ملفات خاصة

 
 
 

في مهرجان برلين: الفيلم الصيني “عيش الأرض”.. بلاغة السينما

أمير العمري- برلين

برلين السينمائي

الدورة الخامسة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

كان الفيلم الصيني “عيش الأرض” Living the Kand ثاني الأفلام الروائية الطويلة للمخرج “هو مينج” والذي عرض في مسابقة مهرجان برلين الـ75، مفاجأة مدهشة، ليس فقط بمستواه الفني الرفيع، بل بقدرة مخرجه الفذة، على التعامل في براعة، مع جوهر السينما من دون أي استعراض عضلات أو غموض أو افتعال. إنها “الواقعية الشعرية” في أبهى صورها.

أما ما ندعوه بـ”جوهر السينما” هنا فهو يتمثل في ثلاثة عناصر: الزمن، الحركة، والإيقاع. وهي التي تحدد شكل الفيلم ومضمونه، فزاوية الكاميرا وتحركها في المكان هي التي تحلق التأثير، أي المضمون، وليس الحوار، وتفاصيل التكوينات خصوصا داخل الأماكن الضيقة، تكثف ذلك التأثير. وانسيابية الحركة في لقطات طويلة تستولي على مشاهد كاملة، تصنع إحساسا بتدفق مظاهر الحياة نفسها، من الميلاد إلى الموت.

الزمن محدد من أول لقطة في الفيلم، فالرجل الذي يروي لنا بصوته القصة في الزمن المعاصر، يخبرنا أن ما سنشاهده من شخصيات وأحداث كانت في عام 1991. والرجل- “لي شوانج” يروي شهادته وذكرياته وانطباعاته عما عايشه حينما كان في العاشرة من عمره في ذلك الوقت. وقد تركه والده مع أقاربهما في تلك القرية وذهبا مع شقيقيه اللذين يكبرانه إلى المدينة حيث تتوفر فرصة أفضل للحياة، ولأنه الطفل “الثالث” المحظور انجابه بموجب القانون الصيني الشهير، كان يتعين أن يتركاه وراءهما.

الفيلم مقسم إلى أربعة فصول، هي نفسها فصول السنة الأربعة، يبدأ من الربيع وينتهي في الشتاء، وعبر الفصول الأربعة لن نشاهد قصة واحدة تنتهي نهاية محددة، بل سنعثر على قصص عديدة، لشخصيات كثيرة تنتمي كلها إلى عائلة واحدة من المزارعين في الريف الصيني، في إحدى قرى الشمال الفقيرة، التي لا تزال تعيش في العصور السحيقة حيث الزرع والحرث وجمع ثمار القطن والقمح، يتم بطريقة يدوية أو بالأدوات البدائية، والمعاناة شديدة، خصوصاً تحت وطأة تقلبات الطقس الذي قد يأتي على المحصول كله من دون سابق إنذار.

ونحن نشاهد القصص المتشابكة التي تعرض لنا الشخصيات المختلفة للعائلة من ثلاثة أو حتى أربعة أجيال، وكيف تواجه هذه الشخصيات مفارقات الحياة، في اللهو والمرح، في السراء والضراء، في طقوس دفن الموتى، واحتفالات الزواج، في العلاقة مع الماضي، ولكن دون مباشرة بل من خلال إشارات بسيطة، مثل عثور الطفل تشوانج على رصاصة في قبر جده ثم رصاصات أخرى، استخدمت غالبا، في قتل الجد أو العم الأكبر، إبان حملة ماوتسي تونج المعروفة بـ”الثورة الثقافية” و”إعادة التثقيف” العنيفة في الريف.

وتشوانج الذي يقرأ كثيرا من الكتب التي يعطيها له معلمه في المدرسة، سوف يظل يبحث عن جذور انتمائه وسط هذه العائلة، ويرصد ما يقع من مظاهر الحب والحزن والفرح واللهو والقسوة والزواج والإنجاب والموت. ولكن شعوره بالاغتراب مكثف فهو يعرف أنه “ليس في مكانه الطبيعي” كما يقول له عمه. وهو يجد نفسه أقرب إلى جدته العجوز التي تجاوزت التسعين من عمرها، ولا تكف عن تدخين الغليون، التي تمنحه العطف والحب والحنان، كما يجد نفسه قريبا من عمته الشابة الحزينة التي تعيش في أحلامها الخاصة التي تجعلها رافضة للواقع دون أن تقدر أن تثور عليه.

تعاقب الزمن، هو الذي يخلق الإيقاع، والانتقال من تفصيل إلى آخر داخل نفس العائلة والقرية، هو الذي يصنع النسيج الشعري للفيلم، والشخصيات كثيرة والقصص متداخلة، لكن نسجها معا يتم من خلال دقة شديدة في السرد، أساسها دون شك، النص السينمائي قبل التصوير، ثم التدرب الطويل على دفع الحركة والحياة من جانب المصور ومدير التصوير مع حشد من الممثلين المدربين جيدا، داخل المشاهد الطويلة من دون أن تفلت إشارة واحدة أو تغيب خصوصية أي شخصية حتى تلك الشخصيات الهامشية أو التي تبدو كذلك.

هذه الحركة المستمرة تضفي على الفيلم طابع التسجيلي أو الوثائقي، والأداء والحوار، القفشات والتعليقات والنظرات والغمزات وحتى النكات، كلها تصدر بشكل تلقائي، ومع ذلك، فلا شيء هنا يأتي مصادفة، أو على سبيل الارتجال، وحركات الكاميرا التي تجوس وتتسلل وتراقب وتتلصص، من عين الطفل تشوانج، هي التي تجعل المشاهد الطويلة تتفتت إلى إشارات وتفاصيل دقيقة موحية، والكاميرا ترصد الجمال والرونق وأيضا المفارقات الكامنة فيها، تتوقف حينا أمام القسوة الشديدة التي يعامل بها  العم ابنه المتخلف عقليا أو المعاق ذهنيا، الذي يشعره بالعار والذي سينتهي نهاية مأساوية، أو تشهد طقوس الدفن، أو الجنازات ثم الأفراح.

الأجيال في الفيلم تتجاور، والحكمة تنتقل من جيل إلى آخر، والعلاقة بين بطلنا الصغير وجدته ستظل تظلل حياته، بل وأحلامه، والموت في الفيلم يجاور الحياة، والمشهد الافتتاحي الكبير لدفن الجدة الكبرى، وتصوير تقاليد الحزن والندب التي تشبه ما يحدث في بعض مجتمعات الشرق العربية، وتبجيل الموت وشعائر الجنازات، تنقلنا أيضا إلى الماضي، إلى الصين العتيقة قبل أن تشهد تلك النقلة الصناعية الكبرى..

عمة تشوانج الشابة “شوينج” التي تحمل من مدرس القرية الفقير، لكنها تجد شاب ثريا يلح لكي تقبل بالزواج منه، وأهلها يدفعونها دفعا لقبول الزواج من هذاالشاب وهو ابن أحد ممثلي الحزب الشيوعي، رغم رفضها له ونفورها الشديد منه، وكل هذا الألم يشعر به تشوانج نفسه.

