زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

القاهرة السينمائي الأربعون

دورة مميزة تستدعي بصيرة سمير فريد

بقلم: زياد الخزاعي

الدورة الأربعون (20 ـ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018) لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، التي ستُفتتح بالفيلم التهكمي "كتاب أخضر" للأمريكي بيتر فيرلي، حول علاقة مشحونة بين عازف بيانو زنجي وسائقه الخاص الأبيض، ويترأس لجنة تحكيمها صاحب "بيلي الفاتح" (1987) المخرج الدنماركي بيلي أوغست، كأنها إستدعاء برمجي مجيد لروح الناقد الراحل سمير فريد ـ الذي خُصّ هذا العام بجائزة تنافسية تحمل تقديراً لإسمه وإرثه الإبداعي ـ  حينما ترأس دورة يتيمة عام 2016، ونظم فيها واحداً من أفضل أعراس المهرجان العريق، وبالذات في خيارات عروضه. هذا العام وتحت إدارة المنتج محمد حفظي والمدير الفني الناقد يوسف شريف رزق الله، تسير أشرطة المسابقة الرسمية والمتنافسة على جائزة "الهرم الذهبي"، وهي روح المهرجان وعصبه، على النهج ذاته، من حيث إجماع عناوينها المميزة على مقاربة هموم إنسانية، تستعرض بطولات بشر وجساراتهم، وهم يواجهون أسئلة وجودية، وعزلات شخصية، وخيانات خسيسة، وديكتاتوريات متوارثة، وإقصاءات عرقية، وحروب كراهيات، وتنافسات مسيسة، وتصعيد مريب في ما يسمى بصراع المعايير الإجتماعية، وغيرها.

أبرز هذه العناوين، "البرج" (80 د) وهي باكورة المخرج النرويجي ماتس غروده، الذي سبق ان عمل مدرساً في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في بيروت، قبل ان يجمع خبرته ومعايشاته في نصّ يعتمد الرسوم المتحركة، كبناء بصري خاطف، ومفعم برؤية إنسانية بليغة، تدور أحداثه حول الطفلة الفلسطينية وردي(11 عاماً)، وسعيها في فهم شتات أهلها، ومعاني العودة الى ديار الجد "سيدي"، الذي يسلمها مفتاحاً للدار المغتصب الذي طُرد منه عام 1948. تجد وردي نفسها ضميراً جماعياً لعسف تاريخي، تجمع شهاداته جيلاً تلوأخر. يقول غروده في حديث مع موقع "سينيوروبا" السينمائي المتخصص عن خلفيات صنع شريطه: " عندما كنت طفلاً، تطوعت والدتي للعمل كممرضة في لبنان إثناء الحرب الأهلية. وكلما تفلح في العودة الى بيتنا كل ثلاثة أشهر، تخبرني عن المخيمات الفلسطينية، وتريني صوراً. في العام 1989، حينما بلغت من العمر 12 عاماً، ذهبنا للعيش في القاهرة، حيث عملت أمي في المستشفى الفلسطيني. إنتهزنا الفرصة في زيارة القدس وغزة خلال الإنتفاضة الأولى. في نهاية التسعينات، ذهبت إلى لبنان للمرة الأولى، ثم إستقريت في بيروت لمدة عام (2001)، منخرطاً في العمل ضمن فريق منظمة غير حكومية في مخيم برج البراجنة، ومشاركاً في إنجاز الفيلم الوثائقي الاسترالي "خارج المكان، خارج الزمن"، الذي إشتمل على العديد من المقابلات الشخصية المنفذة بطريقة تقليدية. في "البرج"(وهو إختصار لأسم برج البراجنة)، سعيت الى إستخدام الرسوم المتحركة  ومهاراتها من أجل تحقيق تقنية مغايرة، وليس مجرد فيلم وثائقي آخرعن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. فيلم يحاول الوصول إلى جمهور جديد بطريقة خلّاقة".

في حين، إختار المصري أحمد عبد الله في فيلمه الروائي الرابع "ليل/ خارجي" ان يجعل من شوارع القاهرة مكاناً مختبرياً لثلاث شخصيات هي مخرج شاب يدعى مو(كريم قاسم) يحلم في إنجاز حلمه السينمائي، يلتقي صدفة بسائق سيارة أجرة يدعى مصطفى(شريف دسوقي)، تعكس شخصيته قيماً متضاربة بين شهامة القاهري وإرثه الإجتماعي وخبث إبن المهنة المضنية، وبائعة هوى(منى هلا) يُشكل وجودها الدرامي وجهاً كامداً لما هو هامشي ومذل ومهزوم، بإعتبارها سلعة بشرية تقوم بفعل غير أخلاقي وغير مشروع. هذا نصّ عن تداعيات إجتماعية تحاصر مجتمع دولة عميقة، يبحث مواطنوها عن مخارج أقل ضرراً فيما يتعلق بمساواتهم وفوارقهم الطبقية والفوضى الضاربة حول يومياتهم والضغط الإقتصادي الذي "يأكل" لقمة عيشهم.

