زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

برلين السينمائي الدولي الـ 69

"الجندر" ظاهرة عامة..ومسابقة نسويّة بامتياز

بقلم: زياد الخزاعي

 

 

لم يشأ مدير مهرجان برلين السينمائي (البرليناله) ديتر كوسليك إنهاء عامه الأخير إلا بصناجة سينمائية، ترددت أصداؤها في كل مكان، إستعجل عبرها تكريس أخر بصماته الإدارية التي إستمرت 18 عاماً مجيدة، وهي ليست سوى ظاهرة "الجندر" وتداعياتها الإعتبارية والأخلاقية التي عمّت تظاهرات السينما في العالم عبر حركة "وأنا أيضا"(مي تو) التي إنطلقت بقوّة مسيسة بإمتياز، منذ فضيحة المنتج السينمائي الأميركي النافذ هوليوودياً هارفي واينستين، وإتهامه بإرتكاب جرائم جنسية، ضحاياها عشرات النساء. هذه الدورة الـ69(7ـ17 شباط/فبراير 2019) تستكمل ما أطل برأسه العام الماضي، بيد ان كوسليك هذه المرّة زاد من عيار إختراقه، متوجهاً نحو مؤسسات ألمانية، دافعاً أياها الى إنخراط كامل في مبادرته التي حملت عنواناً حماسياً هو "لا للتمييز"، في مسعى لتأمين شراكة جندرية كاملة (50/50) بحلول العام المقبل، ، لذا، تم تخصيص فريق يسهل تقديم المشورة للمتضررين، على إعتبار ان "المهرجان يرى نفسه كمنتدى، حيث يمكن الإستماع الى المشاكل وتقيّيمها، والبدء في إتخاذ إجراءات مناسبة، سعياً إلى المساهمة في إحداث تغيير ملموس"، كما جاء في بيان رسمي. على هامش هذا النشاط، تُنظم حلقتان دراسيتان، الأولى تحت عنوان "الثقافة تريد التغيير - نقاش حول التحرش الجنسي في السينما والتلفزيون والمسرح"، فيما تحمل الأخرى شعار "ردم الفجوة ـ ندوة مع مبدعين وممولين حول كيفية إتخاذ إجراءات كفيلة بتكريس مبادرة 50/50 بحلول عام 2020".

لم يكتف كوسليك بهذا فحسب، بل جعل قضية "الجندر"(الجنوسة) الجنسي مهيمنة في الواجهات، فتكريماته الرئيسية خُصصت الى ثلاث نساء ذائعات الصيت، أولهن الممثلة البريطانية شارلوت رامبلينغ التي تُمنح دباً ذهبياً لمجمل نشاطها، وتُعرض لها أفلاماً مختارة، تسلط الضوء على إبداعها السينمائي، فيما ستُمنح "كاميرا البرليناله" الى أربع شخصيات سينمائية، بينها سيدتان هن، صاحبة "كليو من 5 حتى7" (1961) و"وجوه أماكن" (2018) المخرجة الفرنسية المخضرمة آنييس فاردا، والتي يُعرض لها نصّها الوثائقي الأخير "فاردا بعدسة آنييس" خارج المسابقة، والمنتجة والناشطة الأميركية في مجال السينما المستقلّة ساندرا شولبيرغ. أما بطلة "المريض الأنكليزي" (1996) و"دع الشمس تشعّ داخلك" (2017) الممثلة الفرنسية جولييت بينوش، فترأس لجنة التحكيم الدولية، وبرفقتها (إضافة الى 3 رجال) زميلتيها الممثلة الألمانية ساندرا هولر، التي إشتهرت بدورها في الفيلم الكوميدي الذائع الصيت "توني أردمان" (2016)، والمخرجة والمنتجة والممثلة المسرحية البريطانية ترودي ستايلر (لها "تحريك الجبال"،1995). في حين ضمت "لجنة الفيلم الأول" كل من الروائية والصحافية الألمانية كاتيا آيشينغر، والمخرجة وأحدى أقطاب السينما المستقلة في الصين فيفيان كو، التي إشتهرت عبر شريطها المميز "الملائكة تلّبس الأبيض" (2017). وتتشارك كل من الناشطة في مجال التوثيق الإيطالية ماريا بوناسانتي، والمخرجة البرازيلية ماريا راموس ضمن لجنة تحكيم القسم الوثائقي (ومعهما المخرج الاميركي جورج نافا). وهناك 6 نساء محكمات أخريات في لجان خانات "الأفلام القصيرة" و"أجيال" و"14+".

