26 دقيقة لكي نغوص في أعماق رجل قيده الماضي وأخطاءه فعاد به
إلى حيث بدأ، حيث وقعت الجريمة، وحيث نُسجت خيوط العنكبوت
السام حول الضحية، حتى ماتت مندفعة من أعلى شبكته إلى أسفلها،
فهو رجل حُكم عليه بالعودة، تأخذه رهينة الوصول، لأنه رهينة
الماضي.
التراجيديا وشخصية البطل والنهاية الحتمية
في 26 دقيقة مكثفة الأحداث والأفكار يروي لنا مصطفى مراد، كاتب
ومخرج الفيلم، قصة أدهم سليمان، صحفي وكاتب، يبدأ رحلة مختلفة
في الفصل الأخير من حياته، لا يتقدم فيها إلى الأمام بل يعود
إلى الماضي، رحلة إلى الذكريات التي عاشت معه سنوات طويلة
تؤرقه فلم يستطع التخلص منها وكانت النتيجة أنه عاد إليها،
ظناً منه أن في مقدرته التدخل ومنع ما حدث منذ ثلاثين عاماً.
يبدأ أول مشهد ورجل يقف منتظر إحدى السيارات ولكن لا نعلم أين
تحديداً أو المنطقة الموجود فيها، كل ما نعلمه الزمن من خلال
إحدى الأغنيات، أغنية ويجز دورك جاي، والتي سرعان ما يختفي
صوتها ويعلو صوت منولوج داخلي للبطل يحدث به نفسه عن ماضيه
وما حل به من آلام، فهو الكاتب الذي قرر أن يروي قصة زوجته
مستغلاٌ ما في الحكاية من تفاصيل لتحقيق حلمه في أن يصبح
كاتباً مشهوراً، وخلال فترة كتابته للرواية كان يمنع زوجته
منعاً باتاً من الإطلاع عليها، وفي ذات الوقت الذي يتحدث عن
شغفه كان يتعمد بالتوازي التقليل من حبها للموسيقى وعزفها على
آلة الهارمونيكا.
كل هذا يؤسس لحالة البطل الذي يعيش في سعادة مع زوجته ولكن
هناك شيء ما يخفيه سوف يقلب الأمور ويحول الوضع من السعادة إلى
التعاسة والشقاء، ثم عقدة الذنب التي سوف تلازمه طول عمره
الباقي، وعندما يعود للمنزل يتذكر في كل ركن فيه ما كان يجري
من أحداث، نجدنا أحيانا نجتمع مع الثلاث شخصيات، وأحياناً
يختلط الحاضر بالماضي، فنجد أدهم العجوز يقف مكان أدهم الشاب،
ثم يجمعهما مشهد أخير قبل أن تكتشف الزوجة حقيقة ما يكتبه
زوجها، يحاول فيه أدهم الحاضر أن ينبه أدهم الماضي ويحذره من
أفعاله وأنه سوف يتسبب في خسارة كبيرة ولكن الأخير لا يستجيب
ويستمر في كبرياءه وتصرفاته التي يرى بها نفسه كاتباً يستحق
الشهرة بينما زوجته لا يلقي بالاً لموهبتها بل بالعكس يحاول
كبتها وإغراقها في شئون المنزل فقط والتسفيه من آلتها المفضلة،
وكلما حاولت أن تعود للعزف لتحقيق حلمها يذكرها بأن العزف
يرتبط بقصة حبها القديمة.
في المشهد الأخير قبل وفاتها يترجى أدهم الحاضر أن يغير أدهم
الماضي الرواية، ولكن في مشهد يتعمد المخرج جعله مسرحياً إلى
حد كبير، يقف أدهم "الماضي" في غرور على الطاولة، ويتحدث عن
ذاته، ويقول: "السيدات والسادة معنا الكاتب والروائي والصحفي
الكبير أدهم سليمان - يصفق لنفسه- وقراءة في أعظم ما كتب"،
الظلام يسيطر على المشهد إلا من ضوء نور مسلط على وجه أدهم وهو
يتحدث وفي الخلفية تظهر ستائر المنزل وكأنها ستائر خشبة
المسرح، لأنه في الحقيقة ممثل بارع، خدع صديقه وحبيبته، ثم
اقتنصها لنفسه وزهد فيها فيما بعد.
بعد قراءة عواطف للرواية بالصدفة في صباح يوم 27 مايو، وهو
ذاته يوم عيد ميلادها، تنتحر من شرفة المنزل، ويبقى أدهم
جالساً يتابع مع الماضي يتكرر أمام عينيه، وعندما يدرك أنه لا
يستطيع اصلاح ما قام به، يتزين متخلصاً من لحيته البيضاء
وملابسه غير المنضبطة ويرتدي أفضل ما لديه ويقرر في خياله أن
يقتل أدهم وهو نائم، ولكنه في الحقيقة يقتل نفسه.
وأنا أتتبع أدهم وأشاهد ما يحدث، كنت أرى في كل مرة أنه يشبه
شيئاً ما، أن صفاته هذه قد مرت أمامي في مواضع أخرى، وهنا
أضاءت في رأسي كلمة تراجيديا، فأخذت أتجول في كتاب فن الشعر
لأرسطو، من ترجمة الدكتور ابراهيم حمادة، ووجدت في جولتي داخله
أن المخرج متأثر بشكل كبير بسمات البطل التراجيدي وتفاصيل
التراجيديا. |