زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

Pacifiction

"باسيفكسيون" للكاتالونيّ ألبرت سَرا... فراديس الكولونياليَّ المسمومة

بقلم: زياد الخزاعي

 
 

"أكبر شرّ عدا الظلم هو أنَّ لا يدفع الظالم ثمن ظُلْمِه" (أفلاطون)

لا مثيل سينمائياً لشخصيّة م. دو رولر في جديد الكاتالوني ألبرت سَرا "باسيفيكسيون" (165د). موظَّف حكوميّ أربعينيّ العمر، يشرف على شؤون إدارة اِستعماريَّة في قلب فردوس أرضيّ خلَّاب، لم يَضْمَن الخالق حمايته الرَّبانيّة الى تضاريسه ومائه وفضاءاته، أو يصونه من نذالات كولونياليّ فرنسيّ نقل تفجيراته النوويَّة من الجزائر وصحرائها الى أوقيانوس بولينيزي وسط المحيط الهادىء.

رجل مزدوج النّوايا، يعتبر نفسه وصيّاً على بقعة حباها الله على بلاده البعيدة، بيد أنَّ مشكلته العويصة تكمن في عدم اِمتلاكه صكوك ملكيَّتها الى الأبد. من هنا، يأتي اِلتباس العنوان ونطقه الفرنسي الذي اعتمدناه أعلاه، فهو "سَلْب" لاِسم علم (الهادىء) ومزاوجته مع ملحق صفة وحالة، ليُشكلا اِصطلاحاً هجيناً لـ"طوبوغرافيا جرائم حرب"، اِرتكبها أوغاد الجنرال بيير ماري غالو، أبو القنبلة النوويَّة الفرنسيَّة، في بقعة بَتُول لوَّثوها بـ 139 تجربة ذرّية في السنوات ما بين 1966 ـ 1996.

نصّ المخرج سَرا (1975) ذا الطموح الجامح والمسرد التّخريبيّ الذي لا يقوم على سياسة إقناع بوقائع حدث تاريخي، وإنّما مراقبة سلوكيات إستنقاص وتشمت ونفاق وتعصّب. لن يلتفت الى آثام الأليزيه وروزنامتها، إنّما يلاحق جنة عدن أبديّة، تمّ تسمّيم جغرافيتها وبشرها بعناد وغدر وتآمر ومكر، عبر مشهديات فاتنة تحرّض مشاهدها، وضمن إيقاع سينمائيّ صبور، على التّيقن من أنَّ اِنبهاره بالصورة، إنما هي حيلة فيلميَّة مرامها مساءلة خداع إمبرياليّ وأنانيَّته اللتين ترى في الأرخبيل ملكاً حصريّاً، يمكنهما التَّجاوز بحريّة على مقدَّراته وحيواته وتوازناته الإيكولوجيَّة. عليه، فإنَّ مرئيات مدير التصوير أرتور تورت ذات الحسّيَّة اللونيّة العالية الجودة، تصوغ هذا التّناقض ضمن معادلات غريبة، أساسها جمال باذخ لطبيعة، يعيش بين جنَّاتها أناس غارقون بجرائر غطرسة وفساد وحطّ عرقيّ.

هؤلاء جزء هجين ودخيل في جسد أصيل جارف الحساسية إزاء جزره ومكانها الفريد ونظمها البيئيَّة المداريَّة، فيما يرى المُستعمِر في مواطنيها صبغة اكيزوتيكيّة، تتجسَّد في نظرة دو رولر إليهم كخطر مبيت يتوجَّب عليه مداراته و"تنفيس" نقمته، بينما يستخدمهم أحد المستثمرين ويدعى مورتون (الممثل الإسباني الفرنسي سيرج لوبيز) داخل مقصفه الليلي كمضيفين بدائيَّين يكشفون عن مفاتنهم وعوراتهم، يدورون بين الطاولات من أجل ترضية زبائن، يكابدون شبقيات ملعونة وأخرى غير مكتملة. يصفهم دو رولر في حواريَّة طويلة ومغرقة في الكآبة والصّدق، وهو داخل سيّارته برفقة المساعد البدين والأبله لمورتون: "ينعتون هذا المكان بالجنَّة، لكنهم أغبياء. توطَّنوا هنا ولن يغادروا أبداً. لا زمن في هذا المكان. شيء أشبه بمجتمع سريّ مع الكثير من النّوادي الخاصّة، يثملون فيها طوال لياليهم، ويُخدَمُون كسادة أضاعوا إحساسهم بالزمَّن، ويعيشون أوهامهم".

