زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

القاهرة السينمائي الـ 41

"شارع حيفا" للعراقي مهند حيال.. عبء الطوائف وأزلامها

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 

"هذا الشارع راح يصير دّم. قاتل ومقتول"، يُعلن الشاب أسعد بكلمات تهويلية، وهو أحد أزلام التنظيمات الطائفية المسلحة وقتلتها، في المقطع الختامي من الباكورة الروائية للعراقي مهند حيال "شارع حيفا"، إن عراقه لن يغادر طائفيته، وإن جحيمه لن يخبو، وإن أوكاره ستبقى مُحْتَشدة بوحوش الغُلُول والدسيسة والمَحْق والدناسات، وإن إنسانه أطفأ ضياء المَحْمَدَة في كيانه، وأوقد مكانها لظى الشقاق والعُنْوَة والبغي وزهق الأرواح. عراق أَكرهوه على الغَطَّ بفظاظاته، وأرغموه على قتل نَخْوات بشره. في المشهد الإفتتاحي، نقابل طفلاً يسير في موقع شبه دامس ومتّسخ، قبل أن يتوقف أمام ضوء شارع حيفا، وخلفه جدار مخضب بالدّم، فيما تحاصره موسيقى شرسة. هذا هو بطلنا سلام الذي نتعرف عليه في لقطة لاحقة رجلاً يتَمَترس فوق سرير بائس عند سطح عمارة، يقنص المارة ببندقيته. شاب كتوم ومكلوم. مستوحد ذو ملامح خشنة، وماض أسود نقرؤه فوق سحنة جافة بلا روح أو إنفعال. لن يعرفنا نصّ حيال (بمشاركة هلا السلمان) بسَفَّاحه عبر لقطات تمهيدية، بل يجرّنا سريعا الى بقعة شديدة التسلُّط، عارمة بالغلاظات، وطافحة بالإكراهات.

هذا الرجل هو بمثابة مفيستوفيليس (إبليس) عراقي يبحث، من ملكوته العالي، عن صفقته الدموية بين ثلاثة مواقع في بغداد 2006: شقة الأم سعاد وإبنتها الشابة نادية, وأخرى مستترة لأمير المنطقة أبا مثنى، الساعي الى "ضبط" الشاب المهووس بإنتقاماته، و"سبيّ" الفتاة جنسياً. والموقع الثالث، هو شارع حيفا (الأسطوري حسب تقديم حيال) ذاته المتحول الى مركز صراع، منذ بدء المعارك الطائفية، والذي يسقط فوق أسفلته رجل أربعيني يدعى أحمد، مصاباً بطلقة غادرة من القناص سلام، تجعله ينزف حتى الموت، بعد أن لا يجرؤ أحد على إسعافه.

هذه الكينونة المُمَدَّة هي سيل درامي رابط بين منبع حياة سلام وخواتيمها. سيلان عارم ورمزي أيضا لوجع ملّح وبلا نهاية، كأنه قدر أعمى، يطارد العراقيين. أحدهم أحمد، العائد مع الإحتلال والمتعاون مع جنوده كمترجم في المعتقل الرهيب، الذي يقدم إعترافاته عبر شريط فيديو، و"يدعي" إنه يحتوي على مقاطع جارحة وفضائحية، حول التعذيب الممنهج للقوات الأميركية ضد معتقليهم، مصوّرة ومهرّبة من سجن أبو غريب السيء الصيت وقواويشه. يخاطب سعاد، حبيبته والساعي الى الزواج منها والهجرة معها وإبنتها الى الولايات المتحدة: "ما عندي غير هذي الكاميرا. صار إلها سنين وياي. صارت كل قدري". هذا الأخير (القدر)، ستُسجل عدسة كاميرة الديجيتال الصغيرة تفاصيل ميتته البطيئة. الحاسم، إن المخرج مهند حيال لا يسعى الى جعل ضحيته أمثولة موت مجاني، إنما أظهرها بتورية ملّتبسة لـ"فاوست" عاجز وطريح. صفقته الوحيد مع المتربّص به ـ عبر النظرات فقط ـ أن يعكس مسار ذلك القدر: حياته مقابل أمان سعاد ونادية اللتين نفهم لاحقا إنهن (ربما) والدة سلام وشقيقته، نشاهد صورته وإسمه وتاريخ إختفائه معلقة على حائط الشقة المتواضعة. ما كان يتحسَّبه القناص بقلق، هو خسارته النهائية لهن مع تسهيل أحمد سفرهن برفقته. تصبح البندقية وناظورها ورصاصتها التي تستهدف ساقه، بمثابة "كتاب أحمر"، شبيه بنظيره الذي يحمله مفيستوفيليس، كي يوقَّع عليه مَنْ يبيعون أرواحهم الى الشيطان.

