زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"فيتالينا فاريلا" للبرتغالي بيدرو كوستا... توباتنا بلا ضراعات

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

الشناعات وأقدارها، في نصّ البرتغالي بيدرو كوستا "فيتالينا فاريلا"، متعددة الجذور، بيد إنها تجتمع على مصيبة واحدة: اللعنة الشخصيّة وذنوبها.

منها ذاتي، يقود سيدة مكلومة بوفاة زوجها، وهي تقطن في جزر نائية، الى مناجاة خاسرة مسَّبقاً. ذلك إن وصولها بعد ثلاثة أيام من دفنه، يجعلها كائناً بلا خُلاّن أوهوية أو سند.

منها مؤسساتي، حيث دولة أوروبية وكياناتها العنصرية والفاسدة، تقف بتواطؤ نادر ضد عزم البطلة في تكريم جثة راحلها، والحصول على إرث خطاياه، سعياً للوصول به الى توبة أبدية.

منها أَهليّ جماعيّ، حيث يصبح حيّ شعبيّ مدقع بشقائه في ضواحي العاصمة لشبونة مكاناً قُدسيّاً لتعظيم المنايا وضحاياها وبلاياها، ومن ضمنها خسارات المواطنة فيتاليانا فاريلا، منذ "طيرانها" المتأخر الى حي كوفا دا مورا التعس، قادمة من جزر كاب فيردي (الرأس الأخضر) الأفريقية ـ الأتلانتيكية، وحتى لحظة "رميها" في شارع مهجور تحت جنح ليل لشبونة، بإعتبارها خيبة إنسانية.

منها عقائدي، حيث تتحوَّل كنيسة متقشفة العمارة والديكور، الى رحم توبات بلا ضراعات. القائم على أبرشيتها، رجل عجوز مخمور ومدحور ويعاني من الزهايمر، يكشف عبر مناجات متعددة عن تهافت إيمانه، وإقتناعه إن شفاعات يسوعه البرتغالي.. تحتضر.

منها ربانيّ، حيث إن قوانين الخالق لا تنطبق شرائعها على بشر، يواجهون أسئلة إيمانهم من دون "إمتلاك ترقب أكيد" (عبرانيين 1:11) لما يترجون في تحقيقه: التخلص من عوزهم الذي ينال من كراماتهم، والعرقية التي تحاصر إنسانيتهم، والإضطهاد الذي يقصيهم إجتماعياُ وسياسياً، ويسقطهم من شرائع نيل الحقوق ولوائحها.

منها دسائسي، حيث تصبح الظلمة الخارجية التي تحيط بعوالم سيدة الحِداد ورحلتها الطويلة سعياً الى نيل ندامتها، تورية جارحة على نذالات الكولونيالي، وخسَّة نظمه، ووضاعة زبانيته، وموت ورعهم وعواطفهم.

