الأسرة هي، في المفهوم الوظيفي، مؤسسة
تختبر المجتمع العريض، وتبوّب علاقاته ونُظمه ووظائف
أفراده. مثلما
تُنسق روحه الجماعية، وتثبت مبدأ مساواتهم، فيما بينهم
وأمام القانون والأعراف على حدٍ سواء. قاربت
سينما المخرج المميز الياباني هيروكازو كوريدا، منذ
باكورته "مابوروسي"(الضوء
الوهمي، 1995)،
مشاعر عائلية وظنونها وإرتباكاتها، بإعتبارها مقياساً
حاسماً، لإنقلابات ملّتبسة أومتعجّلة أوذات مقاصد
شريرة، توصِل بعضهم الى قرارات صادمة، وفي غالبها
عنفية. سائراً
بذلك على خطيّ الكبيرين كينجي ميزوغتشي وياساجيرو
أوزو، اللذين وجدا في السلالات اليابانية المتعاقبة،
ثراءً درامياً لا مثيل له، صنعت أمجاده حروب متراكمة(كما
في ساموريات ميزوغتشي)،
أو صدّود عاطفية ولدّته حقبة ما بعد الهزيمة (كما
في "سينما
القرابات" لدى
أوزو). ما
صوّب عليه كوريدا في سينماه، هو مآلات عائلة حداثية, خاضعة
الى إشتراطات تراتبات طبقية، ورأسمالية وحشية وافدة،
وموت قيّم عامة، وإنحسار إيمان بصيغه المتوارثة.
في "مابوروسي"،
يموت الأب الشاب إيكو خلال حادث، لتعيش زوجته المكلومة
وضعاً عصيّاً، يدور حول سؤال مغلق: ما
الذي دفع به الى موت مجاني؟ أيّ خطأ أُرتكبته عائلته
الصغيرة؟ وماذا يعني للوليد غياب أبيه المفاجيء، قبل
ان يستفسر يوماً ما عن ملابسات رحيله؟. وفيما
ماحك كوريدا في هذا الشّريط، عقدة وفاة أحد الوالدين،
وهل يعني رحيله خراب أسرته ونهايتها الى الأبد. يطرح
في جديده "سارقو
المتاجر"،
المعروض ضمن المسابقة الرسمية، في الدورة الـ71
(8 ـ 19 أيار2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي
الدولي، سؤالاً مقابلاً: هل
تبقى عائلة ما، ضمن تعريف سوسيولوجي مطلق، كوحدة
حقيقية، في حالة إنضمام فرد غريب جديد إليها، وتبنيه
من قبل الجميع، ومن دون الإلتفات الى وحدة الدّم، أم
ان هناك توصيفاً أخر لها؟. يقول
كوريدا ان ما حرّضه على كتابة حكاية هذه الأسرة
الغريبة الأطوار، قول قديم يشير الى ان:
"الجريمة
وحدها هي التي تجمعنا!"،
وبما ان "الناس
يصرّون على أن الروابط العائلية مهمّة. سعيت
الى إستكشافها، من خلال تصوير أسرة مرتبطة بالمآثم". هذا
الإعتراف، يفسر فلسفة فيلمه، القائمة على مبدأ ان
الخطاة لا بد ان يقعوا في فخ مسلكهم وعثراتهم. وان
قصاصهم هو جزء من تصفية مظالم إجتماعية، يتعاظم عدد
ضحاياها، بقدر تعاظم زلّاتها.
