ملفات خاصة

 
 
 

الفيلم المصري في مهرجان كان:

“عائشة لا تستطيع الطيران

أمير العمري- كان

كان السينمائي الدولي

الثامن والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

عائشة لا تستطيع الطيران” هو الفيلم الروائي الطويل الأول الذي عرض في تظاهرة “نظرة ما” بالدورة 78 من مهرجان كان السينمائي. ومخرجه مراد مصطفى، أخرج ستة أفلام قصيرة قبله. وقد صرح عند تقديم فيلمه في كان- بأنه لم يدرس السينما، لكنه تعلم الإخراج من ممارسة العمل كمساعد مخرج كما تلقى تدريبات في بعض الورشات.

لأول وهلة، قد يبدو الفيلم من الخارج، كما لو كان عملا واقعيا، شديد الصرامة، إلا أن النظرة المتأنية، خصوصا بعد أن تكتمل مشاهدة الفيلم، تظهر أننا أمام “رؤية” خاصة متخيلة، وحشية للواقع في مجتمع القاهرة “السفلي”، وهو العالم الذي تعيش فيه بطلته “عائشة”.

إلا أن واقعية الفيلم هي ما يطلق عليه في الفن hyperrealism أو الواقعية الفائقة، الفنية، المصنوعة، التي تعلو فوق الواقع نفسه.

وقد اختار مؤلفه ومخرجه، مراد مصطفى، من البداية، أن يظل ينتقل بين الواقعي والمتخيل، وأن يجعل حتى المشاهد التي تدور في الشارع، مشاهد العنف والشجار بين الشباب المهمش الذي يبحث عن أي وسيلة كانت للحصول على المال، ضاربا عرض الحائط بكل قيمة، مشاهد ليست “واقعية” بقدر ما تعكس رؤيته الخاصة وخبرته الشخصية في الحي الذي ينتمي إليه الفيلم (حي عين شمس)، من زوايا معينة، وطبقا لترتيب محدد لمكونات الصورة كما رسمها في ذهنه.

ينتقل الفيلم من الدراما التي لا تنبع من الصراع بين الشخصيات بقدر ما تنبت من خلال معاناة بطلته، “عائشة” (بوليانا سيمون) وما تمر له من محن متكررة. وعائشة هي فتاة الستة والعشرين عاما، التي لجأت من السودان (غالبا من مسلمي جنوب السودان) إلى مصر، فهي قد تستر رأسها بغطاء الرأس، ونراها في أولى مشاهد الفيلم وهي تؤدي الصلاة، ثم تتحرك طوال الوقت، تنتقل من مكان إلى آخر، تصعد السلالم، تجوس داخل الأزقة، تمارس أعمالا شاقة في رعاية الرجال العجائز المرضى، المعاقين وشبه المعاقين، ترعاهم وتقضي حاجياتهم وتنظف مساكنهم، وتتعرض خلال ذلك لكثير من المشاكل، منها كما يمكن أن نتوقع، الانتهاكات الجنسية.

وعندما تشكو لمدير مكتب التشغيل الذي يسند إليها ما تقوم به من أعمال ويرسلها إلى أماكن العمل في الشقق المختلفة، من ما يطالبها به السيد “خليل” المريض المقعد الذي ترعاه، من تقديم “خدمات” جنسية، يخبرها أنه يستمع يوميا الى شكاوى كثيرة مماثلة، وأن من الأفضل لها الاستجابة والاستمرار في العمل واعتبار ما يطلب منها جزءا من “العلاج”. أما مكتب التشغيل نفسه فيستغلها، ويخصم لنفسه قسطا كبيرا من راتبها المفترض. وعندما تحتج تنال عقابا صارما: أقبح الشتائم بل والاعتداء بالضرب، وفي الفيلم يتردد الكثير من أقبح وأقذع الشتائم التي نسعمها في الشارع.

والحقيقة أن اختيار شخصيات الممثلين هي في حد ذاتها من أكثر من يجعل للفيلم مصداقية، فهي شخصيات “حقيقية” تماما، تنتمي إلى “المستنقع” الاجتماعي الجهنمي الذي يصوره الفيلم.

عائشة” تقيم في منطقة عشوائية، تسود فيها الفوضى الجريمة، ويتحكم في فيها شاب بلطجي، يتزعم عصابة من الشباب هو “زوكا” الذي يمارس العنف ضد كل من يتحدى نفوذه، خصوصا وأنه متورط أيضا في توزيع المخدرات. وهو يضغط على عائشة التي تقطن في شقة حقيرة تابعة له، ويهدد بطردها إلى الشارع بال إن لم تستجب له وتأتيه بنسخ من مفاتيح الشقق التي تعمل فيها لكي يقوم مع عصابته، بالسطو عليها.

ولدى عائشة صديقة، لاجئة من بلدها أيضا، تساعدها وتتضامن معها بل وتقوم بتزويدها بنسخ من مفاتيح الشقق التي تخدم فيها لكي تعطيها لزوكا، إلا أن صديقها الحقيقي هو “عبده” الطاهي الذي يعمل في مطعم يمتلكه شقيقه الفظ. وعبده يرحب دائما بعائشة، يطهو لها وجبات خاصة ويقدم لها الطعام، ليس لديه دافع سوى الرفقة الإنسانية. ربما يرى أنه مثلها، منبوذ معزول وحيد، خاضع. ولكن ربما كانت هذه الشخصية تستحق أن تنال عناية أكثر من جانب السيناريو. لكن عبده سرعان ما يختفي، كما ستخبرها صديقتها أنها وجدت طريقة للعبور من مصر إلى أوروبا في أحد القوارب وأنها لن تستطيع مساعدتها بعد ذلك.

بين حين وآخر، تتأمل عائشة جسدها، وتلاحظ أن هناك بثورا كثيرة انتشرت في منطقة البطن، وبعد قليل تحولت تلك البثور والبقع إلى “ريش”. هل هي تتحول تدريجيا إلى “نعامة” في تماه مع النعامة التي تتبدى لها بين وقت وآخر، تقف أمامها دون حراك؟ وهذه النعامة نفسها ستتراءى لعائشة وقد انتقمت لها أـشع انتقام من “خليل”، فقد نهشت أمعاءه وتركته غارقا في دمائه.

وهكذا يغادر الفيلم باستمرار، الواقعية المفترضة، إلى ما يشبه “الواقعية السحرية” التي تكتسب معان رمزية، فعائشة مثل النعامة، وهي من الطيور لكنها تعجز عن الطيران، كناية عن عجز عائشة عن الخروج من مأزقها.

الجحيم هنا هم الآخرون بالمعنى المادي أيضا.. فجميع شخصيات الرجال هنا، استغلاليون، همجيون، متوحشون، لا يقيمون وزنا لأي اعتبار أو قيمة إنسانية، من أول من يقوم بتشغيلها في مكتب العمل، إلى مخدوميها من الرجال، إلى البلطجية الذين يحاصرونها في المنطقة حيث تقيم، وخصوصا زوكا الذي يتعامل معها باعتبارها جزءا من ممتلكاته. وحده عبده هو الذي يشفق عليها، لكنه يختفي من حياتها ومن الفيلم.

لا شك أن مهمة المصور السينمائي مصطفى الكاشف لم تكن سهلة، فهناك الكثير من الحركات الطويلة للكاميرا، تتابع عائشة في سيرها داخل الحارات والأزقة التي تبدو في أدنى درجات التدني، مما يجعل الصورة أقرب إلى السوريالية، كما تتميز الصور بألوانها الشاحبة الرمادية، وتبدو غير مسواة، محببة، مع إضاءة خافتة تضفي أجواء الكآبة العامة على حياة عائشة. ولعل المشاهد الوحيدة التي تتضح فيها الألوان، وتصبح إضاءتها أكثر سطوعا، عندما تذهب عائشة لزيارة أقرانها من الفتيات والنساء اللاجئات، ولكن مرة أخرى، تبدو الأماكن التي يقمن فيها كأنها خارج الواقع تماما، أشبه بالمغارات والكهوف والحفر البدائية، حيث يرتفع صياح وصراخ الأطفال، وتحاول الأمهات التشبث بالحياة.

هناك تركيز على الوجوه، من خلال لقطات الكلوز أب، خصوصا لوجه عائشة للكشف عن انفعالاتها وتقريبها من المشاهدين، لكن مشاعر عائشة تظل محكومة، فهي تخفي أكثر مما تظهر، ورغم ما يحيط بها من عنف بصري وسمعي، إلا أن الفيلم لا ينحرف قط في اتجاه المبالغة أو الضغط من أجل توليد أكبر شحنة عاطفية، بل يظل عملا محكوما، صارما، مشدودا بقوة كما لو كان مصورا في لقطة واحدة ممتدة، خصوصا مع الأداء المثير للإعجاب من جانب “بوليانا سيمون” التي لم يسبق أن رأيناها على الشاشة من قبل، والفضل في اكتشاف قدرتها يرجع دون شك، إلى مراد مصطفى وفريقه.

ولا شك أن التجربة نفسها جيدة، وتبشر بوجود مخرج يعرف كيف يتعامل مع الأماكن الصعبة، ويستخرج من الممثلين كل ما يمكنهم التعبير عنه في تلقائية ويسر، ومعه فريق متمكن لابد أنه شارك في هذه التجربة المثيرة بحماس وحب، انعكس على مفردات الفيلم وباقي عناصره.

هذا فيلم شديد القسوة، يتراجع فيه الأمل كثيرا، ويوحي بأن بطلته الغريبة عن الواقع، ربما لا يكون أمامها سوى أن تندمج مع من حولها، وتودع كل ما كانت تعرفه عن الدنيا، لتصبح جزءا من هذا التدني.. طالما أنها “لا تستطيع الطيران”!

