ملفات خاصة

 
 
 

«لا أرض أخرى»

صوت للسينما الحرة رغم أنف إسرائيل

خالد محمود

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

(أوسكار 97)

   
 
 
 
 
 
 

كثير من الأفلام العالمية التى تنتمى إنتاجيًا وفكريًا للكيان الصهيونى فازت بجوائز الأوسكار، وهللت إسرائيل لها، ومعها آلتها الإعلامية، وكما تعلمون فإن معظم وسائل الإعلام ذات السطوة يسيطر عليها رأس المال اليهودى، ونماذج تلك الأعمال كثيرة، ومن أشهرها فيلم «قائمة شندلر» لستيفن سبيلبيرج، وآخرها «الوحشى» الذى توج بطله الممثل أدريان برودى بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل، بعد أدائه دور مهندس معمارى مجرى يهاجر إلى الولايات المتحدة عقب نجاته من الهولوكوست، وهو الفوز الثانى له بهذه الجائزة المرموقة، والتى نالها للمرة الأولى قبل 22 عاما عن تجسيده شخصية أحد الناجين من الهولوكوست فى فيلم «عازف البيانو»، وهو ما يستدعى للأذهان مسألة متاجرة اليهود بقضية الهولوكوست المزعومة.

هنا تحيى إسرائيل السينما وتثنى على دورها طالما تساهم فى تبنى قضايا تزييف الوعى والتاريخ لصالحها، وعندما فاز مؤخرا الفيلم الفلسطينى «لا أرض أخرى» بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقى طويل فى نسخته الـ97، وهو الفيلم الكاشف لمجازر لا إنسانية لدولة الاحتلال؛ انقلب فكر ونظرة الحكومة الإسرائيلية للسينما وهاجمت منح الجائزة للفيلم.

وهنا أتوقف عند انتقاد وزير الثقافة الإسرائيلى ميكى زوهار، قرار منح «لا أرض أخرى» جائزة الأوسكار قائلا إن ذلك «لحظة حزينة لعالم السينما».!!

ندد «زوهار» بالقرار فى تدوينة على منصة إكس معتبرا أن الفيلم يشوه صورة إسرائيل.

وقال الوزير الإسرائيلى بكل فجاجة «بدلاً من تقديم تعقيدات الواقع الإسرائيلى، اختار صناع الفيلم تعزيز السرديات التى تشوه صورة إسرائيل أمام الجمهور الدولى، وفى الوقت الذى اعتبر فيه أنه حرية التعبير هى قيمة مهمة، اعتبر تحويل التشهير بإسرائيل إلى أداة للترويج الدولى ليس فنًا، بل تخريب ضد دولة إسرائيل، خاصة فى أعقاب مذبحة 7 أكتوبر والحرب المستمرة!!».

الوزير الإسرائيلى لم يتحمل فيلما كاشفا لعنصرية بلاده أمام العالم، وقلب موازين المعادلة فى المذابح والمجازر التى ارتكبوها فى حق الشعب الفلسطينى بل وحق الإنسانية كلها، وأراد أن تصمت السينما، وألا تبوح بقصص الجريمة الكبرى، وأن تكون موجهة لرؤية طرف واحد.

كشف الوزير الإسرائيلى عن هذا الفكر الصهيونى عندما قال: «لهذا السبب بالذات مررنا إصلاحًا فى السينما الممولة من الدولة ــ لضمان توجيه أموال دافعى الضرائب نحو الأعمال الفنية التى تخاطب الجمهور الإسرائيلى، بدلاً من صناعة سينما تبنى مسيرتها على تشويه إسرائيل أمام الساحة العالمية».

فيلم «لا أرض أخرى» ـ الذى أخرجه الرباعى الفلسطينيان باسل عدرا، وحمدان بلال، والإسرائيليان يوفال أبراهام، وراشيل سزور، وهم ناشطون داعمون لقضية فلسطين ـ يعرض قصة أسرة فلسطينية تهجِّرها الحكومة الإسرائيلية من منزلها فى قرية «مسافر يطا» بالضفة الغربية، ويسلط الضوء على جوانب من الوضع هناك من وجهة نظر صناعه، وهو يوثق إجلاء الفلسطينيين من منازلهم فى الأراضى المحتلة، وهدم السلطات الإسرائيلية المتواصل للمكان.

وبينما يحاول المجتمع الفلسطينى البقاء على قيد الحياة يتتبع الفيلم الوثائقى محاولة الحكومة الإسرائيلية إخلاء القرويين بالقوة، بعد أن ادعت ملكيتها للأرض لإقامة منشأة تدريب عسكرية وميدان رماية.

ويرى المشاهدون هدم الملعب المحلى، ومقتل شقيق المخرج باسل عدرا على يد جنود الاحتلال، وهجمات أخرى من قبل المستوطنين اليهود.

يظهر الفيلم أيضًا العلاقة الإنسانية بين عدرا وشريكه فى إخراج الفيلم، الصحفى الإسرائيلى يوفال أبراهام على الرغم من أن تصوير «لا أرض أخرى» انتهى قبل أن تهاجم حماس إسرائيل فى أكتوبر 2023، مما دفع إسرائيل إلى شن حربها على غزة، فإن موضوعات الفيلم الوثائقى ذات صلة بشكل خاص خلال وقت من الصراع المتصاعد فى الشرق الأوسط؛ حيث يواجه الفلسطينيون فى الضفة الغربية عمليات الإخلاء والاعتداء من قبل المستوطنين اليهود منذ عقود من الزمن.

قبل ساعات من فوز الفيلم بجائزة الأوسكار، تعرض سكان منطقة الضفة الغربية التى ظهرت فى مشاهد الفيلم الوثائقى لاعتداءات من قبل مستوطنين إسرائيليين بحماية من قوات إسرائيلية.

استخدم صناع الفيلم خطابات عاطفية لحظة قبولهم الجائزة لتسليط الضوء على آثار الحملات العسكرية الإسرائيلية فى غزة والضفة الغربية المحتلة.

وقال عدرا إن الفيلم «يعكس الواقع القاسى الذى نعانى منه منذ عقود، وهو واقع مستمر حتى اليوم، وندعو العالم إلى اتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء هذا الظلم».

ودعا إلى إنهاء «التدمير الرهيب فى غزة» وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين.

وأضاف: «لقد صنعنا هذا الفيلم معًا، فلسطينيون وإسرائيليون، لأن أصواتنا معًا أقوى».

حصد الفيلم العديد من الجوائز فى العام الماضى، ولكن على الرغم من الإشادة التى حظى بها الفيلم من جانب النقاد، فقد تعرض صانعوه لانتقادات شديدة بسبب تعليقاتهم على الحرب فى غزة.

وانتقد مسئولون إسرائيليون إبراهيم عدرا بعد أن دعا إلى وقف إطلاق النار عند تسلمه جائزة أفضل فيلم وثائقى فى مهرجان برلين السينمائى الدولى فى فبراير الماضى، وتلقى إبراهيم بعدها تهديدات بالقتل.

وقال عدرا، وهو أب جديد، فى خطاب قبوله لجائزة الأوسكار، إنه يأمل ألا تضطر ابنته إلى عيش الحياة التى يعيشها الآن.. القلق الدائم، والخوف من هدم المنازل، وعنف المستوطنين، وتهديد التهجير القسرى الذى نواجهه نحن فى «مسافر يطا» كل يوم فى ظل الاحتلال الإسرائيلى.

«لا أرض أخرى» صوت للسينما الحرة والعدالة على الشاشة التى لم تتحقق بعد فى الواقع.. وليس كما يدعى الوزير الإسرائيلى خرابًا للسينما.

 

الشروق المصرية في

05.03.2025

 
 
 
 
 

ماجدة موريس تكتب:

لا أرض أخرى

توجت جائزة الأوسكار منذ أيام قليلة فيلم (لا أرض أخرى) كأفضل فيلم وثائقي عن العام ٢٠٢٤، ليؤكد الفن للمرة المليون أنه أفضل وسيلة  تعبير عن الحياة والواقع، وهو ما قدمه هذا الفيلم الفلسطيني من خلال طرح هموم مخرجه (باسل العدرا) ومعاناته منذ طفولته من التهجير القسري هو وعائلته من مكان لمكان، وهو ما تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلية مع أهله في منطقة يطا التي تقع في الضفة الغربية وتضم ١٩ قرية، وحيث أعلنت إسرائيل فجأة استقطاعها للمنطقة بكاملها وتخصيصها للتدريبات العسكرية لجيشها، وعلى سكانها تركها إلى مناطق أخرى للعيش فيها، وهي كارثة حلت بآلاف العائلات والسكان، وتهجير قسري حرم العائلات والأفراد من البقاء الآمن في أرضهم، وهو ما يقدمه الفيلم الذي شارك في إخراجه للنور آخرين مع (باسل العدرا) هم حمدان بلال، يوفال إبراهيم، وراحيل تسور وهو شاب إسرائيلي داعم للقضية الفلسطينية، والأربعة عملوا علي الفيلم منذ سنوات (أي قبل ٧ أكتوبر) في محاولة لتسجيل  الاعتداءات المستمرة علي الشعب الفلسطيني من قوات الاحتلال ومن المستوطنين الإسرائيليين والتي لم تتوقف عن محاولات إخراجه من أرضه وتطهيرها منه، الفيلم الذي صور على مدى خمس سنوات (٢٠١٩-٢٠٢٣) عرض للمرة الأولي في مهرجان برلين السينمائي الدولي في ١٢ فبراير من العام الماضي، وحصل علي جائزتين هما جائزة برلين لأفضل فيلم وثائقي وجائزة (الفيلم الأوروبي) لأفضل وثائقي، وفي يناير من العام الحالي رشح  لجوائز الأوسكار الأمريكية السابعة والتسعين  ليحصل علي الجائزة، وليدفع وزير الثقافة الإسرائيلي إلى إطلاق تصريحات غاضبة  في القناة الرابعة عشرة الإسرائيلية من نوع (أنه يوم حزين لإسرائيل) وأن صناع الفيلم اختاروا رواية حكايات ملفقة بدلا من عرض تعقيدات الواقع، وهكذا جاءت التصريحات الغاضبة  لحكومة احتلال متوحشة لم تتوقف عن ضرب الفلسطينيين ومحاولات تهجيرهم منذ سبعين عاما، وحتي اليوم، لكنها لن تستطيع أن توقفهم عن التعبير عن آلامهم بصناعة الأفلام التي تقدم للعالم ما يحدث لهم كل يوم.

من المكان صفر

لم يكن فيلم (لا أرض أخرى) الذي تبلغ مدته ٩٥ دقيقة هو الفيلم الفلسطيني الأول الذي يصل الي أبواب جوائز الأوسكار، ففي نفس هذا العام ٢٠٢٤، وصلت إليه مجموعة من الأفلام الفلسطينية القصيرة رأيناها في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نوفمبر الماضي بعنوان (من المكان صفر) أخرجها مجموعة من صناع الأفلام الشباب عن كل ما يتعلق بغزة، وصوروها أثناء الحرب، أفلام عن التضييق علي حياة الغزاويين في بيوتهم، وشوارعهم، وحتي علي البحر والصيد، ومداهمات تطول المواطن في أي لحظة ولأي سبب، وقد اشرف علي هذه المجموعة (تضمنت ٢٢ فيلما قصيرا، وقصيرا جدا) المخرج الفلسطيني الكبير رشيد المشهراوي، الذي قدم أيضا فيلما جديدا عن ما يحدث في وطنه المحتل بعنوان (أحلام عابرة) ليضيفه إلي أعماله السابقة المهمة والتي رأيناها في مصر وحصل بعضها علي جوائز مهرجان القاهرة السينمائي الدولي مثل فيلم (حتي إشعار آخر)، ولا أظن محبي السينما في مصر ينسون الأفلام الفلسطينية المهمة والرائعة التي رأيناها عبر مهرجاناتنا، وعرفنا خلالها أسماء مبدعين ومبدعات كبار من فلسطين أمثال مصطفي ابو علي في البدايات ثم ميشيل خليفي، وايليا سليمان وكمال الجعفري وهاني أبو أسعد وغيرهم، ومن المخرجات المبدعات نبيهة لطفي، وعلياء ارصوغلي، وآن ماري جاسر وعرب لطفي ومي المصري ونجوي نجار وغيرهم، ليثبتوا أنهم حراس التاريخ والأرض التي يسعي المحتل لمحوها.