*****

يداور دو رولر (أداء استثنائي من بينوا مَجميل المعروف عالمياً بدوره كعشيق وسيم ومستهتر بعواطف إيزابيل أوبير في تحفة النمساوي ميشائيل هانكه "معلمة البيانو"،2001) حسابات شخصيّة، ترغمه باعتباره مفوّضاً ساميَّاً على تنظيم نشاط إداري يوميّ، هو في مجمله دورة لا نهاية لها من المساكنات مع الجميع. متسلّحاً ببذلة كتَّان بيضاء اللّون، وقميص "ساوث سيز" المميَّز بزخارف الكاريبي وألوانه، وحذاء صيفيّ بلون البرتقال يجعله أقرب الى سائح عابر ومتملّق، ونظارات طبيّة مضلّلة تضفي عليه صبغة عميل للأمن الخارجي"دي جي أس أي".

يجول مهووساً بالمؤامرات والجواسيس الروس والصينيين وغرمائهم من أميركيين، متفرّساً بكلّ شيء من حوله. مراقباً أيّ غريب يصادفه ومنهم مواطن برتغالي غامض الدّوافع والمهمات، يدعي فقدانه جواز سفره. يجامل كلّ من يقف في طريقه، ويهادن البولينيزيَّين الذين يهدّدون مستقبل استعماره وحصانته ومناعته. رجل لن يتوقّف عن الكلام، تارة شارحاً وأخرى معتذراً وكثيراً مطمئنّاً. كولونياليّ مخلص ومتحيّز، ديدنه الجمهوريَّة وعصمتها وسمعتها وجبروتها، غير أنَّ عليه تسليع وجه حضاري شديد التَّأدب والمداهنة، لئلا تنهار مملكته وينحط عالمها.

وكما أيّ شخصيَّة ملوّثة بجبروتها، لن يتوانى الممثل الحكوميّ من "توكيد" ذوقه الإستثنائيّ في ما يتعلّق بالعنف. ففي مشهد تدريبات الفرقة المحليّة، يتدخل دو رولر كي "يصحح" رقَّة الاِستعراض وميوعته، محرّضاً المشرفة على الراقصين الشباب، وصديقته الكاتبة الروائية البيضاء رومين (الممثلة سيسيل غيلبير) السّائرة على خطى مواطنها الرَّسام بول غوغان، مستوطنة في تاهيتي بحجَّة إكمال نصها الجديد، من أجل بثّ روح حماسيّة تساير روح المناسبة الباريسيّة وذكراها الدمويّة، مردّداَ كلمات تتناقض مع صفته الديبلوماسيَّة مثل بربريَّة، قسوة، قتل، شراسة، موت، شجار وغيرها، ملوحاً بأصابع يدين متشجنّتين وتعابير وجه مستنفر، مشدّداً على "أنَّ العنف يجب أنْ يظهر"!. سينوغرافياً، يضع المخرج سَرا بطله خلف المجموعة، متحاشياً لمسهم أو الإختلاط الجسديّ بهم. يصفق، يردد كلمات التشجيع لكنه لن يفعل ذلك حتى يتحقَّق له ما يبتغه منهم، وتستوي الأمور لصالح هيمنته.

في لمحة اِستعلاء خفيَّة، يناشد القنصل خِلّه البولينيزي العابر للجنس شانا (باهوا ماهاغافانو) ليؤكّد غرور وجهات نظره وإدّعاءاته بذوق فنيّ لا يملكه. هذه الشّخصية المحليَّة ذات الحضور الخاطف لا تقلّ خطورة عنه في طموح النُّفوذ و"العمالة"، يقول له/ لها: "ستكونين عيني، سيفي. ستبقين في الظّل بعد رحيلي، وستضربين بقوّة حين تحين فرصتك. أنت المفترسة، ستلتهمينهم جميعا". نراهما معا في كلّ مكان. ترافقه في اجتماع خاص مع سياسيّين محليين يتعاونون مع "المحتل". تقف الى جانبه في قارب يراقبان موجات محيط جبَّارة، ترفع حماسة محتفلين بمشهد مهيب. تستجيب لمطالبه و"تخترق" عالم جاسوس محتمل، يسألها بخبث أن كانت تقدّم خدمات جنسيَّة للقنصل.