ويجسد مشهد الزفاف، التناقض بين التقاليد التي يجب أن تشيع فيها مظاهر الفرح من جانب الجميع، وخصوصا أهل العروس، وبين رمزية الوقوع في براثن المجتمع الذكوري ونحن نرى كيف يتجمع الرجال من أصدقاء العريس الشاب يدفع العروس في جسدها دفعات متتالية بقوة وهم يهللون ويمرحون، بينما هي تبكي في صمت عاجزة عن دفعهم عنها.. ثم سترحل في موكب معد سلفا، مع زوجها الشاب إلى المدينة.

هناك إشارات كثيرة إلى التقاليد العتيقة التي تتمثل في الهيمنة الذكورية والبطريركية، المرأة ترغم على الزواج، والأب الذي يضرب ابنه المعاق ذهنيا بقسوة سادية، وفرض الفحوص الطبية الإجبارية على الفتيات اللاتي بلغن سن الحيض، والإنجاب المتعدد الذي يتجاوز ما يحدده القانون الذي يقضي بعدم إنجاب أكثر من طفلين، وكيف يجدون له مخرجا عن طريق تستر ممثل الحزب الشيوعي في القرية وتلاعبه في الأوراق الرسمية، وهو ما يشير أيضا إلى فساد قائم.

كل مظاهر الحياة القديمة الثابتة في القرية عرضة لأن تنتهي، مع إغراء الذهاب إلى المدن التي بدأت تشهد نشوء الصناعات الكبرى، حيث يحصل العمال على أجور أفضل كثيرا مما يحصلون عليه من العمل في الأرض، لذا سنلمح بدايات الهجرة الجماعية من الريف، والاتجاه للعمل في المصانع، بل وسيأتي من المدينة أيضا وكلاء شركات التنقيب عن النفط في حقول القمح ولو على حساب تدمير الأرض الزراعية، والإضرار بحياة الفلاحين الذين يعتمدون على المحصول في طعامهم.

ستشهد القرية أول جهاز تليفزيون يعرض الشرائط الحزبية الدعائية، وكيف يتحلق الأولاد في القرية حول أول محراث زراعي آلي يعمل بالوقود، في حين استمر ويستمر العمل في الحقول باستخدام الثيران.

كل هذه التطورات، أو التداعيات تساق في الفيلم من تحت جلد الصورة، وليس في تعبير مباشر هجائي صارخ، فبناء الفيلم الشعري، ينقل الإشارات دون أن يصفعك بها، لا يصدر أحكاما، بل يكتفي بالرصد، والتوقف أمام كل تلك المظاهر والتقاليد كما تتداعى من ذهن صبي في العاشرة من عمره.

عيش الأرض” هو عمل كبير ومرموق لمخرج يصعد بقوة كبيرة، ولا شك انه سيصبح له شأن كبير في السينما الصينية التي تبلغ هنا أرقى مستوي في التمكن من توظيف تقنيات السينما: جماليات الصورة والصوت، الموسيقى والحوار، والتمثيل والحركة.

وتكمن موهبة المخرج “هو مينج” تحديدا في قدرته على استخدام التقنية، للتعبير عن الإحساس بتعاقب الزمن، مع استخدام تدرج الألوان مع تغير الفصول، من الألوان الزاهية في البداية، إلى الألوان القاتمة التي تشي بالحزن والقلق والمصير الغائم الذي يلف الريف الصيني في الفصل الأخير، ثم البراعة في تحريك الكاميرا مع تحريك الممثلين، والتحكم في الحركة، والمزج بين الأشخاص الحقيقيين والممثلين المحترفين، في سياق مدهش يفيض بالواقعية، ورغم الطول الزمني للفيلم إلا أنه يبقيك تحت تأثير سحر الصور وتعاقبها لأكثر من ساعتين.

هذا أحد الأفلام القليلة التي تقترب في صدق وبراعة، من سكان الهامش، المحرومين، مصورا كيف كانت حياتهم، مشيرا إلى علامات التغيير الحتمي الذي يأمل ألا يقضي على قيم التماسك العائلي.

 

موقع "عين على السينما" في

27.02.2025

 
 
 
 
 

«خرطوم».. شاشة خضراء تعيد رسم المدينة المُهدمة

محمد طارق

يوم 11 أبريل عام 2019، سقطت حكومة عمر البشير، الرئيس السوداني الذي استمر حكمه 30 عامًا، بعدما عزله الجيش السوداني بعد احتجاجات شعبية واسعة. قبل ذلك التاريخ بشهرين، طُرح فيلم صهيب قسم الباري الوثائقي الإبداعي «الحديث عن الأشجار» وفيلم «أوفسايد الخرطوم» لمروة زين في مهرجان برلين السينمائي، وبعد ذلك التاريخ بأشهر، عُرض الفيلم الروائي الطويل السابع في تاريخ السينما السودانية «ستموت في العشرين» لأمجد أبو العلاء والذي بدأ رحلته العالمية من مهرجان فينيسيا السينمائي، وبدا ذلك العام بمثابة سنة تاريخية للسودان وسينماه، وارتفعت الآمال عالية من أجل إعادة بناء البلد والنهوض به ثقافيًا وفنيًا وعلى جميع النواحي الأخرى.

منذ ذلك الحين، نشط صناع وصانعات السينما السودانية وبدأت حركة لتعلم وإنتاج الأفلام، حتى كان العام 2023، حين شارك «وداعًا جوليا» لمحمد كردفاني في قسم نظرة ما لمهرجان كان السينمائي، ليعزز مشاركات السينما السودانية في المهرجانات السينمائية العالمية بمشاركة هي الأولى من نوعها. تناول الفيلم وقتها قصة إنسانية درامية وجهت الأنظار بشكل ما إلى قضية العنصرية في السودان وعن الأسباب التي دفعت البلد إلى الانفصال إلى بلدين. قبل عرض الفيلم، اندلعت حرب واسعة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وسرعان ما انتشرت بسرعة مدوية، ما أسفر عن توقف العيش الآدمي في أنحاء البلاد، ونزوح عدد كبير من الشعب السوداني خارج البلاد.

لم تتوقف السينما السودانية منذ ذلك الحين، إذ أُنتجت أفلام سودانية قصيرة وطويلة كان أبرزها العام الماضي فيلمين وثائقيين هما «مدنياووو» لمحمد صباحي و«سودان يا غالي» لهند المؤدب واللذين استعرضا شخصيات من قلب الثورة السودانية كانت في مجملها شخصيات فنية شاركت في الثورة بفنونها المختلفة. لكن هذا العام، طُرح فيلم وثائقي إبداعي آخر هو «خرطوم» ليوضح لنا كيف يمكن لخمسة مخرجين أربعة منهم من السودان وخامسهم إنجليزي أن يعيدوا خلق العاصمة السودانية على الشاشة، حتى وإن حدث أغلب التصوير خارجها، وأن يصوروا فيلمًا يحكي عن اشتياق وحنين وأمل في عودة مدينة شخصياتهم.

كيف بدأت تلك الرحلة؟ وكيف اندمجت كل تلك الحكايات تحت مظلة فيلم واحد؟ بدأ تصوير ذلك الفيلم قبل اندلاع الحرب على أيدي 5 مخرجين هم أنس سعيد وراوية الحاج وإبراهيم سنوبي وتيمية م. أحمد وفيل كوكس وأخيرهم هو الذي جمع القصص في فيلم واحد. بدأ الفيلم، حسب مخرجيه، كأفلام قصيرة مستقلة بالتعاون مع سودان فيلم فاكتوري لدعم المخرجين الجدد. ومع تطور الأحداث، ونشوب الحرب، ورحيل الجميع إلى خارج السودان، تطور الفيلم أكثر فأكثر ليصبح قصةً عن خلق مدينة على الشاشة، وسرد قصص إنسانية شخصية تجسد حجم المأساة في البلد، الذي لم يلبث أن تخلص من ديكتاتور حتى دخل إلى حرب أهلية لم تتوقف حتى يومنا هذا.

