بين حكايتين متوازيتين لشاب يدعى هيشاو يعرض بضاعته عند قارعة طريق، وامرأة غريبة تستعد الى سفرة غير مؤكدة الى باريس. يبيعها ساعة مُقلّدة، قبل أن يتوله بطَّلَّتها وغموضها، ويقع تحت هوس ضبط الساعات التي يبيعها على توقيت العاصمة الفرنسية، في شريط "كم الوقت هناك؟" (2001).

في جديده "أيام"، المعروض ضمن المسابقة الرسمية للدورة الـ70 (20 فبراير ـ 1 مارس 2020) لمهرجان برلين السينمائي، يعود مينغ ـ لينغ بقوّة درامية وتشكيليّة معقَّدة في إطاراتها وبناءاتها اللونيّة وتأويلاتها البصريّة، الى توازي العوالم بين كائنين متباعدي الأصول والمحتد والتعليم والطبقة. تتداخل حيواتهما بشكل حُلمي وحدسي. يعيشان بعاداً إجباريّاً جغرافيّاً وثقافيّاً، إلا إن عواطفهما وطويَّتهما ومهجهما وصباباتهما وإشتياقهما، تجتاز زمنهما الجامد ووحشته، وتفترض لقاءات غائمة وغير جازمة الوقوع والتحقَّق.

هنا، تتخذ حالة البطل كانغ (لي كانغ ـ شينغ) الذي يعاني من مرض غريب، يوهن جسده، ويهدّ عزائمه، ويفرض عليه عزلة ضاغطة ومريرة، صيغة دراميّة غارقة في الشجن، وأقرب الى نعي فاجع الى رحيل قريب، وموت لا راد له. يصبح تلاقيه المفترض مع اليافع نون القاطن في الضواحي الريفية لبانكوك، حكاية مجيدة لصَبْوَة ملّتبسة وغير قابلة لليقين (كما لدى بائع الساعات هيشاو). ان إنقطاعاتهما الشخصيّة المتوازيّة تُقارب بأقل التفاصيل وبتقشّف معلوماتي، يداور يومياتهما الشديدة التباطؤ، وكأن بهما يملكان الزمان كُلّه. هذان كائنان منذوران الى غياب قسريّ، تفرضه حدود وقوانين وأعراف وأخلاقيّات، وفوقها جميعها قيم دينية لا تظهر في الواجهة، غير إنها حاسمة في عقابها. يقارب صاحب "الغيمة الشاردة" (2005) توحُّد بطليه بمشهدياته الأثيرة الطويلة والثابتة التي ميَّزت إشتغالاته وفطنته الرؤيوية لعوالم مقصيّة ومرغمة على الإفتراق، ولأُلُفات مهيضة كونها عصيّة على الإكتمال، ومُكَرهة على التستُّر والتواري كونها لا تتماشى مع الناموس العام، وموصومة كونها تحمل عارها الأخلاقيّ وفضحائيتها. في المشهد الإفتتاحي، نقابل كانغ جالساً في مواجهة نافذة زجاجية كبيرة، يتمعن بصمت الى بهاء طبيعي لإشجار وخضرة ورياح عاصفة وسماء ماطرة بغزارة. لن يتحرك شيء من حوله سوى ماء هادر. بعده، نراه غاطساً في حوض حمامه، حيث يستكمل الماء الوحدة العاطفية بين مشهدين يستمران على مدى 10 دقائق كاملة، وبلقطتين ثابتتين.

