هذا شّريط لا يرحم. ليست
فيه ذرة من مَرْحَمة. لا
يلتفت الى قيّمة مغفرة. ولا
يتوسل ضراعة شخصية عابرة. فيلم
الروسي سيرغيه دفورتسيفوي "أيكا"(أو
في عنوان مواز "صغيري")، المعروض
ضمن المسابقة الرسمية، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 أيار 2018)
لمهرجان
"كانّ"
السينمائي
الدولي،
كتلة سينمائية من البغي والإجحاف اليوميين، اللذين
يحاصران شابة قيرغيزية مسلمة مهاجرة في العاصمة موسكو،
ويمعنان في هتك إنسانيتها وكيانها. كل
خطوة تُقدِم عليها، في جيلانها المحموم، تأخذها نحو
قعر إجتماعي مُنْتن وعصابي وغاشم. تحفة
ضميرية، مصنوعة بنفس درامي متصاعد. تبدأ
من لقطة لمواليد جدد في مستشفى مكتظ، وتنتهي في شوارع
عدائية وكالحة، تحاصرها ثلوج أكبر موجة في تاريخ
المدينة.
فيلم اللقطة الواحدة، كل خط أو لون أو حركة فيها،
تُشكّل متناً مثقلاً بعارنا البشري. هل
يمكن أن تصل السفالة الى هذا الحد؟ أهي الفضيحة التي
تُرّعب أماً شابة، وترغمها على التخلي عن وليد أعزل،
أم هو جُبْنها من حقيقة أن رعايته واجب أمومي لا فكاك
منه؟. أين
الله في هذه المصيبة وأقدارها؟ ما المسافة التي يقف
عندها الإعتبار الأخلاقي، كي يبادرعلى إرغامنا في منع
هذه الجريمة، ووقوع آثامها على ما تبقى من ضمائر حيّة؟. أيّ
سند قانوني سنملكه ذات يوم، يتيح للمنظومة الإجتماعية
فرصة
ملاحقة
خُطاتها، إينما كانوا؟. حكاية
المخرج
سيرغيه
دفورتسيفوي (ولد
عام 1962)
ليست
بديلاً
عن القانون وأحكامه، لكنها تصويب لحساسياتنا الذاتية
وإمتحان لها، تجاه مصائب نسمع بها، لكننا نصر على
إغلاق مهجنا عن عارها، ونصدّها عن خياراتنا
وإلتزاماتنا. ما
يفسر في الحال، أن أيّ مشاهد عابر، وناقص الشحنات في
وجدانه، سيغادر قاعة عرض فيلم "أيكا" بعد
عشرين دقيقة، إن لم يكن قبل ذلك.
حسب دفورتسيفوي، بدأ إهتمامه بالحكاية حينما أطلع على
تحقيق صحافي جاء فيه، انه في العام 2010 وحده،
ولد 248 طفلاً
في مستشفيات الولادة في موسكو، لإمهات غالبيتهن من
أصول قيرغيزية مسلمة، تخلين عنهم الى رحمة القابلات
والممرضات، قبل ان يختفين الى الأبد، "أصبت
بالصدمة لفترة طويلة بعد قراءة هذا"،
كتب في كراس فيلمه، "كيف
يمكن أن يحدث مثل هذا الأمر؟ ما دوافعه؟. ما
السبب وراء تخلي هؤلاء الأمهات طواعية، وبشكل جماعي،
عن فلذات أكبادهن في مستشفيات بلد أجنبي. ما
الذي أرغمهن على ارتكاب مثل هذا الفعل غير الطبيعي لأي
امرأة، خصوصا من نساء ينتمين لثقافات آسيا الوسطى،
التي تقدس العائلة، وتضعها ضمن أولوياتها وإهتماماتها؟. يدور
هذا الفيلم عنا جميعا. عما
يحدث حينما تصل العلاقات بين الشخص وبيئته إلى مثل هذه
التطرف، الى الحد الذي يبدأ فيه التدهور الأخلاقي
العام. ان
الحياة، والطبيعة نفسها، يجب أن تتدخل في إجبار ذلك
المرء على إعادة التقييم والتغيير، حتى لو كانا،
أحيانا، ضد إرادته/ ها. ان
النازلة التي تلّم بالوليد الجديد، تتعاظم مظالمها من
ردهة ولادته، لتخترق دوائر يومية من خزي شامل، نقابله
في دكاكين مرتجلة، حيث تُستعبد سيدات عاملات على يد
وكيل لحوم سافل، قبل ان يفر بإجورهن. نتعرف
عليه، عبر أم مكلومة أخرى، تخفي وليدها داخل صندوق من
الكارتون، في غرفة معدات تنظيف تابعة لعيادة طبيب
بيطري عصابي. يُرعبنا،
في إجواء مهينة لقبو سكني، تتبادل "أيكا"(إداء
قوي من سامول يسلياموفا) فيه
مع عشرات من المهاجرين، أسرة قذرة، وتستخدم مساحات
زريبية، من دون تدفئة أو وسائل راحة إنسانية، في حدها
الأدنى. يُهيننا
ذلك الخزي، حينما نتتبع مذلّة الأم الشابة في إستجداء
أي عمل، لإيفاء دين مهربيها. وحينما
يقايضوها بـ"تهريب" وليدها،
من أجل بيعه لإسر ميسورة الحال، مقابل تسدّيد ما
عليها، نواجه معها ورزيئتها الصفراء سفالاتنا
المتعاظمة كبشر.