شخصيات الفيلم هم طفلين من جامعي القمامة لقين وويلسن، خادمالله بائعة الشاي والأم الوحيدة، والثوري جواد والموظف مجدي الذي يحب المشاركة في مسابقات الحمام هو وابنه، خمس شخصيات هم ربما كعالم مصغر للخرطوم، بين أجيال ووظائف مختلفة، يشكلون ما يمكن دعوتهم بالمواطنين العاديين، لا يمتلك أحد منهم أي حلم كبير، أو يطمح في سلطة أو نفوذ ما، كل ما يحلمون به هو أن يعودوا إلى مدينتهم وحيواتهم العادية. ربما تكون تلك «العادية» هي أول ما يشعرك بالقرب إلى شخصيات الوثائقي، فلا يمكن أبدًا أن تختلف مع أحد في حبه لمدينته أو وطنه، مهما كانت الاختلافات بينك وبينه، هذا حق إنساني وشيء يمكن التواصل معه بسهولة فائقة لأي مشاهد في العالم تقريبًا.

لكن الجانب الإبداعي للفيلم هو ما يزيد من جمالياته، فباستخدام شاشة خضراء كبيرة في مكان خارج السودان، يُعيد المخرجون خلق المواقف الصعبة التي مرت بها هؤلاء الشخصيات في وقت الحرب، فإذا بهذا المكان الأخضر الأصم يتحول إلى غرفة جلوس أو مكان لبيع الشاي أو شارع كبير، فإذا بهذا المكان الأخضر الأصم يتحول إلى غرفة جلوس أو مكان لبيع الشاي أو شارع كبير، وإذا بهذه الشخصيات يحكينَ ويشرحنَ كيف بدت تلك الأماكن، ويخلقنَ مواقف مررنَ بها على الشاشة، فتتحول ذاكرتهم الشخصية إلى ذاكرة جماعية يمكننا مشاهدتها والشعور بأحاسيسها.

هكذا فإن الجماليات المخلوقة من تحريك وإعادة تصوير للأماكن والمواقف، وعلى رغم بساطتها، فإنها عند مزجها باللقطات الحية للمدينة التي يحكي عنها الفيلم ويأخذ اسمها عنوانًا له، تتحول إلى عالم بصري مثير يوضح كيف يمكن خلق الحكايات بالعواطف وبعض من الأساليب والتقنيات السينمائية، عالم يشبه المدينة كما تتخيلها شخصيات الفيلم، سكان هذه المدينة وأبطالها، والأمل القادم في إعادة بنائها بعد نهاية الحرب.

إلى جانب ذلك، فإن الفيلم في إعادة خلقه لتلك المواقف، يشكل نوعًا ما من علاج نفسي جماعي يقوم على ما يُعرف بإعادة التمثيل، وهو نوع من أنواع العلاج النفسي المستخدم للفن، والذي يعمل على إعادة خلق موقف مؤلم في بيئة آمنة ما يساعد على إطلاق المشاعر المكبوتة وتغيير وضع القاص في الحكاية من مفعول به إلى فاعل، بشكل ما فإن إعادة التمثيل في حالة كحالة النزوح تحت وطأة الحرب، يعد نوعًا من إعادة كتابة للقصة بشكل يسمح لهؤلاء الشخصيات بالإحساس بأنهم قادرين على الفعل، كما يتيح لهم علاج ندوب نفسية تركتها الحرب فيهم، حتى وإن نجت أجسادهم منها.

«خرطوم» عمل إبداعي صميم، يستخدم مخرجيه كل أدوات السينما للحكي عن مدينتهم وشخوصها، فيعيدون بناء تلك المدينة حتى وهم خارجها في فعل مقاومة شجاع يتيح لهم تخيل مستقبل أفضل للسودان ولعاصمته الخرطوم، كما يتيح لنا التواصل مع خمس شخصيات مختلفة يتشاركن مع المخرجين ذات الحلم، هذا كله دون الخوض في كلام سياسي مباشر، ما يجعل الفيلم بشكل ما قصيدة في حب المدينة وسكانها، ويجعلنا نأمل بأن نرى نفس الشخصيات في موطنهم مجددًا، لكن هذه المرة دون شاشة خضراء.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

27.02.2025

 
 
 
 
 

فيلم «المسار الأزرق»…الحرية هي أن تحلق بعيدا عن السرب

نسرين سيد أحمد

برلين ـ «القدس العربي»: يبدأ فيلم «المسار الأزرق»، للمخرج البرازيلي غابرييل مسكارو، الحائز الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان برلين السينمائي في دورته الخامسة والسبعين، برؤية مستقبلية كابوسية مقبلة، ولكن امرأة قوية لا تقف متحدية فحسب بل تتعلم أن تحلق بعيدا. يبدأ الفيلم بإعلانات تبثها طائرات صغيرة وعربات تحمل ما يشبه الأقفاص الحديدية. تبشر هذه الإعلانات أهل البرازيل برؤية جديدة للمستقبل، رؤية تعد بتوفر العمل والمال للشباب، مع توفير الراحة والهدوء لكبار السن. تتلخص هذه الرؤية في نقل كبار السن، الذين تزيد أعمارهم عن 77 عاما، إلى مستعمرات مخصصة لهم، فيما يعني توفير فرص عمل أكثر لمن هم أصغر سنا. تفرض سلطات البلاد نفيا إجباريا لكبار السن، وتجريدا من الأموال أو حتى من تقرير المصير، حيث يصبح الأبناء وفقا لهذه الرؤية المستقبلية أوصياء على الآباء والأمهات المسنين، ولكنها تجمل هذا المنفى القسري بتسميته تكريما للأجيال السابقة، أو استراحة لهم بعد سنوات من الكد. ويبدو ألا مفر ولا مهرب من هذا المنفى، لأن قوات الأمن تحكم سيطرتها، وتفرض عقوبات مشددة على غير الملتزمين بقرار السلطات.

الحرية والفرار من البطش هي جوهر فيلم مسكارو. يبدأ الفيلم فيما يبدو لنا أنه مجزر ومسلخ للتماسيح، حيث ترتدي امرأة مسنة زي العمل وتعمل في تنظيف المسلخ في نشاط وهمة وخفة، وهي تتراقص على أنغام أغنية. المرأة هي تريزا، التي تفاجأ في نهاية يوم عملها باستدعاء من مدير المسلخ، ليبلغها أن اليوم هو آخر أيامها في العمل لأنها بلغت السابعة والسبعين، وأنها ستحصل على راتبها للشهر ولكن عليها تسليم زي العمل. وحين تعود تريزا إلى كوخها الصغير، تجد أن بلدية الحي الذي تقيم فيه قد زينت خارج منزلها، احتفالا بعيد ميلادها السابع والسبعين، وتمنحها ميدالية شرفية، تمهيدا لنقلها إلى مستعمرة المسنين، وتولية ابنتها الوصاية القانونية عليها. إننا إذن حيال رؤية كابوسية للعالم يعامل فيها كبار السن كما لو كانوا مجرمين، أو فاقدي الأهلية، فهم إن لم يمتثلوا للقوانين الجديدة ستطاردهم السلطات بلا هوادة، في حين تسألهم الشرطة أسئلة مهينة لا تحفظ عليهم إنسانيتهم، أو كرامتهم، مطالبة إياهم بارتداء حفاضات حتى لا تتسخ ملابسهم.