يتجلى الضمير السينمائي في مواجهة ديكتاتوريات متجذرة في الشريط  الطويل الثالث للمخرج الأروغوائي  ألفارو بريخنر "ليلة الأثني عشر عاماً"، المرشح لجوائز "الأوسكار"(2019)، الذي يصور الحكاية الحقيقية للسياسي خوسيه بيبي موجيكا ، الذي أمضى 12 عاماً في حبس إنفرادي تحت حكم "الجونتا" العسكرية الفاشية، قبل ان يتم إنتخابه رئيساً للبلاد، وذاعت شهرته على نطاق واسع بسبب إسلوب حياته المتواضع. وعلى منواله، يقارب الأوكراني سيرغه لوزنيتسا في "دومباس"، الذي أفتتح تظاهرة "نظرة ما" في الدورة الـ71 لمهرجان "كانّ"(أيار 2018)، وفاز بجائزة أفضل مخرج، وهو أيضا الترشيح الرسمي لبلاده في جوائز "أوسكار" 2018 ، حروب كراهيات متعاظمة بين الجيش الأوكراني والمليشيات المتحالفة مع الكرملين، تدور وسط أحياء وضواحي المنطقة التي يحمل الفيلم أسمها. أما الكولومبيان كريستينا غاييغو وتشيرو غيرا المتحصنان بشهرة باكورتهما الأثيرة "عناق الأفعى"(2016)، فيعودان بملحمة عنيفة في "طيور عابرة"(125 د)، الذي أفتتح عروض تظاهرة "إسبوعا المخرجين" في "كانّ" الماضي، والمرشح أيضا لجوائز "الأوسكار" المقبل ، حول عوالم عصابات مخدرات تهز المجتمع الكولومبي، وتأثيرها على السكان الأصليين وإسرهم وثقافاتهم. تجري الأحداث في شمال البلاد للأعوام ما بين 1968 و1980، بطلتها عشيرة "وايو"التي يخضع أفرادها الى قوانين خاصة صارمة، فيما يتعلق بشرف العائلة والتناغم الطقسي. من بينهم رابايت (خوسيه أكوستا)، وهو شاب طموح بقدم واحدة، تتنازعه فوارق حادة بين مجتمعه الأصلي المتميز، والآخر في المدن الحضرية "المتأمركة" والمتغيرة بسرعة، حيث سوق الماريجوانا المزدهر في أحيائها، هي الوسيلة الأمثل للحصول على ثروة سريعة، ستوقع بالشاب الأرعن في مصائب متوالية، ودم يسفك بلا ثمن.

مخرج فيلم "فاطمة" الفرنسي فيليب فوكون، الحائز على جائزة "السيزار" عام 2016، يقدم جديده "أمين"، الذي سبق عرضه في تظاهرة "أسبوعا المخرجين" في "كانّ"، يبقى وفياً الى نهجه الإجتماعي، وإنتصاره الى موضوعات الأعراق وإختلاطها في فرنسا الحداثية. ولئن واجهت بطلة باكورته المهاجرة الجزائرية من رهانات غربتها ووحدتها وتخلي بناتها "المتفرنسات"عنها، يجد الشاب السنغالي المهاجر أمين (مصطفى مابنغو) نفسه في ورطة حب مع سيدة بيضاء تدعى غابرييل(إيمانويل دوفوس)، كلفه صاحب شركة بناء المغربي عبد العزيز(نور الدين بن علوش) الإشراف على أعمال صيانة في دارتها الباريسية، متخلياً عن زوجته عائشة وأطفالهما. ما يبدو علاقة عابرة، يتحول الى حب مستحيل تتنازعه ضيم الطبقة والعرق والعنصرية والنظرة الدونية.