ولابد أن تكون نهاية الفيلم أيضا، نهاية متخيلة، للفوضى التي يمكن أن ينتهي إليها مجتمع متحلل، ساقط في العنف والاستغلال، يتغاضى عن الكثير من الخطايا ويدفن رأسه في الرمل، كالنعامة. وهذا المجتمع نفسه ربما أيضا، لا يستطيع الخروج بسهولة من أزمته، تماما مثل عائشة!

 

موقع "عين على السينما" في

29.05.2025

 
 
 
 
 

«سماء بلا أرض»: عن التضامن النسويِّ كوسيلةٍ للنجاة.

آلاء حسانين

تسرد المخرجة أريج السحيري، في فيلمها الروائي الثاني «سماء بلا أرض» (أو سماء موعودة بحسب العنوان الإنكليزي)، حكايةً لا تكتفي بالحديث عن الهجرة والعنف على نحوٍ سطحي، إنَّما تغوص في عمقِ التجربة الإنسانيَّة، فهي تجمعُ ثلاث نساء مهاجرات، من أعمارٍ وخلفيَّاتٍ متباينة، تحت سقفٍ واحد، في محاولةٍ جاهدةٍ لخلقِ وطنٍ داخل جدران هذا البيت. وفيما تتحرَّك هذه الأرواح المحاصرة داخل بيتٍ ضيِّق، في فضاءٍ مغلقٍ يفيضُ بالخوفِ والصمت، يبدأن بسردِ حكاياتهنَّ الشخصيَّة في جوٍّ من التضامن النسوي، ويسعين للنجاة، في الوقت الذي يواجهن فيه هشاشتهنَّ وصراعاتهنَّ النفسيَّة.

يلتقط الفيلم بعينٍ حسَّاسةٍ لحظات الصمتِ المشحونة، والألمِ المكتومِ والخوف الذي يتسلَّل من الخارج إلى جدرانِ هذا البيت، ومن داخل نفوسهنَّ وعلاقاتهن المتوتِّرة وذكرياتهن المؤلمة. البيت في «سماء بلا أرض» ليس ملجأ فحسب، فهو يجمع نساءً من خلفيَّاتٍ عديدة، يحاولن التعايش سويًا تحت ضغط الخوف، وهذا يمثِّل مساحة اختبارٍ لهن، ويصوِّر مدى هشاشة العلاقات الإنسانيَّة حين تتقاطع الرغبات والاحتياجات وسط ظروفٍ عصيبة.

تعيش ماري، وناني وجولي، تحت سقفٍ واحد. ماري قسيسيَّةٌ وصحفيَّةٌ سابقة، اختارت الصمتَ طريقًا للنجاة، ولا يخلو الهدوء لديها من عمقٍ خفيٍّ لا يُدرَك بالعين المجرَّدة. أمَّا ناني فتمثِّل هشاشة الأمومة في وجه قسوة الحياة اليومية: أمٌ علِقت بعيدًا عن ابنتها، امرأةٌ عاديَّةٌ من لحم ودم، لا تطلب سوى الأمان ولا ترغب إلا بالبقاء. وفي حين تجسِّدُ جولي، الطالبة الشابَّة القادمة إلى تونس للدراسة لا للهجرة، ملامحَ الشباب الحالم المتمرد الذي يتمسَّك بأحلامِه رغم الشروخ التي يتركها الواقع.

تتأرجح العلاقة بين ماري وناني بين الحنان والحذر، إذ تسعى ماري لتكون الأمَّ الروحيَّة لمن في البيت، تحيطهم بصمتها الحاني وإيمانها العميق، بينما تقابلها ناني بتحفظٍ خفي، إذ تخشى كأمٍّ مجروحة أن يتحوَّل الاعتماد إلى نوعٍ من الاستسلام، أو أن تُفقدها سيطرتها على ما تبقى من توازنها. أمَّا العلاقة بين جولي وناني فتعكس صراعًا أزليًا بين من ترفضُ الواقع ومن تتشبَّث بما تبقَّى منه، فجولي، بعينيها المشعَّتين بالأمل، تمثِّل التوقَ إلى الانعتاق والتمرد، إلى كسر القيود والسعي نحو المجهول، في المقابل تقفُ ناني مثقلةً بأمومتها، متردِّدة في كلِّ خطوة، يخنقها الخوفُ من المجازفة، خشية أن تخسَر آخر ما تبقى لها من أمانٍ هش.

رغمَ التوتُّرات التي تشوب العلاقات، تنبثقُ لحظاتٌ خافتةٌ من تضامنٍ صامت، تضامنٌ لا يُعلن عن نفسه بالكلمات، بل يتسلَّل في النظرات العابرة، في تحمُّل النساء لبعضهن، وفي محاولاتٍ صغيرةٍ لمنح الآخر شيئًا ولو في ظلِّ عوزٍ مشترك. وجوهرُ هذا التضامن يظهرُ في صورة الطفلة اليتيمة التي دخلت حياة هؤلاء النساء مثل ومضةٍ هادئة، لكنَّها غيَّرت كلَّ شيء.

منذ المشهد الأول، تجتمع النساء حول الطفلة الجالسة في حوض الاستحمام. تبدأ الصغيرة بسردِ رحلتها بهدوءٍ مؤلم، تروي كيف خسرت عائلتها كلها، غير مدركة تمامًا فداحة ما تقوله. تقابلها النسوة بصمتٍ مشوبٍ بالتأثر، يتجمَّعن حولها بقلوبٍ مفتوحة، في محاولة للطمأنة، لاحتضانٍ رمزيٍّ أكثر منه فعلي. تشعُّ اللحظة بوهجٍ ناعم وهش، لكنَّه صادق، وربما من تلك النقطة تحديدًا، بدأت خيوطٌ غير مرئيَّةٍ تنسج ارتباطًا بين هؤلاء النساء، ارتباطًا صنعه وجود الصغيرة، وتأرجحٌ بين رغبةٍ في حمايتها، ورغبةٍ أخرى في التشبُّث ببعضهنَّ البعض، بحلمٍ مشترك في الاستمرار رغمَ كلِّ شيء.

إنَّ وجود الطفلة اليتيمة لم يكن عابرًا. كانت أشبه بمرآةٍ خفيَّةٍ تعكس جروحَ كلِّ امرأة في البيت، جروحٌ حاولنَ طمرها بالصمت والانشغال. ومع كلِّ لحظةٍ تمعن فيها النسوة في النظر إلى الطفلة، كانت تنبثق أسئلةً أكبر وأعمق: هل يمكن لامرأةٍ مجروحةٍ أن تحمي أخرى؟ وهل يمكن للتضامن، وإن كان صامتًا، أن يُعيد للحياة معناها وسط الركام؟

تُقدِّم أريج السحيري فيلمًا لا يتناولُ النجاة من الجوع أو الحرب فحسب، بل من الوحدة، من الصمت، ومن التفتُّت الداخلي. لا تصنع فيلمًا سياسيًا مباشرًا، لا شعارات، لا خطابات ولا بطولاتٍ تقليدية، بل تمنحنا تجربةً تنبعُ من الداخل، من الهامش، من ذاك المكان الذي لا تصله الكاميرا عادةً. لا يمكنُ اعتبارُ الهجرة في هذا العمل موضوعًا بحدِّ ذاته، بل بصورةِ فضاءٍ إنسانيٍّ معقَّد. والمهاجر لا يُقدَّم كضحيَّةٍ أو كبطل، بل كإنسانٍ بكلِّ ما يحمله من هشاشةٍ وجراحٍ وأخطاء، إنسانٌ يعيشُ يومه مثقلًا بتعبٍ لا يزول، تحاصرُه الأسئلة المعلَّقة، ويقبض على أملٍ هشٍّ يحاذرُ فقدانه في كلِّ لحظة.

بعدسة فريدا مرزوق، تتوغَّل الكاميرا في الهشاشة: في النظرات الغارقة بالصمت، في رعشةِ اليد، وفي لحظات الارتباك التي تمرُّ غالبًا بلا انتباه. هنا تُصبحُ التفاصيلُ الصغيرة مفتاحًا لكشف أبعادٍ أكبر، كأنَّ السينما تُنصتُ لما هو غير منطوق، لما يختبئ بين طيَّات اليومي والعابر. تتَّبع أريج السحيري أسلوبًا تأمليًّا هادئًا يرفض اللهاث وراء الحدث ويختار التريُّث، وتلتقط الكاميرا ما يفلت عادةً من العين المألوفة، ما يُهمَل لصالح الدراما الصاخبة. بالتالي تغدو اللقطات الضيِّقة أداةً سرديَّةً بحدِّ ذاتها، تُجسِّد البيت كمساحةٍ خانقة لا تحاصرُ الجسد فحسب، بل تحاصره بالقصص التي لا تجدُ حيِّزًا لتتجاور أو لتُروى.

لا تختِم أريج السحيري فيلمَها بسرديَّةٍ مغلقةٍ أو بإجاباتٍ جاهزة، بل تتركُ المُشاهد أمامَ سؤالٍ مفتوحٍ يلاحقه حتى بعد انتهاءِ العرض: ما معنى البيت حين يضيق بأهله؟ حين يتحوَّل من مأوى إلى عبء، من حضنٍ إلى جدار؟ تطرحُ أريج سؤالًا عن السماء التي لا تُفضي إلى أرض، وعن أراضٍ لا تعود صالحة لساكنيها، لا لأنَّها مدمَّرة، بل لأنَّها لم تعد تتَّسع لمن يعيشون فيها. إنَّها أسئلةٌ لا تخصُّ المهاجرين وحدهم - وإن كانت تمسّهم في الصميم - بل تخصُّ كلَّ من يشعر أنَّ الجدران تضيق عليه، أنَّ الهواء شحيح، وأن المعنى يتسرَّب من بين الأصابع.