على جهة مقابلة، نتابع نون وهو يصلي أمام مذبح متواضع، ثم يطبخ طعامه، قبل أن يدلف الى حمامه الفقير، ويغتسل تحت ماء أخر. إن تقشّف حركتيهما يُكَسَر قصداً بتدفَّق المياه، ويُعمَّد بحيويته. طهارتهما واجبة لإنهما على موعد مع مصير "محدود الوقت". لقاء قادم، ليس عابراً بل غير قادر على المداومة والوصول الى خواتيمه. مشكلة هذا التلاقي ـ كحُجَّة فلسفية ـ إنه مقطوع من زمنهما الميت صورياً. هذه فكرة سبق لمينغ ـ لينغ معالجتها بتأن شديد في عمله الكبير "كلاب سائبة" (2013)، حين تبقى عائلة مشرَّدة تحت رحمة سيول مطرية في مدينة همجيّة وعدائيّة، رغم خلوها من سكانها. يعيش أفرادها في تجوال دائم على مدى 138 دقيقة، يقومون بجميع أنشطتهم اليومية، وبتسلسل طويل من دون كلمات. هذا الخواء، تقابله حركة خارجية عارمة لا علاقة لها بروتين الأب وطفليه، كونهم يعيشون عالماً سينمائياً مقدساً، محسوب البناء والترتيب والمغازي، يدافع ضد إقصائهم الإجتماعي ولا إنصافهم أو نسيانهم أو إستعبادهم.

في "أيام" (127 د)، يصبح السُلوان ركيزة أساسية للبطل الصموت كانغ. كلما زادت معاناته من الآم رقبته ومرضه المزمن وجلسات علاجها بالأبر والصدمات الكهربائية، يصبح لزاماً عليه، وتفادياً لمنون مفاجيء، تحقيق إجتماعه مع "أصل" ذاكرته، والمتمثل بشخصية الشاب الريفي. أيّ إستعاد ما كان عليه وجوده، وهو في قمة عافيته وشبابيته. هل هذه تهويمات رجل عليل ومستوحد أم صوغ تشكيلي لكائنين مجازين يصنعان تاريخاً مختلقاً؟. هل لقاؤهما في غرفة فندق، وتفاصيل عملية تدليك يقوم بها نون الى جسد صاحبه الموجوع، قبل أن تتحوّل الى مواقعة لا نرى منها سوى لسان وحلمة صدر، هي مكيدة سينمائية من أحد أكبر القامات في السينما الأسيوية المعاصرة لدفع مشاهده الى الإقتناع والقبول بغدره السينمائي و إلتباس مقاصده؟ هل حقا إجتمع الإثنان في تلك الظهيرة الحارة؟. لماذا لم يتبادلا كلمة واحدة؟. لماذا يخمد كُلَّ ضجيج الشارع وصخب المدينة الكبيرة ودوي مكيفاتها داخل الغرفة الأنيقة، لكنها تصبح عدائية خارجها؟. الحاسم إن صاحب "وداعاً دراغون إن" (2003) يوجه سهامه نحو ضجرنا الحداثيّ، ومثله تململنا المريض من ما هو غامض وغير مستكفي العواطف، كما هي قلَّة صبرنا في كشف الحيرة السينمائية وإرتباكاتها، و"غياب" الحكي اللازم والسهل فيها. نرى كانغ يسلم "خليله" في نهاية اللقاء صندوق موسيقى مع مال أتعابه، يترافقان لأكل وجبة عشاء في مطعم شعبي. بعدها، يتعانقان وداعاً ويفترقان من دون كلمة، نسمع في الخلفية موسيقى معزوفة ميكانيكية تنطلق من الصندوق الخشبي، تُحيي حميميتهما وحنانهما المشترك، وأيضا تبادلهما الإنتصار القصير العمر ضد وحدتهما التي تتلاشى لوهلة سينمائية سحريّة. هذا إختزال إبداعيّ لا يمكن غزله بهذه المهارة سوى على يد مينغ ـ لينغ وموهبته وسينماه، التي غالبا ما تحوُّله (الإختزال) الى مناورات، تستهدف فكرة الوقت البطيء، وهي أحدى أسسها التقنيّة والجماليّة. الكثير من الملولين والمتعجّلين لن يقبضوا على جمرة سردياتها الشديدة التريث، بل ويغفلوا قدرتها على هدايتهم نحو لحظاتنا الإنسانية العميقة ومعانيها الجليلة التي نساهم، بحماقة وتعمَّد وسهو، في زوالها من تواريخنا وذاكرتنا.

سينماتك في ـ  26 أبريل 2020

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004