وهذا هو الفن حين يكون جزءا من المقاومة للظلم والعنف والاحتلال، وحين يقدم للعالم الأدلة علي التاريخ الطويل للوطن ضد الدعوات الي تهجير أهله من أرضهم وبيوتهم ليأخذ مكانهم آخرون.

 

الأهالي المصرية في

05.03.2025

 
 
 
 
 

الوثائقي "لا أرض أخرى" يفوز بأوسكار ويثير جدلا واسعا

الفيلم يتتبع الناشط الفلسطيني باسل عدرا وهو يخاطر بالاعتقال لتوثيق تدمير مسقط رأسه في الطرف الجنوبي للضفة الغربية.

القدس – فاز فيلم “نو أذر لاند” أو ما يعرف بالعربية “لا أرض أخرى” الذي تعاون على إخراجه مخرجون إسرائليون وفلسطينيون، بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل التي أعلن عليها الاثنين، وتسلم الجائزة في مسرح دولبي في هوليوود الفلسطيني باسل عدرا، المولود عام 1996، والصحافي يوفال أبراهام، المولود في إسرائيل عام 1995.

وصور الفيلم في مسافر يطا في جنوب الضفة الغربية بالقرب من مدينة الخليل، حيث يوثق معاناة الفلسطينيين في تلك البلدات من خلال شاب يقاوم التهجير القسري لعائلات فلسطينية بعدما يعمد الجيش الإسرائيلي إلى هدم منازلها بشكل جماعي لإقامة مناطق عسكرية.

ويتتبع الفيلم الناشط الفلسطيني باسل عدرا وهو يخاطر بالاعتقال لتوثيق تدمير مسقط رأسه في الطرف الجنوبي للضفة الغربية، التي يقوم الجنود الإسرائيليون بهدمها لاستخدامها كمنطقة تدريب عسكرية. وتصطدم توسلات عدرا بصمت حتى يصبح صديقاً لصحافي إسرائيلي يهودي يساعده في نشر قصته.

ويظهر الفيلم جنودا إسرائيليين وهم يهدمون المنازل ويطردون السكان لإنشاء منطقة تدريب عسكرية، ورغم أن عدرا يصبح صديقا لأبراهام، إلا أن علاقتهما تواجه تحديات بسبب الفجوة بين ظروف معيشتهما، حيث أظهر الفيلم خلال الأحداث، توفر عوامل الأمان ومقومات الحياة للمستوطنات الموجودة في المنطقة في مقابل هدم المنازل الفلسطينية بالجرّافات وقطع مواسير المياه وخطوط الكهرباء التي تغذي المساكن الفلسطينية المتواضعة.

وأثار خبر فوز الفيلم جدلا في إسرائيل حيث ندد وزير الثقافة الإسرائيلي ميكي زوهار، بفوز الفيلم واصفا الفوز بأنه “لحظة حزينة للسينما.”

وقال الوزير في منشور له على منصة إكس “بدلا من عرض تعقيدات واقعنا، اختار صانعو الفيلم تكرار السرديات التي تشوه صورة إسرائيل في العالم.” وأضاف “حرية التعبير قيمة مهمة، لكن تحويل تشويه سمعة إسرائيل إلى أداة للترويج الدولي ليس إبداعا، إنه تخريب ضد دولة إسرائيل.”

وسبق أن فاز الفيلم الذي أنتج بميزانية متدنية، بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين السينمائي، كما فاز بـ«جائزة الجمهور» في برنامج «البانوراما» لأفضل فيلم وثائقي، ضمن المهرجان لكنه لم ينجح حتى الساعة في التعاقد مع جهة للتوزيع في الولايات المتحدة.

ودعا الفلسطيني باسل عدرا الذي شارك في كتابة وإخراج الوثائقي، في كلمة أثناء تسلّم الجائزة، إلى إنهاء “التطهير العرقي” للفلسطينيين. وقال “أتمنى ألا تُضطر ابنتي أبدا إلى عيش الحياة التي أعيشها، مع كل هذا العنف وتدمير المنازل.”

أما زميله الإسرائيلي يوفال أبراهام المشارك أيضا في إخراج العمل، فقال “لقد صنعنا هذا الفيلم، فلسطينيون وإسرائيليون، لأن أصواتنا معا أقوى.” وأضاف “عندما أنظر إلى باسل أرى أخا، لكننا لسنا متساويين” في الحقوق.

 

العرب اللندنية في

05.03.2025

 
 
 
 
 

أوسكار "لا أرض أخرى" يستفز إسرائيل...وتهديدات لصنّاعه

محمد صبحي

فاز فيلم "لا أرض أخرى"، للفلسطيني باسل عدرا والإسرائيلي يوفال أبراهام، بالتعاون مع الفلسطيني حمدان بلال، والإسرائيلية راشيل سزور، بجائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي. لكن ليس الجميع في إسرائيل سعداء بهذا الفوز لأنه يعيد التذكير بأصل وفصل القضية: حكاية شعب وسكّان أصليين بمواجهة قوة استعمارية تحاول اقتلاعهم من أرضهم.

الفارق لا يمكن أن يكون أكبر، فعندما دعا الصحافي والمخرج الإسرائيلي الحائز جائزة الأوسكار مؤخراً، يوفال أبراهام، من خشبة مسرح حفلة توزيع الأوسكارات هذا العام، إلى تغيير المسار في فلسطين ووقف التطهير العرقي بحقّ الشعب الفلسطيني، صفّق الجمهور بحماسة. لكن في إسرائيل كان استقبال الجائزة متواضعاً.

ردود الأفعال بدأت سريعاً في أعقاب الفوز المهمّ وغير المتوقّع لفيلمٍ لم يجد إلى الآن موزّعاً أميركياً ليتسنّى للجمهور في الدولة الداعمة لإسرائيل مشاهدة الواقع القاسي الذي يعانيه الفلسطينيون منذ عقود. وقال وزير الثقافة الإسرائيلي مخلوف (ميكي) زوهار، إن الجائزة "لحظة حزينة في عالم السينما". وأضاف الوزير - المنتمي لحزب الليكود والمتحمّس لإعادة استيطان غزة - أن الوثائقي، الذي يوثق الطرد المنهجي للمزارعين الفلسطينيين من قراهم في الضفة الغربية، وسيلة "لتخريب دولة إسرائيل". واعتبر زوهار إن "حرية التعبير قيمة مهمّة"، لكن في هذه الحالة يتعلّق الأمر أكثر بكسب الاعتراف الدولي من بوابة "تشويه سمعة إسرائيل"!
في إسرائيل، ربما يساعد هذا التتويج المرموق في جعل الفيلم معروفاً لجمهور أكبر، على الأقل بالاسم. فرغم تتويج "لا أرض أخرى" بجوائز في العديد من المهرجانات، بما في ذلك جائزة مهرجان برلين لأفضل فيلم وثائقي العام الماضي، لم يجد إلى الآن طريقاً لعرضه في دولة الاحتلال، التي لا توفّر سلطاتها جهداً في التعتيم عليه وسدّ المنافذ أمام عرضه للجمهور. وعلى الأغلب لن يتمكّن نصف طاقمه الإخراجي (فلسطينيان وإسرائيليان) من السفر حتى لو عُرض الفيلم في دور السينما في القدس أو تل أبيب. واضطر صنّاع الفيلم إلى السفر إلى حفلة توزيع جوائز الأوسكار عبر طرق مختلفة، فطار يوفال أبراهام وراشيل سزور من تل أبيب، في حين اضطر الفلسطينيان باسل عدرا وحمدان بلال إلى اتخاذ طريق بديل عبر عمّان في الأردن.

الفيلم، وهو إنتاج مشترك بين فلسطين والنروج، ساهم في إخراجه رباعي مكوّن من الثنائي الفلسطيني باسل عدرا، وحمدان بلال، والثنائي الإسرائيلي يوفال أبراهام، وراشيل تسور، يتتبع قصة مخاطرة عدرا بالاعتقال أثناء محاولته توثيق تدمير الجنود الإسرائيليين لمسقط رأسه في قرية مسافر يطا، في الطرف الجنوبي بالضفة الغربية، ليلتقي بصحافي إسرائيلي يساعده في نشر قصّته ونقل معاناة الفلسطينيين في مواجهة ممارسات الاحتلال الإسرائيلي.

حالياً، يعيش حوالى ألف فلسطيني في مسافر يطا في مجتمعات صغيرة، يربّون الأغنام ويزرعون الخضروات والزيتون. لكن الجيش الإسرائيلي قرّر إقامة منطقة تدريب عسكرية هنا في ثمانينيات القرن العشرين لأن المشهد الجبلي يشبه في تضاريسه جنوب لبنان. لكن لم تُجر أي تدريبات. والآن أصبح سكّان مسافر يطا تحت التهديد المستمر - إما من جانب جيش الاحتلال الذي يهدم المنازل والمدارس والإسطبلات، أو من جانب عصابات المستوطنين العنيفة التي تجوب القرى. يوثّق "لا أرض أخرى" هذا المصير وتلك الوقائع الحيّة، على مدى سنوات، رافداً إياها بنهجٍ إسرائيلي في التدمير والتهجير والتغييب والنهب، سابق لحرب إبادة جديدة في غزة في أعقاب "طوفان الأقصى" (السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023).

قبل يومين من مغادرتهما إلى الولايات المتحدة، تواصلت "المدن" مع عدرا وأبراهام للإجابة على بعض الأسئلة، استكمالاً لحديثٍ ممتد منذ عرض الفيلم للمرة الأولى عالمياً في مهرجان برلين أوائل العام الماضي. وعند سؤالهما عمّا إذا كان الفيلم قد غيّر أي شيء بشأن عمليات الطرد والتهجير لعائلات مسافر يطا، قال الثنائي "أن الوضع لم يتحسّن. في الواقع، إنه أسوأ بكثير مما كان عليه في ذلك الوقت".

لكنه أيضاً فيلم عن الصداقة والتمسّك بالحياة والحفاظ على الإنسانية في أوقات الشدّة. يتحدث أبراهام وعدرا عن كيف أن واقع الضفة الغربية المحتلة يفرض أيضاً ضغوطًا على علاقتهما. ففي حين يستطيع أبراهام العودة إلى منزله إلى سرير دافئ بعد يوم من انتهاكات حقوق الإنسان الموثَّقة؛ في المقلب الآخر، عدرا مسلوب الهوية، تُنتهك حقوقه يومياً، وبجانب سريره ترقد كاميرته التي قد يضطر إلى الخروج بها في الليلة التالية لتصوير جرّافات مقتربة لهدم بيته أو بيت جيرانه.

يقول عدرا: "التصوير والتوثيق والتظاهر.. هذه هي الأدوات المتبقية لدينا للدفاع عن أنفسنا". ويضيف زميله الإسرائيلي "أنهم إن لم يفعلوا سيجدون أنفسهم جالسين هناك لإحصاء المنازل المُهدّمة". وعند سؤاله عمّا إذا كان هو نفسه عرضة للقمع الإسرائيلي، أجاب أبراهام: "إنني أدفع ثمناً أكبر في بيئتي الاجتماعية". لم يعد بعض أصدقائه يتحدثون معه. وبعد الجائزة في برلين، اضطرت والدة أبراهام إلى الفرار من منزلها لبضعة أيام لأنها تعرّضت للتهديد من قبل متطرّفين يمينيين. حتى أبراهام نفسه تلقّى تهديدات بالقتل، فقط لأنه جاهر بالوقوف إلى جانب الحقّ الفلسطيني بمواجهة ظلم وإجرام ترتكبهما دولته يومياً على مرأى ومسمع العالم.