يستندُ الفيلم إلى أحداثٍ واقعيَّةٍ جرت في تونس عام 2023، حين تعرَّض المهاجرون من دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى موجةِ عنفٍ وتمييز واعتقالات تعسُّفية، ما أثار توترًا اجتماعيًا واسعًا في البلاد. وقد عُرض الفيلم عالميًا لأوَّل مرَّةٍ ضمن قسم "نظرة ما" في الدورة الـ78 من مهرجان كان السينمائي، وهو ثاني أفلام أريج السحيري الروائيَّة الطويلة بعد فيلمِها «تحت الشجرة» (2022).

بدعم من مبادرة سينماء, نُشرت هذه المقالة أيضًا في منصة ميم السينمائية.

 

####

 

المرشَّحون الأقوى: يقولون في المهرجان إنَّه سيفوز

آلاء حسانين

في مساء يوم الثلاثاء 13 مايو، على شاطئ لا كروازيت، توهَّجت أنوار مهرجان كان السينمائي في دورته الثامنة والسبعين، حيث اجتمعت نخبةٌ من صنَّاع السينما، وعشَّاق الفن السابع من مختلف أنحاء العالم، في احتفالٍ فنيٍّ وثقافيٍّ فريد. كان هذا الحدث السنوي، الذي يحملُ هذا العام شعار "الأمل"، منصَّةً تعكسُ حالة السينما المعاصرة، في عالمٍ مليء بالتحدِّيات الاقتصاديَّة والسياسيَّة والإنسانيَّة. لم تكن الدورة مجرَّد مهرجانٍ للأفلام، بل نافذة تطلُّ منها السينما على الواقع، محاولةً فهمه، وتشخيصه، وربما رسم طرقٍ للخلاص أو التغيير.

منذ الإعلان الرسمي عن تشكيلة الأفلام المشاركة في المسابقة، التي شهدت إضافة عددٍ من الأفلام الجديدة حتى الأسابيع الأخيرة، تأكَّد أنَّ الدورة الثامنة والسبعين ستكونُ استثنائية، بمواجهةٍ شديدةٍ بين أسماء كبيرةٍ سبقَ لها أن صنعت تاريخ السينما، وبين مخرجين جدد يحملون رؤى مبتَكرةً وجريئة، في توازنٍ بارعٍ بين التجريب والاحتفاء بالتقاليد السينمائيَّة.

نظرةٌ عامَّةٌ حول أفلام المسابقة الرسميَّة

Phoenician Scheme - 2025)، وهو فيلمٌ يختزلُ طابعه السينمائي الخاص، الممتاز في بناء العوالم الصغيرة التي تنضحُ بحسِّ الفكاهة السوداء والخيال الدقيق. في هذا العمل الجديد يقدِّمُ أندرسون، الذي يشتهر بتشكيله المميز للألوان، وتركيبه المعماري للقصص، سردًا معقَّدًا يدور حول مؤامرةٍ تحكمها التقاليد والانتقام، ولكن أيضًا تشتبك مع مواضيع الصراع العائلي والهويَّة. يأخذ الفيلم المشاهد في رحلةٍ بصريَّةٍ مبهرة، تجمعُ بين الرومانسيَّة والدراما والكوميديا، مع أداءٍ استثنائيٍّ من طاقم العمل.

في زاوية أخرى، يأتي آري آستر بفيلمه «إدينغتون» (Eddington - 2025)، الذي يصنَّفُ ضمن السينما النفسيَّة الفلسفيَّة. يغوصُ آستر، المعروف بحسِّه المرهَف في استكشاف أعماق النفس البشريَّة، في قصَّة عالمِ فيزياءٍ يعاني من اضطراباتٍ عقليَّةٍ أثناء بحثه المحموم في طبيعة الزمن وأسراره. يستخدمُ الفيلم لغةً بصريَّةً معقَّدة، تتداخل فيها أطر الواقع والحلم، ويثيرُ تساؤلاتٍ وجوديَّةٍ عميقةٍ عن الإدراك والذاكرة والهويَّة، موفِّرًا تجربةً سينمائيَّةً كثيفة، قد لا تكون مريحةً لكنَّها بلا شكٍّ محفِّزةٌ للتفكير.

يقدِّمُ المخرج الصيني بي جان في فيلمه «القيامة» (Resurrection - 2025) تجربةً سينمائيَّةً تميَّزت بطابعها الحلمي والرمزي، حيث ينسجُ العمل بين زمنين وأماكن مختلفةٍ ليعرض قصَّةً عن البعث والتجدُّد. يدعو الفيلم، الذي يستخدم لغةً بصريَّةً شاعريَّةً وإيقاعًا بطيئًا مدروسًا، المشاهِد إلى التأمُّل في معاني الحياة والموت والذاكرة، عبر سردٍ غير تقليديٍّ يتحدَّى قواعد البناء السينمائي الكلاسيكي، ويبرزُ قوَّة الصورة والرمز في التعبير عن المواضيع العميقة.

لا يغيبُ الأسلوب التقشُّفي والإنساني للأخوين جان-بيير ولوك داردين عن المسابقة، حيث يعودان بفيلم «أمهات شابات» (The Young Mother's Home - 2025)، الذي يتناولُ قضيَّةً اجتماعيَّةً حسَّاسةً تتعلَّق بفتياتٍ قاصراتٍ في مؤسسة رعايةٍ ببلجيكا. بأسلوبهما المعتاد الذي يعتمدُ على التصوير اليدوي والحوار المكثَّف، يستعرض الأخوان داردين قصصًا مفعمةً بالمعاناة الإنسانيَّة، لكنَّها تتَّسم بالأمل والبحثِ عن الخلاص. لا يكتفي الفيلم بسردٍ واقعي، بل يتعمَّقُ في تحليل الأسباب الاجتماعيَّة والسيكولوجيَّة التي تؤدي إلى هذه الأوضاع، مقدِّمًا دراما مؤثِّرة ذات بعدٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ واضح.

تعود المخرجة الفرنسية جوليا دوكورنو، الحائزة على السعفة الذهبية سابقًا، بفيلم «ألفا» (Alpha - 2025) الذي يبرِزُ الجرأة السينمائيَّة والتجريب الفني. تتناول دوكورنو قصَّةَ فتاةٍ مراهقةٍ تصابُ بمرضٍ غامضٍ يحوِّلها إلى تمثالٍ رخامي، في سردٍ يمزجُ بين الرعب البيولوجي والتأمُّل الفلسفي في الجسدِ والهويَّة. يثيرُ الفيلم الجدل بسبب رمزيَّته الكثيفة والأسلوب غير المألوف، ويطرحُ أسئلةً عميقةً حول الألم، التحوُّل، والحريَّة الشخصيَّة، مع تصويرٍ مكثَّفٍ وحسيٍّ يجعلُ التجربة مشاهدةً معقَّدةً لكنَّها غنيَّةٌ بالتأمُّل.

في مشهدٍ دراميٍّ عاطفي، تقدِّم المخرجة اليابانيَّة تشيي هاياكاوا فيلم «رينوار» (Renoir - 2025) الذي يدور في طوكيو الثمانينيَّات، ويرصد حياة فتاةٍ صغيرةٍ تواجهُ مرض والدها، حيث يتحوَّل المرض إلى استعارةٍ عن مرور الزمن والخسارة. يتميَّزُ الفيلم بحسٍّ بصريٍّ رفيع، وبناءٍ سرديٍّ دقيقٍ يمزج بين الواقع الداخلي للشخصيات وتأثير البيئة المحيطة، مع أداءٍ تمثيليٍّ يحاكي واقع الألم والحنين بطريقةٍ واقعيَّةٍ مؤثِّرة.

يقدم أوليفر هيرمانوس في فيلمه «تاريخ الصوت» (The History of Sound - 2025) استكشافًا فنيًّا وأدبيًّا لعلاقة الإنسان بالصوت، متتبعًا كيف يشكِّل الصوت ذاكرةً ومشاعر، وكيف يمكن للسينما أن توظِّف الصوتَ كعنصرٍ سرديٍّ مستقل. يحفرُ الفيلم في عمق الحواس والذكريات عبر لقطاتٍ مركَّزةٍ وأجواء صوتيَّةٍ معقَّدة، مانحًا المُشاهد تجربةً حسيَّةً فريدةً تجمعُ بين الموسيقى والسينما والصوت.

تقدم حفصية حرزي في فيلمها «الأخت الصغرى» (The Little Sister - 2025) دراسةً نفسيَّةً اجتماعيَّةً حول فتاةٍ تكافحُ في محيطٍ مضطرب، حيث تتشابك الصراعات العائليَّة مع التحدِّيات الفرديَّة. يُبرزُ الفيلم التفاصيل الصغيرة في الحياة اليوميَّة، ويعكسُ بأداءٍ تمثيليٍّ عميقٍ مشاعر الحيرة والبحث عن الذات، مع حساسيَّةٍ كبيرةٍ تجاه موضوعات الهويَّة والانتماء.

