وعن صراع الإنسان وتوظيف الفولكور كتب الصديق:
(في مهرجانات الأفلام القصيرة والتلفزيونية التي كنت أمثل
الكويت فيها من خلال أفلامي، كنت أواجه بصورة مستمرة بأسئلة
غريبة من نوعها عن الكويت، ومنها أن الكويتيين مولودون بملاعق
ذهبية في أفواههم، وذلك بسبب الثروة النفطية! وبسبب تركيز
وتكرار هذه الأسئلة فكرت أن أقدم عملًا أعرض فيه كفاح آبائنا
وأجدادنا الكويتيين قبل اكتشاف البترول. وطبعًا هذه الانطلاقة
كانت ذاتية. وبدأت أبحث عن الموضوع المناسب لمدة طويلة جدًّا
حتى وقع اختياري على قصة شبه قصيرة للكاتب عبدالرحمن الصالح،
كانت بعنوان «الدانة». وبمجهود كبير كتبنا السيناريو بالمشاركة
مع المؤلف عبدالرحمن الصالح نفسه، وباشتراكي أنا والأستاذ ولاء
صلاح الدين والممثل سعد الفرج. وأحببت -من خلال هذا الفلم كما
ذكرت– أن أبيِّن للعالم كفاح الشعب الكويتي والخليجي ضد
الطبيعة –والطبيعة هي البحر عندنا– قبل اكتشاف النفط. ومع أن
هذه العملية كانت نوعًا من المجازفة، لكن الاندفاع والحماس
وجنون السينما أيام الشباب جعلوني أنسى كل هذه الجوانب على
الرغم من خبرتنا المتواضعة في كتابة السيناريو، اليوم وبعد
النجاح الباهر الكل يدعي أنه الوحيد الذي كتب السيناريو لهذا
الفلم من الألف إلي الياء.
ويذهب الصديق الى تجربته مع (بس يابحر):
(ومن الصعاب التي واجهتنا في هذا العمل أن الممثلين كلهم كانوا
غير محترفين، ولهم وظائفهم اليومية في دوائر الوزارات الحكومية
وكنت مضطرًّا إلى أن أسجل وأشتغل معهم فقط في العطلات الرسمية،
وكل يوم خميس أو جمعة حسب ظروفهم. وطبعًا كانت هناك صعاب
ومشاكل كثيرة حتى أنجزت تصوير الفلم في زمن قياسي، فقد كان
التصوير في نحو أربعة أشهر إلى خمسة أشهر. وطبعًا كان كل يوم
جديد يمثل تحديًا لنا في ظل ظروف قاسية، قاهرة، خارجة عن
إرادتنا، ومن دون أي خبرة سينمائية سابقة في مجال الأفلام
الروائية الطويلة، ولله الحمد تخطينا كل هذه الصعاب، وأنجزنا
الفلم من ناحية التصوير فقط، أما النيغاتيف السالب للفلم فقد
حمض في تلفزيون الكويت، وأُجرِيت المراحل الفنية الأخرى في
أستوديو مصر في القاهرة. وعندما أنهينا الفلم في الشكل الأولي،
اقترح السفير الكويتي في القاهرة –الأستاذ حمد الرجيب– إقامة
عرض خاص للفلم يشاهده الصحافيون والنقاد، لجس نبض الصحافة
والنقاد واستكشاف انطباعهم عن الفلم. وبالفعل أقيم عرض خاص
للفلم حضره كبار النقاد والصحافيين في القاهرة. وكانت
الاستجابة رائعة، ونشرت الصحف مقالات عديدة في الأيام التالية
تشيد بمستوى الفلم. وبعد العودة إلى الكويت استقبل الفلم
استقبالًا رائعًا، وحضر عرضه الأول سمو أمير البلاد، وكان
آنذاك ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء.