شانا هي أعقد شخصيَّات "باسيفكسيون" كوّنها تمثل نقصاً اِعتباريّاً، يرى في الوجود الفرنسيّ عطيَّة لا تفوت، ما يجعلها النَّقيض الشّرعي لشخصية القائد الشاب ماتاهي (ماتاهي بامبرون) الذي يلقن المسؤول الفرنسي درساً في العزم: "عليك أن تعرف أنَّ الغرور لن يقودنا كما تقودون شعبكم. لدينا قناعتنا ويقيننا"، قبل أنْ يشتمه بوصف ناريّ: "أنت جبان". يجعل الثنائي شانا/ ماتاهي من النَّبرة المسيّسة لنصّ سَرا أمراً مفاجئاً، ففي سينماه قلما يفضح هذا المخرج ذا النَّهج المفاهيميّ عن شعاراته بطريقة مكشوفة كما توفرت هنا، وإن جاءت  عبر فيوض من جمل، كان مخرج "موت لويس الرابع عشر" (2016) يلقن ممثليه اِرتجالاً عبر سمّاعة في آذانهم وخلال التصوير الفعلي، ما جعل من طريقة إلقاء الممثل مَجميل حواراته ذات رنَّة إنشائيَّة لصوت بارد حياديّ، لن يرتفع أو يحتدّ، ما أضفى على طلته ـ مع تمسّكه بتمثيل متقشّف الحركات وجامد التعابير ـ ملمحاً ممسرحاً لدمية شديدة البياض بقلب أسْخَم.

*****

 
 

في داخله، يملك الرجل مُرْيَاته وشياطينه لأنَّ "السياسة مثل ملهى ليليّ، حفلة مع شيطان". يقدّمه صاحب "حكاية موتي" (2013) بتركيب شخصيّ ثنائيّ لافت عماده حضور ذكوريّ طاغ يخشى الزَّلات، يقابله كائن هشّ تهزّ قناعاته مكائد السياسة ووساوسها. موظف يمسك بين يديه سطوة ماحقة سلاحها لسان ذرب، يرغمه الشخص البراغماتيّ في لا وعيه الى الاِنتصار الى المُلاينة. نشهد مناورات هذين القطبين بصورة اِستفزازية حين يواجهه السكّان بشائعات حول دخول غواصة مياه اللاغون البكر، وسعي أحفاد مجرمي التّساقط الأشعاعيّ لعمليات "ألديبران" (1962) و"سنتورس" (1974) الى اِستئناف التجارب النووية ضمن الغلاف الجوي لفردوسهم، فيبادر وفدهم بخطبة وهو يلوّك طعامه: "يجب أن نكون يقظين. ونمنع عودتها. هل تدركون الأكلاف التي تتكبّدها مثل هذه التجارب، وبعد كلّ تلك المآسي التي تسبَّبت فيها"، قبل أن يراضيهم بمكر دنيء:"سنذهب جميعنا الى الكازينو يوم 14 تموز كي نحتفل بيوم الباستيل وقيم الجمهوريَّة!".

هل لدى دو رولر، الذي رسم وشماً طوطمياً على صدره الأمْلَط، نظرة مسبقة للعواقب أم أنَّ مرونته تجعله أكثر حرصاً على خطف الفرص قبل نهاية عقده وعهده؟. أهو شخص نبيل لن يرتضي الخيانة من أبناء جلدته أم أنَّه موظف مخاتل يبتز طرفي لعبة حسَّاسة، قبل ردعهم وتطويقهم وإخضاعهم. بطل "باسيفكسيون" أجير رسميّ فائض القوّة يواجه مأزقاً حاداً، حيث يهدّد البولينيزيون بالعصيان إنَّ تأكدت لهم  الخبيثة الذريَّة ضد مرجانية جزرهم. فيما يغرق أبناء جلدته في ضلال وتآمر وتحوّط، ذلك أنَّ نذيرهم يُبشر بالضُرّ لـ"أنّهم لا يرون الخطر الحقيقيّ، ولا يعلمون ماذا ينتظرهم. هناك مَنْ سيلقي بالقنبلة وتأتي الموجات الذريَّة لتحيط عوالمهم الصغيرة"، حسب رؤيا الحاكم الفرنسي القاتمة.  