شناعات بيدرو كوستا (1958) متأصلة في سينماه المجيدة كخطاب إتهامي وإزدرائي لأوروبا بلا رحمة. أوروبا شيطانية وتباغضية. أوروبا متبطَّرة وأفاكة وماكرة. أوروبا الغير العادلة واللا خيَّرة. أوروبا المناورات والضلال واليأس واللا ودّ. في باكورته "الدَّم" (1989)، تطارد اللعنات حياتي الشقيقين فيسنته ونينو، قبل أن ترهن عصابة أشرار حياتهما بميثاق ظالم، يرغمهما على دفع ديون والداهما المتوفي. هذا الشريط المصوَّر باللونين الأسود والأبيض، هو جنازة سينمائية لضمير أوروبي ميت وإستغلالي. فيما ضخّ كوستا في "بيت الحمم البركانية" (أو"بيت لافا"، 1994) كمَّاً بصريَّاً باهراً، ونصّاً إرتجالياُ لا يُضاهى حول المودات والوحدة والإخلاص والتفاني التي تعيشها ممرضة برتغالية شابة، تقرر مرافقة عامل مهاجر في رحلته الى مسقط رأسه (جزر الرأس الأخضر)، وهو غارق في غيبوبة غامضة، لتكتشف إنها جلبت رجلاً حياً الى بلد أموات، هم ضحايا مستعمرين أوغاد، أنهت ثورة القرنفل في العام 1974 ديكتاتورياتهم المتعاقبة (الفيلم إستعارة عن شريط المعلّم الفرنسي جاك تورنور "تجوَّلت مع زومبي"، 1943). بسبب هذا الشريط، وأكياس الرسائل التي بعثها الأهالي معه من أجل تسليمها الى أحبتهم في لشبونة، تغيَّرت حياة بيدرو كوستا وسينماه الى الأبد، حيث تعرف على مدينة صفيح في حي "فونتينيس" السيء الصيت، وهو معقل مهاجري القارة السوداء، لكنه "يستضف" أيضا أعداداً من بوساء برتغاليين بيض، لم يجدوا حميميَّة جماعيّة إلا في حضيض "نجمة أفريقيا" (كما هي تسميته الشعبية). هؤلاء الأخيرون، ومنهم الشابة فاندا دوارتشي، أصبحوا العنصر الإيديولوجي لشريطه "عظام" (1997). حكاية والدين شابين يسعيان للتَخَلَّص من وليدهما بأي ثمن، لعجزهما في تأمين لقمته وحياة إنسانية عفيفة. نصّ صعب وجارح، مشاد بنفس وثائقي لا يرحم ولا يداهن. بيد إن بطلة الفيلم دوارتشي عارضت رؤية كوستا عن بؤس الحيّ وأهله، ودعته لمرافقتها مُدَّة كي يمتحن شظف وغلاظة الحياة. قادت التجربة المريرة صاحب "أين أختفت إبتسامتك" (2001) الى إنجاز عمله المجيد "في غرفة فاندا" (2000)، وتأسيسه منهجيَّة جماليّة جذرية وخلّاقة حول يوميات بطلته على مدى عام واحد، مصوَّرة بكاميرا ديجيتال، عمادها إسلوبية "الدوكيودراميا" ونهجها الصداميّ والتَّحريضيّ، التي توهجَّت في شريطيّه اللاحقين "فُتُوَّة جبارة" (2006)، ورائعته "كفالو دينيهرو" (2014، وهوعنوان يعاند ترجمته "حصان المال"، لإن أسم الحيوان في الفيلم هو "دينيهرو"، وتعني "فلوس" بالبرتغالية)، التي تبدأ بأعمال فوتوغرافية للمصور الأميركي الدنماركي الذائع الصيت جاكوب ريس (1849 ـ 1914)، أرَّخ عبرها مآسي الغيتوات الفقيرة في نيويورك أواخر القرن الـ19، لتتماهى مع صور فينتورا وهو عائد الى واجهة الذّل الحكومي. نتابع يومياته داخل مستشفى يشبه سجناً، مع أقارب مهاجرين، يحلون على ذكرياته ولوعاتها، ومعهم امرأة تُدعى فيتالينا، تناجي صباه وشقاواته في مسقط رأسه. (ولن يمكن إغفال ذكر المشهد الإستفزازي والمتبصر للجندي الأخرس المصنوع من صفيح، والذي يقف نداً وتهديداً الى جانب فينتورا داخل مصعد المستشفى، مرعباً الرجل الأفريقي بماضي المستعمر وفظاعاته وجرائمه وقسواته).