ويستطرد:
(ونجح هذا الفلم في المهرجانات العديدة التي عرض فيها – فقد
حاز حتى الآن على نحو تسع جوائز سينمائية عالمية منها جوائز
مهرجان طهران ومهرجان دمشق، ومهرجان فينسيا، ومهرجان قرطاج،
ومهرجان شيكاغو، ومهرجان قرطاجنة في إسبانيا وجوائز غيرها –
وأعتقد أن سبب النجاح الباهر لهذا الفلم يرجع إلى أنه منفَّذ
بصدق، وحماس مخلص وصادق، وفي بيئة غريبة لم تعرض من قبل على
العالم بهذا الشكل. من خلال هذا العمل أحببت أن أقدم –غير
الكفاح المرير لشعب الخليج ضد الطبيعة– زاوية وأسلوبًا وفكرًا
جديدًا في المعاملة السينمائية، وذلك بإبراز أو عرض العادات
والتقاليد الكويتية، وأحبكها حبكة درامية لصالح الخط الدرامي
(أقصد بذلك أن أوظف العادات والتقاليد والجانب الأنثروبولوجى
توظيفًا دراميًّا لصالح الخط الروائي للفلم) وأظن إلى حد ما أن
هذه المحاولة قد نجحت. وهذه النقطة هي سبب من أسباب نجاح الفلم
على هذا المستوى. ففي رأيي أنه من خلال دراستنا للجوانب
الفولكلورية والعادات والتقاليد نجد الدافع وراءها دراميًّا في
البداية، عند ظهورها إلى الوجود، وتستمر هكذا مع الأجيال،
وفكرت أنه يجب عليّ أن أعرض هذه الأمور من خلال خط درامي، أي
توصيلها دراميًّا وإبراز وظيفتها الدرامية، فكل الأشكال
الفلكلورية الموجودة في الفلم موظفة دراميًّا. وكما أن البعض
يرى في هذا العمل تناولًا أنثروبولوجيًّا، فأظن أن بالإمكان
عده صالحًا كمرجع سينمائي لدراسة أنثروبولوجية لبيئة الكويت
قبل النفط، وأظن أن المادة الوحيدة المرئية الموجودة في العالم
عن الكويت قبل اكتشاف البترول هو فلم «بس يا بحر»؛ لأنه يعرض
جميع الجوانب قبل دخول عامل النفط، بما في ذلك الجوانب
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية، وكذلك طبعًا
العادات والتقاليد. فهذه النواحي ساهمت في نجاح الفلم نجاحًا
منقطع النظير على جميع المستويات، لدرجة أنه من الممكن أن أقول
بعد «بس يا بحر» ظهرت أفلام عربية عدة عالجت مادتها بالطريقة
نفسها، يعني الخط الدرامي فيها مطعم بالعادات والتقاليد،
ابتداء من «عزيزة» الفلم التونسي لعبداللطيف بن عمار (سنة
1977-1978م) إلى آخر فلم على الغرار نفسه شاهدته سنة 1988م،
وهو فلم «عرس الجليل» للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي.
ثم ينتقل الى تجربته مع رواية (عرس الزين) للطيب صالح
(بعد ذلك بسنوات فكرت في إخراج رواية الطيب صالح «عرس الزين».
وقد وقع اختياري على «عرس الزين» لسبب بسيط جدًّا، فقد وجدت من
خلال قراءتي لهذه الرواية المتوسطة في الطول أن هناك نقطة مهمة
جدًّا يجب أن نتطرق إليها أنا أو غيري ونعرضها للجمهور.
والنقطة هذه جاءت في الرواية بصورة مبسطة جدًّا وهي النفاق
الديني في المجتمعات الإسلامية، وفضلت أن أقوي هذا الخط وأبرزه
بشكل ملحوظ. وهذا شكل نوعًا من التعديل في رواية «عرس الزين»،
هذا إضافة إلى اهتمامي بالعادات والتقاليد والجانب
الأنثروبولوجي في العمل الأدبي، في البيئة السودانية الغنية.