تعود شخصية المهاجر/الغريب مرة ثانية في باكورة مدير التصوير والمخرج التايلندي بوتيفونغ أرونفينغ "مانتا راي"(أشعة مانتا)، الحائزة على جائزة أفضل فيلم في خانة "آفاق" بمهرجان فينيسيا السينمائي الأخير، عبر تركيزه على محنة المسلمين الروهنجيا الذين يواجهون سياسة إضطهاد وإبادات عرقية دموية منظمة. لن يقع أرونفينغ في تسيس مبتذل للقضية المؤلمة( وهو لن يستعرض فظاعاتها مطلقاً)، وإنما حملها بعداً إنسانياً، يساجل عبره مفاهيم اللؤم الشخصي ومخاتلاته، وتحين الفرص ومؤامراته، عبر حكاية صياد شاب ينقذ مهاجراً مصاباً وهارباً من عمليات الغدر، قبل ان يختفي في البحر، ليعمد الوافد الى التماهي به و"خطف" مكانته وعمله وعائلته. في باكورته "طاعة"(92 د) يحيك البريطاني جيمي جونز حكايات متداخلة بنفس مسيس طاغ، حول بطله اليافع ليون (ماركوس روثرفورد) العائد الى منزل والدته المدمنة على الخمر، بعد سنوات من الرعاية الحكومية، والذي يوجه كل طاقاته في الملاكمة، على خلفية الإحتجاجات الدامية التي شهدتها مدينة توتنهام عام 2011، إثر إطلاق النار على الشاب الأسود مارك دوغن.

خمس نساء مختلفات المواطنة والثقافات والمنابت، يجتمعن عبر حكايات نادرة حول بسالتهن في الحفاظ على كراماتهن وخياراتهن ومشاعرهن. في  فيلم المجرية جوفيا سيلاجي "ذات يوم"، أحد أفلام "أسبوع النقاد" في "كانّ"، رصد معمق وشديد الواقعية ليوميات البطلة آنا، وهي أم مهمومة  بعائلتها، تكتشف إنها وخلال ورطتها، في مشاغلها مع أولادها ومتطلباتهم، إنما تخلت عن أكثر الناس قرباً لها: زوجها!، لتكتشف ان شقتهما الصغيرة ما هي سوى ثقب أسود من الصمت والتوتر والإغتراب. وهذا الأخير، يعود بألق سردي في شريط المخرجة القبرصية تونيا ميسيالي "وَقْفَة"، حينما يتبين للبطلة إيلبيدا، وهي ربة منزل في منتصف العمر، إنها أسيرة معاناة يومية، يتسبب بها زوج لا يملك أدنى حرص بمشاعرها وإحتياجاتها. بيد ان قدوم عامل شاب مكلف بإعمال صيانة المبنى الذي تعيش فيه، يقلب رتابة حياتها وعزلتها، ويشعل في داخلها رغبات جسدية غير قابلة للإخماد. في حالة الشابة الريفية سلطانت، بطلة فيلم الكازاخستاني أديلخان يرزانوف "اللامبالاة اللطيفة بالعالم"(100 د)، فان ما تختبره هو أكثر مرارة وإهانة. فبعد وفاة والدها، تواجه إستحقاقات تسديد دين مالي كبير. تُجبر الفتاة على مقايضة حياتها الريفية البسيطة بحياة المدينة القاسية، لإنقاذ والدتها من زنازين السجن. يُعرّفها عمها على عريس مُحتمل الذي يعدها بتسديد كل ديون عائلتها، ولكن آمال البطلة تتحطم عندما تكتشف أن الرجال في المدينة لا يحافظون على وعودهم. من فيتنام، يشارك آش ميفير بعمل أول شديد أناقة وشعري الإيقاع "الزوجة الثالثة"(94 د) حول قهر الإناث في مجتمع ريفي خلال القرن التاسع عشر، عبر حكاية لئيمة لحياة صبية تبلغ من العمر 14 سنة، تدفع ظروف عائلتها القاسية الى القبول بتزويجها لإقطاعي "يملك" زوجتين أخريين. تنخرط اليافعة مي في يوميات قرية معزولة، تسلبها براءتها، وزوج مهووس بعنفوانه الجنسي وخصوبته، يسلبها بكارتها الثمينة، وعمل بيتي يشبه السخرة لا ينتهي، يسلبها حريتها بالكامل. ان أمومتها المقبلة هي الإيذان بموت أحلامها الى الأبد، كون الوريث أثمن، في عرف بطريركي عريق، من زوجة عابرة، مهمتها إنجاب ذرية، تعزز سلالات بلا رحمة. أما الممثلة الشابة في العمل الروائي الثالث للسلوفيني ميروسلاف مانديتش "أنا أمثل، أنا موجود"، فتتلبس الشخصية التي تؤديها في عمل فني قيد الإنجاز، لتقوم بسرقات حقيقية، قبل ان تلتقي بمخرج يقنعها بإداء دور عشيقته، لتجد نفسها ضحية هوس رجل مريض.

سينماتك في ـ  18 نوفمبر 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)