شناعات بيدرو كوستا في هذه الفيلموغرافيا معمَّدة بقهر وجَوْر مجتمعيّ. بشر برتغاله الأبيض غير موجودين على شاشته. هم شبه مغيَّبين، وإن وجدوا فهم سطوة خرساء. حين يجول فينتورا، المرتعش بمرضه، داخل أقبية سوداء، نرى موظفين ساهين عنه، يتعمدون إغفاله ونكرانه. في شريط "فيتالينا فاريلا"، يتم إقصاء العنصر الأبيض تماما، ويستعاض عنه بكميات وافرة من ضياء ناصع، يتساقط كبقع أو دوائر أو أشكال هندسية على الوجوه الكئيبة، تحاصرها بإحكام رؤية (مشاهدة) مذهلة، وتحوَّل عيونها الى شموس منطفئة. تُدعى هذه التقنية المنظورية بـ"كياروسكورو" (بالإيطالية تعني الضوء ـ العتمة)، شعّت في أعمال قامات النهضة التشكيلية من ليوناردو دافنشي وجيوفاني بيغليوني، وإمتدت في لوحات الفلندني هوغو فان در غوز والإسباني غويا والإغريقي أل غريغو، مثلما إستلفها جهابذة سينما أمثال إنغمار برغمان وإندري تاركوفسكي وستانلي كوبريك من بين أخرين.

إن الجزع السينمائي لا مثيل له عند كوستا. إنه مصنوع برونق حاذق وعنيد وشديد التروّي، يعتمد كلياً على لقطات عمودية طويلة وثابتة ومتناظرة، لا تعرقل تدفَّق الشريط، وإنما تفرض على متابعها ترقَّباً درامياًّ وطلقاً مشهدياً غير مفهومين ولكنهما آسرين. ما أبدعه في جديده هو تأسيس إيقونية شخصانية لبطليه. إنهما موجودان في كل مشهد، سواء واقفين أم جالسين، بزاويا تجعلهما أقرب الى "مونوليث" صلد وجبار ومهيب. ما حولهما، هو إستكمالات رمزية لمحنة أبدية: صليب صغير وقلادته على أرض متّسخة. وردة حمراء يتيمة ومتروكة عند شاهدة قبر. أياد متماسكة، جلدها متيبّس ومتضَّغن وأضافرها بيضاء. سكين ملطخ بدم على طاولة مدنسة. رجل يرقد بين خرائب. أخر يستعرض أغذية مسروقة أو مأخوذة من بين النفايات. يد امرأة تفتح باباً متهالكاً، تقودها الى فاجعتها. شموع تحرس صوراً قديمة لعروس شابة، إنتهت أرملة رجل قتيل. عملات معدنية قليلة في مطفئة سجائر، هي أرثه وبقايا ثروة منحوسة!. سقف قصديري متهالك تحت سيل من مطر مدرار، يشبه ضجيجه صوت أسى. رجال يرتدون السواد، ويقفون بخرس مهيب وسط ظلمة خانقة، كأنهم حراس قبور تضمّ رميم مَنْ كفروا ذات يوم.

أول جمل تسمعها فيتالينا، ترد على لسان منظفات المطار: "ما الذي أتى بك متأخرة. عودي أدراجك. لا يوجد شيء هنا من أجلك". يمهد هذا الكورس المديني للسيدة الوافدة، حقيقة إن ما يجب عليها تحمله سيكون شبيهاُ بأوجاع رجلها الراحل: فآقة وإقصاء وسفك دم. عليه، تداري فيتالينا جوعها بالشراكات مع جيران "بيت" زوجها، وأهل مدينة الصفيح المظلمة والغارقة بمراثيها. هؤلاء مجموعة من أولاد عمومة بعيدين، يحنون على بعضهم بعطايا مسروقة في الغالب. أما وحدتها، فستكون رهناً بشخصية قسّ (الممثل الفطري فينتورا، الدائم الحضور في إشتغالات كوستا)، رجل مصاب بشلل إرتعاشي، يجول هاذياً بين أرجاء "دار الرب"، من دون الوصول الى خلاص حقيقي لظُّلامات رعايا غائبين، هجروا صلواتهم ونكروا إستغاثاتهم. أما الجريمة التي أقدم عليها زوجها في ظروف ملّتبسة، ولم يتبق منها سوى لطخات نزيفه الناشف فوق شراشف السرير، فتقول الشائعات إنه قضى بطعنة سكين، تبادلها مع غريب، تشاجرا على صفقة مريبة (جميع مهاجري الجزر يحملون سكاكين صغيرة!). ما تبقى من حبها الأول وخائنها الدائم، لون أحمر يبحث عن "ثمن الدّم"، ومثله مطلبها الشخصي بالكشف عن خفايا حياة المهاجر يواكيم الذي تركها وحيدة في العام 1977، وتوجه الى لشبونة، على وعد كاذب بالإنخراط في العمل كبنَّاء محترف. لم يزرها سوى مرتين. ولم يكتب لها على مدى 35 عاماً سوى رسالتين. وهاهي في العام 2013، تصل الى مطار غريب، ومنه الى حي ملعون (تمت إزالته لاحقا)، تتلوى أزقته كأنفاق جحيم أرضي شديد الظلمة، يجول فيها زومبيون (أموات أحياء) على غير هدى. هنا، تنكفىء السيدة المكلومة على ألمها بالخسارة والوحدة، وعلى كوابيسها بموت رجيم مبهم ولا منصف، ووعود زوجية بحياة هانئة لم تتحقق.