عادة ما تأتينا أفلام الديستوبيا لتصور عالما قد ضربته كارثة ما، مثل تفجير نووي دمر المدن العامرة وأشاع الخراب، لكن الرؤية الديستوبية لفيلم «المسار الأزرق» تكمن في قرار استبدادي حكومي، يميز ضد فئة من السكان دون جريرة ارتكبوها، وهذه الفئة هي كبار السن، الذين أمضوا جل حياتهم في الكد والعمل وخدمة البلاد. تجد تريزا نفسها مهددة بالاستبعاد والنفي القسري، وتتذكر أنها طوال حياتها كان يراودها أمل الطيران، فهي لم تسافر على متن طائرة قط، ولم تحلق قط ولم تر الأرض من أعلى قط. وفي مواجهة السلطات التي تسعى لنفيها لمستعمرة بعيدة، تسعى تريزا لتحقيق حلمها صعب المنال للطيران، فهي وإن كان لديها بعض المال الذي يمكنها من شراء تذكرة طيران، إلا أنها وفقا لقانون البلاد الآن أصبحت تحت وصاية ابنتها التي ترفض السماح لها بالسفر.

وهكذا تبدأ رحلة تيريزا المليئة بالمغامرات والأشخاص، بحثا عن سبيل للتحليق. هي رحلة ليس فقط لاكتشاف بلادها التي لم ترها بسبب العمل والمسؤوليات، بل مغامرة لاكتشاف أشخاص ما كانت لتلتقيهم قط لو بقيت في دارها، وهي رحلة تكتشف فيها ذاتها وقدراتها، وتولد فيها امرأة جديدة.

تكتشف تريزا عالما رحيبا، فيه نهر الأمازون الفسيح والغابات الضخمة، ولكنها تكتشف أيضا مخلفات كثيرة تلوث النهر جراء مصانع المطاط التي تقطع الأشجار وتلوث مياه النهر. تكتشف تريزا أيضا قدرتها على الإمساك بدفة القيادة في مركب يمخر عباب نهر الأمازون. وتكتشف امرأة تمتلك قاربا وتجوب به النهر في حرية، وتعلم منها أن هذا النفي الإلزامي في مستعمرات المسنين أمر للفقراء فقط، فمن يملكون المال يمكنهم شراء حريتهم من السلطات. في رحلتها تكتشف بحثا عن سبيل للطيران تكتشف تريزا ذاتها وقدراتها الجسدية والروحية، وتتعلم أن تضحك وترقص وتغني حتى وهي تواجه تهديد نظام ظالم. في رحلتها التي تقودها إلى عوالم غرائبية لم تكن تعرفها من قبل تقابل تريزا امرأة قوية أخرى عرفت كيف تقتنص حريتها من السلطات، فهي امرأة يلقبونها بالراهبة، حيث تبيع الإنجيل للمريدين والمؤمنين ليس في صورة ورقية ولكن في صورة لوح إلكتروني لا يفسد. تخبر المرأة تريزا أنها لا تؤمن حقا بل تبيع للناس ما يصبرون به على قسوة عالمهم، وبما تجمعه من المال اشترت حريتها والقدرة على الإبحار والاستكشاف. يوجه مسكارو نقدا لاذعا، وإن كان غير مباشر للسلطات، فهي تسمح بتلوث النهر العظيم، وإلقاء مخلفات الصناعة فيه، وتسمح بقطع الأشجار وتدمير الغابات، كما أنها تترك الآلاف فقراء لا يقدرون على تدبير قوت يومهم أو علاج مرضاهم، فيلجأون إلى شراء الإنجيل علّه يمنحهم بعض الراحة والسكينة. في ظل كل هذا الفساد يصبح البحث عن ملاذ فردي أو نجاة فردية هو السبيل الوحيد أمام تيريزا. هي ترى الظلم وتدركه ولكن ليس في وسعها صده عن غيرها، ولا تأمل إلا في إنقاذ نفسها والاستمتاع بالحرية ما بقي لها من عمر.

 

القدس العربي اللندنية في

27.02.2025

 
 
 
 
 

"حلم" نرويجي في "برليناله 2025":

حكايةُ مُراهِقةٍ تُروى بنبرة سينمائية بديعة

برلين/ نديم جرجوره

مُراهقةٌ، تبلغ 17 عاماً في بداية عامٍ دراسي جديد، أو بعدها بقليل، تعاني أهوال حبٍّ، والأهوال تلك في العمر هذا قاسية ومُدمِّرة، خاصة أنّ هذا الحبّ ممنوح لمُدرِّسة شابّة. الفكرة، كأي فكرة أخرى، عادية وواقعية وحاصلة، وفنون عدّة منشغلة بها، وإنْ بأساليب مختلفة أو متناقضة. معاناة المُراهِقة نفسها مُنبثقة من شعورٍ يدبّ فيها، لحظة دخول مُدرِّسة إلى الصف، فتغلي المشاعر فيها، ويتفلّت العقل من كلّ قيدٍ، إنْ يكن للعقل مكانة، فهذا عمرٌ متفلّت من كلّ تفكير، والمشاعر أقوى.

المُراهِقة يوهانّ (إيلاّ أوفربي) تبدو كمن يحمل تراكمات أزمنة وحالات. تُقيم مع والدتها كرستن (آن دال تْورب)، وجدّتها كارِن (آنّ ماريت ياكوبْسن) شاعرةٌ تُقيم وحدها، ولها تفكيرٌ يختلف ويناقض ويتحرّر، وإنْ يكن البلد اسكندنافياً، ففي تلك البلاد مسائل وحكايات، لكنّ "حلم" للنرويجي داغ يوهان هاوغِرود، الفائز بالدبّ الذهبي لأفضل فيلم (تُمنح الجائزة للمنتج/المنتجين، وهذا يعني أنّ الفائز بها هما إنْغْفِ سايتر وهِغي هاوف هْفاتُم)، في الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، غير مُهتمٍّ بها، لأنّ الاهتمام، السينمائي والفكري واليومي، منصبّ على يوهانّ نفسها، بما لديها من مشاعر ورغبات وتصوّرات وحاجات، تحدث كلّها في عمرٍ صعبٍ.