لا يُسبّق فيلم "السارقون" تحاملاته
على هؤلاء الأفّاكين. هم،
في نهاية المطاف، نتاج مجتمع أناني، يَخوّن مَنْ قاده
قدره للعيش ضمن وضاعة مجتمعية، ويرغمه على إرتكاب حيل
ومكائد، تتعقد يوماً بعد أخر. نقابل
الأب أوسامو(ليلي
فرانكي) وولده
شوتا(كايري
جيو) داخل
متجر كبير، وهما يتآمران على موظفيه وفطنتهم الإدارية،
لسرقة ما يتمكنان منه. في
طريق أوبتهما، يصادفان تحت ستار ليل بارد، طفلة وحيدة
وجائعة تدعى جوري(ميو
ساساكي). يعطفان
عليها، ويضماها الى أفراد خمسة أخرين، يقطنون جميعا في
بيت محتشد بعشرات علب الغذاء الجاهز وأكياس الحلويات
وقطع الملابس وصناديق الخردة. تكون
أصغرهم، وأكثرهم وداعة وإنغلاقاً.تعاديها
لفترة وجيزة الزوجة نوبويو، لكنها تحتضنها بلوعة أم،
حالما تعرف ان الطفلة تعرضت الى عنف منزلي. هذا
الإنقلاب الوجداني، يحوّل الوافدة الى "قطعة"ثمينة،
يرتّب الجميع لها كل وسائل الراحة والتعاطف والأمان. ينبري "شقيقها" شوتا
الى تعليمها فنون الحيلة وأساليب الإنتهاب، فلا مكان
لشيء أسمه مدرسة في قاموس أسرته، تماما كما هو حال
العائلة الأخرى في شّريط كوريدا "لا
أحد يعرف"(2013). تقلده
لاحقا بخطواته كلّها، بما فيها لعبة أصابع، يستخدمها
لتخيّير نفسه بسرقة قطعة واحدة أم أكثر!.
يستخدم المخرج كوريدا بُنيته الصغيرة،
ليعرّفنا على أكثر شخصيات نصّه تألقاً، تلك هي الجدة
هاتسوي(الممثلة
المخضرمة كيلين كيكي). امرأة
حيزبون، تمارس المكائد والإحتيال والتمويه على مؤسسات
الدولة، منتحلة شخصية سيدة توفت منذ زمن طويل، إضافة
الى إبتزازها لعائلة ميسورة الحال. بيد
ان سطوت شخصيتها الكاريزماتية، تضع الجميع تحت عباءتها
وحرصها وتفانيها. هذه
صفات، يجمعها مشاهدو "سارقو
المتاجر" عبر
مشاهد مشعّة بكوميديا خفيفة، لكنها ذات جلال نادر.يقابلوا
عبرها عائلة متماسكة، شديدة التعاطف بين أفرادها، بما
فيهم الأخت الغائبة آكي التي تعمل في عروض التعري، من
دون ان تقع بالضرورة في عالم الدعارة. انهم
جيش أُسري، يخوض معارك يوميا، من أجل تأمين اللقمة
للجميع، والتي غالبا ما تدور حوارات العائلة حولها
وعنها ومواقيتها. تبقى
كاميرة مدير التصوير القدير كوندو ريوتو متفرسة بثبات
على نشاطهم داخل حيزهم الضيق، بيد انه يوسع من مشهديات
المدينة الصاخبة، ويحوّل شوارعها وأحياءها و دكاكينها
وقطاراتها، الى تخمين درامي ضمني، يشير بإصبع إتهامي
ضخم الى أن المؤسسة العميقة، مازالت تنتظر دورها للنيل
منهم. وحينما
يتحقق ذلك، تتفكك الأسرة بسرعة قياسية، بفواجع متتالية.
تموت الجدة، ويتم دفنها في الغرفة
الوحيدة داخل المنزل، لضمان تسلم معوناتها الشهرية
الحكومية. يرمي
شوتا بنفسه من جسر، حينما يحاصره أعوان الأمن، بعد
إرتكابه خطأ قاتلاً، سعى فيه الى تغطية سرقة بسيطة
قامت بها الطفلة، الأمر الذي يفتح للسلطات بطانة هذه
العائلة "السرية" ومصائبها. يلقى
القبض على الوالد وشقيقته وابنته. فيما
تعود الطفلة جوري، حسب القانون، الى أسرتها، لتواجه
عنفاً متجدداً. لكن
ما هو موكد أنها ورثت أصول "مهنة
مكر" خطيرة،
تعلمتها من أساطين حيل.نرى
دليلها حينما تلعب بأصابيعها على طريقة ذلك الـ"شقيق" القابع
في أحد مراكز التأهيل. تتشظى
هذه الأسرة، لإنها قائمة على أرضية خارجة على قانون
مجتمع عريض. لكنها
ايضا حسب صاحب "بعد
الحياة"(1998)،
و"الإبن
على سر أبيه"(2016)،
باقية عبر عشرات الأف من عائلات شبيهة "تجمعها
الجريمة"،
وتنتصر الى نظامها الخاص والضامن لروح وحدتها، وتواصل
سلالاتها، حتى يحين موعد فضحها.