في زمنٍ يبحث فيه الكثيرون عن تصدر الأفيشات والتترات، وعن
البطولة المطلقة حتى ولو كانت على حساب المضمون، يأتي الفنان لطفي
لبيب ليشكل
استثناءً فنيًا راقيًا، يجسد المعنى الحقيقي للفنان صاحب الرسالة، المتجرد
من الأضواء الصاخبة، الثابت في خطاه الفنية
.
إن حضوره يظل حيًا في وجدان جمهوره، الذي يذكر له مئات
الأدوار المتنوعة التي صنعت له مكانة فريدة كـ"جوكر" حقيقي للشاشة، قادر
على أداء كل الألوان دون أن يفقد صدقه أو تأثيره أو بساطته الساحرة.
البدايات: من الجيش إلى الفن
ولد لطفي لبيب في 18 أغسطس عام 1947 بمدينة بني سويف، ودرس
في كلية الآداب، ثم التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، قسم تمثيل
وإخراج. غير أن القدر حمل له وجهًا آخر أولًا، حيث أدى الخدمة العسكرية
كمجند في حرب أكتوبر 1973 لمدة ٦ سنوات، وثانيا سفره للخارج عقب انتهاء
تجنيده مما ترك أثرًا كبيرًا على شخصيته ونظرته للحياة.
وربما كان هذا البعد الإنساني والوطني هو ما صقل أدواته
الفنية ومنحه قدرة خاصة على النفاذ إلى عمق الأدوار وتقديمها بحس واقعي حتى
في أكثر المشاهد عبثية أو سخرية.
نضوج فني متأخر.. لكنه استثنائي
رغم ظهوره المبكر على خشبة المسرح، لم يعرف لطفي لبيب
الشهرة الواسعة إلا في منتصف التسعينيات، لكنه عوض ذلك التنحي الزمني
بانفجار إبداعي حقيقي. تحوّل إلى وجه دائم الحضور في السينما والتلفزيون،
يجيد التحول والتلون دون أن يفقد ملامحه.
لم يكن النجم التقليدي، لكنه كان دومًا "اللاعب الجوكر"
الذي تسند إليه أصعب المهام التمثيلية، فينجزها ببراعة تفوق التوقعات.
لذلك، لا يندهش أحد حين يعرف أن رصيده من الأعمال يتجاوز 400 عمل فني ما
بين سينما وتلفزيون ومسرح.
بين الشر والطيبة.. واليهودي والكاهن
تميز لطفي لبيب بقدرة نادرة على لعب الأدوار المركبة. فكما
أضحك الجمهور بخفة ظل نابعة من الهدوء والذكاء، أجاد أيضًا أدوار الشر حين
لزم الأمر، دون أن يكون شريرًا كاريكاتوريًا. شاهدناه في أدوار العسكري
المتسلط، والمسؤول الفاسد، واليهودي الخبيث، والزوج الطيب، والجندي الشهم،
والطبيب المرهف والأنبا والكاهن.
في مسلسل "رأفت الهجان"، أبدع في تقديم شخصية اليهودي
المصري بعمق بعيد عن التنميط، فقدم نموذجًا واقعيًا فيه الصراع الإنساني
والولاء المعقد. وفي أعمال أخرى مثل "الدالي" و"نقل عام" و"حديث الصباح
والمساء"، أعطى للدراما الاجتماعية نكهة مختلفة من خلال أدوار الأب الصامت،
والرجل المتأمل، والمواطن المحاصر بالمفارقات.
في المقابل، لا يمكن نسيان أدواره الكوميدية في أفلام مثل
"السفارة في العمارة" و"مرجان أحمد مرجان" و"يا أنا يا خالتي"، حيث أتقن
أداء الشخصية الكوميدية دون إسفاف، بل بروح من الذكاء والدهاء والتمكن.
في السينما.. رمانة الميزان
لطالما شكل لطفي لبيب عنصرًا مميزًا في السينما المصرية،
خاصة في المرحلة ما بعد 2000. ورغم أنه لم يُمنح البطولة المطلقة، إلا أن
ظهوره كان دومًا سببًا في توازن العمل ورفع قيمته. من أبرز أفلامه:
"خيال
مآتة" مع أحمد حلمي، حيث لعب دورًا صغيرًا لكنه مؤثر.
