يعلن الدستور الأميركي في سطوره
الأولى عن ما هو مقدّس في الذهنية الأمبريالية فيما
يتعلق بشرائع العدالة والإستقرار والدفاع المشترك،
مؤكداً على عطايا ديموقراطية رّبانية لشعب هجين ووليد
هجرات "سلالات إسرائيل ممن عادوا الى أرض ميعادهم"،
وكولونيالية ضالعة في تصفيات دمويّة ومجازرها، وعرقية
بغيضة وبطشها، وحروب إبادات شنيعة وفظائعاتها، بشأن
"تعزيز الخير العام وتأمين نِعَم الحرية لنا ولإجيالنا
القادمة"، وهو تعزيز أدى الى قيام إمبراطورية يافعة
ماحقة وديناميكية وذات تفوق تكنولوجي وعسكري وذهنوي
سياسي وأكاديمي وطبقي مهد الى تحكم صارم بالتاريخ(حسب
نعوم تشومسكي). أميركا جورج واشنطن وجيفرسون منتشرة في
أرجاء الأرض، تغنم وتسفك وتعيد رسم تواريخ شعوب
وتستوطّن وتُوِطّن وتستولّد بانتوستانات (محاجر)
عنصرية وتغامر بحروب وتعمّم عساكرها. إنها قدوة يجب أن
تروّج بأي ثمن وعلى الجميع الإذعان. لا رّيب ان
الفضائل العقائدية والإبداعية لـ"مجتمع الحقّ
الإلهي"، كما وصفه الأباء المؤسسون، حقق للبشرية قفزات
حداثية، وأشاد فجوات حضرية تتعجل التغيير والعصرنة
اللتان ولّدتا، كحتمية تاريخية، تناقضات مجتمعيّة داخل
الولايات المتحدة بسبب لا عدالة توزيع المحاصصة
الغنائمية للثروات المتعاظمة، ما شكّل كانتونات مستترة
على عموم الأرض الأميركية، يعيش سكانها على هامش
جحيميّ وشظف يوميّ مُستَذَلّ ومستقبل بلا أفق.
من بين هؤلاء، يندب الشريط السابع
للأميركي شون بيكر "مشروع فلوريدا" بخوت عائلات
ويوميات ضنكها التي توقِع المرء في دهشة وغضب ممرورين
لشناعة وجودها بيننا وفي ألفية ثالثة وفي بلد عظيم
المكانة، والأدهى أنها تعيش تحت ظلال واحدة من أكثر
رموز هوليوود إهتماماً في تسليع شخصيات خيالية تستهدف
الطفولة وبراءاتها: والت ديزني!. إستلّ بيكر عائلة
واحدة، تتألف من أم عازبة تدعى هالي(بريا فينيتي)
وطفلتها ذات الأعوام الستة موني(بروكلين برنس)، تعيش
في موتيل(نُزُل) يُدعى "القلعة السحرية" مُطلّ على
متنزه "العمّ" ديزني الشهير في أورلاندو كاليفورنيا.
هن لسن وحدهن، إذ هناك جيش من عائلات شديدة الفقر تتخذ
من البناء المعزول مؤولاً ووسيلة تحايل ضد أعوان
حكوميين يسعون الى إرغامها على قبول إسكان إجباري.
هؤلاء هم نزلاء ما يمكن نعته بـ"معسكر غوانتانامو
فلوريدا" حيث كل شيء يتحرك ضمن مناورات لا تنتهي من
الكرّ والفرّ. تعيش موني التي تصّر على إطلاق غمزاتها
الحكيمة ومنها: "أنني أعرف متى يجهش الكبار في
البكاء!" مع عصابتها المكونة من الصغيرة جانسي والطفل
سكوتي ضمن حالة طلق صاخب. يتجولون في كل مكان من دون
موانع، ويقتحمون أيّ حيز من دون خوف، ويناكفون الجميع
من دون وجلّ. يتسابقون على البصق على سيارات مارة،
ويشاكسون امرأة عارية الصدر تتشمس عند حوض سباحة,
ويستعطفون سياحاً مستهدفين رثائهم للفوز بمثلجات
مجانية. ثلاثة ملائكة هم خليط من زعرنة وشجاعة مبكرة
وسوء طالع وطفولة ناقصة، هاجسهم أشرطة ميكي ماوس
وشخصيات الشركة الشهيرة، حيث يمكن إعتبارهم جزءا من
عوالم سينمائية ثرّية وحالمة ومختلقة تقع حدودها داخل
غرف النُزُل أو أيّ مكان مهجور أو قرب مزارع مسيّجة
(كما في مشهد رؤية أبقار حظيرة نائية بعد ان أعلنت
موني أنها ستأخذ زعرانها الى "رحلة سفاري مجانية!").
وفيما تلهو "الزمرة" يواجه الكبار محنة يومية للإفلات
من العوز، وهي موزعة على الآتي: أمّ موني تبيع جسدها
للعابرين، إثر فقدانها عملها السابق كراقصة تعرّ، بعد
أن تحبس طفلتها في الحمام، فيما تعمل والدة جانسي في
مطعم، أما الثالثة الزنجية فهي قلب عارم بعطفه على
الجميع، لا تخجل من تتحصّنها في حجرتها طوال اليوم.
