شعار الموقع (Our Logo)

 

 

"لقد عرفت الحياة من خلال الأفلام، مثلما عرفها بورغيس(1) من خلال الكتب.." (بيرتولوتشي)

مقدمـة

خلف الأفلام الإيطالية المجددة والمبتكرة في السبعينات كان يقف صف من المخرجين الكبار أمثال فرانشيسكو روزي، ماركو بيلوتشيو، وورثمولر، ماركو فيريري، و إتور سكولا، أولئك الذين أنتجوا أفلامهم الأولى في فجر ميلاد ماسمي حينها بـ " الموجة الجديدة ". من بينهم جميعاً برز إسم بيرناردو بيرتولوتشي الشاعر الريفي الشاب، والمتمرد المناهض لجميع تلك المؤسسات الإجتماعية والدينية والسياسية التقليدية التي كانت قائمة في إيطاليا آنذاك. هذا الشاب القادم من الشعر الى السينما دخل روما العاصمة ليقول كلمته: (أريد أن أغيّر العالم !).. يقول بيرتولوتشي، وهو يعود بذاكرته الى تلك السنوات: ".. كانت الستينات فترة متألقة حقاً بالنسبة للسينما. أحسست يومها بإنتمائي الروحي الى سينما " الخندقة " تلك التي إنتشرت آنذاك مثل النار في الهشيم، مقتحمة إيطاليا، فرنسا، بريطانيا، كندا وأمريكا و.. محتمل البرازيل..

كنت مسحوراً بشكل خاص بجودار وراسنيس، تروفو، ريفيني، ورومير وآخرين.. أتذكر أن النقطة أو وجهة النظر التي كانت سائدة آنذاك وسط الموجة الجديدة العارمة تلك، والتي كنا نلتق عندها جميعاً، هي رفض الحكاية أو القصة أو الحبكة في أفلامنا.

إن كل ماكنا نسعى إليه هو أن نتحدث عن السينما لاغير، السينما نفسها في أفلامنا!. بمعنى، إننا كنا كمن يعمل فيلمين يسيران معاً في فيلم واحد، أحدهم يحكي قصة، والآخر هو أشبه ببحث أو محاولة تجريبة، تختبىء بين السطور." (2)

منذ طفولته، وكان نشر قصائده الأولى في الدوريات الأدبية قبل بلوغه الثانية عشر من عمره.  في سنواته العشرين، وحين كان طالباً في جامعة روما، فاز بجائزة الشعر الوطني، بمجموعته الشعرية الموسومة "بحثاً عن اللغز". كان بيرتولوتشي قد أبدى في مراهقته حماسة ورغبة نحو السينما، تلك العدوى التي إنتقلت إليه من والده، الذي كان يصطحبه دائماً معه الى صالات السينما لمشاهدة الأفلام. وقد عمل حينها فيلمين قصيرين  "15 دقيقة مقاس 16 ملم" هما "تيليفريك " و "ذبح الخنازير". غادر مقعد دراسته في الجامعة عام 1961 ليلتحق ببازوليني كمساعد مخرج في فيلم "الشحاذ" وسيظل بيرتولوتشي يتذكر تلك الفرصة التـاريخية في كل مناسبة بفخر وإعتزاز، تلك التي لم تتاح لأي من مجايليه الشباب آنذاك.  الواقع إن الفضل كله في ذلك يعود لوالده أتيليو بيرتولوتشي، الذي سعى حينها جاهداً على نشر أول رواية لباوزوليني، وهكذا جاءت تلك الفرصة التي منحها لبيرتولوتشي كنوع من رد لذلك الجميل.

أخرج بيرتولوتشي فيلمه الأول "الوحش المرّوع أو الموت "(3) بعد عام تماماً، والذي أقتبس من قصة لبازوليني بنفس العنوان، تتحدث عن عملية إستجواب تجري مع مجموعة أشخاص متهمين في قتلهم إحدى المومسات، إلا أن ذلك الشريط لم يحقق للمخرج الشاب طموحأ يذكر، على العكس من ذلك، فقد سبب له إحباطاً كبيراً، وكارثة مالية للمنتج وأحدث ما يشبه الصدمة في الوسط السينمائي النقدي.  بعدها أمضى عامين للتحضير لفيلمه الثاني "ماقبل الثورة" الذي سيثير إنتباه السينمائيين والنقاد على حد سواء نظراً لنضجه الفكري والجمالي، معلناً بذلك ميلاد مخيلة سينمائية مجددة ومبتكرة.