 

المدن الإلكترونية في

06.03.2025

 
 
 
 
 

فيلم «لا أرض أخرى»… الوثائقي بوصفه حدثاً مستمراً

سليم البيك

لا قيمة أعلى لفيلم وثائقي من استمراريةٍ للحالة الموثَّقة إثر خروج الفيلم، ومن راهنيةٍ دائمة لموضوع الفيلم، ومستجدّة لسنوات لاحقة لحدث الفيلم. هذا أبرز ما يميز الوثائقي «لا أرض أخرى» (No Other Land)، ولعل ذلك آتٍ من الخلفية الناشطيّة لصنّاع الفيلم: باسل عدرا ويوفال أبرهام، وحمدان بلال وراشيل تسور.

أمام الكاميرا نرى باسل ويوفال، صديقين يمضيان الوقت في تتبع عمليات الهدم والاعتداء والتهجير، التي يقوم بها كل من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في قرية مسافر يطا، قرب مدينة الخليل. العمليات الاستعمارية هذه سابقة للفيلم ولاحقة له. هذه الاستمرارية واضحة إما من خلال لقطات أرشيفية (كاميرا منزلية تحديداً) أو أخرى حدثيّة (كاميرا موبايل تحديداً)، الأولى تسبق الفيلم والأخيرة تلحقه، ما يعطي معنى محلياً لمسافر يطا، يكون مثالاً عينيّاً وبيّناً على «استمرارية النكبة».

هذه الاستمرارية استطاعت أن تكون من خلال «لا أرض أخرى»، تقنيةً سينمائية. فالسياق الأرشيفي الذي تخلّلَ مَشاهد الفيلم، أوصلنا، من بعد متن الفيلم وموضوعه وهو العمليات الاستعمارية خلال التصوير، المزامنة له، أوصلنا إلى نهاية الفيلم من الناحية السردية، لتَظهر إشارة بأن اللقطات التالية صوّرها باسل ما بعد الانتهاء من العمل على الفيلم، وهي صور أمكن لها أن تكون سابقة لتصوير الفيلم أو مزامنة، أي أمكن لها أن تكون أرشيفية أو حدثيّة راهنة، لتمدّ الفيلم، غير المنتهي، إلى ما بعد لقطته الأخيرة، إلى استمرارية تجعل من المأساة الفلسطينية في سياقها هنا، مسافر يطا، مستمرةً منذ ما قبل الفيلم وزمانه (أرشيفاً) إلى ما بعده (حدثاً). فلا نقطة استهلال ولا ختام للفيلم. هو حالة مستمرة، نبدأ بالمشاهدة كأننا في منتصفه، ننتهي من المشاهدة كأننا ما زلنا في منتصف آخر له. يمكن أن ننتهي من الفيلم فنفتح قناة أخبار لنجد «عاجلاً» من مسافر يطا (أو غيرها بطبيعة الحال) يؤكد تلك الاستمرارية للفيلم.

هذا كله في حلقة مفرغة تتكرّر فيها المَشاهد ذاتها، كأنّ الزمن لا يتقدّم، تماماً كما قال واحد من أهالي القرية في الفيلم، إن الجيش يهدم بيته وهو يبنيه من جديد، هم يهدمون وهو يبني، إنه يمضي حياته كلّها في بناء بيوت بعد تهدّم أخرى.

يتساءل باسل ويوفال في الفيلم حول كيفية إيصال ما يحدث في قرية الأول، إلى العالم، وإيجاد طريقة غير رفع الفيديوهات على وسائل التواصل، ومراقبة عدد المشاهدات. كأن الفيلم كله، أخيراً، كان لهذه الغاية، بأن اشهدوا ما تفعله إسرائيل، وبالتصوير في واقعية قصوى، كأنها مادة خام، من دون التفذلك فنياً وإظهار مهارات اللعب في برامج غرافيكية، تقتل عفوية الوثائقي ومصداقيته. هي عقلية الناشط الحقوقي والمهموم بإيصال القصة، مضمونها من دون شكليات فنّية، لا باللعب فيها شكلاً ولا التلاعب بها موضوعاً، هي العفوية المطلوبة في الوثائقيات. ولعل هذه العفوية وما تحمله من مصداقية تجاه موضوع الفيلم وناسه ومكانه، والانتماء إليها كلها، منحت الفيلم مساحات استحقها، منحته قبل أيام جائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي، في لحظة تاريخية، سياسية وسينمائية، للفلسطينيين.

في الفيلم كلام وصور لا يخبو صدقها، فاستحق مكانةً استثنائية، منذ جائزة الفيلم الوثائقي في مهرجان برلين السينمائي العام الماضي، رغم موضوعه ومعالجته، حتى جائزة الأوسكار أخيراً، مروراً بترشيحات وجوائز لم يسبقه إليها، على الأرجح، وثائقي آخر لفلسطيني أو بموضوع فلسطيني، ومشاركاتٍ مهرجاناتية شاسعة، آخرها هذه الأيام في مهرجان السينما الفلسطينية في مدينة تولوز جنوبي فرنسا.

تحوّلَ الخبر الفلسطيني إلى عالميٍّ أوّلَ أو باهتماماتٍ أولى، بشكل غير مسبوق، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، مرفقاً بوحشية الإسرائيليين، دولةً وجيشاً ومستوطنين، في قطاع غزة وكذلك الضفة الغربية وفيها مسافر يطا، إضافة إلى المهزلة الألمانية التي اتهمت المهرجان والفيلم شاملاً مخرجَه الإسرائيلي، بمعاداة السامية، وتبرير وزيرة الثقافية آنذاك بتصفيقها إثر الإعلان عن الجائزة بأنه، التصفيق، كان للإسرائيلي مستثنياً المخرجَ الفلسطيني، وغيرها مما كان عاملاً موضوعياً لا أقول ساعد الفيلم على الانتشار، بل كشفَ الحاجة لدى العالم والمشاهدين، لتعريض أنفسهم مباشرة إلى فيلم نَقل كأنه بثٌّ حي، عيّنةً من المآسي الفلسطينية التي أظهرت، أكثر، لمن لم يرَ بعينيه بعد، أن الحرب الإبادية في قطاع غزة اليوم هي حالة ضمن غيرها، من سياسة الإبادة، تهجيراً وقتلاً وتدميراً، سابقة لزمان تلك الحرب وخارجة عن مكانها، أنها متعلّقة بالوطن الفلسطيني بمعزل عن اسم المدينة والقرية والمخيم، وبالدولة الإسرائيلية بمعزل عن أي اسم فيها. وأنها، دائماً، مستمرة. هو حال النكبة، مكاناً وزماناً.

 

القدس العربي اللندنية في

07.03.2025

 
 
 
 
 

كوبولا، الرؤيوي المجازف الذي وبّخته هوليوود!

المصدرالنهار - هوفيك حبشيان

أراد كوبولا فيلماً خارج الملعب التقليدي، وقد موّله بماله الخاص. النتيجة: نصّ بصري هائل يدخلنا في دهاليز مخيلة فنّان ومفكّر سينمائي يكتب وصيته السينمائية، معانقاً العالم بأسره من أقصاه إلى أقصاه، على طريقة ماليك أو غودار.

هكذا اذاً، فرنسيس فورد كوبولا هو "أسوأ مخرج“ عن ”ميغالوبوليس"، بحسب جوائز الـ"رازي"، فيما أفلام تتراوح بين العادي والرديء تصدّرت المشهد الأوسكاري في مطلع هذا الأسبوع. مهزلة لا يتخيلها العقل، تُضاف إلى تلك التي حدثت عندما فضّل أعضاء الأكاديمية "شكسبير مغرماً" على "الخيط الأحمر الرفيع" لماليك و"إنقاذ الجندي راين" لسبيلبرغ

كوبولا، وهو أحد آخر عمالقة الشاشة، وافق على استلام الجائزة المهينة، لكنه استغل الفرصة لشنّ هجوم على هوليوود التي تفتقر إلى الشجاعة.

الفنّان، 86 عاماً، الذي خاض مغامرات سينمائية حملته من أدغال الفيليبين يوم صوّر فيها "القيامة الآن"، إلى تجارب طليعية مع "واحد من القلب"، مروراً بقراءة المستقبل في "المحادثة"، أعطانا، العام الماضي، أحد أكثر الأفلام طموحاً ورؤيويةً، ومع ذلك لم تتأخّر هوليوود، التي أصبحت ترى فيه دخيلاً أو "أوتسايدر" (عنوان أحد أجمل أفلامه)، في وصمه بواحد من أحطّ النعوت، وذلك لخروجه على الطاعة والعمل على هامش المنظومة الثقافية والاقتصادية. مع التذكير بأنه بُذلت جهود اعلامية للتشويش على صدور ”ميغالوبوليس“ في الصالات الأميركية، عبر توجيه تهم أخلاقية له (تقبيل فتاة من أفراد طاقم العمل خلال التصوير)، لكن لم تحدث الضجة المستهدفة، بسبب فراغ الملف

شاهدنا "ميغالوبوليس" في مهرجان كانّ الأخير، قبل ان يخرج إلى الصالات في أواخر الصيف على نطاق محدود، ولم يحقّق عالمياً سوى نحو 15 مليون دولار، رغم تكلفته التي ناهزت الـ100 مليون

مع هذا الفيلم، شنّ كوبولا فتحاً سينمائياً. فيلمه هذا ممعن في براءة البدايات، يذكّر بكلّ السينمائيين الذين يقحمون كلّ شيء في عملهم الأول، خشيةً ألا تتسنّى لهم فرصة ثانية للوقوف خلف الكاميرا. وجد كوبولا نفسه في ذلك المطرح، فالزمن يدهمه، ولكن يا للمفارقة، فهذا فيلم لا يمكن مَن لم يعش طويلاً ولم يكتسب الحكمة عبر تجربة السنوات، ان يتجرأ على إنجازه بل على التفكير فيه.

أراد كوبولا فيلماً خارج الملعب التقليدي، وقد موّله بماله الخاص. النتيجة: نصّ بصري هائل يدخلنا في دهاليز مخيلة فنّان ومفكّر سينمائي يكتب وصيته السينمائية، معانقاً العالم بأسره من أقصاه إلى أقصاه، على طريقة ماليك أو غودار.

لكن، بعد خمسين سنة تماماً على فوزه بـ"أوسكار" أفضل فيلم وأفضل مخرج عن "العراب 2"، صار يُنظر إلى صاحب "السعفتين"، باعتباره فنّانا خارج الموضة، لا يدر الأرباح. ماذا تغير في عمق موهبته طوال هذه الفترة؟ لا شيء، سوى ان تفصيلاً بسيطاً غيّر المعادلة: أصبح كوبولا ينجز الأفلام التي كان يحلم في إنجازها في بداياته، مبدّداً سوء الفهم الذي رافقه طوال حياته. فكوبولا لم يرغب يوماً في ان يكون مخرجاً محصوراً في الأمجاد الهوليوودية، ولو انه انجرّ رغماً عنه إلى هذا الفخّ. لطالما اعترف بأن سلسلة "العراب" لم تكن سوى مصادفة في حياته، ولم يطمح إليها، بل ولم تكن هذه هي السينما التي سعى اليها تجسيداً لتطلعاته الفنية
على مر السنين، تبدّل فهمه للسينما. ما عادت تهمّه إلاّ الأفلام التي سينجزها خلال ما تبقّى له من وقت، رغم تأكيده في مهرجان كانّ الأخير انه سيعيش لفترة طويلة بعد! بمعنى آخر، يسعى كوبولا إلى الأفلام التي يرغب بها هو، لا الأفلام التي يطمح اليها المنتجون. لذا، اتخذ من حكايات عائلته المتداخلة مادة لنصوص شبه تجريبية تجلّت ذروتها في "تيترو". أما غيابه  الطويل الأول الذي دام عشر سنين، بين عامي 1997 و2007، فبدّل نظرته إلى منجزه، اذ بعد ارتباطه القسري بـ"باراماونت"، عاد سينمائياً أكثر استقلالية يموّل أفلامه من عائدات بزنس النبيذ الذي يديره. المفارقة ان الاستقلالية عند كوبولا، كما الحال عند كثيرين، لا تعني دائماً الأفضل: ذلك ان أهم تحفه فبركها تحت الضغط وفي ظلّ أشد القيود

في كلمة كتبها على صفحته في ”إنستغرام“ (نعم، كوبولا يستخدم هذا الموقع)، شن هجوماً مهذّباً على هوليوود الحالية، لكن ما يهمني منها هو ذكره لكلمة "مجازفة". كوبولا الذي يعتبر نفسه من رواد المنظومة النضالية داخل السينما، قال ذات يوم، في ندوة، هذه الجملة التي علقت في ذهني: "أحب المجازفة، وإني أعتبر ان السينما من دونها كمن يتوقّع الانجاب من دون ممارسة الجنس". 