يبحر أوليفر لاكس في فيلمه «صراط» (Sirât - 2025) بين عوالم الأسطورة والواقع، مقدِّمًا قصَّةً روحيَّةً غنيَّةً وعميقةً تمزجُ بين الطبيعة والتصوُّف في رحلة بحثٍ بطلها عن خلاصه الداخلي. يتميَّز الفيلم بأسلوبٍ بصريٍّ شعريٍّ يتداخل فيه تصويرُ المناظر الطبيعيَّة الخلابة مع الموسيقى التصويريَّة التي تخلقُ أجواءً تأمليَّةً مفعمةً بالسلام والتسامح. هذا العمل يبرهنُ على قدرة السينما في تجاوز الحكي التقليدي، حيث يأخذ المشاهد في رحلةٍ فكريَّةٍ وروحيَّةٍ تجعله يتوقَّفُ أمام أسئلة الوجود والبحث عن الذات، مستكشفًا العلاقة بين الإنسان والطبيعة في أبهى صورها.

يستحضرُ ريتشارد لينكليتر في فيلمه «الموجة الجديدة» (New Wave - 2025) التاريخ السينمائي الفرنسي وتأثير حركة السينما الجديدة التي شكلت ثورةً فنيَّةً في الستينات. وعبر سردٍ ذكيٍّ ومليءٍ بالمراجع السينمائيَّة، يقدم لينكلاتر تحيَّةً صادقةً ومُحبَّةً لهذا الإرث السينمائي، كما يستعرضُ تأثيره على صانع أفلامٍ أميركيٍّ شابٍّ يبحثُ عن هويَّته الفنيَّة. يجمعُ الفيلم بين حبِّ السينما كفنٍّ وثقافة، وبين التجديد الروحي والبحث الدائم عن الأساليبِ الجديدة، ليكون بذلك عملًا يحتفي بالسينما كروحٍ متجدِّدة لا تنضب، ويمزجُ بين الحنين للماضي والرغبة في التغيير.

أمَّا سيرجي لوزنيتسا فيقدِّمُ في فيلمه «مُدَّعيان عامَّان» (Two Prosecutors - 2025) سردًا سياسيًا معقَّدًا يركِّز على صراع المحامين في بيئةٍ مليئةٍ بالفساد والنفاق. من خلال قصَّة دراميَّةٍ متقنة البناء، يسلط لوزنيتسا الضوء على معاناة العدالة وسط منظومةٍ قضائيَّةٍ مختلَّة، حيث يتحوَّل الصراع القانوني إلى معركةٍ رمزيَّةٍ بين الحق والباطل. يمزجُ الفيلم بين التشويق النفسي والتحليل السياسيِّ الدقيق، مع تصويرٍ واقعيٍّ دقيقٍ للأجواء القانونيَّة والاجتماعيَّة التي تعكس صراعات السلطة، الفساد، والمقاومة، ممَّا يجعله عملًا معاصرًا هامًا يطرح تساؤلاتٍ حيويَّةٍ عن مصير العدالة في المجتمعات الحديثة.

هذا ويقدِّم ماريو مارتوني في فيلمه «فيوري» (Fuori - 2025) لوحةً سينمائيَّةً معقَّدةً تنسج بين التحوُّلات الاجتماعيَّة العميقة التي شهدتها مدينة نابولي، وبين حياة المثقَّفين والفنَّانين الذين عاشوا تلك الحقبة. يعتمدُ مارتوني على معالجةٍ فنيَّةٍ متقنةٍ تجمعُ بين الحكي الشخصي والذاكرة الجماعيَّة، ليكشفَ كيف تتداخل التغيُّرات السياسيَّة والثقافيَّة في تشكيلِ الهويَّة الاجتماعيَّة والفرديَّة. لا يقتصرُ السردُ في الفيلم على سردٍ تاريخيٍّ فقط، بل يعمدُ إلى الغوصِ في تفاصيلِ النفسِ البشريَّة وسط زخم الأحداث، ممَّا يجعله عملًا غنيًا بالتفاصيل والرموز التي تستدعي من المُشاهد إعادة التفكير في تاريخ مدينته وعلاقته بالمجتمع.

في «العميل السرِّي» (The Secret Agent - 2025)، يأخذنا المخرج البرازيلي كليبر ميندونكا في رحلةٍ دراميَّةٍ مشوِّقةٍ في قلب عالمِ الجاسوسيَّة والمؤامرات السياسيَّة. يتميَّزُ الفيلم ببناءٍ سرديٍّ محكم، حيث تبرز الدراما النفسيَّة للشخصيَّات التي تتصارعُ بين الولاء والخيانة، بين الحقيقة والخداع. يستغلُّ ميندونكا أجواء التشويق ليكشفَ عن جوانب مظلمةٍ من السياسة والسلطة، ممَّا يجعل الفيلم تجربةً عميقةً تتخطَّى مجرَّد إثارة الجريمة لتصبح تحليلًا لواقع السياسة المعاصرة وتعقيداته.

أما دومينيك مول في فيلمه «القضيَّة 137» (Case 137 - 2025)، فيطرح قصَّة جريمةٍ معقَّدةٍ تدور في فضاءٍ مشحونٍ بالتوتُّر النفسي، حيث تتشابكُ خطوط التحقيق مع خبايا النفسِ البشرية. يبني الفيلم تشويقًا نفسيًا بطيئًا لكنَّه متقن، تبرز فيه الصراعات الداخليَّة للشخصيَات ودوافعها المظلمة، ممَّا يجعل المشاهدَ يعيشُ حالةً من الترقُّب وعدمِ اليقين طوال مدَّة العمل. هذا التركيز على التفاصيل النفسيَّة يجعل من الفيلم أكثرَ من مجرَّد تحقيقٍ جنائي، بل إنَّه دراسةٌ إنسانيَّةٌ لما يحدث خلف الكواليس.

يواصلُ المخرج الإيراني جعفر بناهي في «حادث بسيط» (A Simple Accident - 2025) تقديم سردٍ بصريٍّ قويٍّ عن معاناة الإنسان في مواجهة الظلم والقهر، مستندًا إلى تجربته الطويلة في التعبير عن قضايا الحريَّة والعدالة في إيران. يعكسُ الفيلم، بأسلوبه البسيط والمؤثِّر، التحدِّيات التي يواجهها الأفراد العاديُّون في ظلِّ أنظمةٍ قمعيَّة، مما يجعله عملًا إنسانيًّا بامتيازٍ يسلِّط الضوء على قصصٍ لم تُروَ كثيرًا.

تغوص لين رامزي في «مُت يا حبِّي» (Die My Love - 2025) في أعماق الصراعات النفسيَّة من خلال قصَّةٍ شخصيَّةٍ متشابكة، حيث يتناولُ الفيلم موضوعاتٍ مثل الحب، والألم والاضطراب النفسي، بطريقةٍ سينمائيَّةٍ شعريَّةٍ تمزجُ بين الصورة والموسيقى والإحساس الداخلي. تعرفُ رامزي كيف تصنع جوًا من الحميميَّة النفسيَّة التي تجعلُ المشاهد يتعاطف مع الشخصيَّات ويشعر بحيرتها الداخليَّة.

في حين تقدِّمُ كيلي ريشاردت في «العقلُ المدبِّر» (The Mastermind - 2025) دراسةً نفسيَّةً دقيقةً عن الجريمة، حيث تركِّز على تفاصيل النفس البشريَّة ودوافعها الخفيَّة. يعيدُ الفيلم النظر في مفاهيم الذنب والبراءة، مقدِّمًا سردًا بطيئًا ومكثَّفًا يبرز التوتُّر بين العقل والعاطفة في لحظات التحول الحاسمة.

بينما يسلِّطُ سعيد روستائي في فيلمه الإيراني «امرأة وطفل» (Woman and Child - 2025) الضوء على التحدِّيات الاجتماعيَّة العميقة التي تواجه النساء في إيران، مسلِّطًا الضوءَ على قضايا حقوق الإنسان، الهويَّة والاضطهاد المجتمعي. يتميَّز الفيلم بنظرةٍ ناقدةٍ وشجاعةٍ تجمع بين الحكي الواقعي والرمزيَّة السينمائيَّة، ممَّا يجعله تحفةً فنيَّةً تطرحُ أسئلة جوهريَّةً حول الحريَّة والكرامة.

أما طارق صالح فيستعرضُ في «نسور الجمهوريَّة» (The Republic’s Eagles - 2025) تاريخًا سياسيًّا معاصرًا عبر دراما مشحونةٍ بالعواطف والصراعات، حيث يعيد سردَ لحظاتٍ مفصليَّةٍ في مسيرة دولته، مركِّزًا على الأبطال والمواقف التي شكَّلت الوعي الوطني. يجمعُ الفيلم بين الأسلوب التاريخي والدرامي، ويطرحُ تساؤلاتٍ عميقةٍ عن السلطة، النضال، والهويَّة الوطنيَّة.

في المقابل، تقدم الألمانيَّة ماشا شيلينسكي في «صوت السقوط» (Sound of Falling - 2025) دراسةً نسويَّةً عميقةً تستعرضُ العلاقة بين الأجيال النسائيَّة في عائلةٍ واحدة، متعمِّقةً في الصراعات النفسيَّة والاجتماعيَّة التي تشكِّلُ تجربتهن الحياتيَّة. يشكِّلُ الفيلم تأمُّلًا حيويًا في الهوية النسائيَّة، العلاقات الأسريَّة، وأثرِ التاريخ الشخصي على الحاضر، مقدِّمًا رؤيةً سينمائيَّةً حسَّاسةً ومتفرِّدة.

وأخيرًا تعيدُ المخرجة الإسبانيَّة كارلا سيمون في «روميريا» (Romería - 2025) ربط السيرة الذاتيَّة بالذاكرة الاجتماعيَّة من خلال قصَّةٍ تجمع بين تفاصيل الحياة الشخصيَّة وتاريخ المدينة التي نشأت فيها. يمزج الفيلم بين الحكي الوثائقي والدراما الشخصيَّة، ليبرز كيف يؤثِّر الماضي الجماعي على تشكيلِ الهويَّة الفرديَّة، في تجربةٍ سينمائيَّةٍ شديدة الحميميَّة والواقعيَّة.