الى ذلك، حشد كوسليك وفريقه 7 مخرجات سينمائيات وأفلامهن داخل المسابقة الرسمية ، من بين 17 شريطاً. في مقدمتهن الدنماركية  لونا شافيك وعملها الأميركي "طيبة الغرباء" (112 د) الذي يستكشف السلوك البشري ولوعاته حينما تحاصره ظروف عقيمة، عبر حكاية أم شابة (الممثلة زوي كازان) التي تفر الى نيويورك مع طفليها من عنف زوجها الشرطي وسطوته، قبل ان يصادفوا عامل في أحد الماطعم (الممثل طاهر رحيم) الذي يقدم لهم عوناً وملجأ وحنية غائبة في عالمهم. بينما تعاني عائلة شريط المؤلفة والمخرجة الألمانية أنغيلا شنيليك "كنت في المنزل، ولكن" (195 د) من خراب شخصي يطال أفراد مقصيين، تدفعهم ظروف قلق وشعور بذنب، ومشاعر فشل، الى تفكك أواصرهم، على خلفية تجسيد مدرسي لمسرحية وليم شكسبير "هاملت". في حين تواجه بطلة فيلم "الربّ موجود، أسمها بيترونيا"(100د) للمخرجة المقدونية تيونا ستروغار ميتفيسكا(ولدت في العام 1974)، محنتها في الوقوف ضد تقاليد بالية وإنتهازية. شابة تعاني من فشل دائم في الحصول على فرصة عمل، لإن أربابها لا يأخذون شهادتها في التاريخ  مأخذ الجدية، تجد إنتقامها متوافر في مسابقة غوص في نهر متجمد للحصول على صليب مقدس مُلقى في قعره. هجاء سينمائي لمآلات تغيير سياسي قلب موازين مجتمع متخلف رغم أوروبيته!. يتجسد هذا الفشل مرّة أخرى، ضمن فلك يوميات خسّة وفظاظات، في نصّ المخرجة النمساوية ماري كيرتزر "الأرض تحت أقدامي"(108 د). تعيش البطلة لولا البالغة من العمر الثلاثين عاماً حياة ساكنة ورتيبة ومؤمنة.  شابة مهووسة بعملها كمستشارة إدارية ناجحة، مليئة بالحفلات واللقاءات والصفقات. بيد ان كل هذا يخفي خواء ورهبة، تقوداها الى إخفاء سر عائلي فاجع، يتمثل بشقيقتها الكبرى التي تعاني من مرض عقلي. وحينما تقدم هذه الأخيرة على محاولة انتحار، يتفجرعالم لولا وأنانيتها ومكرها.

على المنوال ذاته لكن برؤية سينمائية أكثر تحريضاً، تستكشف المخرجة الألمانية الشابة نورا فينكشايت في باكورتها الروائية "مُخرّبة النظام" (118 د)، عوالم الأطفال وحاجاتهم للحب والأمان والإقناع والحماية، عبر حكاية الصبية برناديت (9 سنوات) الجامحة التي لا تتوانى من مخالفة كل قواعد مدرستها وأعرافها و"تخريبها"، في غياب أم أُجبرت على التخلي عنها. أنها نموذج لخلل إجتماعي خطير، ترى فينكشايت أنه يتسلل بمكر داخل نظم الرعاية الإجتماعية في البلاد. أما البولندية المخضرمة أغنيشكا هولاند، فتقتبس وقائع تاريخية حول الصحافي الويلشي غاريث جونز (1905-1935)، الذي يشهد فواجع مجاعة إكتسحت أوكرانيا في العام 1933، بسبب سياسة جوزف ستالين الزراعية أنذاك، في جديدها الملحمي "السيد جونز" (141 د). يتمكن هذا الشاب العنيد، وبمساعدة زميل أميركي يعمل لصالح صحيفة "نيويوك تايمز"، من تسريب شهادته الى العالم، رغم حصارات أزلام نظام توتاليتاري ومخبريه. على طرف أخر من الإختيار، وجدت المخرجة الكاتالونية إيزابيل كوشيت في "إليزا ومارسيلا" (113 د)، المصور بالأبيض والأسود، ضآلتها في سرد حكاية حب بين امرأتين مثلّيتين، جرت وقائعها في العام 1901، تخفيان حقيقة علاقتهما الملعونة، تحت إشتراطات مجتمع متزمت، قبل ان تقرر إليزا الظهور كرجل، ومخاتلة الجميع للإقتران بحب حياتها.  

