زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

القاهرة السينمائي الأربعون

امرأة في حالة حرب" للآيسلندي بينيديكت إيرلينغسون ...شكائم مجيدة

بقلم: زياد الخزاعي

في باكورته "عن الخيول والرجال"(2013)، صوّر الآيسلندي بينيديكت إيرلينغسون مشاهد تهكّمية عديدة، لأفراد عائلات ريفية متنافسة، لا تمنعهم الجيّرة من الإقدام على قطع أسلاك شائكة لأسيجة تفصل بين مراعيهم الواقعة وسط فردوس بريّ ناء وخلاّب، ضمن محاولات ثأر متبادل، لا حدّ في مراراته، سعياً الى توكيد سطواتهم وتنافسهم وتشاوفهم الطبقي وأَنَفَتهم الشخصية. في جديده "امرأة في حالة حرب"(101 د)، هناك محاولات شبيه لكنها ذات نزعة إنتقاميّة من أجل هدف نبيل وخالص النوايا، يُنفّذ على يد فرد واحد، يقف بعناد ضد دولة بإكملها، ومؤسساتها مجتمعة. إنها سيدة راديكالية مناصرة للبيئة، تشنّ حرب عصابات شعواء ومحفوفة بالمخاطر ضد كارتلات صناعة الألمنيوم وشركات تعدينه، التي تتسلل الى الريف وتغتصب أرضه، وتخرّب إيكولوجية جزيرة قطبية، ما زالت غالبية براريّها تتمتع ببكارتها الربّانية.

لن تكَلّ البطلة هيتلا، وهي مواطنة عزباء في خواتيم إعوامها الأربعين (إداء مزدوج قوي من الممثلة المسرحية هتلدورا جيرهاروسدوتير بدور شقيقتين توأمين)، من قطع أسلاك أبراج خطوط كهرباء التوتر العالي التي تُقبّح الطبيعة، وتغيّر من إنماط طقسها. تؤمن ان ما "ترتكبه" هو فعل نضالي يجب أن يُحرّض الجميع على المشاركة فيه ضد رأسمالية وحشية. فكرة أخلاقية محضة، لكن هل تصل رسالتها الى مداها الجماعي الأوروبي، وهي تقوم بـ"جهادها" في قلب فَلاة  قصيّة؟. هذا قلب مفارقة المخرج إيرلينغسون التي تُحوّل عزلة جغرافية باذخة الجمال الى لعنة سياسية، تقوّض قناعات مجتمع مُنعّم، لا يريد ان يكون جاداً بشأن جريمة إحتباس حراري يُضعف الدائرة القطبية من حوله، وربما ينهي وجوده بالكامل يوما ما. ما نراه في المشهد الإفتتاحي للبطلة، وهي تُخرب "مَرَدَة الطاقة"، بوسائل محارب مُتمكّن من عدّته وعزمه، يتأكد لنا تباعاً، إنها أكثر من مُغامر عابر، أو كائن متبطَّر يسعى الى ملء فارغ حياته. نتعرف على هيتلا، وقد خطّطت لكل شيء بقدرة جنرال عسكري منضبط ومتمرّس. فهي تعرف التماهي وطرقه، تتفنّن بمناوراتها ضد مؤسسات مخابرات وأزلام أمن ووشاة، وتُبدع في الإفلات من مصائدهم جميعها.

هيتلا ليست نبية بيئية، إنما إرادة بشرية حساسة، تملك رؤيتها التسبيقية لمستقبل مروّع. أما كيف تنفّذ ردّها أو توظب إحتجاجها، فهي أساس المشاكسة الإيديولوجية الرئيسة التي يعتمدها الشريط الممتع، ذلك ان إنقلاب حكايتها من بؤرة درامية أُحادية، لكائن ذي شكيمة عالية، يعيش ترف الموسيقى كونها مدربة أناشيد محلية، وأم في الإنتظار، لإنها فازت بموافقة حكومية لصالح تبنيها طفلة أوكرانية، الى كينونة موازية مدججة بإدوات غاراتها المتقنة، بدءاً بمنشورات ورسائل الوعيد، مرورا بالمناشير الحديدية الكهربائية وأسنانها القاطعة، وإنتهاء بإختراقات الوسائط الإجتماعية، يجعل من الفيلم الساخر مالكاً لحربتين عقائديتين ماضيتين. الأولى، تخصّ نظاماً سياسياً متورطاً في التستر على خطيئة نفعية، عليه ان يدفع إستحقاقها. الثانية، مرهونة بتحذير يتجدد تلقائياً بشأن ظلم بيئي، نرى قيامته المقبلة في مشهد ختامي قاتم، حيث تخوض البطلة حاملة "إبنتها الأوكرانية" بصعوبة، وبرفقتها مواطنون محليون، في مياه فيضانات الـ"إيكو ستورم" التي تغطي مساحات واسعة، مدمرة عصب حياة لا يعوّض بسهولة.