الفيلم أشبه بسيرة ذاتية أومذكرات شخصية، وإستكشافاً رومنتيكياً للحساسية الثورية لجيل شباب متمرد وغاضب، صّور فيه بيرتولوتشي النزاع صعب التوفيق، بين روح الثوري السياسي وبين الروح البورجوازي، ذلك الذي كان سائداً ليس فقط وسط الشباب الإيطالي، بل نزعة سادت عموم شببيبة العالم آنذاك. وقد تجسدت تلك الحالة بوقوف بطله منشطراً بين عالمين متعارضين هما عالم السياسة وعالم الجنس.  يومها، كان بيرتولوتشي واحداً من السياسيين الناشطين في الوسط الثقافي الإيطالي، وقد إعترف في أكثر من مناسبة أنه ماركسي، إلا أنه رغم ذلك، كان قد إستخدم أشرطته السينمائية تلك كوسيلة للتعبير عن رؤاه السياسية الخاصة. كانت شخصيات الفيلم تحمل نكهة ستاندالية، إلا أن أحاسيسها بيرتولوتشية خالصة، وبيئتها الجغرافية ليست فرنسية بل إيطالية محضة. كان الفيلم تعبيراً تاماً عن الأوهام الرومنتيكية. لكن، ورغم ثغراته الأسلوبية والإفراط في محاكاته لمعالجات غودار، إلا إنه أثار إهتمام الكثير من النقاد في أوربا وأمريكا، الذين هتفوا له ورحبوا به حينها، لينال في الآخر جائزة " ماكس أوفولس " في فرنسا.

في عام 1968 يستعير بيرتولوتشي ثيمة فيلمه القادم "الشريك" من دوستويفسكي وروايته "المزدوج" إلا أنه ينقل بيئة أحداثها من بيترسبورغ أربعينات القرن التاسع عشر الى إيطاليا أواسط الستينات. كان الفيلم بحثاً سيكولوجياً عن حالة الفصام التي تعيشها شخصية البطل، إلا إن المناخ العام الذي يحيط بتلك الشخصية، كان سياسياً. من هنا يصبح الفيلم بمثابة شهادة إدانة سياسية صارخة ضد أمريكا في حربها على فيتنام، وذلك من خلال الهجوم الساحق ضد بورجوازية روما المعاصرة، تلك المرآة التي كانت تعكس وجه برجوازية العالم الرأسمالي كله.  1970 هو العام الحاسم في مسيرة ومهنة بيرتولوتشي، حيث قام بإنجاز فيلمين للتلفزيون الإيطالي، الأول " مكيدة العنكبوت " المأخوذ عن قصة جورج لوي بورغيس " الخائن والبطل " وهو فيلم روائي قصير تزامن إنتاجه مع الفترة التي خضع فيها بيرتولوتشي حينها الى علاج نفسي مكثف وطويل، وإنعكست آثار تلك العلاجات السيكولوجية كما المرآة على رؤى المخرج في معالجاته للفكرة وبناء الشخصيات في هذا الفيلم وفي أفلامه القادمة الأخرى.

إنه فيلم يتحدث عن إبن قدم الى المدينة التي عاش فيها أبيه المغدور بحثاً عن قاتله الفاشي، والذي يتكشف فيما بعد أنه قتل من قبل رجال المقاومة الذين كان يعمل معهم، بسبب خيانته لهم وتعاونه مع الفاشيين. الخطان السيكولوجي والسياسي في هذا الفيلم يسيران أيضاً بشكل متواز من خلال العقدة الأوديبية من جهة، وتعرية الأيدلوجية الفاشية من جهة أخرى.

لكن هذا المزج الهرموني بين الفكر وعلم النفس يجد له تعبيراً أوضح وأدق في فيلمه الثاني "الممتثل" المقتبس عن رواية البرتو مورافيا، وهو أحد أفضل أفلام السبعينات، من خلال طرح سؤاله الأساسي حول مغزى وجدوى الوضع السوي والمتوازن وسط عالم الفاشية المشوه والبغيض.  إنه ميلودراما رومنتيكية وفيلم حول العلاقات الجنسية في نفس الوقت، لعب فيه جان لوي ترينتيان دور رجل يختفي داخل ثياب قاتل فاشي، فيما دومينيكو ساندا وستيفانا تمارسان السحاق.  الفيلم كان تعرية لجوهر الأيديولوجيا الفاشية، و دراسة تأملية للعلاقة مابين مفهوم الشعب ومفهوم الأمة، عبر موشورالمزاج الشعبي والذاكرة الجماعية.

مامّيز أفلام بيرتولوتشي في هذه المرحلة هو نضج إسلوبه الإنطباعي في السينما، ذلك الذي إستطاع أن يجمع في مضامينه بين الأدب والسياسة والتلميحات الفلسفية، والإستخدام الفطن لنظرية فرويد في التحليل النفسي. أما في الجانب التقني والجمالي، فقد إستخدم الكاميرا كعنصر مشارك وليس موضوعي محايد كما هو الحال عند بازوليني مثلاً، بل كعنصر فاعل في الحدث. كذلك إستخدامه المونتاج الإيقاعي والظلال والضياء، والتعليق الشعري المركبّ والتغريبي والمختزل في المشهد متماهياً بعض الشيء وإستخدامات فيلليني. تميزت أفلامه أيضاً باللقطات البانورامية للطبيعة تلك التي كانت تعكس التكوينات والألوان الإيطالية لرسامي عصر النهضة اإيطالي. أما الميزة الأساسية التي طبعت أسلوب بيزتولوتشي الآن وستتواصل معه الى الآخر، فهي إستخدامه الخلاق لفن الإرتجال على صعيد السيناريو والتصوير والعمل مع الممثل، فكل شيء سيتغير في موقع التصوير !!.