من الخيارات الأخرى لأفلام المسابقة الرسمية، نخصّ بالذكر العناوين التالية:

* "بيضة" (100 د) للسيناريست والمخرج الحائز على جائزة "الدب الذهب" عن شريطه "زواج تويا" (2007) الصيني الموهوب وانغ كوانان. حكاية وجودية ناصعة حول إكتشاف جثة امرأة ثلاثينية مرمية وسط سهوب منغوليا. الجميع يعرف شكيمتها كراعية أغنام، وكأنسانة عنيدة. فمَنْ يفك غموض حياتها ولغز ميتتها؟.

* "ثانية واحدة" (105 د) للمعلّم الصيني تشانغ ييمو. عودة من صاحب "ذرة حمراء"(1987) و"ارفعوا الفانوس الأحمر" (1991) الى تواريخ ثورة ماو الثقافية، وبالذات الى تجربته الشخصية التي قادته الى اقاصي أرياف البلاد الواسعة. حكاية شاب يفر من معسكر تأهيل حزبي لمشاهدة فيلم أثير في نفسه، وفتاة يتيمة لا تترد د من سرقة الشريط الموعود كي يبقى الى جانبها. تحية حب من ييمو الى السينما!.

* "القفاز الذهبي" (110 د) للتركي الالماني فاتح أكين الحائز على جائزة "الدب الذهب" عن شريطه "في الجدار" (2004). قصة جشع جنسي ووحشية ولا مبالاة جماعية، بطلها شاب هامشي "يتصيد" نساء مسنات وحيدات في مقصف شعبي، خلال سبعينات القرن الماضي في هامبورغ، قبل قتلهن وتقطيعهن ودفن بقاياهن في جدارن شقته القذرة والمعزولة. دراسة إجتماعية لكائن خاسر مدفوع الى إنتقام لا يرتوي من دماء أناس عاديين.

* "أنطولوجيا بلدة أشباح" (96 د) للكندي دوني كوتيه. فيلم مصوّر بنظام 16 مليمتر لحادث سيارة يقلب حيوات سكان بلدة نائية وموازين علاقاتهم. مقتل سائقها الشاب يفرض شكوكاً بين بشر يخفون أنانياتهم وأمزجتهم وعاداتهم الغريبة، متشبهين بطقس جليدي يغلف عالمهم بوفرة من العزلات المتجهمة والتآمر الرخيص.

* "حكاية ثلاث شقيقات" (108 د) لأمين ألبر. صاحب "خلف التل" (2012) و"جنون" (2015)، هو أحد أفضل المواهب في السينما التركية المعاصرة، ممن يمتازون بقدرة فذّة على الحكي السينمائي، يستند هنا الى قصة حظوظ عاثرة وآمال مؤوود، وقيم جبلية لن ترحم، وأقدار ذات نهايات حزينة. ثلاث شقيقات يعشن مع والدهن في قرية نائية. يبعث بهن تباعا الى المدينة للعمل مدبرات منازل. أحداهن، تدعى نورهان، تأوب من رحلتها وهي حامل. خوفاً من الفضحية، يتم تزويجها الى راع شاب ذا نزعة صدامية ضد شيوخ متنفذين. إنتفاضة محكومة بالموت، مثلما هي الحياة الخاسرة وسط الأناضول.

سينماتك في ـ  06 فبراير 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)