شّريط الفرنسية أنياس فاردا ومواطنها المُصوّر
الفوتوغرافي جي آر، "وجوه أماكن"، تعبير إبداعيّ
وفتّان لما أُسميه بـ"سينما الطاقة النقيّة"،
وخاصيّاتها الديناميكية والإنقلابية، التي تجلّت في
إشتغالات قامات، أمثال كريس ماركر في "لا
جوتيه"(الرصيف،1962)، والآن رينيه "العام الأخير في
مارينباد"(1961)، والكتالاني ألبرت سّيرا "موت لويس
الـ14"(2016)، والتشيلي أليخاندرو خوذوروسكي "شعر
أزلي"(2016)، والأميركي ديفيد لينش "إريزيرهيد"(1977)،
والهنغاري بيلا تار "روزنامة الإنهيار"(1984)، والكوبي
همبرتو سولاس "لوسيا"(1968)، وغيرهم. سينما ذات
إجتهادات مفتوحة الآفاق، تلتقط تواريخ بشر وسلالاتهم
وطبقاتهم ومحيطهم، قبل ان تضعها في حيّز لا زمني،
بتأويلات إيديولوجية وسياسية تحريضية، غالباً. سينما
طليعية وتجريبية بإمتياز، لا تخشى ذوقاً فاسداً
وكسولاً، وتتحاشى الوقوع في هباء صوريّ، وإنغلاق
معرفيّ، بعيداً عن مثاقفة فارغة ومملّة. ما تنشده هو
مشاهد متمكّن وحركيّ وقابل للتطويع.
هذا المتفرج هو رجاء فاردا/ جي آر للجماعيّة، في
مجتمعات غارقة بأنانياتها وماديتها. يدعو "وجوه أماكن"
الى المثابرة والجسارة. فكرته تبدأ من لقاء بين
كائنين، هوسهما الوجوه. يقول "هو"، المشهور بنظارته
الشمسية في مفتتح الشّريط: "لم نلتق على قارعة طريق".
وترد "هي"، بأعوامها الـ88 وتسريحة شعرها المميّزة:
"ولم نلتق في محطة حافلات". إجتماعهما حدث في زمن
سينمائي متبدّل، فـ"هو" يكشف عن شغف قديم بـ"وجه"
ممثلة "كليو من 5 الى 7"(1962) لفاردا ، فيما تخبرنا
"هي"، لاحقا، عن إعجاب متأخر، بصورة وجهي عجوزين
كوبيين، ألصقها فوق جدران مصدّعة، مستغربة عثرة حظ لم
تقاطع بينهما من قبل.
ما يلي التلاقي، هو تشكّل كون سينمائي مدته 90 دقيقة،
نفذه 7 مدراء تصوير، ويقوم على "عفويّة مغامرة"، بحسب
صاحبة "بلا سقف أو قانون"(1985). وكما هو عنوانه،
فـإنّ "قنص" صور وجوه مواطنين عاديين، يعيشون في أماكن
مختلفة، هو مبتغاه، يتم من داخل سيارة "فان"، حولها جي
آر الى كاميرا عملاقة نقّالة، تصبح بؤرة متعتهما في
لقاء غرباء سرعان ما يتآلفون ويُشاركون في جلسات
تصويرية، تقترب من يوتوبيا أوبرالية ذات مسرح فسيح،
تنتج سلسلة بورتريهات مقرّبة(كلوز أب)، تُلزق على
واجهات عارية، وحيطان قديمة، وأبواب منسية، وحاويات
جبارة، ومكامن عسكرية، نازية مهجورة، وشوارع مزدحمة،
ضمن إستعراض تجهيزي لا مثيل في إبتكاريته. هذا نصّ
هائج بالتفاؤل ومفعم بالحركة. يمتدح ـ بلا إدعاء ـ
غبطة ربانيّة من حولنا. تتحول فيها قرى وبلدات وشواطيء
ودكاكين ومعامل وموانيء وحتى أسم المعلّم السينمائي
جان لوك غودار، الى نشوات متتابعة، تدفع مشاهدها الى
التبصّر بالحياة، كونها ليست يوماً عابراً أو حدثاً
يسقط من تاريخ كينونة ما، أومغزى فاسداً للوجود عند
كائن مضيّع.