لم ينسَ كوبولا ان يعبّر عن اعتزازه وهو يجد نفسه في صف واحد مع جاك تاتي، المخرج الفرنسي الذي تعرضت أفلامه، لا سيما رائعته "بلايتايم"، مشروعه الأكثر طموحاً، لانتكاسة، قبل ان يدخل التاريخ من أوسع بوابة. هذه بضعة أسطر كتب من خلالها كوبولا مانيفستو للسينما التي يصنعها بعض من أمثاله اليوم… صحيح انها سينما تُصنع اليوم، لكنها سينما من أجل الغد!

أفلامه كانت دائماً سابقة للزمن الذي جاءت فيه، وبعضها أخذ وقتاً طويلاً كي يُقدَّر. "العراب" مثلاً انتشل أفلام العصابات من سطحيتها، ناقلاً إياها إلى مستوى آخر من المعالجة الدرامية، انطلاقاً من مواضيع السلطة والوفاء والقيم. ومع "القيامة الآن"، لم ينجز فيلماً مرجعياً عن الحرب فحسب، بل زجّ بنا في جحيمها، بعيداً من الوطنيات الزائفة التي كانت سائدة قبله (مع بعض الإستثناءات). أما نزعته إلى التجريب والاختبار والتحدي، فحملته إلى الاستعانة بتقنيات ثورية، أصبحت معتمدة في هوليوود من بعده، فكان "واحد من القلب" الذي تعرض لفشل جماهيري كاد يقضي عليه، كحال "ميغالوبوليس". والجمهور لم يكن دائماً على أشد جهوزية لتلقّي هذه التجارب التي تخربط علاقته بالسينما. حتى في "دراكولا"، استنجد بحيل تضرب جذورها في المسرح، رافضاً الصور المشغولة بالكومبيوتر. هذا كله من دون ان ننسى كيف انه تنبّأ مع "المحادثة" بعالم التلاعب والتنصّت والتحكّم المقبل علينا

ألم يكن رؤيوياً أيضاً عندما صرّح في كانّ، ستّة أشهر قبل اعادة انتخاب دونالد ترامب، ما يلي؟ ”ما يحدث الآن في ديموقراطيتنا هو بالضبط ما حدث في روما وأدّى إلى انهيارها قبل قرون. سياسيونا أخذونا إلى نقطة سنخسر فيها جمهوريتنا. ولكن، الرد عليهم لا يكون بدعم سياسيين آخرين، بل يجب أن يأتي من فنّاني أميركا. العالم اليوم تهيمن عليه نزعة فاشية، وهذا مرعب. أي شخص عاش الحرب العالمية الثانية وشهد على الفظائع، لا يرغب في تكرار تجربتها“.

لا شيء يؤكّد ان الكثير من الأفلام التي نراها اليوم ستبقى بعد خمسين عاماً. هذه فكرة أخرى طرحها كوبولا في جملة اعتراضية يستحق التأخر عندها. وأنا أضيف على كلامه، فإن الكثير من هذه الأفلام، خلافاً لأفلامه هو، يتبخّر في الهواء، شعوراً وتفاصيل درامية، فور خروجنا من الصالة، وكأننا لم نشاهد شيئاً.

 

النهار اللبنانية في

08.03.2025

 
 
 
 
 

Companion... الوحوش لا تأتي من الخارج

لبنى صويلح

أصبح الحديث عن العلاقة بين البشر والتكنولوجيا أكثر من مجرد تساؤل فلسفي أو هاجس مستقبلي، إذ تحول إلى واقع يومي يفرض نفسه. لم يعد السؤال: هل بإمكاننا التأقلم مع هذا الواقع؟ بل متى يخرج عن السيطرة؟ في فيلم الخيال العلمي Companion للمخرج درو هانكوك، تأخذ هذه التساؤلات بعداً أكثر قتامة وتكشف كيف يمكن للتطور التقني أن يؤجّج أسوأ النزعات في الإنسان. في أجواء من الرعب النفسي، يعكس الفيلم واقعاً أقسى مما نود الاعتراف به، فلا تأتي الوحوش من المستقبل، بل من دواخل النفس البشرية.

تبدو إيريس (صوفي تاتشر) للوهلة الأولى غارقة في سعادتها مع جوش (جاك كويد). تسترجع ذكرى لقائهما الأول الذي يبدو كأنه مشهد مألوف من أحد الأفلام الرومانسية: صدفة في السوبر ماركت، وارتباك، وضحكات متبادلة، وانجذاب واضح. لكن هذه الصورة الحالمة سرعان ما تبدأ بالتلاشي حين ترافقه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع أصدقائه في منزل ريفي منعزل. إحساس غامض بعدم الأمان يتسلل إليها، بينما تعكس ملامحها قلقاً مكبوتاً، من دون تفسير واضح. "فقط ابتسمي وكوني على طبيعتك"، يقترح جوش ببساطة. لكن كلماته تترك أثراً معاكساً، وكأنها تذكيرغير مباشر بأنها لا تنتمي إلى المكان. إيريس متعلقة بجوش بطريقة شبه مرضية. تحاول تثبيت وجودها في عالم لا يمنحها الطمأنينة، يبدو واضحاً أن جوش لا يشاركها الاندفاع العاطفي نفسه وأن مسافة تفصل بينهما. في الخلفية، نجد مظاهر توحي بزمن الأحداث: تقنيات ذكية وواجهات رقمية تملأ المساحات، لمسات صغيرة ولكن واضحة، تشكّل ملامح عالم تفرض فيه التكنولوجيا نفسها في كل تفصيل.

للوهلة الأولى، قد يبدو فيلم Companion كأنه يتناول العلاقة بين البشر والذكاء الاصطناعي، لكنه في العمق استكشاف للعلاقات السامة وتشييء النساء وتحول الحب إلى سلعة. يقدّم نموذجاً للرجل الذي يسعى إلى تشكيل المرأة حسب رغباته، وفي لحظة تمرّدها على هذه السلطة، يصبح مستعداً لتدميرها بالكامل. هناك صورة واضحة لرجل غير واثق بنفسه، غير قادر على التعامل مع امرأة تمتلك ذكاءً واستقلالية، فيلجأ إلى الأنظمة الذكية أداةً للتحكم. هذه العلاقة تكشف عن نمط قديم متأصل، فكانت السلطة الذكورية تمارس الهيمنة على النساء بآليات مختلفة، وجاءت التكنولوجيا اليوم لتعزز هذا النمط بأدوات جديدة.

العلاقات في الفيلم طفيلية، تمثّل صورة مجازية لمستقبل ديستوبي، حيث الأنانية المطلقة والمصلحة الشخصية هما القوة الدافعة للشخصيات، المستعدة لفعل أي شيء لتحقيق رغباتها، من دون اكتراث بالأذى الذي قد تلحقه بالآخرين. هذا التجسيد يعكس مصير العلاقات الإنسانية في عالم يصبح فيه الانغماس في الأنا والمصلحة الذاتية هو الذي يحرّك الجميع، ما يفرغ العلاقات من جوهرها الإنساني لصالح منطق القوة والسيطرة.

إيقاع Companion سريع للغاية، فيبدأ الصراع مبكراً. ورغم أن هذا يساعد في جذب الانتباه، إلا أنه يأتي على حساب التعمق في بناء الشخصيات. لا يعطى المشاهد الوقت الكافي لفهم دوافع الشخصيات أو تكوين روابط عاطفية معها. وعندما يسعى الفيلم لاحقاً إلى إضفاء عمق على شخصية جوش، يكون الأوان قد فات.

الأداء التمثيلي لا يعوض هذا النقص، ما يجعل بعض اللحظات العاطفية في النهاية تبدو مفتعلة بدلاً من أن تكون مؤثرة. ومع ذلك، يحافظ الفيلم على عنصر التشويق، إذ يمزج بين الخيال العلمي والرعب بابتكار، ويطرح نقداً للعلاقات السامة في العصر الحديث. رغم المشاكل الواضحة في تطوير الشخصيات، يظل الفيلم قادراً على إبقاء المشاهد مشدوداً إلى أحداثه حتى النهاية. لا يمكن تجاهل أداء صوفي تاتشر في دور إيريس، إذ تتصارع البراءة مع رحلة البحث عن الذات. يبرز أداؤها خصوصاً في لحظات الصمت؛ فتنقل لنا، من خلال تعبيرات وجهها وإيماءاتها، كل ما يعتمل داخل إيريس. كل نظرة تحمل بين طياتها تساؤلات عن هوية شخصية قد تكون مجرّد محاكاة، وهم من صنع الآخر.

في هذا الفيلم، تتنافس التكنولوجيا مع الإنسانية، ويبقى العنصر الأكثر تأثيراً هو القدرة البشرية على التعبيرعن مشاعر حقيقية، تلك التي لا يمكن استبدالها بخوارزميات. في Companion، ليس الإنسان وحده من يُستبدل بالذكاء الاصطناعي، بل حتى العواطف البشرية تتحول إلى سلعة، قابلة للبرمجة وفقاً للرغبات. في عالم تحركه البيانات والأرقام، يتلاشى التفاعل الإنساني تدريجياً، ويختزل الإنسان إلى مجرد رقم قابل للتعديل. هذا ليس مجرد صراع مع الآلات، كما قد يظن بعضهم، بل صراع نفسي يعكس الأزمة الوجودية التي نعيشها، إذ تتسع الفجوة بين البشر وطموحاتهم. الأسئلة التي يطرحها

Companion حول الهوية والرغبات وتفكك الروابط العاطفية تعكس ما يعيشه الإنسان في سعيه المستمر إلى فهم ذاته في عصرنا شديد التعقيد. هذا التوغل التكنولوجي في الهوية البشرية قد يصبح واقعاً في المستقبل القريب، ما يثير تساؤلات حول الحدود بين الواقع والخيال العلمي.

 

العربي الجديد اللندنية في

08.03.2025

 
 
 
 
 

مخرجا الفيلم «نحن معا أقوى» فلسطينى وإسرائيلى

يحصدان أوسكار 2025 بفيلم «لا أرض أخرى» NO OTHER LAND

كتب فاتن الحديدى

حصد فيلم «لا أرض أخرى»، الذى يتناول تهجير إسرائيل لمجتمع فلسطينى،  جائزة الأوسكار للأفلام الوثائقية الطويلة  2025، ودعا اثنان من مخرجى الفيلم، الصحفى الفلسطينى باسل عدرا الذى أصبح أول صانع أفلام فلسطينى يفوز بجائزة الأوسكار، والصحفى الإسرائيلى يوفال إبراهام، العالم إلى إنهاء ما وصفاه بـ«التطهير العرقى للشعب الفلسطينى» وناشدا العالم المساعدة فى إنهاء الصراع واتهما الولايات المتحدة بعرقلة الحل.

صنع هذا الفيلم مجموعة فلسطينية - إسرائيلية مكونة من أربعة ناشطين شباب، كعمل من أعمال المقاومة الإبداعية لنظام الفصل العنصرى والبحث عن مسار نحو المساواة والعدالة.