 بدءاً من هنا، يصبح مشاهد " باسيفكسيون" جزءاً مستتراً من مداورات دراميَّة مغرقة بالبطء، مفعمة بالإشارات والإيماءات وبلا تطوّر سرديّ، شحيحة العواطف والمبادهات، غارقة في سكونية صوريّة لعالم غسقيّ حيث يتحرك الجميع ويتكلم بشحّ مقصود لصالح دو رولر ومحاوراته الطويلة وحركته الدؤوبة وجيلاناته بين الجزر وأطراف النّزاع المقبل.

*****

اِبن الرّيبة، الذي يظهر في جميع مشاهد الشريط تقريباً، لن يستكين حتى يتيقَّن بشكل مطلق من أنَّ مسؤوليَّاته مصونة، وأنَّ التَّكليف الحكوميّ لن يُهان أو يُخترق، لكن هل هو على دراية بكلّ شيء؟. مَنْ يضمن له أنَّ باريس أخذت بالحسبان تداعيات قرارها السّري على منصبه وسمعته بين أهل تاهيتي؟. هل هو مصاب ببارانوريا متأخرة؟, ألم تكن الغواصات تجول في مياه اللاغون منذ عقود؟. وما الذي يفعله أدميرال بحري قصير القامة في مرقص ليلي طوال الوقت، يجامل مستوطنين، ويخدمه شباب عراة، غير أن يثمل ويرقص دون حرج، ويعترف أنَّه يتعاطى المخدرات "أحياناَ"، ويُلقي خطباً لم يطلبها منه أحد، ويقول حُكماً تعكس عرقيَّته وإبليسيته، على شاكلة "أنا أؤمن بفضيلة العمل. يجب على المرء أن يرسل إشارات قويَّة وواضحة. حين يرى (الأعداء) ما نحن على اِستعداد لفعله بشعبنا، فلن يشكّوا بقدرتنا في كيفيَّة معاملتنا لأعدائنا"، مبرّراً تجارب الموت بأنها رسائل تهديد "سنعلنها في حفل كبير"!.

يختتم هذا الرَّجل الملعون شريط سَرا لاحقا بخطبة حماسيّة وشريرة، يوجّهها الى فريق بحَّارة شباب، وهم متوجّهون نحو موقع سرّيّ للقيام بأوَّل تفجير نوويّ منذ 20 عاماً (إشارة الى قرار الرئيس الراحل جاك شيراك باستئناف التجارب في العام 1995)، تعكس كلماتها ونبرتها خطورة عقل مُتجبَّر ومرجوم وفاشيّ: "نرفع مكانتنا كقوَّة عظمى، ونجعلهم يخافون الأسوأ. وحدهم منْ يخشوننا، سيرون ما نحن قادرون عليه"، مستطرداً بتفاخر: "في يوم ما، سيتعرَّف البعض عليكم. وحتى ذلك الحين سيتغيَّر العالم".

تحت رعب هذه الكلمات الوقحة، تبقى كاميرة الثنائي سّرا/ تورت ثابتة على وجه بحَّار شاب فرنسيّ، يحمل ملامح تردّد وقلق، قبل أن تحيد زاوية عدستها، نحو مياه محيط ملوَّنة بصبغة حمراء قانية، تزيد من حدة رمزيتها للبلاء القادم موسيقى "تكنو" خشنة النَّبرات من تأليف مارك فيردغُير، ليضعنا فيلم " باسيفكسيون" أمام خلاصة جارحة  تؤمن بأنَّ الحمقى الذين يستولون على جنَّة ما لن يجدوا ضيراً في اِستخدامها مكبَّاً لخطاياهم.

يرتكب هؤلاء "النفيليم" جرائمهم وهم مقتنعون أنَّ الرَّب يبحث عن أخرين هم " بشر في ظلمة"، كما يصفهم القنصل الفخري لفرنسا. أمّا منْ يأخذون المبادرة ويصنعون أدوات حروبهم، فالخرع لن يدقَّ قلوبهم كوَّن "التضحية" حسب ناموس أمثالهم من السفلة هو سفك الدَّم. والمصيبة، كما يقول القسّ الزنجيّ الأميركيّ مارتن لوثر كينغ (1929 ـ 1968) لا تكمن في ظُلم الأشرار بل في صمت الأخيار. صمتنا جميعاً.

سينماتك في ـ  13 يناير 2023

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004