التانغو الأخير في باريس

في فيلمه " التانغو الأخيرفي باريس " يقتحم بيرتولوتشي هذه المرة، المناطق المحظورة والبدائية لمملكة الإنسان، حيث العواطف عارية، نقية وصادقة، كنوع من الحلول المفصلية للعثور على الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء القطيعة القائمة بين البشر.  إنه فيلم ملكَ جرأة ثيمات وتقنيات جودار، وقوة عُري الجسد الإنساني عند بيرغمان.

التانغو الأخير هو فيلم يحكي عن التعارض وصعوبة المصالحة بين الماضي والحاضر وإستحالة إقامة صلات بين البشر. أما الجنس فيأتي هنا كمحاولة أخيرة لقيام تلك الصلة، والتي تتوّج في الآخر بالموت، كنوع من خيبة الأمل في تحقيق ذلك المسعى،  حين تقوم جيني " ماري شنايدر " المستغرقة في أوهام الحاضر، بقتل عشيقها، القابع في سجن الماضي بول " مارلون براندو ".  يقول بيرتولوتشي: " إن لقاء الرجل بالمرأة، هو بمثابة لقاء بين ثقافتين، وبما أن كل ثقافة تتعارض مع الثقافة الأخرى بالضرورة، يغرم العاشقان بعضهما ببعض. يغرمان ببعضهما فقط لأنهما مختلفين.  لكن، وبسبب هذا الإختلاف ذاته، ينفصلان عن بعضهم البعض في الآخر.. " (3)  في هذه المرحلة إضطر بيرتولوتشي، وعلى خطى مواطنه فيسكونتي في إستخدام نجوم هوليوود من الممثلين في لعب الأدوار الرئيسية لأفلامه، وذلك بسبب الأزمة الإقتصادية التي عصفت بصناعة السينما الإيطالية آنذاك، والتي دفعت بالكثير من المخرجين الإيطاليين آنذاك الى عمل أفلام مشتركة مع شركات أجنبية (فرنسية، سويدية وألمانية) ولم يكن بيرتولوتشي إستثناءاً.

ففي " التانغو الأخير في باريس " مثلاً كان هناك ممثل إيطالي واحد فقط لعب دوراً رئيسياً في الفيلم وهو ماسيمو جيروتي. الفيلم أثار جدلاً واسعاً في جميع الأوساط، ولعنته المحاكم الإيطالية على وجه الخصوص وإعتبرته فيلماً فاحشاً غير محتشم، يخاطب الغرائز الدنيا، بسبب مشاهده العارية الصريحة.  وكان قد صودر من قبل الرقابة وأتلفت جميع نسخه. لكن، بعد سنوات وبعد إن خف غضب المؤسسات القضائية والدينية وخمد سعير النار البيوريتانية، نتيجة التغييرات التي طرأت على الكثير من تقاليد وطبائع الناس في إيطاليا  والعالم، وبعد أن ألغيت الرقابة، ظهر الفيلم الى الضوء ثانية، حيث كان بيرتولوتشي يومها قد خبأ النسخة السرية للفيلم ! " الجنس عام 1968 " يقول بيرتولوتشي " كان يعتبر عنصراً قوياً ومؤثراً، وكان يسير على جادة واحدة بشكل متزامن مع السياسة والموسيقى والسينما. كان كل منهم يرتبط ويقترن بالآخر، وهذه سمة عظيمة سمت تلك الفترة، والتي يفتقدها أبناء هذا الجيل اليوم، رغم أنهم ليس المذنبون في ذلك. " (3)

إن عقدة " الأب " وصداها الأوديبي ـ الفرويدي تتسلل الى جل أفلام بيرتولوتشي، فتعثر عليها في مكيدة العنكبوت عبرعلاقة الإبن بعشيقة أبيه المقتول، وفي التانغو الأخير في باريس عن طريق بول الذي يكتشف أنه إبن زوجته المنتحرة، وأنه والد الفتاة التي يعشقها.  حين شاهد والد بيرتولوتشي فيلم التانغو الأخير في باريس قال لولده معلقاً: " أنت ذكي يا برناردو. لقد قتلتني مرات عديدة، دون أن تذهب الى السجن.. " (4)  حقق الفيلم لحظة رؤيته النور رقما قياسيا في شباك التذاكر بسبب جرأته موضوعه، وكذلك بسبب قوة سحر وجاذبية مارلون براندو، الممثل المثير للجدل، والى جانبه ساحرة الشاشة ماري شنايدر. لقد برهن بيرتولوتشي مرة أخرى أنه مخرج يملك موهبة متميزة ومن نوع خاص، وأن أفلامه حية نابضة يرتادها الجميع، بسبب قدرتها على الجمع بين الحس التجاري والجمالي في آن.

