مع إعلان المعلّم النمساوي ميشائيل هانِكه(29
يناير2018) عزمه على إنجاز سلسلة روائية تلفزيونية ـ
مؤلفة من عشر حلقات ـ كمشروع مقبل، يقارب فيها تعاليم
هويات وإنتماءات تحاصر شباباً أوروبيين تهبط طائرتهم ـ
إضطرارياً ـ في مكان مستقبليّ، يكون على أتباعه ـ
الولوعين بنصوصه الصدامية ـ الإنتظار طويلاً كي يحتفوا
بتحف جديدة من عيار "الشريط الأبيض"، لفائز بجائزة
"السعفة الذهب" في الدورة الـ62(13 ـ 24 مايو/ أيار
2009) لمهرجان "كانّ" السينمائي، و"حبّ" الحاصل على
"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي(2013). بيد ان هانِكه لم
يختفِ نهائياً، فنصّه "نهاية سعيدة" خاض سباقاً في
المسابقة الرسمية للدورة الـ70(17 ـ 28 مايو/أيار
2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي، من دون تحقيق دويّ
معتبر، رغم بصيرته المتأنية فيما يتعلق بالنظرة
الإستعلائية، وإشاراتها التأثيمية لحملات العداء ضد
الغرباء ومخيمات لاجئي "كالي"، المدينة الفرنسية
الساحلية. هل أسيء فهم مقاصده آنذاك، أم ان القلوب
تحجرت؟ بدا جلياً ان ما أنجزه هانِكه لم يطب كثيراً
لنعرة شوفينية، ولم يسايرها، هي الساعية الى أبلسة
عابري حدود، وخادشي صفاء مِلّة بيضاء. تدور حكاية
"نهاية سعيدة" حول تفكّك روابط عائلة برجوازية، يهيمن
عليها جدّ كهل بطريركي النزعة، يظنّ ان الجميع من
حوله يخون أماناته.
في مفتتح الشريط الفاتن بسكينته، يُصوّر هانِكه إنهيار
جدار عملاق، ممهداً لجفاءات مبطّنة بين أفراد يسعون
الى سطوات مدمّرة. يتحاشون، في مناوراتها، إظهار وحشية
لا تتماشى مع أخلاقيات طبقتهم أو محتدهم، مُسلّطين
حيفهم بلا هوادة على خدمهم، أو مَن يشرفون على توفير
متطلبات رخائهم. هؤلاء "الإنقياء" مجموعة أنفس شبحية،
مزهوة بأناقات مفرطة، وعزلات مضطربة. الأبنة البكر
آن(إيزابيل أوبير) تقود إمبراطورية بناء وعقارات
ورثتها عن أب مستبدِّ يدعى جورج لوران(جان لوي
ترانتينيان)، لا يخشى إعلان عجرفته وإزدرائه من حوله.
تفرض عليها مشاغلها "قمع" عواطفها. سيدة قصر عصرية،
تتحرك وكأنها شخصية روائية مستلّة من عوالم القرن
الخامس عشر الفرنسي، حيث تصبح صرامتها عنواناً لخوف
مزمن من موت سلالتها.
تدور حول هذه المرأة المتجبّرة حفنة رزايا بشرية.
إبنها بيار(فرانز روغوفسكي)، الذي يُفترض به أن يكون
خليفتها في إدارة شؤون الإمبراطورية التجارية، لا
يتردد في صدّها وتعنيفها، كونها نموذج تفرقة طبقية.