يرتهن صاحب "تولبان"(جائزة
تظاهرة "نظرة
ما" في
مهرجان كانّ، 2008)،
بطلته ضمن برزخ سعيري. إذ
تعاديها سماواته بزوبعة طبيعية، تجعل جيلانها ذا نفس
سيزيفي مرير وقهري. فيما
تصبح أرضه، حلبة إصطراع بين حظوظ متوالية عاثرة،
تحضّها عنوة، على إتخاذ قرار جُرمي بشأن وليدها، وبين
فضائل شخصية تنتكس الى نقائص مجتمعة، تحط من كرامتها
في كل ثانية من الـ110 دقائق
من زمن الفيلم. كما
تتحوّل عصابة المهربين ومطارداتهم لها، وجهاً مقابلاً
وقميئاً لقمع سلطوي متخف. يعرض
دفورتسيفوي عنه مشهداً إتهامياً فريداً وصارخاً لتواطؤ
ضباط روس مع صاحب نزل غير شرعي، وقبول رشوته. بيد
أن أمراً حاسماً، يبقى شاخصاً، يتعلق بجسد الشابة. أيّ
قوّة وبأس، شدا من عزمها، للوقوف ضد إستحقاقات ما بعد
الولادة؟. تنزف
إيكا مراراً. يسيل
حليب الوليد المغيّب من ثدييها بلا إرادتها. تعتصر،
كيانها، موجات رحمها الذي لم ينشف دّمه، ولم يستعد
وضعه الهرموني الطبيعي. ومع
ذلك كله، تصّر على الإيفاء بوعدها!
صوّرت البولونية يولنتا دايلفسكي وجه أيكا بلقطات
قريبة جداً، تعبيراً عن بلواها ووحدتها وإقصائها. بينما
تصبح تقنية الكاميرا المحمولة وحركتها المحمومة، باباً
بصرياً للإستفزاز الدرامي، حيث تدخل في كل مكان. تعبر
الحواجز
كلّها.
ترافق
البطلة
في
شوارع
جليدية.
تمر
معها
بعشرات الشخصيات
والأماكن
المنحطة.
عبرها،
مارس
الثنائي
دفورتسيفوي/
دايلفسكي،
في
ثاني
تعاون
بينهما،
من اللقطة الأولى وحتى الخاتمة ذات الدلالة
الإنتصارية، إرتجالاً إبداعياً مجيداً. يحرّض
مشاهده على تساؤل مضن حول الفواجع الآتية. لا
ريب ان هذه الأسلوبية،
تستعير
روحها
من
إشتغالات
الأخوين
البلجيكيين
جان
بيير
ولوك
داردان،
خصوصا
في
عمليهما "روزيتا"
(1999) و"يومان
وليلة واحدة" (2014).
بيد ان العصب الإبداعي لـ"أيكا"،
يكمن في إستعارته لفلسفة تيار الـ"دوغما 95"،
الذي أطلقه الدنماركيان لارس فون ترير وتوماس
فينتربيرغ، على الأقل في ميل دفورتسيفوي/
دايلفسكي نحو
الطبيعية المطلقة في تصوير
مشهديات "أيكا"
ضمن مواقع وأجواء حقيقية، ومثلها عفوية إداءات ممثليها
غير المحترفين.
لن يُفلت دفورتسيفوي بطلته من أمومتها. فالنهاية
لن تكون إلا حُكماً لـ"سر
المرأة" التي
تجعل من هذا الكون، رغم بؤسه، مرهوناً بولادة الرأفة
والإكتراث والتعاطف.حينما
تعود إيكا الى ردهة المستشفى لإستعادة طفلها. لن
يستنطقها أحد، أو يهينها موظف، أو يشكيها إداري، أو
تنال ممرضة من نخوتها الجديدة . فما
تفعل هو حق أم في نصرة بذرتها، وإعلان "مجيء
ثان" لوليدها،
وإنبعاثه الى حياة جديدة، من مهد غريب الى حضنها
الربّاني. تهرب
البطلة من قدر تسليمه الى رجل مجرم، ينتظر تصفية حسابه
معها، كي تتوجه بعزم نحو شجاعتها الشخصية. فالموكد،
ان الخوف لن ينال من قلبها، ما دامت روحها محصّنة
بالمحبة.