فيلمه التالي (1900 أو القرن العشرين) أنتج عام 1976، وهو الملحمة التي تغطي فترة زمنية امدها سبعون عاماً من النزاعات الأجتماعية والسياسية في مقاطعة إيميليا الإيطالية، مسقط رأس المخرج.  إنه قصة إيطاليا منذ موت فيردي مروراً بظهور الفاشية وصعودها وإنتهائاً بسقوطها. كان الفيلم أثار جدلاً واسعاً ليس فقط بسبب موضوعه المناهض للفاشية وكذلك صراحته الجنسية وعنفه النابض، لكن أيضاً بسبب طوله غير العادي، فقد كان طول النسخة الأصلية التي عرضت في مهرجان " كان " تقرب من الخمس ساعات ونصف الساعة، ناهيك عن أدوار البطولة التي لعبها بيرت لانكستر، دونالد ساثيرلاند، وروبرت دي نيرو.

في الأعوام مابين 1979 ـ1981 أنتج بيرتولوتشي فيلمين هما فيلم " القمر " وفيلم " مأساة رجل مضحك "، إلا أن ذروة مجده تجسدت أخيراً في فيلم (الإمبراطور الأخير) 1987، الملحمة الضخمة التي أعادت، عبر الألوان الباهرة والديكور المتقن والأزياء ذي الحساسية العالية، الفصل الأخيرمن مجد وأفول تأريخ الأسرة المالكة في الصين عبر شخصية Yu Yi آخر إمبراطور صيني. تابع الفيلم مسار معاناة الأمير الوارث للعرش الملكي منذ طفولته وحتى شيخوخته التي توجّت بالسقوط والإذلال التام تحت ظل الحكم الشيوعي بقيادة ماو، الذي أحال الإمبراطور إلى بستاني يخدم في قصر الحكومة الشيوعية. ساهم في هذا الإنتاج الضخم المشترك كل من إيطاليا وبريطانيا و الصين، و حصل الفيلم على 9 جوائز أكاديمية متضمنة أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو.

في عام 1990 أنجز بيرتولوتشي فيلمه " السماء الواقية " المقتبسة ثيمته عن رواية الكاتب الأمريكي بول باولي، تبعه بعد ثلاثة أعوام بفيلمه التأريخي الملحمي الشهير " بوذا الصغير " المقتبس عن قصة هيرمان هيسة " Siddhartha " والتي تحكي قصة الأمير سدهارثا والإله بوذا.  إنه فيلم تأريخي عن الديانة البوذية، تضمّن حبكتان، الأولى تتناول قصة الكاهن البوذي الذي يبحث عمن يتقمص شخصية أستاذه المتوفى، والثانية تحكي قصة سدهارثا أميرغواتيمالا، الذي هو بوذا.  وقد بلغت كلفة الفيلم حوالي 35 مليون دولار.

في العام 1998 أخرج بيرتولوتشي فيلم تلفزيوني بعنوان " المحاصر " مأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب الروائي جيمس لاسدن، كتب السيناريو معاً وكلير بيبلو، وهو يحكي قصة فتاة اأفريقية تهرب من بلدها نتيجة للقمع السياسي الذي تمارسه السلطة الدكتاتورية هناك، حيث يُعتقل زوجها نتيجة لمناهضته السلطة، وتتعرض هي للملاحقة. في روما، حيث يستقر بها الحال، تسعى لمتابعة دراسة الطب، هناك تلتق بشاب إنكليزي منعزل في بيته، وتنشأ علاقة حب بين هذين المغتربين، علاقة حب بين قارتين، بين ثقافتين، نوع من المزاوجة بين الموسيقى الأوربية والغناء الأفريقي.

رجل وإمرأة وبيانو ونافذة تطل على السنوات العاصفة لنهاية القرن. إن علاقة الحب تلك لايمكن أن تستانف كعادة بيرتولوتشي في كل أفلامه، لكنه يضع لها بديلاً، كنوع من التوهج لأمل يخبو، وتحل التضحية خطاباً جديداً لبيرتولوتشي، فيقوم الموسيقي الشاب، وتحقيقاً لحلم الفتاة، ببيع كل مايملك، وآخره البيانو، لإنقاذ زوج الفتاة من سجنه في قارته السوداء.

يعود بيرتولوتشي في هذا الفيلم الى أسلوب غودار في إستخدام السرعة والحدة والخشونة في تقطيع اللقطات والمونتاح ذي الوثبات، والكاميرا المحمولة على الكتف.