هذا غير حاجبٍ مسائل بلدٍ واجتماع في مراحل ماضية. نقاشٌ يحصل بين كرستن ووالدتها، يستعيد بعض هذا الماضي، العام والخاص بينهما. المُدرِّسة يوهانّا (سِلُومي أمْناتو)، الشغوفة بالأدب الفرنسي والمُقيمة فترة في الولايات المتحدّة الأميركية، تعكس شيئاً من حالة راهنة، في ثقافة وتعليم وعلاقات ومشاعر. تبني مع يوهانّ علاقة تراها مناسبة لعمرٍ يحتاج غالباً إلى اهتمامٍ من خارج العائلة. لكنّها تضع حدّاً لعلاقتها بها، في لحظة تعتبرها الأنسب، كي لا تتمادى المُراهِقة، المحتاجة فعلياً إلى حبٍّ كهذا، وإلى انعتاق من عيشها، فإذا بها تكتب رواية (كأي رواية/فيلم، هناك خيط رفيع للغاية بين واقع وخيال، ويوهانّ بروايتها تُتيح حيّزاً شاسعاً لعدم إدراك الحاصل فعلياً في يومياتها المكتوبة)، تقرأها الجدّة أولاً، ثم الوالدة، قبل أنْ تقتنع كاتبتها بإصدارها عبر دار نشر.

سرد حكاية مُراهِقة غير معنيّ البتّة بكشفٍ فعلي للحاصل، رغم أنّ "كلّ" الحاصل يكاد يكون مكشوفاً، فيوهانّا تروي لكرستن اختبارها وحكايتها، وفي روايتها هذه تقول وتبوح، فتُزال ستائر تُخفي عيش يوهانّ وانفعالاتها. و"حلم" (عنوانه الإنكليزي "أحلام"، مُضافٌ إليه: "جنس حبّ"، رغم أنْ لا جنس فيه إطلاقاً) مبنيّ كلّياً على مُراهِقة تختبر الحبّ والجسد بكلّ ما لديها من شغف وصدق، وفي الكتابة (الرواية) تذهب إلى أقصى التفاصيل الممكنة، ما يُدهش جدّتها ووالدتها، وفي جلسة علاج نفسي تبدو أقوى من طبيبٍ أيضاً، فتسخر ضمناً من هذه "المهنة"، وتخرج غاضبة، وإنْ بصمت ومن دون انفعال.

وإذْ يبدو السرد، الذي تقوله الراوية/يوهانّ منذ اللحظات الأولى لـ"حلم"، معبّأً بكلامٍ كثير، وفي بعضه نقاشات عن أفلامٍ وتحرّر ونضال نسوي في زمن آفل، يُمكِّن الإخراج من تفعيل انسجامٍ مع كثرة الكلام ومضمونه، ومتابعة الحكاية وتفاصيلها. فيوهانّ تحكي كلّ حياتها، منذ عثورها على أول كتابٍ سيفتح في عقلها وقلبها دروباً إلى معرفة ومشاعر. في نبرتها عمقٌ ومصداقية، وقلق غير مُدّعٍ. تبوح، وإيلا أوفربي تُبدع في ذلك، وفي أدائها يوهانّ بكلّ تخبّطاتها ووحدتها وانفتاحها الحذر على جدّة وأمٍّ وناشرة وطبيب، وعلى زميلات وزملاء لن تتمكّن من الانصات الدائم إليهم/إليهنّ، لانشغالها بمُدرِّسة تمنحها اختياراً حسّاساً في مرحلة عمرية غير سهلة.

أوفربي بديعة في تصرّفات يوهانّ، وفي انشغالاتها وهمومها وغضبها وقهرها وخيباتها. ملامح الممثلة بريئة للغاية، لكنّ يوهانّ متمكّنة من اختلاس ما في أوفربي من حيوية وشغف ورغبات متفلّتة من كلّ تفكير، كأنّ الكتابة نفسها تؤكّد تمكّنها (يوهانّ) من التفلّت، مستغلّة احتيالها في كتابة لن تُظهر حقائق يوهم النصّ السينمائي (السيناريو لداغ يوهان هاوغِرود نفسه) بوجودها من دون كشفها كلّياً.

لقطات عدّة لأوفربي تعكس كلّ ما في يوهانّ من ارتباكات وتناقضات وأحلام. لكنْ، أيكون كلّ الحاصل في 110 دقائق مجرّد "حلم" لمُراهِقة نرويجية تكتشف عالماً وحياة، بمفردها إلى حدّ كبير؟ أوفربي (2004)، بتأديتها يوهانّ (17 عاماً، أي تلك المرحلة العمرية المنتقلة من مُراهَقة إلى شبابٍ) بـ"حزنٍ مؤثّر" (كما في تعليقٍ نقدي منشور في WanaLab، موقع إلكتروني فرنسي، 23 فبراير/شباط 2025)، تمثّل حالاتٍ أكثر من تمثيلها شخصيّة. أمّا هذا "الحزن المؤثّر" فتمرينٌ تُتقن الممثلة الشابّة خوضه بجاذبية مُحترِفة، لها سابقاً، مع المخرج نفسه، "احذروا الأطفال" (2019)، عن عواقب درامية لحدثٍ مأسوي يقع في ضاحية من ضواحي أوسلو، يُقيم فيها أناسُ من طبقة متوسّطة.

 

####

 

"خط زمني" أوكراني في "برليناله 2025":

الفكرة وتوثيقها مهمّان لكنّ الاشتغال تقليدي

برلين/ نديم جرجوره

"اخترقت الحربُ الحياةَ اليومية، لكنْ، كل ما يُمكننا فعله أنْ نستمرّ في العيش والتعلّم". بهذا، تُقدِّم الأوكرانية كاترينا خورنوسْتاي (لوتْسك، 1989) فيلمها الوثائقي "خطّ زمني"، المُشارك في مسابقة الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)". تقول أيضاً إنّ التركيز منصبّ على اللحظات اليومية والتجارب المدرسية البسيطة: دموعٌ في المراسم الأولى في قرع أجراس المدارس، عزفُ عجوزٍ لحنَ القديس نيكولاس، الشرائط الملوّنة في أيدي المتخرّجين. هذا كلّه يحدث "على خلفية الحرب"، والطلاّب يدرسون غالباً في الملاجئ بسبب الغارات الجوية: "يُظهِرُ المديرُ الغرف المتضرّرة والمغلقة في المدرسة، بينما تستمرّ الدروس في جناح آخر، ويُحتَفل بالتخرّج عبر الإنترنت".

كلامٌ متوقّع لمخرجةٍ تبغي، بفيلمها هذا، توثيق فعل الصمود في وجه الغزاة، رغم ثقل الخراب أحياناً، في مدنٍ بعضها غير بعيدٍ عن خطوط المواجهة (تْشرْكَسي، خاركيف، بورودِيانْكا، بوتشا، وكلّها في منطقة كييف. هناك مدنٌ أخرى أيضاً). فـ"خط زمني" (ترجمة حرفية للعنوان الأوكرانيّ) مُحمَّل بكَمّ من المشاعر الوطنية، رغم أنّ لحظات البكاء قليلة (جنازة مُدرِّسة تُقتل في مدرستها باعتداء صاروخي روسي، تلميذة صغيرة تبكي في صفّها بعد مشاهدتها صورة والدها الموضوعة على رفٍّ إلى جانب صُور جنود آخرين يُقتلون جميعاً في تلك الحرب، إلخ). فيه احتفال بالحياة، فالتدريس في الملاجئ غير مضغوط بخوفٍ أو قلق، بل بفرح متابعة ومُواجهة عبر الدراسة والتدريس، والأخيران ينفتحان على فنون ورياضات، إلى الدروس المعتادة.

