ويأتي دور المخرج وقدرته على دمج كل هذه العناصر في
تنفيذ دقيق لسيناريو مكتوب بشكل جيد وبدون تصنع ليكمل
المعادلة التي تعبر عنها مكونات الفيلم الفنية. والأهم
في هذا، هي قدرة جينكينز على جعلنا نستوعب أهمية
الشخصيات التي نحدق بها على الشاشة العريضة، وذلك على
الرغم من كونها شخصيات غير مألوفة في سينما هوليوود.
يضيف "مون لايت" اذا بعداً جديداً لمفهوم الواقعية الاجتماعية
كممارسة سينمائية، وكاطار لرصد حياة شخصية رئيسية تتقاطع ملامح
تكوينها على مفترق خلفيتها المسحوقة طبقيا، والآتية من أصول
افريقية أميركية، وذات الهوية الجنسية المثلية. ويطال مسار قصة
الفيلم ثلاث فترات زمنية متتالية في حياة تلك الشخصية، فينقلنا
عبر مراحل الطفولة فالمراهقة فالشباب، لنستكشفها بأسلوب أقرب
الى القصيدة منه الى الدراما. اذ يصور الفيلم لنا نسخة من
الواقع الاجتماعي كما يُرى من خلال عيون بطل شاعر، وبالتالي،
ومن خلاله، عبر عيون صانع أفلام شاعر. وعلى هذا النحو، يلتقط
الفيلم أبعاداً اجتماعية تفوق التأملات الشعرية الفردية
والمعزولة لشخصيته الرئيسية، ويتخذ منها "مثالا مصغّرا"
(Microcosm)
يحكي من خلاله واحدة من قصص قسوة التهميش الاجتماعي في أميركا
المعاصرة.
سيناريو الفيلم مقتبس عن قصة غير مؤرخة بعنوان "تحت ضوء القمر،
الفتية السود يتلونون بالأزرق" والتي كتبها تاريل ألفن
ماكريني، ويتكون من ثلاثة أقسام تصور لقطات عبر ثلاثة لحظات
رئيسية في مراحل في حياة تشيرون. ومن الواضح توجس "مون لايت"
للسياسات ولواقع العنصرية وسوء المعاملة الحكومية والإهمال
والبطالة ورهاب المثلية والانعزال والتقوقع الجماعي والمخدرات
والفقر، وكيف أثرت على حياة الأميركيين الأفارقة في العقود
الثلاثة الأخيرة. لكن الفيلم لا يدعي تقديم حلول لهذا الواقع
ويترك الأمر لنا لنتفكر فيه ملياً.
يتناقض "مون لايت" بوضوح وعند كل منعطف مع الصور النمطية التي
طالما اقترنت بتجسيد هوليوود للأقليات العنصرية والاثنية
والجنسية والجندرية، وكذلك في تجسيدها لأبناء الطبقة العاملة
أو الفقراء. ويركز بالمقابل على ربط رسمه لشخصياته عبر رصد
تفاصيل تصف السياق الاجتماعي والثقافي للعنف والاغتراب النفسي
لأبناء الفئات المهمشة في أميركا الحديثة. على سبيل المثال،
فان خوان، معلم تشيرون في الطفولة، هو تاجر مخدرات، يجبر على
التعامل مع خياراته "الأخلاقية" عندما يدرك أن والدة تشيرون هي
أحد زبائنه. إلا أن الفيلم يعقد ظاهرة المخدرات داخل المجتمعات
السوداء في الولايات المتحدة كقوة مدمرة وكمهرب لا يرتبط فقط
باختيارات أخلاقية. فيقدمها كواقع نشأ وتفاقم تاريخيا كبديل
للتهميش الممنهج والمفروض قسريا بالنهاية على المستويات
الاقتصادية والاجتماعية، والذي يشكل مصدرا لبعض "الحرية
الاستهلاكية" و"الاستقلال" في المناطق الحضرية المقموعة
والمهملة والمهمشة.