"الحالمون" 2004 هو آخر فيلم لبيرتولوتشي، يستعيد فيه المخرج مرة أخرى أجواء السيتينات وإضرابات الطلبة، إلا إن الراديكالية هنا هذه المرة تتخذ لها شكلاً جنسياً وليس سياسي، بإعتبار الجنس عنصراً محظوراً آنذاك، وهو في نفس الوقت إسقاطاً معاصراً على أوضاع الشبيبة اليوم. الفيلم هو احد أسوأ أفلام بيرتولوتشي حب إستفتاءات المتفرجين الشباب على وجه الخصوص، لأنه يوغل في ممارسات الجنس لدرجة تتيح له السماح بسفاح القربى، على الرغم من أن الجنس هنا مشرق، خفيف ومبهج، وهوعلى التضاد من الجنس الذي كان معتماً، ثقيلاً ومأساوياً في التانغو الأخير في باريس.

يظل بيرتو لوتشي دون ريب، أحد أهم المخرجين السينمائيين المعاصرين مثاراً للخلاف  والجدل، بسبب جرأة ثيماته التحريضية، تلك التي دفعت الناس الى إعادة النظر في أنفسهم و مجتمعهم، وهو الذي إستطاع حقاً أن يدفع بتخوم التقاليد والأعراف السائدة الى الصفوف الخلفية.  إنه مثل بيرغمان، فلليني، كينجي، وأورسن ويلز، هؤلاء الذين حاولوا من خلال أشرطة أفلامهم أن يعيدوا تأويل العالم، وأن يزيلوا القذارة عن وجه التأريخ. (ع. ك.)

يصف " لورانت تيراد " في كتابه (5) إنطباعاته الأولى عند رؤيته بيرتولوتشي لعمل هذا اللقاء معه، بقوله:  (.. إذا ردت وصف بيرناردو بيرتولوتشي، فإن المفردة الأولى التي تخطر في ذهني هي " الهدوء ". الجميع عرفه في السبعينات ثائراً، مسعوراً، ومتمرداًً، في تلك الأوقات المتفجرة الصاخبة التي أزهرت حينها باقة من أفضل أفلامه السياسية التحريضية الألقة.  لكنني، حين جلست وأياه، أصغي اليه بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على ذلك، لم أستطع أن أتوقف عن التفكير في الحافز الذي دعاه في الفترة المتأخرة أن يعمل فيلماً عن بوذا. صحيح، أنه مازال يوجد قليل من ألق ماكر في عينيه، وأزعم أنه كان لزام عليه أن يغضب أحياناً، لكن لم يحدث أي شيء من  هذا هنا.. لاشيء سوى.. الهدوء.. الهدوء، وهو يشع من وجهه وعينيه في ذلك اليوم، حيث تقابلنا في مهرجان " لوكارنو السينمائي " في سويسرا. كان يشعر بيرتولوتشي وسط الناس في ذلك المهرجان بنوع من الفخر بشخصه وأفلامه.

الناس يتذكرونه دائماً لفيلمه " التانغو الأخير في باريس " و " الإمبراطور الأخير " (والذي حصل عبرهما على تسعة جوائز أوسكار). إلا إنني أعتبر فيلم " الممتثل " كان الأعظم من بين كل أفلامه، بسبب إحتوائه على كل العناصر التي تجعل من أعماله خصبة، مؤثرة، وقوية جداً: الرؤية السياسية، المنظور التأريخي، مأساة الكائن البشري، التمثيل الفانتازي، ومحتمل الأفضل في معالجته الضوئية، تلك التي كان يقف ورائها خيال " فيتوريو ستورارو" (6) الخلاق، الذي هو أحد أفضل مخرجي فن الفوتوغرافيا في العالم حساً في الضوء واللون والتكوين والإيقاع، وأشهر المصورين السينمائيين معرفة بإمكانيات الكاميرا السينمائية في إعادة خلق العالم التخييلي للفنان، وهو الذي عمل تقريباً في كل أفلام بيرتولوتشي..

حين طلبت منه في ذلك اللقاء أن يعطينا درساً من خبرته الإخراجية في السينما، إبتسم قليلاً، ربما، بسبب نبذه لفكرة الدروس السينمائية، تلك التي ُتذكّر برمادية النظري وقاعات الدرس، أو ربما بسبب رفضه لأساتذته السينمائيين في الستينات وعدم رغبته في العودة ثانية الى تلك الأيام. إلا إن المدهش، هو أنه أبدى موافقته بكرم وتواضع جميلين على عمل ذلك اللقاء، بل أثبت في النهاية، وعلى العكس من مزاعمه، أن في جعبته الكثير ليقوله ويقوله بهذا الشأن...).

(هدف الفيلم هو أن يحّلق بنا الى مكان آخر مختلف تماماً)

لم أذهب للدراسة في معهد أو كلية سينمائية لدراسة السينما على الإطلاق. كنت محظوظاً جداً، أنني عملت في شبابي مساعداً في أفلام بيير باوزوليني، وهناك تعلمت حقاً، اسرارالإخراج.  كنت و لسنوات عديدة، فخوراً بعدم حاجتي للتوجيه النظري، ومازلت حتى الآن، أؤمن أن أفضل معهد أو كلية ممكنة هو موقع تصوير الفيلم، المكان الذي يتم فيه تصوير أحداث الفيلم. هذه النقطة الأولى.  لابد لي هنا أن أنوه أن الفرصة التي أتيحت لي للعمل مع باوزوليني لايمكن أن تتاح لأي واحد.