آراء النقاد حول بعض الأفلام

نال الفيلم النرويجي «القيمة العاطفيَّة» (Sentimental Value - 2025) للمخرج خواكيم ترايير استحسانًا واسعًا، خاصَّةً من الناقد البريطاني بيتر برادشو في The Guardian، الذي وصفه بأنَّه «عملٌ ذاتيٌّ واعٍ ومشحونٍ عاطفيًا»، مشيدًا بأداءِ ستيلان سكارسغارد في دورِ مخرجٍ يحاول إعادة بناء علاقته ببناته بعد وفاة والدتهن. أما غاوتييه لينز من Cinema Reporters فاعتبر الفيلم «استكشافًا حميميًا ومؤثرًا للعائلة والذكريات وقوَّة الفنِّ التصالحيَّة».

أما «الموجة الجديدة» لريتشارد لينكليتر، فقد استُقبل كتحيَّةٍ سينمائيَّةٍ للموجة الفرنسيَّة الجديدة، إذ وصفته مجلة Numéro بأنَّه «عودة كبيرة لريتشارد لينكليتر»، وأضافت أن العمل «يوازن بين الرومانسيَّة والجماليَّة النيو-ريترو بروح وفاءٍ واضحةٍ لحقبة جان لوك غودار».

في المقابل، لاقى الفيلم الإسباني «صراط» للمخرج أوليفر لاكس استقبالًا متباينًا في فرنسا؛ امتدحته صحف مثل Libération، بينما عبّرت Cahiers du Cinéma وLe Figaro عن تحفظات واضحة بشأنه. أما على الصعيد الدولي، فقد أثنت عليه منصات مثل The Hollywood Reporter وVariety وIndieWire، مشيدة بجماله البصري وأصالته السردية.

وقد نالت المخرجة الإسبانية كارلا سيمون إشادةً واسعةً عن فيلمها «روميريا» ، الذي اختتمت به ثلاثيَّتها العائلية، فقد منحه مارك فان دي كلاشورست من International Cinephile Society تقييمًا شبه كاملٍ واعتبره «أفضل أفلام سيمون حتى الآن»، فيما أثنت ويندي إيدي من ScreenDaily على «قدرة سيمون النادرة على التقاط الطبيعة المتقلبة للعائلة».

أما فيلم «ألفا» لجوليا دوكورنو، فقد جاء بعد النجاح الكبير الذي حققته في «تيتان» (Titane - 2021)، لكنه أثار جدلاً واسعًا بين النقاد، بحيث وصفته كيت إيربلاند من IndieWire بأنَّه «محاولةٌ طموحةٌ لكنَّها غير متماسكة»، مشيرةً إلى أن «الرمزيَّة المفرطة والتسلسل الزمني المربك يضعفان تأثير الفيلم». وقد انعكست هذه الآراء في صالات العرض، حيث بدت ردود الفعل متباينةً بين الحضور.

أكثر الأفلام إثارة للانقسام كان «الخطة الفينيقية» لويس أندرسون، إذ شهد تصفيقًا حارًا وصفيرًا في الوقت نفسه بعد عرضه. فقد كتب تيم غريرسون من ScreenDaily أن الفيلم «ينقلُ المشاهد إلى عالمه الخاص، لكنَّ السرد يبدو معقدًا أكثر من كونه ممتعًا»، بينما وصفه ويليام بيبياني من TheWrap بأنه «عملٌ فنيٌّ جادٌّ يبدو كأنَّه مشروعٌ فاشل». وعلى النقيض، رأى سكوت فاينبرغ من The Hollywood Reporter أن الفيلم «قد يكون أفضل أعمال أندرسون منذ أكثر من 10 سنوات».

توقعات الفيلم الفائز

من بين هذه المجموعة المتميزة من الأفلام، يبرز فيلم «القيمة العاطفيَّة» للمخرج النرويجي خواكيم ترايير كأحد أبرز المرشَّحين لنيل السعفة الذهبية في مهرجان كان 2025. هذا العمل السينمائي لا يكتفي بسردِ قصَّةٍ تقليديَّة، بل يتعمَّق في الأبعاد الإنسانيَّة للعلاقة بين المخرج وابنته، مقدمًا حوارًا صامتًا بين الماضي والحاضر، الحب والعتاب، الذاكرة والنسيان. أداء الممثلين هنا يحملُ ثقلَ المشاعر بكلِّ دقَّةٍ وحساسيَّة، مما يجعل المشاهدين يشعرون بأنَّهم جزءٌ من هذه العلاقة المتشابكة. إنَّ استخدام ترايير لتقنيَّات التصوير الداخلي والإضاءة الطبيعيَّة يزيدُ من إحساس الفيلم بالواقعيَّة والحميميَّة، ويعزِّزُ من قوَّته العاطفيَّة. لا يسلط الفيلم الضوء فقط على العلاقة الشخصيَّة، بل يفتحُ نافذةً على موضوعاتٍ أوسع مثل الذاكرة العائليَّة، ألم الفقد، وتأملات في الهويَّة والوقت، ما يجعله عملًا سينمائيًا متكاملًا يلامسُ القلوب والعقول معًا.

أما فيلم «إدينغتون» لآري آستر، فيُعدُّ رحلةً فكريَّةً معقَّدةً وغامضةً داخل عقلِ عالم فيزياءٍ يغوص في أسرار الزمن والواقع. يقدِّم آستر من خلال هذا الفيلم تجربةً سينمائيَّةً تجمع بين الرعب النفسي والفلسفة العميقة، حيث تلتقي الأفكارُ العلميَّة بالتجارب الإنسانيَّة، في سردٍ مشحونٍ بالتوتُّر والتأمُّل. يتحدَّى الفيلم المشاهد بأسئلةٍ وجوديَّةٍ كبيرةٍ عن الإدراك والجنون، محاولًا فكَّ شفرةِ الزمن بطريقةٍ غير تقليديَّة، معتمدًا على مشاهد متشابكةٍ وموسيقى تصويريَّة تعزِّزُ من الحالة النفسيَّة المشحونة. لا شكَّ أنَّ «إدينغتون» تجربةٌ سينمائيَّةٌ جريئةٌ تتطلَّبُ من المتلقي تركيزًا عميقًا، وتعكس قدرة السينما على المزج بين الفنِّ والفكر.

أما «الخطة الفينيقية» لويس أندرسون فيأخذنا في رحلةٍ سينمائيَّةٍ فريدةٍ من نوعها، مليئةٍ بالتفاصيل الدقيقة والعالم الخياليِّ الخاص بالمخرج المعروف بأسلوبه البصريِّ المميز. يتميَّزُ الفيلم بحبكته المعقَّدة وتفاصيله الدقيقة التي تشبهُ لعبةَ تركيب الألغاز، حيث ينسجُ أندرسون قصَّةً متعدِّدة الطبقات بين الماضي والحاضر، تتداخل فيها الرموز والمواضيع الفلسفيَّة، مع إيقاعٍ سرديٍّ خاصٍّ يجمع بين الكوميديا السوداء والحنين. المشاهد هنا يُدعى للانغماس في عالمٍ بصريٍّ غريب، مليء بالألوان والديكورات المصمَّمة بعناية، مما يجعلُ الفيلم تجربةً سينمائيَّةً شاملةً تتطلَّب من المشاهد الانتباه والتمعُّن.

مع هذه الأفلام الثلاثة التي تمثِّل قمَّة الإبداع والتجديد السينمائي، تتعزَّز المنافسةُ على السعفة الذهبيَّة هذا العام، حيث تتشابكُ التجارب الفنيَّة والتقنيَّة مع موضوعاتٍ إنسانيَّةٍ وفلسفيَّةٍ عميقة. إنَّ التنوعَ في الأساليب بين الحميميِّ النفسي، الفلسفي المعقد والخيالي البصري، يضعُ المهرجان في موقعِ الريادة لتقديم أعمالٍ تتجاوز حدود السينما التقليديَّة، وتفتح آفاقًا جديدةً للتعبير السينمائي.

من خلال هذا التنوُّع الفنيِّ والموضوعي، تعكسُ الدورة الثامنة والسبعون لمهرجان كان مشهدًا سينمائيًا معاصرًا نابضًا بالحياة، مليئًا بالتحدِّيات، ومفعمًا في الوقت ذاته بالأمل والإبداع. وهي بذلك تؤكِّد من جديد مكانة كان كمنصَّةٍ لا غنى عنها لاكتشاف أبرز ما تقدِّمه السينما العالميَّة، وفضاءٍ حيويٍّ تنبضُ فيه الثقافة والفن، وتسهمُ في رسمِ ملامح مستقبل السينما بألوانها المتعدِّدة وأفكارها الجريئة.

بدعم من مبادرة سينماء, نُشرت هذه المقالة أيضًا في منصة ميم السينمائية.

 

موقع "سينماء" السعودي في

29.05.2025

 
 
 
 
 

بعد فوزه بجائزة أفضل إخراج في "نظرة ما"

مخرج "كان يا ما كان في غزة": الآن ليس وقت النقد بل وقف الإبادة

 أحمد العياد

إيلاف من كانحقق الشقيقان عرب وطرزان ناصر إنجازًا سينمائيًا لافتًا بفوزهما بجائزة أفضل إخراج في قسم "نظرة ما" ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي 2025 عن فيلمهما الجديد "كان يا ما كان في غزة". وفي حوار خاص مع "إيلاف"، تحدث المخرج عرب ناصر عن خلفيات الفيلم، وتفاصيل تطوره، والتحديات التي واجهتهم خلال إنجازه، كما علّق على الواقع المأساوي في غزة والموقف من العدوان المستمر.