المدهش إن كوستا لا يعرفنا ببطلته ـ على عادته ـ عبر تقديم ما هو طبيعي ومتوقع... وجهها، سحنتها. بدلاً من هذا، يذهب نحو تأويل بصريّ تبجيلي لـ... قدميها!. نراهما في لقطة إفتتاحية قصيرة وقريبة جداً (كلوز أب)، أنجزها مدير التصوير الموهوب ليوناردو سيموش، وهما تنزلان حافيتين من درج طائرة. هذه إشارة بليغة الى براءة وعذرية، ستنتهكان لاحقا بمخالب العنصرية والفقر والغُمَّة وحطام حياة. تغتاب زوجها حين ينهدّ جزء من السقف فوق رأسها، وهي تستحم: "ها قد أصبحت كسولاً مثل بقية الرجال". فروحه ما زالت ملعونة، تنوس بين جدران متهاوية ومحنة غامضة. هذا التخاطب بينها وراحلها، هو إستعادات صوتية لماض لم تنصفه الظروف. هو، عاش في غموض. هي، تحصّنت بأمل إستدعائها للعيش معه بعزّة. هو، إنتهى رقماً لقبر في أرض غريبة. هي، روح امرأة مثقلة بصمت من ألم، ووجود إنفرادي لن يملء أحد فراغه أبداً.

شريط كوستا برُمَّته هو الحكاية الخاصة والحقيقية لبطلته فيتاليتا. كل ما يرّد على لسانها هو تاريخها ونزاعها المديد مع حياتها. أنهما فصول منمَّقة من نضالها ومكابداتها ودأبها. حين نراها واقفة أمام وحدتها، نشخَّص فيها سيدة ذات كينونة ماحقة، مصنوعة من وجع طويل ووحشة عائلية مركّبة، تنعكس في عينيها الواسعتين، سيما مع سماعها إعترافات القسّ فينتورا، وهو يخبرها كيف تحايل من أجل تأمين مصاريف حياة رجلها الضال، ولاحقا أكلاف جنازته!. كلّ مونولوغ لفيتالينا هو مسرد لخساراتها العاطفية، فهي تعي ـ كلما تقدمت الدقائق الـ124 طول الفيلم ـ إنها لن تتمكن بأيّ حال من الأحوال، من نكران دورها في شرّ طال عائلتها الصغيرة، رغم إنها لن تتمكن من فهمه. يختتم كوستا عمله الباهر مع بطلته وسط شارع ليلي، ذلك إنها خطية عليها إن تسير في درب جلجلة أوروبية حداثية، أما الرحمة ومبتغاها، فهي رهن بقرارها أن لا تتسلط عليها آثام جديدة.

سينماتك في ـ  13 يناير 2020

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004