"ضغط
عالي" الذي استعرض فيه جانبًا من قدرته على المزج بين الجدية والكوميديا.
"قهوة
بورصة مصر" الذي شارك فيه مع نخبة من الفنانين، كرمزية للفن الذي يشتبك مع
الواقع والمجتمع.
لى جانب مساحته الخاصة في أعمال عدد من النجوم منهم عادل
آمام في أفلام عمارة يعقوبيان ودور السفير الإسرائيلي جار عادل إمام في
"السفارة في العمارة" وغيرها، ومحمد هنيدي في "جاءنا البيات التالي" و"يا
أنا يا خالتي" و"أمير البحار" و"رمضان مبروك أبو العلمين حمودة"وغيرها.
التليفزيون.. مساحات أرحب للتعبير
عبر الشاشة الصغيرة، تألق لطفي لبيب في عشرات المسلسلات،
حيث وجد فيها مجالًا واسعًا ليبرز حساسيته كممثل يعرف كيف يصمت ويتكلم
بنبرة واحدة فيصنع التأثير.
في "نقل عام" مع محمود حميدة، قدم شخصية رجل بسيط تنوء
الحياة بكتفيه، فجاء أداؤه أقرب إلى الحياة من التمثيل.
وفي "رسالة من البيت" و"حديث الصباح والمساء"، تجلى كواحد
من الممثلين القلائل القادرين على التعبير بالصوت ونظرة العين فقط، إلى
جانب عشرات الأعمال الدرامية الشهيرة
المسرح.. العشق الأول
لطفي لبيب لم يتخل يومًا عن المسرح، رغم زحام التصوير
والنجومية. قدم عددًا من العروض اللافتة، منها:
"ليلة
من ألف ليلة"، التي أعادت تقديم ألف ليلة بروح فانتازية مع يحيى الفخراني.
"مسافرين"،
التي جمعت بين الوجع الإنساني وخفة الظل.
"جات
على غفلة"، التي استعرضت نقدًا اجتماعيًا بمرآة ساخرة.
ثبات نفسي وإيمان بالفن حتى آخر نفس
من أكثر ما يُحسب للفنان لطفي لبيب هو هدوءه النفسي واتزانه
في التعامل مع الأضواء والشهرة. لم يكن يومًا من أصحاب الصراعات أو
الصدامات، بل التزم خطًا فنيًا واضحًا، فيه احترام للناس ولمهنته.
صرح في أكثر من مناسبة بأنه مؤمن بأن "الفنان الحقيقي يعمل
حتى آخر نفس"، وأنه لا يفكر في الاعتزال رغم التحديات الصحية. وهذه الفلسفة
النقية تجاه الفن والتمثيل تظهر بجلاء في طريقة أدائه وتواضعه مع زملائه.
أزمة صحية.. وصمت كبير
في السنوات الأخيرة، ابتعد لطفي لبيب قليلًا عن الأضواء
بسبب أزمة صحية في الجهاز العصبي الطرفي أثرت على قدرته الحركية، ثم أنهى
إلتهاب رئوي حاد حياته بعد ساعات من نقله إلى غرفة الرعاية الخاصة.
قال في إحدى لقاءاته الأخيرة: "نفسي أمثل بس مش قادر، جسمي
مش بيساعدني، لكن قلبي وعقلي لسه في الفن". كلمات تلخص صدقه وتعلقه بالفن
رغم الألم.
تكريم في حياة فنان
لطفي لبيب تم تكريمه خلال السنوات الماضية من مهرجانات
مصرية حرصت على الاحتفاء بمسيرة فنية لا يستهان بها وأن تشعره بالامتنان
والتقدير في حياته، قبل أن يُذكر اليوم في صفحات التاريخ الفني. هو فنان من
طراز رفيع، أثبت أن الأثر لا يُقاس بعدد الأفيشات بل بما يُترك في ذاكرة
الناس من حب وصدق وفن راقٍ لا يُنسى.
يبقى لطفي لبيب علامة فنية مصرية مميزة، لا تشبه أحدًا، ولا
يقلد أحدًا. هو نسيج وحده، مثل أولئك الفنانين الذين نحبهم دون أن ننتبه،
ونفتقدهم دون أن نقرر، ونتعلم منهم معنى الصبر والصدق والهدوء في عالم صاخب. |