أمّا زويي ليتْفِن، مؤسّسة "أوسْفِتوريا" (جمعية غير ربحية تعمل على التغيير الشامل في التعليم في أوكرانيا منذ نحو عقدٍ)، فتقول إنّ هناك رغبة في تذكير العالم "بأنّ الحرب في أوكرانيا مستمرّة"، وبأنّ "الأطفال والمدرِّسين والمدرِّسات يدفعون ثمناً باهظاً مقابل الحقّ في التعلّم والتعليم". هذا مندرج في أساس عمل الجمعية: "تطوير منصّات وطنية للتعلّم، تدريب عشرات آلاف المُعلّمين ودعمهم، تنفيذ حلول تعليمية عالية الجودة". ولكونها شريكةً رئيسية للحكومة والمنظمات الدولية، تلتزم الجمعية "ضمان استعادة سبعة ملايين طفل مُتضرّرين من الحرب قدرتهم على التعلّم، واستمرار تحقيق إصلاحات تعليمية".

أهناك علاقة إنتاجية بين ليتْفِن/أوسْفِتوريا وخورنوسْتاي/"خط زمني"؟ لا شيء مؤكّداً أو واضحاً. لكنّ الفيلم يلتقي مفاصل من المشروع الأساسي للجمعية، بتوثيقه جهود كثيرين وكثيرات في منح تلامذة المدارس فرصاً عدّة للتعلّم، بأي وسيلة ممكنة، وفي عيش حياة شبه عادية، في حربٍ روسية "جديدة" على أوكرانيا، مندلعة منذ 24 فبراير/شباط 2022، وبعض المدن المختارة تعاني أهوال حرب 2014 أيضاً. أهذا سبب اختياره من إدارة "برليناله"، وعرضه للمرة الأولى دولياً قبل أربعة أيام على الذكرى الثالثة لاندلاع الحرب؟ فـ"خط زمني"، سينمائياً، عاديّ للغاية، رغم انغماسه في التقاط كل ما يُغذّي رغبة توثيق الآنيّ في مدنٍ تتعرّض لمخاطر تلك الحرب، فيُعاند ناسها المخاطر بما يملكون من وسائل وتفكير واشتغال.

الفكرة مهمّة، رغم انّ مدناً كثيرة تعيش الحالة نفسها في حروبٍ ممتدّة في التاريخ والجغرافيا، وإنْ بأشكال مختلفة، لكنّ الشغل الوثائقي تقليدي، إذْ تنتقل الكاميرا (أولِكْسندر روشْشين) من مدرسة إلى أخرى، أي من مدينة إلى مدينة، لالتقاط نبض الحياة اليومية في عمق الحرب. ولعلّ هذا فقط يمنح "خط زمني" أهميته الفنية.

 

العربي الجديد اللندنية في

28.02.2025

 
 
 
 
 

«إعادة إحياء صوت مفقود»..

ليزلي لوكسي تشان تتحدث عن فيلمها الفائز بجائزة الدب الذهبي في «برلين»

أحمد عدلي

في لحظة مهمة بمهرجان برلين السينمائي الدولي، وقفت المخرجة الكندية ليزلي لوكسي تشان على المسرح لتتسلم جائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم قصير عن فيلمها Lloyd Wong, Unfinished، وهو عمل يوثق رحلة استعادة مشروع سينمائي غير مكتمل للمخرج والناشط الراحل لويد وونغ. الفيلم ليس مجرد استعادة لفيلم ضائع، بل هو محاولة لإعادة إحياء صوت شخص لم تتح له الفرصة لإنهاء قصته.

تقول تشان عن تجربتها مع الفيلم: «عندما رأيت لقطات لويد وونغ لأول مرة، شعرت وكأنني وجدت صندوقًا مليئًا بالرسائل غير المفتوحة. كانت هناك مشاعر حقيقية، ولقطات خامة غير مصقولة، لكنها تحمل في داخلها صوته، أفكاره، وألمه. لم يكن مجرد مشروع سينمائي متوقف، بل حياة لم تُستكمل، ورسالة لم تصل».

وتضيف أن رحلة العمل على الفيلم امتدت لأربع سنوات، لم تكن مجرد تجربة بحثية أو إخراجية، بل كانت غوصًا عميقًا في ذاكرة رجل عاش في الظل ورحل قبل أن يُنهي روايته الخاصة.

تعود بداية المشروع إلى رسالة غير متوقعة وصلتها من الفنانين جون غريسون وريتشارد فونغ، أبلغاها فيها بالعثور على اللقطات الأصلية التي كان وونغ يصورها لبرنامج Toronto Living with AIDS في أوائل التسعينيات، لكنه رحل قبل إتمامه. تتذكر تلك اللحظة قائلة: «لم أتردد لحظة. شعرت أنه شرف عظيم أن يُوكل إليّ العمل على هذه المادة، لكن مع مرور الوقت أدركت أن الأمر ليس مجرد استعادة تقنية، بل حوار بيني وبين شخص لم أقابله من قبل، لكنني بدأت أتعرف عليه من خلال صوره وكلماته غير المكتملة».

كان التعامل مع هذه اللقطات تجربة مليئة بالمشاعر والتحديات، تقول المخرجة “في البداية، كنت أظن أن دوري هو ترميم وتحسين المادة، لكن سرعان ما أدركت أن هذه اللقطات لا تحتاج إلى تنقيح، بل إلى الاستماع. كانت خامة غير مصقولة، أصوات متداخلة، صور غير مرتبة، لكنها كانت تحمل حقيقتها كما هي. لم أرغب في «إكمال» ما بدأه وونغ، بل أردت أن أفتح المجال لحواره مع الحاضر، أن أجعل صوته يُسمع كما هو، دون محاولة إعادة تشكيله وفق منظور جديد».

عند سؤالها عما إذا كانت تعتبر وونغ مخرجًا مشاركًا للفيلم، تجيب بحزم: «بالطبع. لم يكن بإمكاني صناعة هذا الفيلم لولا رؤيته الأصلية. لقد صنع هو المادة الأولية، وأنا قمت بمحاولة ترجمة صوته إلى الحاضر. بطريقة ما، أشعر وكأنني تعاونت مع روحه، وكأننا نعمل معًا عبر الزمن. هذا الفيلم ليس مجرد إعادة بناء، بل هو لقاء بين شخصين، أحدهما حاضر بجسده والآخر حاضر بصوته وذكراه».

تقول المخرجة الشابة «التحدي الأكبر لم يكن فقط في تجميع المادة، بل في فهم طبيعة الذكرى نفسها. خلال بحثي، استمعت إلى العديد من الأشخاص الذين عرفوا لويد وونغ، وكل شخص كان لديه ذكرى مختلفة عنه. أحيانًا كانت الذكريات متناقضة، وأحيانًا كانت مليئة بالفراغات. في البداية، كنت أعتقد أن مهمتي هي العثور على «القصة الحقيقية»، لكن لاحقًا أدركت أن الحقيقة ليست نسخة واحدة، بل هي مجموعة من وجهات النظر التي تكمل بعضها البعض. لذلك، قررت أن أترك كل جزء من القصة يتحدث بطريقته الخاصة. حتى ملاحظاتي البحثية ظهرت في الفيلم بشكل غير منظم، كطريقة للتعبير عن أن فهمنا لشخص ما لا يكون أبدًا نهائيًا».