انتهى تصوير فيلم «لا أرض أخرى» قبل هجوم حماس على إسرائيل فى أكتوبر 2023، مما دفع إسرائيل إلى شن حربها على غزة، وموضوعات الفيلم الوثائقى ذات صلة خاصة خلال فترة من الصراع المتصاعد فى الشرق الأوسط.

وقال باسل عدرا: «قبل شهرين تقريبًا، أصبحت أبًا، وأملى لابنتى ألا تضطر إلى العيش بنفس الحياة التى أعيشها الآن، حيث الخوف الدائم من المستوطنين والعنف وهدم المنازل والتهجير القسرى».

وأوضح يوفال إبراهام: «لقد صنعنا هذا الفيلم، فلسطينيون وإسرائيليون، لأننا معًا نكتسب أصواتنا قوة».

وتابع : «عندما أنظر إلى باسل، أرى أخى،  لكننا غير متساوين. نحن نعيش فى نظام حيث أنا حر بموجب القانون المدنى وباسل يخضع لقوانين عسكرية تدمر حياته ولا يستطيع السيطرة عليها. هناك طريق مختلف. حل سياسى،  دون تفوق عرقى،  مع حقوق وطنية لكلا شعبينا. ويجب أن أقول، وأنا هنا، إن السياسة الخارجية فى هذا البلد تساعد فى عرقلة هذا الطريق».

خمس سنوات

قضى المخرجان المشاركان، الناشط الفلسطينى باسل عدرا والصحفى الإسرائيلى يوفال إبراهام، خمس سنوات فى إنتاج الفيلم، الذى يوثق قيام الجنود الإسرائيليين بهدم المنازل وتهجير السكان قسرًا لإقامة منطقة تدريب عسكرية، إضافة إلى اعتداءات المستوطنين اليهود على المجتمع الفلسطينى.

يسلط الفيلم الوثائقى الذى بلغت مدته 95 دقيقة، الضوء على الواقعين المتوازيين  اللذين يعيش فيهما الصديقان - إبراهام بلوحة  أرقامه الإسرائيلية الصفراء التى تسمح له بالسفر إلى أى مكان، وعدرا محصور فى منطقة تضيق باستمرار بالنسبة  للفلسطينيين.

 وقال عدرا عند صعوده إلى المسرح: «لا أرض أخرى  يعكس الواقع القاسى الذى نتحمله منذ عقود وما زلنا نقاومه، بينما ندعو العالم إلى اتخاذ إجراءات جادة لوقف الظلم ووقف التطهير العرقى للشعب الفلسطينى». 

وأضاف إبراهام، وهو يقف بجانب المخرج المشارك: «لقد صنعنا هذا الفيلم، فلسطينيون وإسرائيليون، لأن أصواتنا معًا أقوى». 

وتابع: «نرى بعضنا البعض، والتدمير الوحشى لغزة وشعبها الذى يجب أن ينتهى،  والرهائن الإسرائيليين، عندما أنظر إلى باسل، أرى أخى ولكننا غير متساوين. نحن نعيش فى نظام حيث أنا حر بموجب القانون المدنى وباسل تحت القانون العسكرى الذى يدمر حياته ولا يستطيع السيطرة». 

وأوضح إبراهام «هناك طريق مختلف. حل سياسى دون تفوق عرقى،  مع حقوق وطنية لكلا شعبينا. ويجب أن أقول وأنا هنا، إن السياسة الخارجية فى هذا البلد تساعد فى عرقلة هذا المسار.. ولماذا؟ ألا ترى أننا متشابكون؟ إن شعبى يمكن أن يكون آمنًا حقًا إذا كان شعب باسل حرًا وآمنًا حقًا. هناك طريق آخر. لم يفت الأوان بعد على الحياة، وعلى الأحياء».

دعوة ترامب مرفوضة

انتقد مخرجا فيلم No Other Land، بعد فوزهما بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقى،  السياسة الخارجية الأمريكية التى تعوق تحقيق السلام. كما أعربا عن رفضهما لدعوة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، التى أطلقها الشهر الماضى،  لحث الفلسطينيين على الهجرة من غزة إلى دول مثل مصر والأردن، وهى دعوة قوبلت بإدانة واسعة فى الشرق الأوسط وخارجه، لما تحمله من تهديد خطير للاستقرار فى المنطقة.

إسرائيل غاضبة

وأعرب وزير الثقافة الإسرائيلى ميكى زوهار عن أسفه على فوز الفيلم ووصفه بأنه تخريب و«لحظة حزينة للسينما»، لأنه قدم ما وصفه برؤية مشوهة لإسرائيل، التى لا تزال تعانى من هجوم حماس على إسرائيل فى 7 أكتوبر 2023

وقال زوهار إن حرية التعبير قيمة مهمة، لكن استخدام التشهير بإسرائيل كأداة ترويجية دولية يضر بدولة إسرائيل، معتبرًا فوز الفيلم بالجائزة يوضح الحاجة إلى إصلاح مستمر يهدف إلى ضمان تخصيص الموارد العامة للأعمال التى تتحدث إلى الجمهور الإسرائيلى

وانتقد مسئولون ألمان وإسرائيليون رفيعو المستوى إبراهام بعد أن دعا إلى وقف إطلاق النار عند قبوله جائزة أفضل فيلم وثائقى فى مهرجان برلين السينمائى الدولى فى فبراير. وقال إبراهام إنه تلقى بعد ذلك تهديدات بالقتل.

أحداث الفيلم 

تدور أحداث الفيلم حول الناشط الفلسطينى باسل عدرا، الذى يوثق مجتمعه فى بلدة مسافر يطا أثناء تعرضها للتدمير على يد الاحتلال الإسرائيلى،  بينما يبنى تحالفًا غير متوقع مع صحفى من الجانب الآخر يشارك فى نضاله.  

يُسجل باسل عملية التدمير التدريجى لمسافر يطا منذ طفولته، ويقاوم الطرد الجماعى لمجتمعه، حيث يهدم الجنود منازل العائلات فى واحدة من أكبر عمليات التهجير القسرى التى ينفذها الاحتلال الإسرائيلى فى الضفة الغربية المحتلة.  

خلال رحلته، يلتقى باسل بالصحفى الإسرائيلى يوفال، الذى يسعى للانضمام إلى معركته، وعلى مدار أكثر من نصف عقد، يخوضان معًا نضالًا مستمرًا ضد الطرد، بينما تتوطد علاقتهما رغم التباينات العميقة بينهما، باسل، الذى يعانى من الاحتلال العسكرى الوحشى،  ويوفال، الذى يتمتع بالحرية المطلقة.  

يمثل فيلم «لا أرض أخرى» شكلًا من أشكال المقاومة الإبداعية ضد الفصل العنصرى،  وسعيًا نحو العدالة والمساواة.  

تم تصوير الفيلم فى مسافر يطا، الواقعة جنوب الضفة  الغربية،  وهى أرض فلسطينية تحتلها إسرائيل منذ عام 1967حيث يسلط الفيلم الضوء على نضال شاب فلسطينى ضد ما وصفته الأمم المتحدة بالتهجير القسرى لسكان القرى فى المنطقة.  

كانت إسرائيل قد أعلنت مسافر يطا منطقة عسكرية، وفى مايو 2022  أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية حكمًا لصالح الجيش، مما مهد الطريق لطرد سكان ثمانى قرى بهدف إنشاء ميدان رماية. وقد أدانت الأمم المتحدة مرارًا عمليات الاستيطان الإسرائيلى فى الضفة الغربية باعتبارها انتهاكًا للقانون الدولى.  

يروى «لا أرض أخرى» قصة الهدم المستمر لمسافر يطا، حيث يعيش المخرج باسل عدرا مع عائلته، حيث  يتتبع الفيلم محاولات الحكومة الإسرائيلية إخلاء القرويين بالقوة، بحجة تخصيص الأرض لمنشأة تدريب عسكرية منذ عام 1981، ويعرض مشاهد قاسية، مثل هدم الملعب المحلى،  ومقتل شقيق عدرا برصاص الجنود الإسرائيليين، وهجمات المستوطنين اليهود، بينما يصارع المجتمع للبقاء.  

ظلم وتنكيل

قبل ساعات من فوز الفيلم بجائزة الأوسكار، تعرض سكان المنطقة فى الضفة الغربية، التى وثقها الفيلم، لهجوم من قبل مستوطنين إسرائيليين برفقة القوات الإسرائيلية، وفقًا لوكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية «وفا».

ونقلت «وفا» عن جهاد نواجعة، رئيس مجلس قرية سوسيا، أن قوات الاحتلال احتجزت ثلاثة أشخاص فى المنطقة، بينما هاجم المستوطنون سكان قرية خربة عسفى فى مسافر يطا، حيث قاموا برشقهم بالحجارة، وتدمير الألواح الشمسية، وإلحاق أضرار بخزانات المياه.

 

مجلة روز اليوسف المصرية في

09.03.2025

 
 
 
 
 

"مجهول بالكامل": بوب ديلان والفن بوصفه خيانة ضرورية

يتناول مرحلة حاسمة في صعوده إلى النجومية

شادي علاء الدين

يقدم جيمس مانغولد فيلما عن بوب ديلان يتحدى فيه بعض الصور المتراكمة عن هذه الشخصية الأيقونية، متخذا من فعل الخيانة مدخلا جديدا لقراءة تجربة الرجل الذي أصبح واحدا من أبرز المؤثرين الثقافيين في العالم، في مجالات تتجاوز الموسيقى، لتشمل الأدب والسياسة والتفكير وأسلوب العيش، وصولا إلى إعادة تعريف عملية بناء الفن، وهذا التأثير هو ما جعله يفوز بجائزة نوبل للآداب.

يستند "مجهول بالكامل" A Complete Unknown الذي شارك مانغولد في كتابته مع جاي كوكس، إلى كتاب إليجاه والد، الصادر عام 2015 بعنوان Dylan Goes Electric! ويتناول انتقال بوب ديلان من موسيقى الفولك التقليدية إلى استخدام الآلات الكهربائية في مهرجان نيوبورت للفولك عام 1965. الفيلم من بطولة تيموثي شالاميه في دور ديلان، إلى جانب إدوارد نورتون وإيل فانينغ ومونيكا باربارو وبويد هولبروك.

عنوان الفيلم، الذي يستحضر فكرة المجهولية التامة، مأخوذ من واحدة من أشهر أغاني ديلان Like a Rolling Stone، وهو عنوان يلامس الجوهر الأعمق لتجربة الفنان، الذي اختار في أوج نجاحه أن يخون جمهوره، ويتنصل من عناوين شعبيته، لينطلق إلى تجربة جديدة وصادمة في الموسيقى والتفكير، مستندا إلى نفسه ومشاعره ورؤيته، كمصدر وحيد للفن والتجربة الفنية.

يربط الفيلم الإنتاج الفني بالخيانة الدائمة، وهو ما يشكل جوهر رؤيته ويمنحه تفرده واختلافه. يسعى مانغولد إلى استقراء ديلان من خلال نزوعه المستمر نحو التجديد والبحث، وكأنه لا يريد فقط أن يحكي عن ديلان، بل أن يتعامل مع شخصيته بالطريقة ذاتها التي كان ديلان ينظر بها إلى سيرورة العمل الفني: بوصفها بناء دائما وقلقا، قائما على التجارب الصادمة، غير المستقرة، والتي لا تتبع أي سياق سوى روح الفنان الحرة.

يربط الفيلم الإنتاج الفني بالخيانة الدائمة، وهو ما يشكل جوهر رؤيته ويمنحه تفرده واختلافه

يمتدح الفيلم التراث والتقاليد والبنى الثابتة والمستقرة بوصفها جزءا من التاريخ، لكنه يؤكد كذلك أن التمرد والثورة والتجديد ليست كيانات يمكنها الاحتفاظ بصفاتها إلى الأبد، بل هي حالات مؤقتة، تولد في لحظة معينة تحت تأثير ظروف محددة وسياقات تاريخية وثقافية خاصة. عدم انقلاب هذه الحركات على ذاتها، يعني تحولها إلى بنية قمع وسلطة، مما يستدعي تمردا جديدا عليها. من هنا، فإن احترام التجارب الثورية يكون بوضعها في سياقها التاريخي، ثم تجاوزها، والاستمرار في كسر القوالب الجاهزة، بغض النظر عن مدى نجاحها وشيوعها.