النقطة الأخرى، أن دراسة كيفية عمل الأفلام والوصول الى أسرار هذه المهنة الشاقة والشيقة، من وجهة نظري، هو ليس فقط أن تعمل أفلاماً، بل عليك أيضاً أن تشاهد الكثير والكثير من الأفلام.  هاتان النقطتان تتساوان في أهميتهما. ومحتمل أن يكون هذا، هو السبب الوحيد الذي يدعوني الى دفع من يريد أن يمتهن هذه المهنة في أن يلتحق بمعهد أو كلية للسينما اليوم: إنها فرصة إستكشاف لأسرار جميع أنواع الأفلام، تلك التي لايمكن أن تشاهدها في الصالات العامة. لكن، لو سألني أحد ما أن أدرّس الإخراج، فسأ قع في حيرة حقاً. وإذا قدّر لي أن إدخل اللعبة، فسوف لن أعرف كيفية البدء. حسناً، ربما أنني سأبدأ ببساطة، برغبة وقناعة مني، أن أعرض لهم أفلاماً. والفيلم الذي سأختاره من بين جميع تلك الأفلام سيكون بالتأكيد فيلم " قواعد اللعبة " لجين رينوار. سأظهر للطلاب في هذا الفلم، كبف أن رينوار إستطاع أن يشيد جسراً بين الإنطباعية، فن والده  الرسام أوغست رينوار، وبين فنه هو، السينما. سأحاول أن أبرهن لهم، كيف أن هذا الفيلم كان قد حقق هدفه، ذلك الهدف الذي يسعى أي فيلم الى تحقيقه، وهو أن يأخذنا الى مكان آخر مختلف.

(دع الباب مفتوحاً)

لقد تسنت لي فرصة لقاء جين رينوار في لوس أنجلوس في السبعينات. كان عمره يناهز الثمانين عاماً تقريباً آنذاك، وكان يستعمل كرسياً متحركاً. تحدثنا لمدة ساعة واحدة تقريباً، وقد أدهشني أن أجد أن أفكاره المتعلقه بالسينما، كانت ذات الأفكار التي ظننا أننا نحن الذين إكتشفناها آنذاك في موجتنا الجديدة، بإستثناء واحد،هو أنه كان يمتلك تلك الأفكار قبلنا بثلاثين عام ! أتذكر أنه قال لي شيئاً كان قد ترك إنطباعاً لدي، بأنه كان أبلغ درس تعلمته حول كيفية عمل الفيلم، والذي لم أتعلم مثله في كل مكان. قال: " عليك على الدوام أن تترك باب موقع التصويرمفتوحاً، لأنك لاتعرف مالذي يمكن أن يدخل عليك ".  إن ماكان يعنيه بذلك، بالطبع، هو أن عليك أن تعرف كيف توفر حيزاً لما هو غير متوقع، لما هو مفاجىء، ولما هو عفوي وتلقائي، طالما نحن غالباً، نفكر في خلق سحر السينما.

أنا في أفلامي، أترك الباب مفتوحاً على الدوام لأسمح للحياة أن تدخل الى موقع تصوير الأحداث. وربما سأوقع نفسي في تناقض إذا قلت لك، أن هذا هو السبب الذي يدعوني وبشكل متزايد الى العمل  بسيناريوهات مبنية ومركبة سلفاً. سأوضح لك هذا الإلتباس حالاً.  إذا كان لدي قاعدة صلبة، سيناريو مبني بناءاً جيداً، لأتحرك منه، ساشعر براحة وإسترخاء تولدان عندي الدوافع التي تشجعني على الإرتجال، عندذاك سأتخلص من هيمنة السيناريو الحديدي، وأبدأ العوم أمام الكاميرا..  بالنسبة لي، الشيء المؤثر والشيق هو ظهور ذلك غير متوقع والتلقائي ودخوله الباب، أما ذلك المكتوب على الورق، والمخطط والمعد له سلفاً، فيصبح مجرد نظرية ساكنة. ذلك أن الفيلم يولد أمام الكاميرا وعلى شريك السيليلويد، ولا علاقة له بما هو مكتوب على الورق.

لو أنني أردت أن أصور مشهداً خارجياً، على سبيل المثال، في طقس مشمس جداً وفجأة وبشكل غير متوقع، تندفع الغيوم لتحجب الشمس أثناء تصوير اللقطة، حيث الإضاءة المطلوبة تتغير بشكل غير متوقع. هذه اللحظة بالنسبة لي تشبه الىحد ما لحظة الدخول الى الجنة !. أما إذا إستمر تصوير لقطة الغيوم، على وجه الخصوص، وهي تحجب الشمس لفترة أطول لحين إبتعادها وبزوغ الشمس من جديد، فهذا شيء يشبه السحر.. أشياء كهذه تكون مذهلة وساحرة لأنها تمثل الدرجة القصوى للإرتجال.

