عنوان جديد الأميركي سبايك لي هو نحت
لُغَويّ مُخاتل وإشكاليّ. يختصر
حكاية الشّريط ونَّبرته السينمائية وعقيدته، التي
تحاملت على ثنائية "إبادة
جماعية وعبودية"،
بإعتبارهما ركيزتيّ ولادة أُمّة "التكليف
الألهي"،
حسب رؤية الأباء المؤسسين في الدستور الأميركي.
ثلاث كلمات، رُصفت مع بعض، موحيّة
بمفارقة عرقيّة/سياسيّة
حدثت بالفعل. بطلها
شرطي أفروـ أميركي، إنتحل شخصية مواطن أبيض شديد
العنصريّة في سبعينات القرن الماضي، لينخرط عضواً
فاعلاً، في واحدة من أكثر العصابات، عنفاً وسفكاً
لدماء الأقلية السوداء في تاريخ الولايات المتحدة. من
هنا، فإن عنوان "رجل
كوكلوكس كلان الزنجي" لن
يستدعي، بالضرورة، فيلماً كوميدياً محضاً، أو يولّد
نصّاً تجارياً صلفاً، يُبرر لصانعيه إضفاء خفَّة
سينمائية، في غير محلها، على جرائم مريعة، جرت وقائعها
البكر منذ العام 1866،
قبل ان تلحقها فظاعات "العقاب
اللينتشي"(إعدامات
شنقاُ من دون محاكمات)،
إرتكبتها المنظمة عقب "ظهورها
الثاني"(1915)،
وإستهدفت ضحايا جدد من يهود وكاثوليك وأسيويين
وسلالات
"هسبانك"
لاتينيين.
في العام 1979،
قرأ رون ستولوورث إعلاناً في جريدة محلية في بلدة
كولورادو سبرينغز. تدعو
فيه المنظمة، المعروفة بحروفها الأولى الشهيرة "KKK"،
الى ضم إعضاء جدد. يتنكّر
خلف لهجة حقودة، ويُحقق أول لقاء بينه ووسيط غليظ
الطَّبع. يتضح
لاحقا انه جندي سابق خدم في فرقة "فورت
كارسون" الموجودة
في منطقة قريبة من المدينة. يُقنِع
ستولوورث ضابطاً زميلاً له(يحدث
ان يكون يهودياً)،
يدعى فيليب زيمرمان (الممثل
أدم درايفر)،
للحلول مكانه، وتوثيق كشوفاتهما التي إستمرت 9 شهور. إنطلت
الحيلة على الجميع. يتسلم
الأفرو ـ أميركي بطاقة عضويته الكاملة، حاملة توقيع
الرئيس الأعلى للمنظمة ديفيد ديوك، ويعلقها بفخر فوق
مكتبه.
بقيت الحكاية الغريبة طيّ الكتمان، حتى
نشر ستولوورث، بعد تقاعده من الخدمة، تفاصيلها في كتاب
في عام 2014. هذا
التدبير الأقرب الى النكتة أورده المخرج سبايك لي
بحذافيره. لم
يُجمَّل فيه، أو يفخَّم أبطاله، أو يدعي نخواتها.
ذلك
ان
تاريخها
أثمن
من
تزوّيق
بسالاتها . بيد
ان صاحب "أفعل
ما هو صحيح"(1989)،
لم يشأ "إعتقال" ما
جرى ضمن زمنه وحسب، حيث ان المجازر ما زالت تقع،
والدماء ما زالت تُسفك. ما
أعتمد عليه سبايك لي في "عصرنة" روح
الفيلم، هو قراره الحصيف في ضرورة جلب العقيدة
العرقيّة من جذرها،
وربطها
بما
هو
مُتخَفّ
بين
الـ"نيو
نازية"
الأميركية
في الألفية الثالثة. عليه،
فإستعارة مشاهد بعينها، من الفيلم الأكثر
عنصريّة
في
تاريخ
السينما،
لأبي
السينما
الأميركية
دي.
دبليو.
غريفيث
"مولد
أُمَّة"
(1915)،
الذي مجده الرئيس (آنذاك)
وودورد
ويلسن
بوصفه
الشهير:
"كأنه
كتابة التاريخ بالضوء"،
وكذلك
من
شّريط
مواطنه
فيكتور
فليمنغ
"ذهب
مع الريح"
(1939)،
اللذين
"لا
يمكن
التبرؤ
من
لعنتهما"
حسب
سبايك
لي،
ووضَعَهما
في
واجهة
جدال
سينمائي
تحرّيضي،
مع
فقرات
تلفزيونية
لجرائم
معاصرة،
شهدتها
بلدة
تشارلوتسفيل،
وقبلها
سانفورد
(فلوريدا)،
وفيرغسن
(ميزوري).