ديلان وغوثري: من التبجيل إلى العبور

ترسم لحظة اللقاء مع وودي غوثري، ملامح السيرة غير الخطية التي يتبعها الفيلم، حيث يحرص من خلالها على تنظيم لعبة بناء التوقعات وهدمها بشكل متصل. ديلان، المغني الشاب القادم من مينيسوتا والمشبع بروح الموسيقى التقليدية والفولك والكانتري، والتي تروي قصص الاحتجاج وتعكس معاناة الفقراء والمقهورين، يشد الرحال إلى نيويورك للقاء أيقونة هذا الفن، الشخصية التي كان يعتبرها بطله ومثله الأعلى.

غوثري، الذي كان في تلك الفترة مريضا يرقد في سريره بمستشفى غريستون بارك للأمراض النفسية في موريس بلينز، نيوجيرزي، حيث كان يتلقى العلاج من مرض هنتنغتون، يلتقي المغني الشاب، الذي يعرض أمامه أغنية مهداة اليه، فتثير إعجاب النجم المحتضر الذي يبدي تشجيعه له.

المشهد يوحي أننا أمام فيلم تقليدي يتتبع رحلة صعود ديلان الموسيقية ضمن سرد خطي معتاد، لكن هذا اللقاء لم يكن سوى محطة عبور نحو التمرد المستمر والخيانة الفنية المتكررة، التي يربطها الفيلم بعملية الإنتاج الفني، بوصفها فعلا يقوم على الخروج عن كل ما هو ثابت ومستقر، ومحاولة إعادة التعريف الدائمة لكل المواضيع والأساليب، بأسلوب يعتنق الغموض والتناقض، ويحرص على رفض القوالب الجاهزة.

نيوبورت 1965: الصدمة الكهربائية

بينما كان الفن التقليدي يعكس البحث عن إجابات، كان ديلان يكتب أغاني تستكشف التحولات والتغيرات التي تطرأ على كل ما يبدو واضحا ومعرّفا، سواء في الفن أو السياسة أو العلاقات الشخصية. لم يكن معنيا فقط بنقل القصص، بل كان مفتونا بفكرة أن كل شيء قابل للتغيير، وأن ما نعتبره راسخا اليوم قد يصبح متقادما غدا. هذه الفلسفة تتجسد بشكل جلي في المشهد المحوري الذي يوثق لحظة انقلابه على موسيقى الفولك التقليدية في مهرجان نيوبورت للفولك عام 1965، حيث ارتكب ما يمكن اعتباره "الخيانة العظمى" في نظر جمهوره.

لم يكن معنيا فقط بنقل القصص، بل كان مفتونا بفكرة أن كل شيء قابل للتغيير، وأن ما نعتبره راسخا اليوم قد يصبح متقادما غدا

ديلان، الذي كان يُنظر إليه على أنه الوارث الشرعي لغوثري، لم يكتفِ بقتل الأب الموسيقي، بل مضى في مسار خيانة أوسع، موجّها صدمة قوية إلى جمهوره ورفاقه، وفي مقدمتهم جوان بايز، التي كانت تُعدّ من أبرز رائدات موسيقى الفولك الاحتجاجية. دخل المهرجان متخليا عن الغيتار التقليدي الأكوستيك، ممسكا بغيتار كهربائي، ورافقته فرقة موسيقية كهربائية، مصمما على تقديم أغنيات جديدة غير متوقعة. كان رد الفعل عنيفا، حيث حاول منظمو الحفل إيقافه بالقوة، فيما بدا الجمهور غاضبا، يرفض تقبّل ما يراه خيانة لمبادئ الفولك. وبينما كان الحاضرون يعبرون عن سخطهم، ترمقه جوان بايز بنظرات مليئة بالغضب وخيبة الأمل، وكأنها تشهد انهيار عالمها المثالي أمامها.

هذا المشهد ليس مجرد نقطة تحول في مسيرة ديلان، بل هو مفتاح لفهم شخصيته كما يقدمها الفيلم، فنانا يقرأ المستقبل الفني بوضوح، ويدرك أن الثبات يعني الموت. كان اختياره للموسيقى الكهربائية مدفوعا بإدراكه العميق لطبيعة التسارع الكبير في منتصف الستينات، وما أفرزه من تعقيدات في أنماط العيش والتعبير. أدرك أن موسيقى الفولك التقليدية لم تعد كافية لاستيعاب زخم المرحلة، وأن الجمود سيجعلها تتآكل.

هذه الفكرة المحورية تتجلى في سرد الفيلم بأكمله، حيث يضع المخرج خيانة ديلان لفولك غوثري، وانفصاله عن جوان بايز، كجزء من نسق دلالي أوسع. كل شيء في الفيلم يتجه إلى خلاصة أن "الفن الحقيقي لا يتحقق إلا بالخيانة"، وأن احتقار الجمهور والقضايا والتمركز حول الذات ضرورة لاستمرار العملية الإبداعية. يضع الفيلم سيرة ديلان في مواجهة غير مباشرة مع مفهوم النجومية في عصرنا الحالي، حيث لم يعد النجم يخضع لسلطة الجمهور، بل باتت الصناعة الترفيهية هي التي تتحكم في الذوق العام، وتحوله إلى سلعة يتم التلاعب بها وفق حسابات اقتصادية وتسويقية. وبينما كان ديلان في زمنه يواجه "ثورة الفولك" التقليدية، فإن الفنان المعاصر يواجه شركات الإنتاج ومنصات البث العملاقة، التي تحدد مسبقا شكل الفن المراد تسويقه، ونوعه.

في أحد المشاهد المحورية، نجد جوان بايز تدير ظهرها لديلان، كما أدار هو ظهره للفولك التقليدي، وانفتح على عوالم الموسيقى الكهربائية، والبلوز، والفولك روك، والجاز. هنا، العلاقة العاطفية بينهما لم تعد مجرد قصة شخصية، بل تحولت إلى رمز لعلاقة الفنان بتراثه، وكيف تفرض الحاجة إلى التطور والتجديد القطيعة.

في "مجهول بالكامل"، يواصل جيمس مانغولد استكشاف الثيمة التي تسيطر على معظم أعماله، والمتمثلة في مواجهة المستحيلات والتحديات الكبرى والاحتفاء بالجديد الذي تولّده هذه التحديات. لطالما غاص في سيرة شخصيات قلقة ومضطربة تجد نفسها في أوضاع مغلقة ومقيّدة، وفي مواجهة سيرتها الذاتية وصفاتها، متخذا من المواجهة نهجا لإعادة بناء الذات وإعادة تشكيل العالم من حولها.

يواصل جيمس مانغولد استكشاف الثيمة التي تسيطر على معظم أعماله، والمتمثلة في مواجهة المستحيلات والتحديات الكبرى والاحتفاء بالجديد الذي تولّده هذه التحديات

تجاوز الحدود القصوى للمألوف والممكن، هو ما يصنع الإنجازات التي تبقى وتستمر وتنتج التغيير، وهو ما تبناه مانغولد في معظم أفلامه، لا سيما في فيلم Walk the Line الذي يتناول سيرة المغني الشهير جوني كاش، الذي فاز بجائزة الأوسكار، وفيلم Ford v Ferrari الذي يروي قصة الصراع بين عملاقي صناعة سيارات السباق.

في هذا الفيلم، يتبع المخرج المنحى ذاته لكنه يضيف عناصر إخراجية وألعابا أدائية مختلفة عن أفلامه السابقة. ملاحقته لسيرة بوب ديلان لا تأتي من مدخل زمني منظم أو منطق وثائقي، بل من زاوية الاحتجاج الداخلي.

 عالم الفيلم لا يتشكل من خلال الأحداث فقط، بل يعكس بعمق شعور التشتت والضياع، ويجسد صراع ديلان مع النجومية والهوية، حيث يبدو أن الخارج صدى لما يشعر به في الداخل. تغلب على الفيلم أجواء الإضاءة الخافتة في العديد من مشاهده، خصوصا تلك التي تعرض بدايات ديلان في نيويورك خلال الستينات، مما يمنح الانطباع بأن هذا العالم يتسارع نحو التلاشي. كذلك، تعكس المشاهد الداخلية حالة التأمل التي يمر بها البطل، حيث يبدو تيموثي شالاميه، الذي يؤدي دور ديلان، وكأنه يمارس حوارا داخليا مع ذاته طوال الوقت. الشخصيات الأخرى التي يتفاعل معها، تظهر كأنها أصداء تمثيلية لهذا الحوار، أكثر من كونها شخصيات حقيقية أو تاريخية.

يروي مانغولد عالم ديلان من زاوية التشظي، حيث يبدو كل شيء آيلا للتسخيف والتشكيك، فلا شيء مقدسا، ولا شيء يحتفظ بقيمته المطلقة. الشهرة، الأضواء، السياسة، الإيديولوجيا، كلها تظهر في الفيلم وكأنها أنظمة علاقات خارجية لا تتصل بحقيقة ما يدور في داخله. ديلان في الفيلم يعادي التعريفات الحاسمة، ويفرّ من كل ما يمكن أن يضعه داخل إطار ثابت.

شالاميه يتقمص ديلان

 أمضى شالاميه بطل الفيلم خمس سنوات في التدرب على الغناء والعزف على الغيتار والهارمونيكا. عمل مع مدرب الهارمونيكا روب باباروزي، الذي أشاد بالتزامه، ومدرب الصوت إريك فيترو، الذي علمه كيفية تقليد صوت ديلان الفريد دون أن يضر بصوته الطبيعي. كما تلقى تدريبا على العزف من عازف الغيتار لاري سالتزمان، الذي لاحظ تفانيه، حيث اشترى شالاميه غيتارا وحرص على أن يتدرب بانتظام.

أحد أبرز التحديات في الفيلم كان تجسيد فنان يحارب ليكون غير مرئي عبر وسيط بصري يعتمد على الصورة، وهنا يبرز أداء شالاميه الاستثنائي

 أداء تيموثي شالاميه في الفيلم استثنائي، فهو يقدم شخصية فنان يعادي الظهور، ويرفض النجومية والتكريس، وكأنه يتمنى لو كان خفيا وغير مرئي. يقدم شالاميه شخصية تبدو تتعارك مع فكرة الحضور ذاته، حيث تسيطر عليه رغبة التخلص من جسده المادي. المشاهد القليلة التي يظهر فيها غاضبا أو فاقدا السيطرة تكون حين يوضع في مواجهة حتمية مع الشهرة التي يرفضها، أو مع موقع لا يريد تبنيه، مما يدفعه إلى البحث عن مخرج.

أحد أبرز التحديات في الفيلم كان تجسيد فنان يحارب ليكون غير مرئي عبر وسيط بصري يعتمد على الصورة، وهنا يبرز أداء شالاميه الاستثنائي. فهو لا يؤدي شخصية بالمعنى التقليدي، بل يجسد فكرة، موقفا، أو نزعة داخلية. يجسد كيف أن ديلان لم يكن ينتمي إلى أي تيار أو مرحلة، بل كان مشروعا متحركا، يتغير باستمرار. هذا ما جعل الفيلم متماسكا مع فلسفة ديلان، حيث لا يقدمه بوصفه شخصية بقدر ما يعرضه كحالة دائمة التحول.

نجح فيلم "مجهول بالكامل" في إثارة جدال حيوي واستطاع أن يكون فيلما جدليا عن الفن الذي يولد من الخيانة الدائمة، وحرص مخرجه جيمس مانغولد على أن يقدم ديلان بوصفه مجهولا بالكامل كما شاء أن يكون دائما.