يروي الفيلم قصة تشيرون، ويعرض من خلالها سياقاً تاريخياً
للعنصرية الأمريكية. يذكرنا ببلد يجرد الأفارقة من هويات
أجدادهم الثقافية والحرفية. في أحد المشاهد، يسأل شخص ما
تشيرون، "من أنت يا رجل؟"، وكأنه يذكرنا بسؤال طرحه المغني
والممثل الأفريقي الأمريكي/ الناشط الكبير بول روبسون ضمن
أغنيته "ماذا تمثل أميركا لي؟" في فيلم "قاتل الأغنام". فهذا
الفيلم الأيقونة في تاريخ سينما النضال الأميركي الافريقي ضد
العنصرية، يبدو وكأنه مقدمة مباشرة لـ "مون لايت" في تصويره
الشعري لمصير الأميركيين من أصول افريقية. لكن وجهاً رئيسياً
لجمال "مون لايت" كفيلم يعود للابداع الفني في تنفيذه.
فاستخدام التصوير الانطباعي وأسلوب التوليف والموسيقى كلها
تجذب المشاهد باستمرار إلى عالم وزوايا غير مألوفة من المشاعر
الداخلية للبطل. فيصطحبنا الفيلم بالنهاية في رحلة قاسية
ومؤلمة، والتي تصر الطبقات الحاكمة في أميركا (وضمن هوليوود)،
على تجاهلها وتهميشها.
النتيجة هي مقاربة سينمائية غير اعتيادية وربما غير مريحة
لأولئك الذين لم يعتادوا عليها. إنها مقاربة تهدف إلى مواجهة
الفذلكات الوهمية لأدوات الابهار "الواقعية" الجديدة في
السينما (والتي تصل الآن إلى ارتفاعات تسويقية جديدة مع
تأثيرات خاصة أكثر "مثالية"، ونظارات ثلاثية الأبعاد، وحتى
المقاعد الهزازة وتجربة المحاكاة). بدلا من ذلك، يكرم "مون
لايت" جماليات تصوير ورصد الملامح التي تسمو بتجسيد ذاتية
شخصياتها والموضوع نفسه الى مستويات "الواقعية الشعرية".
يستشهد مون لايت بتأثير انطباعي للهوية ليس كتجسيد لأقسام
مجتزأة، وإنما كبنية تاريخية اجتماعية وطبقية معيدا بذلك رسم
تعقيدات فكرة الهوية الاجتماعية بحد ذاتها. وفي الوقت الذي يتم
فيه استخدام هذه الفكرة ويعاد تصميمها لتحكي قصة عن الكراهية
والانقسام، يتخذها الفيلم أيضا كامتداد لحقائق الواقع العرقي
والجنساني والاجتماعي الأوسع. حتى ذكورية شخصية ال"gangsta"
التي يتقمصها تشيرون في القسم الثالث من الفيلم، تخفي في
الواقع المشاعر الداخلية لبطل الرواية فتبقى هوية واحدة بين
كثر، كلها منشغلة بأشكال مختلفة من التهميش التي تؤثرعلى
واقع الطبقة العاملة الأميركية اليوم. وفي النهاية، فإن نمط
التركيز على ماهو فردي وانطباعي في حياة ورؤية شخصيات الفيلم،
يفسح في المجال لما هو أكبر وأكثر التصاقا بواقع أميركي أوسع
بكثير. لذلك، يوفر "مون لايت" بديلاً أصيلا في إطار تقاليد
الأفلام ذات الاهتمامات الاجتماعيةً وأسلوب تعاطيها مع الجوانب
العديدة للتهميش الاجتماعي.
ربما كانت النخبة في هوليوود مشوشة في منطق اختيارها لفيلم
"مون لايت" في حفل أوسكار 2017، لكن النتيجة كانت منعشةً
حتماً.