الدنيا، في "وجوه أماكن"، نهج معقّد، يصنعه أبناء الله
على أرضه، بعزم دهري وعناد للإستمرار في عيشهم عليها،
سلاحهم إلفتهم. عليه، فليس لدى فاردا/ جي آر أيّ
تَسَتّر مشهديّ، أو حيل تقنية، أو إقتطاعات لمصائر
هؤلاء العابرين، بل دعوة تفاعل مع إكتشافات لا حدّ
لها، ما تحتاجه هو خدش حياءها، كي تتفجر دهشتها
الإنسانية. ترى ما الذي يدفعنا الى البهجة؟ جواب
الثنائي هنا مُحفّز وأصيل: الإستبشار!. ذلك، ان الصورة
لديهما هي قرينة مبتكرة وفاتنة للسعادة، وكل واحدة
تُلصَق، يعني ان تاريخاً جديداً كُتب لصاحبها/تها. أنه
خلود مزدوج. فمن ناحية تَصنَع عدسة المصور لحظة
فوتوغرافية سرمدية، تقول فاردا: "أصور الوجوه فوراً كي
لا تضيع في فجوات ذاكرتي". بينما توثّق كاميرا
السينمائي مشهداً عاماً، ستتكرر عروضه على الشاشات
ملايين المرّات. سنرى صور أُناس يقضمون خبزاً فرنسياً
طويلاً، على جدار ريفي. وأخرى قديمة، لعمال مناجم فحم،
على جدران منازلهم قبل هدمها، تحية لحقبة مؤلمة. أما
حكاية الفلاح أميل، الذي خطف حبيبته أميلي ليتزوجها في
مطلع القرن العشرين، فستجد سرمديتها عبر صورتهما
الباهتة، وهي مُلصقة على جدار منزل حفيديهما، عام
2016. ولن يُنسى الفصل الخاص بعمال مصنع كيميائيات،
ولقطتهم الجماعية الراقصة، و"خلودها" تحت هواء طلق.
تصبح المرأة، الضيئلة الحجم، أكبر من ظنون الأخرين.
سيدة ديناميكية وخلاّقة، تعلن: "أنا لا أُخفي شيئا
مطلقاً. أنا أعيش الحياة"، لتقودنا الى قلب طاقتها
النقيّة. تتحوّل سرديات فاردا/ جي آر وزبائنهما عناوين
لقِيَم مثل التكافل، كما في حكاية ساعي البريد وكرم
الفلاحين معه. والقناعة، كما لدى جامع الخرداوات،
الفنان بوني. والشفاعات، كما في قصة راعية ترفض إزالة
قرون ماعزها. والعرفان، كما في زيارتهما قبر معلّم
التصوير كارتييه بروسّون، والتجسيد التهكمي لركضهما
الشهير في أروقة اللوفر، تشبهاً بشخصيات فيلم غودار
"فرقة الغرباء"(1964)، ليختتما سفرتهما عند باب منزله
في بلدة لور السويسرية سعياً للقائه، بيد ان "جاكو" ـ
الغائب عن صورتهما ـ سيتجلى في مقطع سحري، عندما يخلع
جي آر نظارته الداكنة، لمرّة واحدة وأخيرة، أمام ناظري
شريكته السينمائية، كما فعلها مخرج "وداعاً للّغة
"(2014)"، بعد إلحاح مخرجة شابة تدعى أنياس فاردا،
اِكتشف موهبتها في ستينات قرن مضى، كي تصوّر بريق
عينيه، قبل ان تثوّر فينا ـ عبر "وجوه أماكن" ـ مزاج
السينما، وتُمتّن إيماننا بعجائب طاقتها النقيّة.