ما سنتابعه عبر الدقائق الـ 78 اللاحقة، هي مداورة عصابية لمرارات سلام ومَنْقَصَته الشخصية، ومثلها خباله الذي يقوده الى غلق أيّ منفذ لإنسانيته. علاقته بـ"زوجته" دلال (اللبنانية يمنى مروان) التي تصفها بكلمات جارحة: "زوجي؟. ورقة عُرفية، شوكت (متى) ما يريد يشككها(يمزقها)"، لا تبتعد بدورها عن صفقة أخرى، يصفها الشاب بعد مواقعتهما الجنسية التي لن نرى تفاصيلها: "اللي صار هسه (الآن). كل رجال (رجل) يسويه (يقوم به)"، فتجيبه بصلافة العاهرة: "أدري حبيبي". علاقته بأمير الشارع أبا مثنى (علي الكرخي) مُرتبة على أساس نِدّيّة بين قوتين، تنتظران حسم تسيّدهما على الشارع وحواريه وبشره. يسعى الرجل الملتحي الى تحييده وإرضاخه الى لعبة الموت وإشتراطاتها، وعلامتها صرخته عبر اللاسلكي العسكري: "إلزم نفسك. لا تتصرف. صير رجال (رجل) سلام". علاقته بالشاب الأخر أسعد (وسام عدنان) قائمة بدورها على نظرتيّ نقص متبادلة. هذا الشاب الملتحي والمزهو بلباسه العسكري، يصف سلاماً بأنه "أرعن"، بينما يهدده الأخر إن "لحمي مُرَّ". هذا التمايز يجعل أسعداً قوّة على الأرض، يعدم الأسرى من الملّة الأخرى، ويسند ظهر أبي مثنى، ويطبق أوامره. فيما ينظر سلام اليه كتابع رخيص، يُنزل عليه سخطه لاحقا في مشهد موغل بخشونته، حين يُقِدم البطل على إطلاق رصاصة على ظهر العجوز، وأرغام أسعد على ربطه من رقبته، صارخا: "أربطه مثل الجلب (الكلب)"، و"إسحله مثل الجلب"، تورية لما حدث في "أبو غريب"، قبل أن يوجَّه رصاصة أخرى الى صدر غريمه.

لئن جاء هذا الفصل إعلاناً عن فاشية شخصية مطلقة، يُختتم بترسيم القنَّاص نفسه أميراً لمنطقة حيفا، إلا إن إدارة المخرج حيال ومدير تصويره سلام سلمان لم ترق الى سينوغرافيا مدروسة ومسايرة لشراسته. إذ بدت حركات الممثلين ومعهما الكاميرا، وكأنها قُررت آنيّاً وعفوياً، ما جعلها تبدو فوضى بصرية لا حساب فيها لكتل متصارعة، وفراغات مكان مُوحش ومساقط ضوئه الشحيحة. الى ذلك، جاءت كلمات البطل وشتائمه وصرخاته وطلباته مكرورة بإستفزاز مقصود، يُغطي على قصور فعل جسدي قائم على دوران وتوجيه ضربات. ما أراد هذا المشهد الوصول اليه هو إشارة الى إستعادة "حميَّة شرف" وثورتها في ضمير سلام، مدافعاً عن نادية التي إتخذها الأمير السابق رهينة ودرعاً بشرياً للوصول الى معقله العالي، شاتماً بعنف: "إبن القندرة أطب (تدخل) عله أهلي"، و"نادية أشرف منك ومن عشيرتك"، وأوصاف مثل "ذيل" و"ناقص"، والعديد من كلمات الفُحْش.