شاب "سايكوباثي" ومتنّمر يضع أهله، بسبب نّزقه، لدعاوى
قضائية. شقيقها، الطبيب توماس(ماثيو كاسوفيتز)، كائن
شبق وخوّان، تكنّ له إبنته إيف إبنة الأعوام الـ12
عاما، إحتقاراً علنياً، "لإنك لم تحبّ أمي، ولا تحبّ
زوجتك الثانية أنياس. أنت لا تحبّني"، وتنغلق في هوسها
بمنصّات تواصل إجتماعي ـ يستغل هانِكه لقطاتها
التلصّصية طوال فيلمه ـ بحثاً عن حنوّ تفتقده في عائلة
شبه صامتة. تعبيراً عن هذا الخرس، يتعمد صاحب "ألعاب
مسلية"(1997) تفريغ حوارات أبطاله من مؤانساتها،
ويجعلها متقشّفة وباردة وحدّية. لا يحتاج آل لوران
المهووسون بذواتهم الى الألفة، فهي متوفرة في ديكورات
محيطهم البهيّ والشديد التناظر، التي صممها أوليفر
رادو، بفخامة أرستقراطية، أكثر مما على ألسنتهم. هؤلاء
قوم لن يقدّروا نعمتهم، لان "كل من حولنا، العالم
ونحن، عميان"، كما يلخص هانِكه شّريطه.
يرفض مخرج "رمز مجهول"(2000) مواساة شخصياته. فهي
تتحمل عنفها وخطاياه، وأنانيّة دوافعه. هكذا، تُهان
كرامة أستاذة الموسيقى أريكا(أوبير)، بطلة "معلمة
البيانو"(2001)، على يد طالب غريب سافل، لتطعن نفسها
إنتقاماُ. مثلها، يحمل التلفزيوني الشهير جورج(دانييل
أوتوي) عاره، بعد مشاهدته إنتحار صديق صباه، الجزائري
مجيد(موريس بنيشو)، أمامه، تكفيراً لكرامته إثر إتهامه
بإرسال فيديوهات ترهيب، في "مخفي"(2005). في "نهاية
سعيدة"، تمتد الغلاظة الى أقصى همجيتها. يصوّب فيها
ضيوف آل لوران برودتهم نحو زوجين مغربيين أجيرين، هما
رشيد(حسام غنصي) وجميلة(نبيهه عكاري)، ولاحقا نحو
مهاجري "كالي". فتواجدهم كجوقات يمثل شرّاً وافداً،
يلمح ميشائيل هانِكه عبره الى ضيق عرقي فرنسي مكتوم
بجرعات جارحة، والى أن إنخراط هذه البرجوازية البيضاء،
وتفعيل وجودها ضمن عالم خارجي، هو نفاق كبير. لن تكون
نظرة الرعب الجماعية للرهط الأرستقراطي، وهم يُرغمون
على قبول مجموعة أفريقية، أدخلها الابن بيار لمشاركتهم
مأدبة غداء، سوى تَمَثّل مدهش لشرح ميشائيل هانِكه في
حوار مع "فيلم كومنت"، المجلة السينمائية الأميركية:
"إنّ ردّ فعل الأسرة تجاه تلك الأزمة مثال نموذجي جدا
لسلوكنا الجمعيّ في ما يسمى بـ "العالم الأول". نحن
نعلّل أنفسنا بآلام ثانوية، رافضين رؤية المشاكل
الحقيقية التي تواجه الإنسانية. نحن نفضّل الجهل. نحن
نعيش في مجتمع جهل وإنطوائية مفتعلة. نحن نفضل أن
نُشغِل أنفسنا بوجودنا الصغير. هذا هو السبب في أن
الفيلم مهزلة. إن المآسي الحقيقية تحدث هناك في العالم
الثالث".
رغم سوداوية "نهاية سعيدة"، فأن ما أنجزه مدير التصوير
النمسوي كريستيان بيرغر، في خامس تعاون له مع هانِكه،
إنتصر لبيئة شديدة الضياء والآفاق المفتوحة، ذلك ان
الخارج عصيّ على الإحتواء، ويبقى متاحاً للجميع. لذا،
لن يستغرب المشاهد من إقتحام فورات نورانية لحجرات
قلعة آل لوران، لأن "النور يُشرق في الظُلمَة،
والظُلمَة لا تقوى عليه".