ويختصر رحله الالم حينما يكتب عن القطاع الخاص وعدم دعم
السينما بقوله:
(لقد حاولت في هذه الأفلام الثلاثة، بتنوع بيئاتها الدرامية
تقديم عمل جاد مختلف عن السينما التجارية الهابطة، وفي الوقت
نفسه سعيت في هذه الأعمال إلى أن أبين الأبعاد التاريخية
والحضارية لنا. فبالطبع هذه الأعمال لها أبعادها وترتبط بروح
المكان والبيئة والزمن. وهذه الأعمال كلها ترتبط أيضًا بالحالة
النفسية أو المرحلة الظرفية التي أكون فيها عندما أختار العمل،
وتسيطر عليّ طبعًا من البداية إلى أن أقع على القصة المناسبة،
وأحوِّل هذه القصة إلى فلم سينمائي. قبل الدخول في تصوير فلم
«بس يا بحر» حاولت إقناع الجهات المسؤولة في الكويت في أوائل
السبعينيات أو أواخر الستينيات بتمويل أفلام روائية طويلة، ومع
ذلك للأسف لم أنجح في ذلك. فجازفت بعمل فلم «بس يا بحر» بنفسي
وعلى مسؤوليتي، وبعد تفكير عميق حاولت وفكرت أن أعمل عملًا
ثانيًا. وأرفض تماما أن تتولى الدولة عملية الإنتاج السينمائي،
وقد فشلت كل المحاولات التجارية في هذا الإطار فشلًا ذريعًا –
في أوربا الشرقية، وفي مصر وغيرهما – لكن الدولة يمكن أن تقدم
المساعدات والإمكانيات الكافية للإنجاز الإبداعي في مجال
السينما. فعندما أنتج فلمًا لحسابي الخاص، وتكلفته على سبيل
المثال 100 ألف دينار، الدولة تقول: «مستعدة أدفع نصف المبلغ
أنجزوا العمل». هذه الخطوة رائدة وجميلة إذا تمت هنا. وللأسف
فإن القطاع الخاص «ليس عندهم ثقة في مجال السينما ولا حماس
لخدمة الكويت إعلاميًّا وثقافيًّا من خلال السينما»، لماذا لا
يساهمون في دعم إنتاج أفلام سينمائية ينجزها فنانون وفنيون
كويتيون. وهو وضع يجعل الإنسان يتمنى لو كان لدينا نظام
للضرائب؛ لأنه إذا فرضت الضرائب على المؤسسات والشركات فسوف
تمول – كما يحدث في أوربا – إنتاج أفلام سينمائية بدلًا من
دفعها لضريبة وتستفيد دعائيًّا من وضع اسمها على الفلم، كذلك
ستكون قد ساهمت في المجالات الثقافية والإعلامية في البلد.
ويمنح وصيته لجيل الشباب حينما يقول:
(من ناحية، لدي مأخذ بسيط على الشباب الكويتيين المتخرجين
حديثًا في مجال السينما فأقول لهم: رجاء يا أصدقائي ابدؤوا من
أول السلم. إن كل خريج يأتي في بدايته، ويريد أن يصبح مخرجًا
لفلم روائي طويل. وقد نصحت أحد هؤلاء الخريجين الجدد منذ مدة
قريبة وقلت له: «إذا بدأت مسيرتك بفلم روائي طويل وفشل فقد
انتهيت إلى الأبد كمشروع مبدع سينمائي». فأكبر مخرجي العالم
بدؤوا حياتهم الفنية من خلال أعمال صغيرة.
انها اختصار للتجربة.. واختصار للمسيرة التى يري البعض منها
قمة الجبل والنجاح والشهرة.. ولكنها في حقيقة الامر رحلة التعب
والبحث والانتظار الطويل على ابواب المسوولين الذين كانوا
يستقبلونه بالوعود والابتسامات ولكن ما ان يخرج من تلك المكاتب
حتى تتبخر تلك الوعود وايضا الاحلام التى كان يعلم الصديق انها
لا يمكن ان تصنع الا بالاردة والعمل والتحدي حتى لو كان في
الكويت البلد الاغنى في العالم.