كيف بدأت كتابة الفيلم وما هي ظروف تطوره؟

الفيلم ليس موضوعًا جديدًا بالنسبة لنا، بل يأتي امتدادًا لمشروعنا السينمائي المستمر لتوثيق حياة الإنسان الغزّاوي. بدأنا في كتابة الفيلم عام 2015، وخلال تلك السنوات عملنا على أفلام أخرى، لكن هذا المشروع ظل حاضرًا، يعود ويتطور باستمرار، حتى اكتمل السيناريو بالكامل في السادس من أكتوبر، أي قبل يوم واحد فقط من عملية ٧ اكتوبر

هل أثّر العدوان الأخير على نهاية الفيلم؟

لم يتغير أي شيء في النص بعد ما حدث. لم نُعد كتابة أي تفصيل، وأبقينا العمل كما هو. لكن ما اكتشفناه لاحقًا هو أن أهمية الفيلم ازدادت كثيرًا، لأنه يتناول فترة ما بعد عام 2007، بعد فوز حماس بالانتخابات، حين فرضت إسرائيل حصارًا رسميًا على غزة واعتبرتها "كيانًا معاديًا". منذ ذلك الحين، تغيّر شكل الحياة بالكامل، واتّسع السجن، وأصبح الحصار محسوبًا حتى على مستوى السعرات الحرارية التي يسمح بدخولها للفلسطيني.

ما الذي دفعك لاختيار فنان سوري لبطولة الفيلم، رغم صعوبة إتقان اللهجة الغزّاوية؟

"نحن لا نختار الممثل بناءً على جنسيته، بل ننظر أولًا إلى طاقته، وثانيًا إلى شكله وبنيته الجسدية، وثالثًا – وهذا يأتي في المرتبة الأخيرة – إلى خلفيته أو من أين هو. نؤمن بقدرتنا على العمل على أي تفصيل، طالما أن الطاقة المناسبة موجودة.

في هذا الفيلم، كان لدينا ثلاث شخصيات رئيسية خضعت لتدريب طويل على مدى عام كامل لاكتساب اللهجة الغزّاوية، وهو أمر صعب بالفعل، خصوصًا أن اللهجة السورية مختلفة جذريًا على مستوى الإيقاع والنبرة وحتى عضلات النطق. إتقان اللهجة الغزّاوية يتطلب تغيّرًا كاملًا في الأداء الصوتي، بما يشبه "إعادة برمجة" للجهاز الصوتي.

لذلك، لم تكن المسألة مرتبطة بجنسية الممثل بقدر ما كانت مرتبطة بإيماني بأن أي فنان، إذا امتلك الطاقة الصحيحة والرغبة الحقيقية، يمكنه تجاوز كل هذه التحديات. خصوصًا حين نتحدث عن واقع كالحصار في غزة، حيث كانت حتى السعرات الحرارية لكل فرد تُحتسب بدقة؛ فالسؤال الحقيقي هو: ما الذي كنّا نتوقعه من هؤلاء الناس؟

الموسيقى التصويرية كانت رائعة بالفيلم؟

الموسيقى أعدّها أمين بوحافة، الذي أوجه له تحية كبيرة. فلقد عمل خلال وقت ضيق للغاية، ومع ذلك نجح في تقديم موسيقى عبّرت بصدق عن المكان والحالة والشخصيات. كان هناك تفاهم كبير بيننا، وقدّم في النهاية ما كنت أتخيله تمامًا منذ البداية.

هل من حق السينما توجيه النقد لعناصر القضية الفلسطينية؟

أبدًا. اليوم يُسفك الدم في غزة، ولا يوجد أي مبرر لما يحدث. عندما يُطلق صاروخ على مدرسة تعلم تمامًا أن فيها أطفالًا، فما الذي يمكن نقده؟ النقد بين الفلسطينيين مهم بالتأكيد، وأنا لست ضده، بل أراه ضروريًا، لكن ليس الآن. الآن هو وقت وقف الإبادة، لا وقت التحليل أو التقييم.

أهل غزة سيكون لهم رأي بالتأكيد عن الفيلم حين يشاهدوه؟

وصلنا الكثير من الآراء حول افلامنا السابقة التي صورناها في غزة ، حتى السلبية منها، وأحببناها لأنها صادقة. أحد الأشخاص علّق قائلًا: "كيف سُمح له بالتصوير في غزة؟"، وقد شعرت بأننا نجحنا فعلًا، لأن الصورة بدت لهم واقعية تمامًا. كنا دقيقين للغاية في تفاصيل الفيلم، حتى لون علبة السجائر كان محسوبًا، لأننا نهدف إلى أرشفة حياة الغزّاوي، وتوثيق الحصار، والخيارات التي حُرم منها الناس.

هل لديكم مشاريع مقبلة؟

بالتأكيد، هناك مشاريع قادمة. لكن ما يجري حاليًا أكبر من أي مشروع. نأمل أن تتوقف الإبادة، وعندها يمكننا أن نعود لنفكر في المستقبل، وما يمكن أن نقوله. لكن الحقيقة أن ما يحدث الآن، لا يمكن لأي فيلم أن ينقله أو يعبّر عنه.

 

####

 

فيلم يختبر أعصاب المتلقي العربي

مراد مصطفى: "عائشة لا تستطيع الطيران" صُنع لذوي القلوب "غير الرقيقة"

 أحمد العياد

إيلاف من كان: خاض المخرج المصري مراد مصطفى تجربته الروائية الأولى بفيلمه "عائشة لا تستطيع الطيران"، الذي عرض في مهرجان كان السينمائي، ضمن قسم "نظرة ما" في دورته الأخيرة. يتناول الفيلم قصة فتاة سودانية مهاجرة تعيش في مصر، ويُسلط الضوء على التوترات الاجتماعية والنفسية التي تعصف بها في بيئة قاسية. من خلال لغة بصرية دقيقة، وشخصيات تصارع من أجل البقاء والاعتراف، يكشف مصطفى عن رؤيته لواقع لا يخلو من العنف، والسيطرة، والتناقضات. في هذا الحوار، يحدثنا عن دوافعه الفنية، وعن اختياراته الجريئة التي تهدف إلى هزّ وعي المُشاهد وتحفيزه على التفكير.

التقينا معه في "إيلاف" لإجراء هذا الحوار معه عن فيلمه "عائشة لا تستطيع الطيران"، وأفكاره السينمائية ومهرجان كان.

حدثنا عن قصة الفيلم.. وما الذي دفعك لاختيار هذه الشخصية بالتحديد؟

الفيلم يتناول قصة فتاة سودانية تعيش في حي شعبي داخل مصر، وتواجه ضغوطًا متراكمة بين عملها، والبيئة الاجتماعية التي تعيش فيها، والعلاقة العاطفية التي تربطها بطاهٍ مصري. هذه الضغوط تتحول تدريجيًا إلى عنف داخلي يتولد بداخل الشخصية. منذ اللحظة الأولى، كنت حريصًا على أن أُقدّم الواقع كما هو، من دون تجميل أو مواربة. لا أحبّ السينما التي تُقدّم الأمور باستحياء، لأن هذا النمط من الأفلام لن يُحدث تغييرًا، ولن يُعبّر عن رأي حقيقي.

إلى أي مدى ترى أن الفيلم يعبّر عن واقع المجتمعات العربية؟

هناك بالتأكيد تجارب عربية قوية ومتمردة، لكننا ما زلنا نعيش في مجتمعات، حتى على مستوى المتلقي، تتحسس من الطرح الصادم أو المباشر. كنتُ مدركًا منذ البداية أنني أريد تقديم فيلم يُشعر المُشاهد بعدم الراحة. فهو كما وصفه الناقد أحمد شوقي، "هو ليس فيلمًا لأصحاب القلوب أو المعدة الرقيقة". إنه نوع معروف، ليس جديدًا، لكنه قليل الحدوث في العالم العربي. ما أردته هو دفع الحدود وتقديم منظور مختلف.

قدمتَ سابقًا أفلامًا عن المهاجرين الأفارقة، ما الذي يميّز هذا الفيلم عن أعمالك السابقة؟

نعم، قدّمت أربعة أفلام قصيرة، منها اثنان عن المهاجرين السود في مصر، لكن كل واحد منها كان مختلفًا تمامًا عن الآخر. "عائشة لا تستطيع الطيران" هو تتويج لثلاثية تتناول هذا الموضوع. في كل مرة كنت أضع نفسي في تحدٍّ جديد، كيف أتناول القضية نفسها بطريقة مختلفة؟ وكيف أُقدّم شخصيات غير مصرية تعيش في مصر، ضمن حبكة جديدة وصيغة فنية مختلفة؟

الصراع في الفيلم يبدو معقدًا. كيف تصفه؟ هل هو صراع عنصري أم اجتماعي أم ماذا؟

أنا لا أراه صراعًا عنصريًا أو دينيًا أو طبقيًا، بل هو صراع على السيطرة. تمامًا كما هو حال أي حرب في العالم: من يملك القوة؟ نحن أمام مجتمع مصري أصيل يفرض سلطته، وفي المقابل مجتمع مهاجر – بالأخص المهاجرين الأفارقة – يزداد عددًا ويحاول فرض وجوده. هذا بطبيعة الحال يولّد صراعًا. وهذا لا يخص المجتمع المصري فقط، بل ينطبق على مجتمعات عربية كثيرة. نعيش اليوم في عالم عنيف، عالم لا يتقبل الآخر أو الاختلاف، وهذا يتجلى في الفيلم.