 

مجلة المجلة السعودية في

09.03.2025

 
 
 
 
 

"الوحشي"... معمار بصري وتلفيق فكري

محاولة لترسيخ وهم أن العالم متوحش وإسرائيل ملاذ وحيد

أريج جمال

أكثر من مرة تكلم برادي كوربيت مخرج فيلم "الوحشي" (The brutalist) عن الصعوبات الإنتاجية التي واجهته حين شرع في العمل على مشروعه. لم يتحمس المُنتجون، حسب زعمه، لرؤيته السينمائية التي تنهض من بين عناصر أخرى على التصوير بتقنية "VistaVision"، القديمة نسبيا، ابتكرها مهندسو شركة "بارامونت" في خمسينات القرن الماضي، ثم تجاوزها الزمن سريعا. لكن كوربيت اختارها، لتكون أقرب لأجواء الفيلم الذي يدور في الحقبة الزمنية التي شهدت ظهور هذه التقنية.

والحقيقة أن التصوير بهذه الطريقة منح النظرة إلى الفيلم بُعدا أكثر بانورامية، وجاء مناسبا لاستعراض فكرة المعمار المهووس بها البطل. والحقيقة أيضا، أن الفيلم صُنع بميزانية صغيرة، ولم يتكلف إنتاجيا أكثر من عشرة ملايين دولار.

لعل المنتجين لم يتحمسوا فعلا لمشروع "الوحشي"، لكن من الصعب تصديق أن كوربيت نفذ مشروعه من دون تصور مسبق عن حجم الحفاوة التي ستلاقيه بها مهرجانات السينما المتخصصة وأشد النقاد نخبوية، وحتى جوائز الأوسكار. اليوم لم يعد "الوحشي" حصانا رابحا فقط رغم عدم الإيمان الأول به، بل صار يشبه بطله لازلو توث (آدريان برودي)، المهندس المعماري اليهودي الناجي من جحيم "الهولوكوست" في أوروبا إلى الولايات المتحدة. هو الذي صارع العالم، وكسره العالم، لكن من غير أن يمنعه من ترك آثاره المعمارية الفذة (التي تنتمي أسلوبيا إلى العمارة الوحشية ومن هنا عنوان الفيلم)، كأنما انتقاما من المذلة التي عاناها لأنه يهودي. هذا العالم الذي يختزل في الفيلم، إلى أميركا، وبصورة أكثر تحديدا إلى الحلم الأميركي.

بين المظلومية والعظمة

يُحدد هذا الشعور بالمظلومية، عند المُخرج وبالمثل عند بطله لازلو، وما يتبعه به من شعور بالإعجاب الذاتي، الكثير من سمات فيلم يتخذ طابعا ثأريا من أميركا، ومن حُلمها. لكن أميركا المقصودة هنا، ليست البلد الذي نعرف، أو حتى السياسات الأخيرة ضد المهاجرين مثلا، لأن لازلو في الحقيقة مهاجر، قبل أن يضيف إليه الفيلم نعت "اليهودي". فأميركا هنا هي العالم أجمع (ربما لا يرى صاحب الفيلم من العالم سواها)، الذي أذل لازلو توث، وأهانه، مجددا ليس لأنه مهاجر (كما يحدث للمهاجرين حاليا في أميركا) بل أساسا لأنه يهودي.

من الصعب تصديق أن كوربيت نفذ مشروعه من دون تصور مسبق عن حجم الحفاوة التي ستلاقيه بها مهرجانات السينما

إن معظم مَنْ يلتقيهم لازلو، طوال رحلته- من بعد نجاته من معسكر نازي في بلده الأصلي المجر، وإبحاره على متن السفينة إلى أن يصل إلى أميركا، ليرى لأول مرة تمثال حريتها مقلوبا (في رمزية مباشرة وسطحية للغاية) كما نرى على الملصق- يحتقرونه. بدءا من قريبه الذي تخلى عن يهوديته، واندمج أكثر في المجتمع الأميركي، ثم زوجة هذا القريب الكاثوليكية، وصولا إلى عائلة رجل الأعمال هاريسون لي (يؤدي دوره غاي بيرس). والأخير سيلتفت إلى موهبة لازلو المعمارية المُبهرة، لكنه سينتقم منه أيضا، على هذه الموهبة.

صحيح أن لازلو يتمتع بموهبة معمارية استثنائية، كما يستعرض الفيلم هذا المعمار، بطريقة مبهرة بصريا، لا تخلو من تجريب، ومن جمالية، تفوق في الكثير من المشاهد، افتعال لقطة تمثال الحرية المقلوب ذاك، والإشادة بهذا الجانب من الفيلم تكاد تستحوذ على معظم الآراء النقدية التي تناولته إيجابا. قسَّم المخرج الفيلم- وهو أيضا مؤلفه بالاشتراك مع مونا فاستفولد- إلى مقدمة، وجزأين وخاتمة، وفي المنتصف استراحة من ربع ساعة، يتضمنها شريط العمل نفسه. هذه الرغبة في التحكم إلى أقصى حد، في تجربة تلقي الفيلم، تمتد لتشمل تصور صانع الفيلم عن الطريقة التي ينبغي بها أن نتلقى تجربة لازلو توث.

قد يوهمنا هذا التمهيد الطويل لقسوة الحياة على لازلو بما أنه يهودي، وإصراره مع ذلك على تحقيق رؤيته المعمارية، بأن الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية. إن لم نطلع على ما يكفي من معلومات، قبل المشاهدة، ربما نتصور أن لازلو شخص من لحم ودم، مر على الحياة، وصنع أسطورته في مجتمعه الجاحد المضيف. لكن الحقيقة أن قصة لازلو ملفقة تماما، ويقول مخرج الفيلم إنه استلهمها من قصص لمهندسين معماريين حقيقيين، ومن قصص لأشخاص في عائلته، لكنه لا يخبرنا شيئا عن تفاصيل هذا الاستلهام، وربما سيفضل أكثر، لو رأينا لازلو كابن شرعي لخياله الإبداعي.

أميركا المقصودة هنا ليست البلد الذي نعرف، بل هي العالم أجمع الذي أذل لازلو توث وأهانه لا لأنه مُهاجر بل لأنه يهودي

يتناسب هذا التلفيق طرديا، بطبيعة الحال، في شخصية لازلو، مع تلفيق الرؤية السينمائية في الفيلم كله.

البداية الحقيقية

لا يبدأ "الوحشي" من معاناة لازلو داخل المعسكر النازي، ولا حين يصل إلى أميركا، ولا في رسائله المتبادلة مع زوجته (فليستي جونز) حين كانت لا تزال عالقة في أوروبا، غير قادرة على اللحاق بزوجها، بل يبدأ فعلا حين يلتقي لازلو رجل الأعمال هاريسون لي. وينطلق الفيلم انطلاقته الحقيقية، حين يُصرح هاريسون بافتتانه بعمل لازلو، وحين نُشاهد على ملامحه سمات هذا الافتتان تشمل لازلو نفسه، كفنان، وربما كرجل. لأن هاريسون كما يتقدم في الفيلم، ثري لكنه أعزب، وهو يعاني من نظرة فوقية موروثة ومحدودة للعالم، ترتبط من وجهة نظر الفيلم بكونه رأسماليا أميركيا.

أهم ما يحدث لاحقا في الفيلم هو حالة الإغواء التي يُمارسها هاريسون إزاء لازلو، مستفيدا من نقطة ضعفه الأهم، وهي رغبته في الاستماع إلى الإطراء وتلقي المديح. نوع من النرجسية، التي يعاني منها كل من لازلو وفيلم "الوحشي" على حد سواء، وتجعل الاثنين مصابين بقصر النظر، ومحدودية سقيمة في الرؤية. بما أن هاريسون متلاعب وربما يكون حتى مصابا باضطراب نرجسي، فإنه يطيل مع لازلو أمد الغواية، ويغرقه في مشاريع كبيرة، تسرق من عمر لازلو وأمواله، ولا تتحقق أبدا. ما يجعل الفيلم طويلا إذن (يجاوز زمنه الثلاث ساعات ويصيب المُشاهد بالسأم من آن إلى آخر) هو هذه المراوحة التي تجعل لازلو يعود كل مرة إلى صياده، رغم تحذيرات زوجته، معتقدا أنه سيصدق هذه المرة، وسيُمكنه من تحقيق أحلامه المعمارية.

يمكن النظر حتى إلى أحلام لازلو المعمارية، كاستمرار لحاجته النرجسية إلى التضخم في مجتمعه الجديد، عبر المعمار. لم يعد لازلو إلى المجر، بعد الحرب وانتحار هتلر، ولم ترضه كذلك الوظيفة التي حصل عليها كمهندس معماري في إحدى شركات الهندسة الأميركية. لقد كان يطمح إلى الخلود، إلى الجائزة. بشكل ما كما طمح الفيلم نفسه.

يد المخرج

ومع ذلك، فإن المشاهَدة المثالية للفيلم من وجهة نظر صناعه وعلى رأسهم مخرجه، ينبغي أن ترى في لازلو اليهودي، ضحية العالم أجمع، بما أن العالم بالنسبة إليه هو أميركا. ويبلغ لازلو مرتبة أرفع في دور الضحية، حين يعتدي عليه هاريسون جنسيا، في مشهد ليس صادما للمشاهد فحسب، بل مفتعلا كذلك. كيف لا نرى في حركة يد آدريان برودي، محض افتعال نظمها المخرج لتخدم المضمون الملفق النهائي؟ لقد مضى العالم في احتقار الرجل، بسبب هويته، حد اغتصابه، ولم يعد أمامه إلا أن يسافر إلى إسرائيل، ملاذه المطلق، هو الذي لم يكن متحمسا للفكرة من قبل.

نهاية الفيلم تخرجه من خانة الأهداف السينمائية المحضة، إلى خانة الدعاية الصهيونية الصريحة

تأتي الخاتمة متسرعة مباغتة كأن قوى المخرج في التلفيق استنفدت عند هذا الحد، ولم يعد أمامه إلا أن يقف بنفسه ويتلو خطابه، في مشهد يذكرنا بتمثال الحرية مقلوبا في البداية. ها هو لازلو شيخا يتلقى جائزته، وتقول قريبته، نيابة عن المخرج وعنه، خطابا ديماغوجيا عن الذين أخطأوا في اعتبار الرحلة أهم من الوصول، لأن الحقيقة- والكلام لا يزال للفيلم- أن الوصول هو الأهم من الرحلة.

ينطبق هذا الوصول على قدرة لازلو على تحقيق بقية أحلامه المعمارية، بعد أن تعلم درس الحياة، وسافر إلى إسرائيل. كما يمكن أن ينطبق على تشكل إسرائيل نفسها. ليس المهم ما حدث لليهود من قبل، المهم أنهم، هنا والآن في إسرائيل. عبر هذه النهاية، يُظهر الفيلم، جانبه الوحشي، المطابق لعنوانه، وهو جانب يقلب معماره رأسا على عقب، ويخرجه من خانة الأهداف السينمائية المحضة، إلى خانة الدعاية الصهيونية الصريحة.

على مستوى أفلام "الهولوكوست"، لا يقدم "الوحشي" أي جديد، وربما يدفعنا إلى الحنين لمشاهدة بطل هذا الفيلم آدريان برودي، في فيلمه الجميل "عازف البيانو" The pianist، وغيره من الأعمال التي لم تلعب دورا دعائيا لأي دولة، بقدر ما قدمت ألما إنسانيا لا يُنسى، يشهد على قدرات مخيفة ووحشية تحتويها النفس البشرية.

إن كان ثمة نقاش يُمكن أن يثيره هذا الفيلم، فهو التساؤل حول الدور الذي تلعبه المهرجانات السينمائية في العالم أجمع، في التسويق لأنواع بعينها من الأفلام، تعمل على إفراغ الصورة السينمائية من مضمونها الروحي والإنساني، وتقدسها لتسبح في فراغ. لقد شاهدنا مؤخرا فيلم "أنورا" (Anora) الذي لم يحمل جديدا على مستوى الحكاية، وكان تشويقه الأساسي أسلوبيا، لكنه لحسن حظنا، لم يدّع لنفسه أي جلال، ولا حتى وحشية.