كان العمل على الفيلم تجربة شخصية عميقة أيضًا. «كنت أعمل عليه في عطلات نهاية الأسبوع فقط، لأنني كنت أعمل بوظيفة أخرى خلال الأسبوع. لكنني لاحظت أن هذا أيضًا كان حال وونغ. كان يعمل لدعم الآخرين، وكان يكافح لإيجاد وقت لمشاريعه الخاصة. ربما بطريقة غير مباشرة، هذا الفيلم هو طريقة لي ولويد وونغ لدعم بعضنا البعض، حتى بعد عقود من رحيله».

عند الحديث عن البعد السياسي والاجتماعي للفيلم، تؤكد تشان أن هذا العمل ليس مجرد توثيق، بل هو فعل مقاومة. «هذا الفيلم يعيد تسليط الضوء على تجربة نادرًا ما نراها في السرديات السائدة حول أزمة الإيدز – تجربة رجل صيني-كندي مثلي الجنس في التسعينيات. تاريخ الإيدز مليء بأصوات لم تُسمع، وتذكر هذه القصص هو فعل مقاومة. التذكر نفسه هو شكل من أشكال النضال».

على المستوى البصري، استلهمت تشان أسلوب وونغ نفسه، خاصة في استخدامه للخلفيات الخضراء green screen، حيث كان يضع نفسه داخل سياقات مختلفة لإعادة تشكيل صورته بنفسه. «أردت أن أواصل هذا الحوار البصري، فوضعت صوره بجانب بعضها البعض بتقنية الشاشة المنقسمة split screen، كما لو أنه ينظر إلى نفسه عبر الزمن. أردت أن أطرح سؤالاً: ماذا يعني أن نُرى بشروطنا الخاصة، وليس من خلال عدسة الآخرين؟».

بعد عرض الفيلم، فوجئت المخرجة بكمية التفاعل الذي تلقاه. «كان هناك أشخاص جاؤوا لي بعد العرض وقالوا إنهم شعروا وكأنهم يعرفون لويد وونغ شخصيًا، رغم أنهم لم يسمعوا عنه من قبل. هذا أكبر دليل على قوة الصورة، وعلى أن الذكرى يمكن أن تعبر الزمن إذا وجدنا الطريقة الصحيحة لسردها».

عند سؤالها عن اللحظة التي سمعت فيها اسم فيلمها يُعلن كفائز بجائزة الدب الذهبي، ابتسمت وقالت: «كان شعورًا لا يُوصف. شعرت أن لويد وونغ كان معي في تلك اللحظة، وأن صوته قد وصل أخيرًا».

 

الشرق الأوسط في

28.02.2025

 
 
 
 
 

البرليناله، ساحة حرب رمزية!

المصدرالنهار - هوفيك حبشيان

مهرجان برلين السينمائي، في دورته الخامسة والسبعين (13 - 23 شباط)، لم يكن مجرد منصّة لعرض الأفلام واحتضان شلّة ممّن يعمل فيها صناعةً وبرمجةً وإعلاماً وترويجاً، بل شكل من أشكال الميدان لصراع أوسع بين رؤى متضادة حول دور السينما وحدود تأثيرها، وتبلور هذا في محاذاة الوظيفة الأصلية، الترفيهية والجمالية، المنوطة بها

لطالما كان الـ"برليناله" تظاهرة ثقافية مشحونة بالسياسة ومبدأ الانقسامات، لكن مع تأجّج الصراع على أكثر من جبهة (غزة، أوكرانيا، الداخل الألماني، ترامب، الخ)، استولى هذا الجانب على السينما، إلى حد التعتيم عليها أحياناً. في هذا المعنى، تتنافس الأفلام لا فقط على الجوائز، بل على فرض سرديتها الخاصة في عالم تتجاذبه الأزمات. وبالتأكيد، لا يمكن ان يصل إلى شاشات برلين فيلم تتناقض "قيمه" مع القيم التي يدعو إليها المهرجان، لكن لا يزال هناك - ولا نعلم إلى متى يستمر ذلك - مجال لمعاينة أنواع مختلفة من السينما، كلّ منها ينطق بمعتقداته وفق طريقته الخاصة.

بعض الأعمال يسعى إلى استكشاف السينما كفنّ خالص، حيث الشكل والمضمون يندمجان في تجربة جمالية تهدف إلى توسيع حدود الخيال. هذه الأفلام تضع اللغة السينمائية في صدارة أولوياتها، متجاوزةً الرسائل المباشرة والمواضيع المكررة. في المقابل، هناك موجة من الأفلام تتبنّى خطاباً نضالياً واضحاً يتعامل مع الشاشة باعتبارها فضاء للتغيير أكثر من كونها أداة فنية، مقدمةً أجوبة بدلاً من الأسئلة، في استعراض إيديولوجي يصل إلى حدّ الدعاية في بعض الأحيان. وعلى سبيل التذكير: الدعاية تبقى دعاية حتى لو وافقنا على مضمونها

القضايا في هذه الأيام، سواء في برلين أو في أماكن أخرى، ليست من لون واحد. هي هوياتية، جندرية، طبقية، عرقية، الخ. من خلالها يُعاد النظر في الثوابت والمسلّمات، وما هو "نهائي" في عقول البعض. الفنّ الصرف سيعاني صعوبات كبيرة للصمود أمام هذا التصعيد غير المسبوق لإعادة ترتيب الأولويات ودحض المفاهيم البالية

مع اشتداد الأزمات في فترة ما بعد كورونا، أصبح المهرجان معقلاً للمعسكرين، كأنه يستعيد دوره السابق. انها ساحة حرب رمزية، تتكرس ملامحها أكثر فأكثر مع كلّ دورة، فتصطف الأفلام على جانبي الخنادق السياسية والإيديولوجية، فإما تطرح نفسها كوسيلة تقدمية للتغيير، أو مساحة للتأمل الفني الحر، يكتب عليها الفنان أهواءه من دون ان يكون لها في الضرورة فائدة بالمعنى النفعي للكلمة

هذا التوتّر يعود إلى بدايات المهرجان نفسه، الذي نشأ في فترة الحرب الباردة كمشروع ثقافي، الهدف منه إبراز قيم "العالم الحر" في وجه الدعاية الشيوعية. ومع سقوط جدار برلين، لم يختفِ هذا الطابع الجدلي، بل تحوّل إلى منبر للصراعات الفكرية التي تعكس تقلّبات السياسة العالمية.

هذه الدورة حملت معها قضايا سجالية جديدة قديمة، من صعود التيارات القومية في أوروبا، إلى النزاعات الجيوسياسية، مثل الحرب في أوكرانيا والصراع على غزة. بعض الأفلام يتعامل مع هذه القضايا بحساسية وعمق، ولا تنسى اننا داخل صالة لا في قاعة محاضرات لتلقّي الدروس، بينما أخرى تبدو أشبه بمناشير سياسية مغلفة بلغة بصرية متواضعة.