لماذا لم تُقدّم البطلة كضحية خالصة؟

لو قدّمتُها كضحية فقط، لكنتُ بذلك ألغيت نضالها، وسرقت كفاحها الشخصي. أنا أراها تُجاهد لتثبت وجودها، وتدافع عنه بطريقتها الخاصة، حتى لو كان ذلك يعني استخدام العنف. هذا جوهر الشخصية.

لاحظنا أن الكاميرا لها دور كبير في السرد؟

بكل تأكيد. الكاميرا هنا ليست أداة فقط، بل هي شريكة في الحكاية. أحب أن تكون الكاميرا بطلاً في أفلامي، تعبّر عن المشاعر من خلال الحركة، وصمت الممثلين، واللحظات المختارة بعناية. هذا ما يجعل الحكاية أكثر صدقًا. حين لا ينطق الممثل بالكلمات، تُتاح للمشاهد مساحة أكبر للتفكير والشعور، وهو ما أسعى إليه.

وهل تفضّل هذا الأسلوب في أفلامك بشكل عام؟

نعم، كذوق شخصي أُفضّل الأفلام التي لا يكون الحوار فيها هو الأداة الرئيسية في السرد. إن وُجد الحوار، فلا بد أن يكون منسجمًا مع مفردات المكان واللحظة، بينما الصمت – حين يُوظَّف جيدًا – يمكنه دفع القصة إلى الأمام بطريقة أصدق وأكثر تأثيرًا.

 

موقع "إيلاف" السعودي في

29.05.2025

 
 
 
 
 

"حادث بسيط" و"السعفة الذهبية": حين تلتقي الضحية بجلادها

كانّ ــ ندى الأزهري

أثار فوز المخرج الإيراني جعفر بناهي بالسعفة الذهبية في مهرجان كان الأخير (13-24 أيار/ مايو 2025) عن فيلمه "حادث بسيط"، كثيرًا من الجدل، ومشاعر متناقضة تراوحت بين ابتهاج متحمس وبرودة تدعي لا مبالاة واتهامات بسياسية الجائزة. يتوقف رد الفعل على الجهة التي ينحاز لها الطرفان. المبتهجون هم الإيرانيون المعارضون لنظام بلدهم والغرب، ولكن أيضا محبو أفلام بناهي، أما اللا مكترثين، على الأقل بردّ فعلهم المتحفظ، فهم هنا السلطات الإيرانية التي تجيد تمامًا هذا النوع من المواقف.  

بناهي له تاريخ طويل مع نظام بلده قائم على المعارضة والاستفزاز والمواجهة، ما استدعى السلطات عدة مرات لاتخاذ إجراءات بحقه من سجن ومصادرة جواز سفر وأيضًا منع من مغادرة وعمل، وهو ما دفع بالمخرج إلى عدم الاستسلام وتصوير أفلامه بما بات يُعرف اليوم بسينما "تحت الأرض"، أي تلك التي يصور أفرادها أفلامهم سرًا في إيران من دون الحصول على موافقة وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي. بالتالي فإن فرصة عرضها في صالات داخل البلاد معدومة، لكن الأبواب مشرعة لها، ولا سيما للأسماء المعروفة، في المهرجانات الدولية وأحيانًا في صالات العرض التجارية إن لقيت موزعًا وهو ما يحصل في الغالب.

منذ منعه من العمل في عام 2011 حقق بناهي خمسة أفلام، عُرضت كلها في أكبر المهرجانات الدولية، مثل كان وبرلين وفينيسيا، وكانت تنال في كل مرة مختلف الجوائز. لكن السعفة الذهبية، وهي الأهم، بقيت صعبة المنال على بناهي والسينما الإيرانية باستثناء تلك التي حصل عليها عباس كيارستمي عن "طعم الكرز" عام 1997. لذلك كثرت اليوم ردود الأفعال على فوز "حادث بسيط" بحيث لا يمكن النظر إليه بدون التفكير بكل ما سبق، ولا سيما أن الفيلم يفوق كل أفلام جعفر بناهي السابقة في صراحته وانتقاده اللاذع والمباشر للنظام السياسي والاجتماعي في بلاده، وإن كان بناهي فعل ذلك في كلّ مرة قبلًا، فليس بهذا الأسلوب. كان أكثر مداراة وتلميحًا، لكنه بدا في فيلمه الأخير وكأنه فقد كل صبر وألقى بكل أسلحته وقرر قول كل ما لديه مستعينًا بتجربته وتجارب إيرانيين آخرين في الاعتقال.

"إنه ليس أفضل أعمال جعفر بناهي وليس أفضل أفلام مسابقة مهرجان كان بالتأكيد"

"حادث بسيط" مبني على فكرة لقاء بين الضحية والجلاد. وهي فكرة سبق أن تناولتها السينما وآخرها كان في فيلم الفرنسي جوناتان مييه "الأشباح"(2024) الذي عرض في الدورة 77 لمهرجان كان، 2024. فكرة غنية ومهمة تثير تساؤلات عميقة حول مفاهيم الانتقام والعفو والشك، وتضع الفرد في مواجهة بين نفسه وضميره ومعتقداته وبين ما يعتمل داخله من مشاعر الانتقام وهو يواجه سجّان عذبه، وغيّر مجرى حياته وعطبه جسديًا ونفسيًا. المهمة الصعبة تتجسد في التعرّف على الجلاد، أو بالشك في هويته. فكيف يمكن ذلك فيما الضحية لا ترى في العادة وجهه، إنما تحس وجوده، تسمع صوته وتميز خطواته ورائحته؟ ثم إن تيقنت من شخصيته، فهل هي قادرة على أن تأخذ دور جلادها؟ أن تصب عليه انتقامها محررة بذلك مشاعر القهر فيها؟ يفلح بناهي في طرح ومعالجة كل هذه الأسئلة وإن لجأ إلى عينة من أفراد بدت مفتعلة في شمول تمثيلها لأطياف اجتماعية وفكرية متفاوتة لتفي بغرض تنويع المواقف.

في "حادث بسيط" تضرب سيارة رجل كلبًا، سيقود هذا إلى سلسلة من حوادث غير بسيطة. ترافق الرجل زوجته وطفلته. من هذا المشهد الأول للعائلة في السيارة في ليلة مظلمة، يُظهر المخرج عدم تعاطفه مع بطله، وسخريته منه ومن أفكاره ويبديه صغيرًا في عيني طفلته التي تنعته بـ "قاتل". يؤكد بناهي في هذا المشهد اصطفافه وتحيّزه ضد هذه النوعية من الإيرانيين وينبّه إلى هوية العائلة الدينية والاجتماعية، من حيث أفكارهم المتعلقة بالله والقدر (مهما حدث فهذا من الله) والموسيقى والرقص (ليس مناسبًا أن يسمع الجيران موسيقى تصدر من بيتنا)، ومن خلال مظهرهم، فالأم محجبة وللأب لحية قصيرة وبذلة تميز المحافظين الإيرانيين لا سيما الموظفين المؤيدين للسلطة. إنها عائلة محافظة، والأب ملتزم بصورة اجتماعية له تخشى نظرة الآخرين، (إنه ينتمي إلى المنافقين اجتماعيًا ودينيًا كما يراهم المخرج). في هذه اللوحة المرسومة لهم، كأن بناهي يمدّ خيطًا يقود إلى حقيقة الرجل التي يبحث عنها سائر أبطاله الآخرين فيما بعد، هؤلاء الذين ينتمون، لا سيما النساء، إلى فئة أخرى متحرّرة ويبدو هذا من عدم التزام الحجاب ومن النقاشات.

المصادفة تجعل الرجل يقف أمام محل للبحث عن ميكانيكي، بعد إصابة السيارة بعطب نتيجة ضرب الكلب. من خلال خطواته التي تميزها ساق اصطناعية. يتبين فيما بعد أنه فقد ساقه في "الحرب المقدسة" في سورية كما قال عن اقتناع فداء للبلد والثورة والإمام. يتعرّف عليه وحيد وهو عامل بسيط كان قد سُجن بسبب مطالبته برواتب متأخرة (وحيد مباشري ممثل لافت ظهر في فيلم "لانهاية" (2022) لنادر ساعي بور، ولكن أداءه هنا لم يكن على نفس المستوى). يقرر وحيد خطفه في عملية غير مقنعة تمامًا، ويحفر قبرًا في الصحراء يرميه فيه حيًا قبل أن يتسرب شك إلى نفسه. ثمة معضلة أخلاقية حقيقية تشغله، فهل هذا الرجل هو إقبال الذي عذّبه؟ وماذا لو لم يكن هو وسيقتل بريئًا؟

في سلسلة من أحداث تتم بطريقة مدروسة وتذكر بأسلوب أصغر فرهادي، بحيث يقود واحدها إلى آخر لكنها جاءت هنا بأسلوب مركب شابه تصنع، يجمع وحيد أربعة من ضحايا إقبال، امرأتان ورجلان للتأكد من هويته. لكل منهم وجهة نظره الخاصة في هذا الوضع، يعرضونها في حوار لا يخلو من ثرثرة طويلة ومن فكاهة أيضًا تميز الفيلم عامة رغم عنف الموضوع. تتجلى مواقفهم ممن عذبهم في السجن، ورأيهم في الانتقام منه، وتساؤلات عن قدرتهم على العفو، وهل الأفراد من يخلق المؤسسات القمعية أم هي التي تخلقهم بولائهم لها؟ من خلال كلماتهم تتبدى أساليب قمع السلطة وما جرته على حياتهم من مآس ومعاناة لم تخفف منها السنين. وتغمرهم الحيرة وتسود الخلافات فهل يجب التعامل مع الجلادين بأسلوبهم؟ هناك مشهد مفاجئ في الفيلم يخوض فيه وحيد والمرأة (وهي مثقفة ومصورة) حوارًا مباشرًا مع إقبال حول عقيدة أهل النظام ونظرتهم للإمام وللجمهورية الإسلامية ولكل من يخالفها، حيث يعلن موقفه المؤيد بالكامل في مواجهة وحيد والمرأة اللذين يوجهان للنظام ورجاله انتقادات لاذعة وشديدة الصراحة لم يقدمها بناهي قبلًا على هذا النحو. حوار يجري في مباشرة فجة كأنه ليس في فيلم سينمائي يعتمد الصورة والإيحاء والرهافة في عرض المعضلات والخلافات، بل في حوار إذاعي عنيف بين السلطة والمعارضين، ليُسهم المشهد بدوره في إضفاء شيء من لا منطقية ونبرة تعليمية وتصنّع على العمل، ولا سيما أن الأداء لم يكن مقنعًا ومتوافقًا مع الحوار في مبالغاته.