لكن " إترك الباب مفتوحاً " لايتعلق فقط بالأشياء التي تقع فجأة في خارج موقع التصوير كالتغييرات الطبيعية وما شاكل. كلا. لقد كنت أكتب الشعر قبل بدئي العمل في السينما، لذا نظرت الى الكاميرا في البدء كما لو أنها ريشة  كتابة، لكن من نوع آخر، ليس ذلك الذي كنت أخط به قصائدي على الورق.  لقدعملت مرة فيلماً لوحدي، وأفرغت فيه كل مافي رأسي من رؤى وأفكار، لدرجة أصبحت بالنسبة له كما الخالق، بالمعنى الضيق جداً للكلمة. لكن، بعد حين، وبمرور الوقت، أدركت أن المخرج يمكنه أن يعبر عن فانتازياته بشكل أفضل بكثير، لو أنه إستطاع أن يثير وينشط القدرة الإبداعية لدى جميع العاملين من حوله. الفيلم هو شيء أشبه بالبوتقة، وجب أن تنصهر فيه مواهب جميع أعضاء فريق الفيلم معاً.  الفيلم الخام نفسه، هو مادة ذو حساسية عالية جداً أكثر مما يتصوره الناس، فهو يسجل على صفحة السيللويد ليس فقط مايجري أمام الكاميرا، بل كل شيء من حولها.

(أنام.. لأحلم بلقطات أفلامي)

بما أنني لم أدرس الإخراج السينمائي بطريقة نظرية تقليدية، فإن قواعد لغة الفيلم لاتعني لي أي شيء على الإطلاق.  الأكثر من ذلك، أنه حتى لو وجدت قواعد لغة كهذه، فطريقة تفكيري تستوجب مني رفضها وتحديها وعدم الخضوع لها.  حين صور غودار فيلم " على آخر نفس "، فإن قواعد اللغة الفيلمية التي إستخدمها هي " قوة وقدرة القطع المونتاجي المفاجىء "(7).

هكذا تُخلق وتُستنبط قواعد اللغة السينمائية.

الشيء المثير للدهشة هو أنك لو شاهدت أحد آخر أفلام جون فورد، وهو فيلم " النساء السبعة " سترى ان المخرج (وهو أحد أكبر وأكثر المخرجين الهوليووديين إلتزاماً بالتقالييد الكلاسية في السينما) كان قد إستخدم هذا النوع من المونتاج في فيلمه هذا، مباشرة بعد مشاهدته فيلم " على آخر نفس " !!

كنتُ ولفترة طويلة من الزمن، ومازلت، أتعامل مع كل لقطة أصورها، كما لو أنها اللقطة الأخيرة، أو كما لو أن أحداً ما سيأتي وينتزع مني كاميرتي ويأخذها مباشرة بعد إنتهائي من تصوير تلك اللقطة.

لذا كنت أحس على الدوام، أنني أسرق كل لقطة أقوم بتصويرها، وبهذا النوع من التفكير، من المستحيل التفكير بشيء يتعلق بـ " قواعد اللغة " أو حتى بـ " المنطق ". أنا لاأفكر في إعداد أو تهيئة أي شيء سلفاً على الإطلاق، لأن ذلك من شأنه أن يفسد الكثير من الأشياء، ويغلق الباب بوجه القادم الملغز.

في الحقيقة أنا أحاول أن أحلم في نومي بتلك اللقطات التي سأقوم في تصويرها في يوم الغد في موقع  التصوير. أستطيع فعل ذلك مع قليل من الحظ. أما إذا تعذر ذلك، فإنني حينها وحال وصولي موقع التصوير في الصباح، أطلب من الجميع أن أُترك لوحدي لفترة وجيزة، أطوف فيها حول مكان التصوير ومعي ناظور العدسات.  أستكشف المكان بعناية وحذر ودقة، وأتخيل الشخصيات وهي تتحرك وتنطق بحواراتها، كما لو إن ذلك المشهد الذي سنقوم بتصويره، كان موجوداً هناك أصلاً، بشكل غير مرئي وغير محسوس. من هذه النقطة يبدأ دوري في البحث عنه، للعثور عليه، و بعث الحياة فيه من جديد.  بعد ذلك أجلب الكاميرا الى المكان، وأنادي على الممثلين، ثم أبدأ محاولاتي في رؤية ماكنت تخيلته، يحدث أمامي في الواقع. أما البقية فهي عملية طويلة من التناغم المرهف مابين الكاميرا والممثلين والإضاءة.  لذا، فإن هناك نوعاً من التدفق والإستمرارية في مجرى العملية التي نقوم بها، والتي من خلالها أحاول أن أتيقن تماماً أن كل لقطة نقوم بتصويرها، تصبح بمثابة دافع أو حافز لأنبثاق اللقطة التي تليها، وهكذا.