في دورته التي انتهت قبل أيام، وجد مهرجان برلين نفسه مرة أخرى في قلب العاصفة، وذلك بعد اختياره أفلاماً تم تحميلها أعباء عقائدية وسياسية. من بينها: "رسالة إلى دافيد" للمخرج الإسرائيلي توم شوفال. الفيلم يعيد إحياء قصّة دافيد كونيو، الممثّل الإسرائيلي الذي اختُطف في السابع من تشرين الأول. دمج شوفال لقطات قديمة له من فيلمه السابق "شباب"، مع لقطات جديدة. لكن هذه المعالجة أثارت انتقادات البعض التي اعتبرت الفيلم منحازاً بشكل فج، وطاولت إدارة المهرجان نفسه لاختيارها هذا العمل. رأى كثيرون أن تقديم فيلم يعرض الحرب في غزة من زاوية إسرائيلية، من دون موازنة ذلك بسردية فلسطينية، يعكس اتجاهاً أحادياً في البرمجة، يتماشى مع المناخ السياسي الألماني الذي أصبح أكثر تشدّداً تجاه أي طرح ناقد لإسرائيل. دافع منظّمو المهرجان عن خياراتهم باعتبارها تستند إلى معايير محض فنية وسينمائية، لكن المنتقدين يرون أن هذه المعايير نفسها مسيسة بطبيعتها، وأن بعض الأفلام يمرَّر تحت ستار "الفنّ"، بينما هي في جوهرها إنتاجات دعائية موجّهة بعناية لتعزيز سرديات معينة.

المهرجان، الذي لطالما تباهى بكونه منصّة لحرية التعبير والنقاش المفتوح، وجد نفسه يتعرض لانتقادات من الجهتين، وانتهى به الأمر محاصراً بين نيران متقاطعة. المفارقة أن الهجوم جاء من كلا الجانبين: فالبعض اتّهمه بالترويج للرواية الإسرائيلية، فيما رآه آخرون متواطئاً مع "خطاب الكراهية المعادي للسامية". والحدث الذي ساهم في تفجير الجدال، هو صعود المخرج الصيني جون لي على خشبة المسرح، خلال عرض فيلمه "كويربانوراما"، ليقرأ بياناً نارياً للممثّل الإيراني عرفان شيكاريريز، الذي قرر مقاطعة المهرجان احتجاجاً على "انحياز ألمانيا لإسرائيل". في كلمته التي قرأها المخرج، شنّ هجوماً على الدولة العبرية، متّهماً إياها بارتكاب "مجازر في حقّ المدنيين"، قبل أن ينهي خطابه بشعار "من النهر إلى البحر"، وهو ما فجّر القاعة غضباً. بعض الحاضرين قاطعوه بصيحات الاستهجان، فيما تهكّم آخرون على "مخرج صيني يعظ الآخرين عن الديموقراطية"! لكن العاصفة الحقيقية جاءت من الخارج، حيث تحوّل الأمر بسرعة إلى قضية سياسية. وسائل الإعلام الألمانية شنّت حملة شعواء، معتبرةً أن التصريحات "تحريض مباشر للقضاء على إسرائيل". السلطات لم تتأخّر في التدخّل، وسارعت إلى فتح تحقيق رسمي عبر جهاز الأمن السياسي في الشرطة، ممّا يعكس بوضوح التشدّد الألماني تجاه أي خطاب مناهض لإسرائيل، رغم ان التظاهرات الداعمة لفلسطين يومية. أما إدارة المهرجان، التي اختارت النأي عن النفس، فقد حوصرت بين نارين. وبينما تسوّق ألمانيا نفسها كدولة تدعم الحريات، يظهر هذا الحدث مدى التضييق على أي رواية لا تتماشى مع السياسات الرسمية.

لم تقتصر الحرب الروسية الأوكرانية على جبهات القتال. منذ نشوبها قبل ثلاث سنوات، فالأفلام التي أُنجزت عنها لا تُعد ولا تُحصى، بعضها عُرض في برلين. لكن لم يسبق لأي منها ان دخل المسابقة، كما حدث هذا العام مع "الطابع الزمني" للمخرجة الأوكرانية كاترينا غورنوستاي، الوثائقي الوحيد الذي تسابق على "الدبّ الذهب". الفيلم ليس مجرد تسجيل للحرب في أوكرانيا، بل رؤية مغرقة في التفاصيل اليومية لعواقب الحرب على الجيل الجديد. بدلاً من تصوير الدمار المباشر، اختارت المخرجة أن تكشف عن التأثير النفسي العميق الذي يعيشه الطلاب والأساتذة داخل المدارس الأوكرانية في زمن الحرب. صحيح ان العمل مشغول بصنعة عالية ومناقبية توثيقية، وفيه شيء من اللغة السينمائية، لكن سنوات ضوئية بينه وبين بعض الأفلام الروائية داخل المسابقة، ولا فرق كبيراً في عرضه من عدمه، لا سينمائياً ولا سياسياً، وذلك بسبب تأثيره المحدود. غورنوستاي قدّمت وجهة نظرها عبر مشاهد بسيطة محمّلة الكثير من الألم: طلاب يتعلّمون في ملاجئ، مشاهد دراسية تجري وسط الأنقاض، ولحظات تخرّج تتحوّل إلى احتفالات تفوح منها رائحة الموت

بالتأكيد، لم يكن اختيار هذا الفيلم في مهرجان برلين مجرد قرار فنّي محض، بل رسالة سياسية واضحة. المهرجان لطالما أيّد رواية أوكرانيا في صراعها ضد روسيا. بعض النقّاد أثنوا على الموقف، لكن آخرين اعتبروا أن المهرجان يتبنّى رواية ذات بُعد سياسي، مغلقاً الطريق أمام أي خطاب محايد أو منصف.

في الدورة الفائتة، امتدت أيضاً أصداء التحولات السياسية العميقة في ألمانيا إلى المهرجان، وذلك عشية الانتخابات التشريعية الألمانية التي أوصلت تكتّل المحافظين إلى الحكم. هانا شيغولا، الممثّلة الألمانية ذات الـ82 عاماً، استغلت مشاركتها في المؤتمر الصحافي الخاص بفيلم "يونان" لأمير فخر الدين (فيلم من الشرق الأوسط وعنه، يتفادى ان يكون نشرة أخبار عنه)، لتحذّر من الخطر المتصاعد لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف. في كلمتها، أكّدت أن البلاد على حافة تكرار الأخطاء القاتلة التي شهدها التاريخ الألماني، إذا استمر هذا الحزب في صعوده. رسالتها لم تمر من دون ردود أفعال متباينة، اذ وجد البعض فيها دعوة ضرورية لليقظة السياسية، بينما اعتبرها آخرون مجرد لعبة إعلامية يسارية تهدف إلى "إرهاب الرأي العام“.

جاء هذا، كصدى بعيد لعرض "الضوء" للألماني توم تيكفر افتتاحاً، الفيلم الذي يروي قصّة لاجئة سورية تسعى للاندماج في المجتمع الألماني. استُقبل الفيلم ببعض الإشادات، لكنه أثار أيضاً انتقادات، فهناك مَن اعتبره "قوة ناعمة" لسياسات الحكومة الألمانية في مجال الاندماج، وهناك من رأى فيه مقاربة ساذجة لمحنة اللاجئين. وقوف المهرجان في صفّ القيم الإنسانية، لم يحل دون تحوله إلى أداة متقلّبة بين القوى السياسية المتصارعة والاصطفافات الإيديولوجية

في النهاية، يبقى الأهم، كما قال المخرج الروماني رادو جود، وهو يتسلّم جائزته ليلة الختام، ألا يفتتح برلين 2026، بـ"انتصار الإرادة" لليني رييفنشتال، فيلم الدعاية النازية الذي شكّل لحظة سينمائية نافرة عقائدياً، ولكن مبهرة فنياً وتقنياً.

 

النهار اللبنانية في

29.02.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004