هذه الخطايا الأخلاقيّة ستتفجَّر طوال "شارع حيفا"، الحائزة على جائزة سعد الدين وهبة لإفضل فيلم عربي وأفضل ممثل (علي ثامر بدور سلام) في تظاهرة "آفاق السينما العربية" في الدورة الـ41 (20 ـ 29 نوفمبر 2019) لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ليبدو الجميع وكأنهم يتبارزون بوضاعاتهم الإجتماعية ودنو طبائعهم، كونهم جزءاً من منظومة تعيش على صناعة حتوف، وتستثمر دماء ضحايا وأرواحهم. هؤلاء بشر بعزوم حيوانية. ملّة قتل عاصية تسترخص الأعمار. قادتهم حروب ومنافع وحصارات ومباغض وخشيات متبادلة وإزاحات عرقية وطائفية الى التحصّن بتمكين ديني ورصاصه، وقطع الأعناق ورعبه، والتخوين وويلاته. إن تعقدات الحالة العامة والإقصاءات الطائفية وزرع الخوف الجماعي وهزّ الإستقرار المجتمعي، أوصل الكلّ الى نقطة توصفها الشابة نادية بكلمات صادمة: "هاذه يا شرف. بغداد غاطسة بالخرا وأحنه أولهم"، أو "كلشي صار خرط (هُراء)". شخصية نادية هي الأكثر وضوحاً بين شخصيات شريط حيال. كأنها إفجينيا إغريقية، لا خيار لها سوى أن تكون قرباناً لحالة عراق بلا ذَمّة، تختصرها كلماتها حين تواجه دلال وخطّتها الرامية الى "بيعها" كأَمَة جنسية: " كدامج (أمامك) آني دلال. بس إختاري إبن قندرة وآني أنام وياه. ضابط. أميركي. مقاوم. إنتحاري. أي شي تختاريه". بيد أن هذه الشخصية "يغتالها" نصّ حيال ولا يطوَّرها وجهاً درامياً مقابل شخصية سلام الذي لا يشبه اسمه. تُزاح نادية (رضاب أحمد) قسراً لصالح عودة دلال الى الواجهة، لـ"تجرَّر" جثة شقيقها أبا مثنى، وكأنها "خنَّاس أسود" يسحب عاره الطائفي الى وكر مظلم جديد. قبل أن نشهد القيامة السينمائية لسلام البالغ، وهو على سدَّة غسل الميت، ناظراً الى سلام الطفل المكسور لما ينتظره مستقبلاً من مطاعن وخضاب الدّم وطُوفانه.

فيلم "شارع حيفا"، المصوَّر بكاميرة محمولة في الغالب، بعجالاته وصَدَّاميته ومناوراته الإيديولوجية يشبه، الى حد كبير، صانعه المخرج الشاب مهند حيال الذي يمتاز بشخصية حركيّة لا تهدأ. من هنا، فإن سجالية حكايته البسيطة وشخصياتها القليلة، تجعل من الشريط أقرب الى خطبة ذات نَّبرة عالية وصلفة حول خطيئة تكفيرية كبرى ومعقَّدة، ولا أفق في إنهاء شرورها التي شارك الجميع، بلا إستثناء، في خلقها وإرتكاب مجازرها. من هنا، فإن إشتغال حيال يصبّ برُمَّته في خانة الإدانة وقصاصها، والتلميح بالمعاقبة. سينما لن تغفر لأحد. لا تخشى لومة طرف أو تهديداته. فالشارع الحيوي الذي كان مسرحاً لقاتل ومقتول، تتفاعل من حوله اليوم (2019) شوارع وساحات بغداد الأخرى، وتمور بهَبَّة شعبية وشبابية من طينة أخرى، تسعى الى مواجهة، والإنتصار على، إغتيال مُمَنْهَج يقوم به نظام ثيوقراطي وطائفي فاسد لغد الملايين من أقران مهند حيال ورفاقه وأهاليهم، ونهب حقّوقهم في حياة كريمة.

سينماتك في ـ  10 ديسمبر 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004