أن
اللفتة
الإيديولوجية
جلية
في
التأثيم
والإستنكار،
حيث
يجد
مشاهد
"BlackKKlansman"،
الحائز
على
الجائزة
الكبرى
في
الدورة
الـ71
(8 ـ18 أيار 2018) لمهرجان
كانّ
السينمائي
الدولي، نفسه إزاء عار إنساني لا زال حياً، ويتمرس بين
كيانات يمينية متطرفة. ان
الوقوف ضده ليست مسألة سياسية وحسب بل ضميرية.
تصبح إمثولة "رجل
السلطة وراعي الأمان الإجتماعي" وتلفيق
تخفّيه، إستعارة درامية باهرة لإزدواجية معايير
قانونية في بلد الديمقراطية الكبيرة. نرى
البطل رون(جون
ديفيد واشنطن)،
بقصّة شعره المميزة، وهو يتعرض الى مزاح ثقيل من
زملائه داخل مركز الشُّرطة. يُكلّف
بمهام "وضيعة
بلا ألق"،
منها إختراق إجتماعات ناشطين زنوج من طلاب جامعيين
يساريين، وأخرى لموالي حركة "الفهود
السود" النضالية،
وثالثة لمعارضي حرب فيتنام، مستخدماً لون جلده
ووسامته، ليقابل الشابة الناشطة باتريس(لورا
هارير)،
التي تفتح بصيرته حول عالم يدعو لإلتزام جماعيّ،
وتكافل عرقيّ، وتحقيق مساواة وعدل. وهي
مفاهيم مناقبيّة، لا تتساير مع رجل شرطة ومهماته. نعم،
هو مفوّض بالدفاع عنها، بيد انه غير مُكره على الإيمان
بها. يشحذ
رون وجدانه "العرقي"،
بتحريض من الطالبة الحسناء، قبل ان توصله طويّته الى "بطولته" الكبيرة،
حين إطَّلع على الإعلان الصحافي للمنظمة السيئة الصيت.
تُبان ثنائية معايير الشرطي رون مرّة
أخرى، مع تكشَّف تفاصيل مؤامرة ناشطين عنصريين، سعوا
الى تصفية دوريس ورفاقها عبر تفجير قنبلة، تزرعها زوجة
أحدهم، تحت سيارة تقف قرب منزلها. يأخذ
رون شجاعته بيديه، ويتلّبس مسوحات القديس جورج الذي
صرع تنين الـ"لوثايان" الفاسد
برمحه الشهير. ينقذ
الشرطي الفحل المناضلة الشابة من حتفها، ويحيد مجموعة
القتلة في مطاردات ختامية، غلب عليها طابع الإثارة!. لتصبح
لدينا مفارقة جديدة، حيث رجل شرطة أسود، يُصفي جنوداً
بيض سابقين في الجيش الأميركي، وأعضاء فاعلين في القوة
الضاربة للـ"كلان"،
تحت حماية قانون عام، سيأمر(هذا
القانون) جنوداً
أخرين بعد38 عاماً،
في التصدي الى تظاهرات زنجية، تحمل رايات "حياة
السود ثمينة"،
تطالب بوقف تصفيات مُدَبَّرة، يقترفها شرطيون بيض بحق
مواطنين أفروـ أميركيين. ان
الإستعارات الوثائقية في ختام "BlackKKlansman"،
خصوصا اللقطة الفريدة العارضة الى تحوّل العلم
الأميركي المسمى بـ"راية
بتسي روز"،
بألوان أشرطته ونجماته المميزة، الأبيض والأحمر
والأزرق، الى لون أسود قاتم، في إشارة رفض سياسي
علنيّ، لواحد من رموز تطهير عرقيّ مزمن، تمارسه سلطة
ماحقة تتوارث عنصريتها. يحقق
هذا المشهد رؤية إنجيلية تقول:
"لست
وحدك صانع الشر، بل يوجد من يدفعك إليه بعنف".
فيلم سبايك لي(ولد
إتلانتا، جورجيا عام 1957) عبارة
عن فيوض من وقائع وشخصيات وأسماء وتواريخ وأنساب
ومراجع إبداعية وثقافية. فصوله
مصنوعة بدراية واقعية، ذات إيقاع ديناميكي. حواراته
مُصاغة ضمن حد تاريخي، لما ورد حسب شهادة ستولوورث. بيد
ان مخرج "مالكوم
أكس"(1992) و"شي
ـ راق"(2015) لم
يرم الى جعل شّريطه خطابياً وديماغوغياً، إنما إنتصر
الى عرفان جماهيري للسينما وفرادتها في "تثوير" حماسة
جمهورها، وشحذ ميلهم للحقّ. لذا،
فان كل فصل فيه وكل ثانية من الـ128 دقيقة
لزمنه، أكانت أفلّمة أو فقرات توثيق، هي إنذار بَيَّن
وشديد اللهجة الى ان عقيدة الرئيس دونالد ترامب
وإدارته، ليست سوى قيامات جديدة للوثايان العنصريّ. |