سياسيو الفقرة الأولى، يعتبرون ما ينعتونه بـ"امرأة الجبل" عدو نظام، يجب تصفيته درءاً لتأثيراته الواسعة على السلم المدني. لذا، فأن مطاردتها بكل الوسائل من الكلاب وإنتهاء بطائرات من دون طيار (درون)، تتعاظم إثر توسيعها دائرة إتلافها لـ"شرايين الغزاة الرأسماليين"، وإنتقالها من قطع الأسلاك لصالح تفجير الأبراج دفعة واحدة، للتعجّيل بنهاية طاغوت وافد. أما بالنسبة للثانية، فان مقاومة هيتلا تصبح، حسب رؤية المخرج إيرلينغسون، شبيهة بنظيرتها التي شنها الزعيم الجنوب أفريقي نلسن مانديلا ضد الفصل العنصري وجوره، عبر سياسة "تهديم داخلي وذاتي لنظام مستبد"، وإعطاب بناه التحتية، عبر ضرب قبضته الإقتصادية، ما يفسر إرتداءها وجهاً ورقياً، يحمل صورة السياسي الراحل، للتخفّي من كاميرات المطاردين(سواء الحرارية أو تلك التابعة للدوائر المغلقة)، التي يتندر جارها راعي الأكباش المتعاطف مع  كفاحها بقوله: "لن يطول الأمر لتجدي نفسك في قبضتهم". ما يبدو سهلاً بالنسبة الى هذه القناعة، يصبح أكثر تعقيداً مع إنحراف الشريط لاحقا نحو  التركيز على تطورين دراميين متوازيين، فحينما تشتدّ الملاحقات البوليسية ذات النفس الكوميدي عالي الجودة، والتي تستلف بعضاً من أجواء فيلم "عن الخيول والرجال"، على شاكلة فكاهات السائح اللاتيني الشاب (خوان كاميلو رومان إسترادا)، الذي يقوده حظه العاثر الى إعتقالات متكرّرة، ريبة بعضويته في منظمات إرهابية!. تظهر شقيقتها "آسا" فجأة، وتقلب المفارقة مرّة أخرى. امرأة على النقيض. بوهيمية تؤمن بديانة شرقية، وتستعد للسفر الى الهند والإستقرار هناك. حينما تعلم بقرار التبني، يصبح عليها، كما شقيقتها، التفكير ملياً بالعواقب، وكأنها تتساءل: أيهما أسبق، إنقاذ طفلة من حياة محفوفة بمخاطر حرب أم العيش عند ضفة الغانج؟. تصبح بطولتها المقبلة، أكثر من إنتصار إنساني، حينما تتبادل هويتها وطلّتها مع هيتلا المعتقلة، لتأمين سفرها الى الريف الأوكراني حيث تنتظرها بهجة أمومة متأخرة .

لن يُفلِت المخرج إيرلينغسون شّريطه من تجريب سينمائي ممسرح، مُكوّن من ثماني متواليات، قائمة على عناصر أرسطوطالية درامية تقليدية، أهمهما الإستخدام المقنن للغناء والموسيقى، كبديل حصيف عن الكورس الإغريقي الشهير، تؤديهما فرقتان. تعزف الأولى، المكونة من ثلاثة رجال، موسيقى آيسلندية(تأليف دايفيد سور يونسن)، فيما يشدو الكورال النسويّ الأوكراني تراتيل شعبية. الظريف ان كلا المجموعتين يظهر ضمن إطار الأحداث أو خلفيتها، حيث يضفي تواجدهما وإداءاتهما مزاجاً سيركوياً باهراً، يكسر في الوقت ذاته إيهامات جدار رابع(نظرية برتولد بريشت مرّة جديدة)، وينشد مشاركة واعية من قبل مشاهده. فالفيلم لعبة نابضة بسخرية لاذعة، وقضيته المزدوجة ليست أكثر من إمثولة حداثية عن حتّمية مقاومة خراب، نغضّ ضمائرنا عنه قصداً. ان البشرية جميعا اليوم، تعيش على حافة سكين، حسب رؤية امرأة جسورة أعلنت حرباً شخصية، بشجاعة تستأهل المجد.

سينماتك في ـ  05 ديسمبر 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)