إذن مَنْ يرعى "ملائكة ميكي ماوس"؟
يخلق نصّ بيكر وشريكه كريس
بيرغوتش شخصية نادرة هي مزيج من سطوة مدنية وضمير حيّ
يعيّ حجم مسؤولياته في الحفاظ على توازن هش لخليط بشري
تقوده ظروفه الى تطرف إجتماعي وحروب فردانيّة. يتعملق
كيان الشاب بوبي (النجم ويليم دافاو) ليجعل من
"مملكته" الصغيرة والمقابلة الى نظيرتها السياحية
كومونة متوازنة وأخلاقية ومصانة، فحينما يكتشف مساعي
وحش جنسي يسعى الى "إصطياد" أطفال المجمع يعنفه بشراسة
أب، وعندما تتعرض هالي وموني الى الطرد ينجدهما بحيلة
قانونية. أصر بيكر/ بيرغوتش على جعل الرجل كياناً
بتولاً وقدسياً، وكأنه مسيح عصريّ نراه منكباً بهمّة
لا تشكي أو تتباطأ في تصليح المحيط وإنقاذه من
الإنهيار. هذا القيّم هو جزاء الحياة وعدالتها القائلة
أن الرأفة لن تزول من ذمّة الناس مهما كان ثمنها. هل
حكاية "مشروع فلوريدا" كئيبة الى هذا الحدّ نظراُ
لتضخم وجعها الدرامي؟ ما صنعه بيكر هو العكس تماما، إذ
ضخ عمله (105 دقائق) بفيوض من العواطف والفكاهة
والخفّة والعذوبة، سلاحه كمن في الإدائيبن العفويين
للطفلة برينس والشابة فينيتي اللتين يمكن إعتبارهما
نعمتين سينمائيتين شعّتا ببذخ نادر في فصول العمل
الزاهي الألوان والمحافظ على رونق محيط سياحي متنعّم،
أختار فيه مدير التصوير المكسيكي ألكسيس زابي المعروف
بتعاونه مع مواطنه المميز كارلوس رايغاداس خصوصا في
رائعته "ضوء بعد الظلام"(2012) الإحتفاء بطقوس النور
الطبيعي لفلوريدا ما بين ساعات السحر الخلاّبة وألوان
الفجر المتفجرّة و الضياءات الحارة للصباحات الصيفية،
من دون إغفال إختياره الحصيف للأصباغ الفاقعة المنثورة
على جدران الفندق من باب إستكمالها للروح السياحية
للمنطقة. الى ذلك، حافظ الثنائي بيكر/ زابي على حركية
الكاميرا وتحرّرها كمرافق دؤوب لموني وزعرانها، ما جعل
من طريقة التصوير بكاميرا الـ"ستديكام" ذات ديناميكية
حاسمة، رفعت الى حد بعيد من إيقاع شريط جوال ومتطفّل
بإمتياز لن يخشى عرض المَزْرِيّ في غرف موني وهالي،
مثلما يحتفي برغد مطاعم ولوبيات الفنادق الفخمة حينما
تقتحمها الأم الشابة وطفلتها للحصول على وجبات فاخرة
تحت إدعائهن انهما نزيلتان!
أنها سياسة المقارنة الفطنة فيما
يتعلق بشعار "تعزيز الخير العام وتأمين نِعَم الحرية"
المضيء في الدستور الأميركي، إذ يتحوّل هنا الى عار
إجتماعي ولا إنصاف طبقي ومهانة بشرية، وهي عناصر لم
تغب في إشتغالات بيكر التي راقبت كدّ شخصيات هامشية
وبحثها عن فرص حلم أميركي صعب المنال، على شاكلة
المهاجر الصيني في "إسترداد"(2004) المتورط بدَيْن
مالي عليه ان يعيده قبل تلقيه جزاء دمويّاً، أوالشاب
الأبيض المحتال في "أمير برودواي"(2008) المصدوم بعودة
إبن لا يتذكره يطالبه بحقوق تعجيزية، أوفتيات شريطه
الرابع "ممثلة ناشئة"(2012) المستميتات في عبور عوزهن
بأي ثمن وإن تنازلن لإغواء تمثيل فيلم إباحي!. وأخيرا،
عمله التأسيسي "تانجيرين"(2015) المصوّر برمّمته
بواسطة هاتف "آيفون6" حول متحولين جنسياً يعيشان محن
الصداقات والثقة وهما يجولان في شوارع لوس أنجليس.
جديد بيكر (ولد عام 1971، ودرس السينما في جامعة
نيويورك) مواساة سينمائية لمَنْ خذلتهم السطور الثلاثة
الأولى لذلك الدستور من دون ان يقع في تهويل إيديولوجي
أو تحامل مسيس فارغ الهمة، وإنما سار على خطى واقعية
البريطاني كِن لوتش خصوصا في رائعته "كِس"(1969) من
حيث مقاربته الى الغدر الطبقي وتناقضاته وفرائسه كعبرة
عن لا مساواة و نكث وعود يمارسها سياسيون وعصاباتهم من
دون وازع أخلاقي. |