 

مجلة المجلة السعودية في

10.03.2025

 
 
 
 
 

هل نالت فلسطين أول جائزة أوسكار مع «لا أرض أخرى»؟

سليم البيك

لا يقتصر الموضوع على جائزة الأوسكار، فقد استهلّ فيلم «لا أرض أخرى» مشواره في مهرجان برلين السينمائي العام الماضي، خارجاً منه بجائزة أفضل فيلم وثائقي، وهذه سابقة فلسطينية، ماراً، الفيلم، بمهرجانات وجوائز، ليصل أخيراً، بعد أكثر من عام، إلى حفل الأكاديمية فيخرج منه بأوسكار أفضل فيلم وثائقي. الفيلم نال بالجائزتين العاليتين والعالميّتين، أفضل ما ناله وثائقي من أو عن فلسطين على الإطلاق. أما الأوسكار، فهي الجائزة الأعلى التي ينالها فيلم من وعن فلسطين، قطعاً، شاملاً كلامي هذا كافة الأعمال السينمائية، روائية ووثائقية. لنحكِ أكثر في ذلك.

كانت المقدمة أعلاه إجابة مستبِقة للنقاش أدناه، وهو في كون الفيلم فلسطينياً أصلاً. لنحدّد أولاً ما يمكن أن يجعله لا-فلسطينياً. مشاركة إسرائيلي في صناعه؟ لكن هذه المشاركة آتية من مشاركة أسبق له هي في تواجده مع أهالي مسافر يطا في نضالاتهم ضد التهجير، تواجدٌ وصل حدّ الشراكة أوصل إلى نتيجة أخيرة هي الفيلم الموثِّق لتلك النضالات. ليست الشراكة إذن من منطلق فني لكن تضامني على الأرض ممتد لسنوات، ومتموقع في أرض الحدث. هو ليس موقفاً سياسياً مطروحاً من موقع مريح وكفى، بل ممارسة تضامنية على الأرض بُني عليها الفيلم.

لكن حتى في موضوع المشاركة الفنية، فبعض من أبرز الأفلام في مسيرة السينما الفلسطينية كان بمشاركات إسرائيلية تقنية وفنية وتمثيلية وأحياناً إنتاجية (لظروف خاصة كحال الفيلم الأول لمخرجه). والتعقيد والتشابك في وضع فلسطينيي الداخل (في الـ ٤٨) يقحم اضطرارات قاسية كهذه. ليس مشاركة يوفال أبراهام إذن عائقاً في تصنيف الفيلم فلسطينياً.

والفيلم، بخلاف غيره، لم يمثّل دولة إسرائيل في المهرجانات، فلا جهة إنتاج إسرائيلية فيه. مثّل فقط فلسطين والنرويج. وخطأ صحافي مريع انتشر أخيراً، في أن الفيلم فلسطيني/إسرائيلي. لا. هو فلسطيني/نرويجي، وهو لفلسطيني وإسرائيلي. ويمكن لمن يبحث في عناصر خارج الفيلم ذاته، أن يجد في الهلع والسعار الإسرائيليين بالتهجّم على الفيلم، قيمةً معنوية مضافةً لفلسطينيّته، لا نرويجيّته.

أما فلسطين: الفيلم أولاً وثانياً وثالثاً يخدم السردية الفلسطينية، وهو بموضوع وشخصيات فلسطينية، وبنصف صناعة فلسطينية ونصف آخر إسرائيلي كان من موقع المشاركة مع أهالي مسافر يطا، أحداثاً وتوثيقاً. الأساس إذن كان أهالي مسافر يطا وما دونهم كان تابعاً.

أما النرويج: فجهة إنتاج أوروبية كما هو حال الأغلبية الساحقة من السينما الفلسطينية، والعربية والجنوب-عالمية المستقلة. ما الذي يكونه الفيلم إذن، نرويجي؟ هو نرويجي بقدر ما هو أي فيلم فلسطيني آخر فرنسي أو ألماني أو هولندي مثلاً. الشراكة في الإنتاج مسألة طبيعية بل ضرورية في الصناعة السينمائية، حتى في إنتاجات دول الغرب. الإخراج والموضوع ومعهما الإنتاج الأوّلي، تحدد هوية الفيلم، أي تصنيفه لدى المهرجانات حيث ينطلق بعروضه الأولى، هي الكلمات اللازمة عند خانة «الدولة». حتى لو تركنا الرغبة في التصنيف الفلسطيني للفيلم، واتجهنا للبحث في تصنيفات أخرى، فإن الفيلم ضيَّق على هذا التفادي في حصر «الدول» بفلسطين والنرويج، وليس في الفيلم ما هو نرويجي سوى الإنتاج، وهذا عرفٌ ممتد على عموم الصناعة السينمائية اليوم، إذ لا تُحدد الشراكة في الإنتاج هوية الفيلم. لم يبقَ إذن، تفادى أحدنا ذلك أم تقصّده، سوى «فلسطين» تصنيفاً لـ «دولة» الفيلم.

ولا ضرر إن ذهب أحدنا أبعد وصنّفه فيلماً خليليّاً.

أما وقد نفينا الاحتمالات الأخرى، فلنبحث أدناه في «فلسطينية» الفيلم.

لكن لا حاجة فعلياً لنفي الاحتمالات الأخرى، وهي النرويج فقط، كي نمنح الفيلمَ تصنيفاً فلسطينياً، ولا ضرورة لجلد ذات في القول: فليبقَ الفيلم غير محدّد، في حالة انعدام الجنسية (Statelessness)، وهي حالة غير لطيفة عاشها صاحب هذه الأسطر لعشر سنوات في فرنسا. في الفيلم ما يرمي عنه غير ما هو فلسطيني، وفيه كذلك ما يرمي عليه انتماءً فلسطينياً أبعد من كلمة «فلسطين» أمام اسم «الدولة» في بطاقة الفيلم لدى هذا المهرجان أو ذاك.

«لا أرض أخرى» (No Other Land)، انطلق إلى العالم في البرليناله ضمن مسابقة «بانوراما»، وتتالت من بعده المشاركات والجوائز. هو من صناعة أربعة نشطاء لا خلفية سينمائية معروفة لديهم. فصناعة الفيلم أتت كعمل ناشطي في قرية مسافر يطا قرب الخليل في الضفة، وتحوّل هذا العمل إلى فيلم وقّع عليه إخراجاً ومونتاجاً كل من باسل العدرا ويوفال أبرهام، وحمدان بلال وراشيل تسور. اشتغل على الموسيقى أيسلندي، وتصميم الصوت نرويجي، وهو لشركة الإنتاج «أنتيبود»، يديرها نرويجي وفرنسي.

تقوم الأفلام المستقلة اليوم على شراكات في الإنتاج، وهوية الفيلم يحددها صانعه أولاً، أما في الحالة الفلسطينية حيث تتشابك القضية مع الانتماء مع الهوية، فنجد أفلاماً، وهي كثيرة وتحديداً الوثائقيات، فلسطينية بموضوعها وشخصياتها، وتكون بإخراج أوروبي وإنتاجات مشتركة، لكنها تبقى ضمن السينما الفلسطينية التي تتسع لما يصنعه غير فلسطينيين، بل كانت تتسع لأفلام يصنعها متضامنون منذ السبعينيات، ولا تزال. ومن دون الإنتاجات المشتركة أو التقنيين الأجانب، لما وجدت اليوم سينما فلسطينية. إذن لا يكون الفيلم الفلسطيني بمُخرج فلسطيني حصراً، وأصلاً لا يمكن أن يكون بحصرٍ فلسطينيٍّ للإنتاج أو التقنيين.
اعتباراً لما ذكرته أعلاه عن الشراكة الإسرائيلية في الإخراج والمونتاج لفيلمنا هذا، وهي متساوية بالنصف مع الفلسطينيّين، واعتباراً لموقع الإسرائيليين في الشراكة مع أهالي مسافر يطا في صناعة الحدث والموضوع قبل صناعة الفيلم، واعتباراً للتداخلات الإسرائيلية والتدخّلات في تاريخ السينما الفلسطينية، وإن تمنى أحدنا خلاف ذلك، واعتباراً لحال السينما المستقلة عالمياً وتشابك الاختصاصات التقنية والهويات الوطنية، وباعتبار المقالة أعلاه من سطرها الأول هي مقدِّمة، ستكون مقدمة لنتيجة أنّ «لا أرض أخرى» فيلم فلسطيني لا غبار عليه.

بالتالي، تعلن هذه الأسطر أننا أمام أول جائزة أوسكار فلسطينية. أول جائزة أوسكار لفلسطين. أول فلسطيني ينال جائزة أوسكار.

لهذه الجائزة الأمريكية أهميتها لأسباب يطول شرحها، لكن قبلها كان للفيلم مشوار لا يقل أهمية عن هذا التكريم، وهو تكريم ليس ختامياً، فالأوسكار فتح أمام الفيلم أبواباً جديدة، مجدِّداً مشواره. «لا أرض أخرى» الذي نال أكبر جائزة مهرجاناتية في تاريخ الوثائقيات الفلسطينية، هي أفضل وثائقي في مهرجان برلين السينمائي، نال ما قد لا يقل عن ذلك أهمية، فللمهرجان البرليني أهمية خاصة في كونه واحداً من أكبر ثلاثة مهرجانات سينمائية، مع مهرجانَي كانْ وفينيسيا. لكن الفيلم نال كذلك، في نوعه، الوثائقيات، جوائز تتفاوت في تسمياتها، في أهم المهرجانات المتخصصة بالوثائقي، منها: idfa، Visions du Réel، Sheffield DocFest، CPH:DOX. عدا عن المشاركات في مهرجانات أخرى خارج المسابقات، منها: Cinéma du Réel.

هذا كله يجعل من الفيلم منجَزاً غير محصور بالأوسكار، فقد وصله بجوائز كانت اعترافاً بجودته كوثائقي قبل أن تكون تكريماً لمضمونه وشكله، لقضيته ومعالجته هذه القضية. فإن تشكّى أحدنا وشكّك في ما تمنحه أكاديمية الأوسكار، بفعل تاريخ هوليوود البائس، لهذا الفيلم أو ذاك، فإن «لا أرض أخرى» وصل إلى أوسكاره باستحقاق، بعد طريق طويل ومتعثّر، فلم يجد حتى اليوم التالي من الجائزة، موزّعاً أمريكياً، مثلاً، وذلك تضييقاً على فرص الفيلم لنيل الأوسكار، لكنه نالها ومن دون توزيع في الصالات، ونال قبلها جوائزَ تثبت أهليّته ليكون وثائقياً عظيماً. هو مشوار بدأ من قمة عالية في برلين وواصل الفيلم علوَّه في مستوى آخر مع الأوسكار. اليوم، يبدأ الفيلم مشواراً جديداً متجدّداً ناقلاً قصةً لا يعرف بها الكثير من الفلسطينيين ومعظم العرب وكل العالم، هي محاولات التهجير والتدمير الممتدة لعقود في قرية مسافر يطا.

من الآخر: الجائزة الأولى الوحيدة لوثائقي من أو عن فلسطين، وهي الجائزة الأكبر التي ينالها وثائقي من أو عن فلسطين في أحد المهرجانات الكبرى الثلاثة (كان وفينيسيا وبرلين)، نالها «لا أرض أخرى»: أفضل وثائقي في مهرجان برلين السينمائي. كذلك، الجائزة الأكبر على الإطلاق لأي فيلم من أو عن فلسطين، روائي أو وثائقي، نالها «لا أرض أخرى»: أوسكار أفضل وثائقي. حدثان تاريخيان للسينما الفلسطينية أنجزهما عملٌ واحد.
نعم، هو فيلم فلسطيني تماماً. نعم، هي أول مرة ينال وثائقي فلسطيني جائزةَ أفضل وثائقي في مهرجان بحجم برلين السينمائي. نعم، هي أول مرة ينال وثائقي فلسطيني جائزةَ أوسكار. هي أول أوسكار فلسطينية.

كاتب فلسطيني/سوري

 

القدس العربي اللندنية في

11.03.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004