أحداث الفيلم الحادي عشر لبناهي تجري في يوم وليلة، وقد صوّره بالكامل في إيران. ولم ينحصر التصوير، الذي اعتمد غالبًا اللقطات الطويلة الثابتة لا سيما أثناء الحوار، في مكان مغلق محدد كما معظم أفلامه التي صوّرها بعد منعه من العمل. وإن اعتمد بناهي التصوير داخل السيارة في كثير من المشاهد، كما كان يفعل معلمه عباس كيارستمي، فقد انتقل أيضًا إلى الخارج، فبدت شوارع المدينة ومحلاتها، وتجولت بطلاته فيها من دون حجاب. هكذا تبدو عدم ملاحظة السلطات لفريق التصوير مهما كان صغيرًا مستحيلة. بناهي ذاته صور، على أية حال، مشهدًا في مكان شبه منعزل ومع هذا برز فجأة حارسان ليطالبا أبطاله برشوة، في دليل على انتشار هؤلاء في كل مكان وعلى فسادهما. فكيف سيفوت السلطات الإيرانية تصوير مخرج ممانع لفيلم؟

إنه ليس أفضل أعمال جعفر بناهي وليس أفضل أفلام مسابقة مهرجان كان بالتأكيد.

 

ضفة ثالثة اللندنية في

29.05.2025

 
 
 
 
 

فيلم «نسور الجمهورية»…

حتى اغتيال السيسي لا ينقذ الفيلم من السقوط

نسرين سيد أحمد

كان ـ «القدس العربي»: في فيلمه الجديد «نسور الجمهورية»، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته الثامنة والسبعين (مايو/آيار 2025) يقدّم المخرج السويدي/المصري طارق صالح، ما يُقصد به أن يكون نقدا لاذعاً للنظام المصري وتمرداً سينمائياً على نظام قمعي، لكن النوايا الحسنة لا تصنع فيلماً جيداً. يسقط الفيلم كحجر ثقيل لا يصيب هدفه، ونشاهده من بدئه لنهايته، دون أن نجد فيه صدقاً ولا تناولاً متعمقاً لقضية مهمة وملحة، مثل التصدي لجور واستبداد النظام المصري، ولا رؤية سينمائية واضحة.

بيد ثقيلة وبدراما غير مقنعة يتناول صالح في «نسور الجمهورية»، الحكم الاستبدادي في مصر الراهنة في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي. هذا العمل، الذي يُعدّ الفصل الأخير مما يسميه صالح «ثلاثية القاهرة» بعد «حادثة النيل هيلتون» (2017) و»ولد من الجنة» (2022)، يتخذ من عالم السينما نفسه مسرحاً لتناول علاقة الفنان بالسلطة، في ظل نظام قمعي وكيف يمكن أن يتحوّل النجم إلى أداة ترويجية تحت تهديد النظام.

الشخصية المحورية للفيلم هي جورج فهمي، النجم الشهير الذي يُلقب بـ»فرعون الشاشة»، يؤدّي دوره الممثل اللبناني فارس فارس، الذي كان أيضا بطل فيلم «حادثة النيل هيلتون»، بلهجة مصرية غير متقنة تزيد من عدم قناعتنا بأدائه للدور.

يعيش جورج حياة مترفة بامتياز، من شقة فاخرة وعلاقات عاطفية، ولكنه يعاني من تدخل الرقابة على المصنفات الفنية في أفلامه، ويحاول إخفاء معارضته السرية للنظام حتى لا يتم التضييق عليه، ويوضع اسمه في القائمة السوداء للنظام، فلا تعرض عليه أعمال. كما هو واضح من الإسم، جورج مسيحي ولكنه منفصل عن زوجته، ويعيش مع صديقته، ويحاول أن يبقى على علاقة مع ابنه الطالب الجامعي.

تتغير المعادلة عندما يتلقّى جورج اتصالاً من جهات عليا تطلب منه لعب دور الرئيس عبد الفتاح السيسي في فيلم من إنتاج جهة إعلامية على اتصال وثيق مع السلطة، وجهاز المخابرات. يحاول جورج التملص والمراوغة، ظناً منه أن الأمر قابل للنقاش، فيرفض بذريعة فنية ساخرة: «أنا لا أشبه السيسي.. هو أصلع وقصير!» لكن هنا يتكشّف أن النظام لا يطلب، بل يأمر. وتدريجياً يجد جورج نفسه مضطراً لارتداء البزة العسكرية المزينة بالأوسمة، والدخول في عملية تصوير لا تشبه أي عمل فني قام به سابقاً. يفترض بالفيلم داخل الفيلم أن يصبح محاكاة لمأساة الفن تحت قبضة السلطوية، حيث تُفرَض الأدوار وتُراقَب الحوارات، لا بحثاً عن جودة درامية، بل لضمان الولاء الكامل للراوية الرسمية.

لكن فيلم طارق صالح، رغم نواياه الحسنة، يمر هكذا دون إقناع، ودون بنية قوية، ودون صنعة سينمائية واثقة. كل عناصر الفيلم تبدو لنا ملفقة، فلا مصر هي مصر التي نعرفها، ربما لأن صالح لم يتمكن من التصوير في مصر لأسباب رقابية، ولا الممثلون مصريون، أو حتى يتقنون اللهجة المصرية، بل نضيع بين مزيج غير متقن لمحاولات للتحدث باللهجة المصرية، ولا يبدو الحوار صادقا أو معبراً بحق عن المجتمع المصري. على موقع التصوير، تظهر شخصية الدكتور منصور، الذي يلعب دوره عمرو واكد، كممثل للسلطة في شكله الناعم، هو ليس مخرجا، بل هو مشرف سياسي، يعلّق على أداء جورج بأنه «سيئ»، ليس من زاوية فنية، بل لأنّه لا يخدم الرسالة الدعائية بالشكل المطلوب.

ينتقل جورج إلى مرحلة أكثر خطورة حين يُدعى إلى عشاء رسمي في بيت وزير الدفاع، حيث يتعرّف على مجموعة من «نسور الجمهورية»، وهم نخبة من المسؤولين الذين يقدّمون أنفسهم كحرّاس الوطن، لكنهم في الحقيقة حراس النظام وقوة ردعه. هذا الجزء من حبكة الفيلم، إن صح لنا أن نطلق عليها حبكة، يبدو مهترئا مليئا بالثغرات، فالنظام الديكتاتوري يحمي ذاته بذاته، ولا يقبل من هم من خارجه، فكيف لهم أن يقبلوا وسطهم نجما ممثلا لا علاقة له بالآلة الاستخباراتية أو الأمنية أو العسكرية للدولة. في هذا الجو المشحون، يظهر عنصر إغراء جديد، وهو سوزان، زوجة أحد أبرز الوزراء، المثقفة خريجة السوربون، التي تأسر جورج بعقليتها وجرأتها، فيعجب بها ويبدأ علاقة معها، في خيار متهور يُنذر بعواقب سياسية وخاصة.

ينتفي المنطق، أو حتى محاولات الإقناع بالجدية في الجزء الثالث من الفيلم، عندما يُطلب من جورج إلقاء كلمة في حفل تخرج طلبة الكليات العسكرية، بناء على طلب من الرئيس ذاته، وفي عرض يحضره الرئيس. وعندما يؤدي جورج التحية العسكرية للرئيس وينهض الجميع، تجري عملية اغتيال للرئيس وكبير قيادات الجيش، في محاكاة لعملية المنصة التي اغتيل فيها الرئيس المصري محمد أنور السادات.

منذ تلك اللحظة يفقد الفيلم أي محاولة للتماسك، كما لو أن صالح فقد تماماً السيطرة على الفيلم، تتشابك الأحداث بصورة غامضة، خالية من الوضوح أو الحبكة، تضيع التفاصيل والأسئلة تتكاثر: ما الدور الحقيقي لجورج؟ من خطّط للانقلاب؟ وكيف انتهى الأمر إلى هذا المشهد العبثي؟ يبدو لنا ان اغتيال الرئيس فكرة راقت لصالح، ولكنه لم يخطط لما سيأتي بعدها في سردية الفيلم، ولم يوضح قط أسباب انقلاب بعض القيادات الأمنية عليه. الجميع في السلطة منتفع من الرئيس فلماذا يحاولون التخلص منه؟ ولا يصور الفيلم مطلقاً أن الاغتيال جاء على يد جماعة معارضة، أو حتى جهادية، فمن العقل المدبر؟ لا يقدم الفيلم طرحاً جادا للقمع الذي يرتكبه النظام في مصر، ولا يقدم نقدا حقيقاً للسيسي ونظامه والمنتفعين منه، ونخرج منه خاليي الوفاض.

 

القدس العربي اللندنية في

29.05.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004