(كيف تشّيد جسراً للعبور الى الآخر)

إن تبادل الأفكار وإقامة العلاقات مع طاقم العمل هو عنصر جوهري وحاسم لخلق مسار سلس، ناعم ورشيق لمجرى العمل في موقع التصوير. وهذا يجب أن يؤسس بفترة تسبق تصوير الفيلم. عكس ذلك، سيكون الوقت متأخراً جداً وسيترك آثاراً سلبية على روحية العمل الذي نقوم به أثناء التصوير. دعني أورد لك مثالاً على مااقول. حين قررت إخراج فيلم " التانغو الأخير في باريس " أخذت مصوري فيتوريو ستورارو لزيارة معرض الرسام فرانسيس بيكون في (Grand Palace) في باريس. لقد أريته لوحات بيكون، وأوضحت له، أنني أردت إستخدام هذه الأشياء مثل إيحاءات ملهمة لي في الفيلم. ولو أنك دققت النظر جيداً في الفيلم، لأستطعت أن تجد هناك درجات لون برتقالية فيه، تلك التي كانت بتأثير وإلهام مباشر من بيكون.  بعدها أخذت مارلون براندو لرؤية المعرض نفسه، وأريته اللوحة (8) التي ستظهر فيما بعد خلال التايتل في بداية الفيلم.

إنه بورتريه يبدو لك مجازياً تماماً حين تراه لأول مرة. لكنك لو تأملته لبعض الوقت، فإنه سيفقد نزعته الطبيعية تماما ً، ليصبح تعبيراً عما يحدث في لاوعي الرسام. قلت لمارلون " هل تأملت تلك اللوحة جيداً ؟ حسناً، أريد منك أن تعيد خلق ذات الألم الرهيب الذي ينبعث منها ".  وقد كانت تلك الملاحظة الوحيدة أو بالأحرى التوجيه الرئيسي والوحيد الذي أعطيته لمارلون براندو في مجمل العمل في الفيلم. أنا غالباً ماأستخدم لوحات الرسم كواسطة لتبادل الأفكار وخلق الصلات مع الممثلين أو طاقم العمل، فتصبح تلك اللوحات أشبه بجسر لعبور الرؤى والأفكارمابين الضفتين، أي، مابينك وبين الآخر، وهي غالباً ماتكون أكثر تأثيراً بكثير من إستخدام مئات الكلمات.

(الكاميرا هاجسي الدائم)

الكاميرا لديها حضور حقيقي في أفلامي، بل حضوراً كاملاً أحياناً، في الواقع.  إنني أعشق قوامها وعينيها، فهي تستحوذ عليّ تماماً لدرجة أفقد معها السيطرة والتحكم بها. إنها هي من يقود توجيهاتي، بمعنى، أنها تتحرك وتتجول طوال الوقت، وفي أفلامي الأخيرة صارت تتنقل وتتحرك أكثر من قبل.  الكاميرا تدخل المشهد وتخرج منه، مثل شخصية غير مرئية في قصة. أنا لاأستطيع الصمود أمام إغوائها وهي تدعوني الى تحريكها. أظن أن ذلك ناتج عن الرغبة في خلق صلة حسية مع الشخصيات، بأمل أنها ستتحول بعدذلك الى علاقة حسية بين الشخصيات نفسها. حين خضعت في فترة من حياتي الى علاج نفسي وعصبي، كنت أفكر مثلاً، أن حركة الكاميرا الى الأمام Tracking in هي شبيهة تماماً بحركة الطفل وهو يعدو بإتجاه أمه، فيما الحركة المعاكسة، أي، الحركة نحو الخلف، Tracking out تعني، هروب الطفل أو فراره وتلاشيه. على أي حال، تبق الكاميرا هي مركز إهتمامي الأول والرئيسي أثناء تصوير اللقطة.

أنا بحاجة لأقامة صلات مسبقة مع الممثلين والتقنيين لكي أكرس الكثير من وقتي في موقع التصوير لحركة الكاميرا وإختيار العدسات. أنا مثلاً لاأستعمل الزوم ZOOM كثيراً. لاأعرف السبب، لكنني أجد أن ثمة شيئاً زائفاً في حركته. أتذكر أنني في يوم ما من أيام تصوير" مكيدة العنكبوت " أحببت أن أستخدم الزوم، رغبة في التغيير، لاأكثر، فقد أنفقت ساعة من الوقت تقريباً وأنا ألعب معه، الى درجة الغثيان. أخيراً، أخرجت الزوم من الكاميرا، وقلت: لاأريد أن أرى هذا النوع من العدسات أبداً.

لسنوات عديدة وأنا أفكر به، كما لو أنه أداةً شيطانيةً، لكنني بدأت الآن، وفي الأيام الأخيرة على وجه الخصوص، أحس أنني أقيم علاقة دافئة وأكثر طمأنينة مع الزوم. الواقع، أنني أستخدمه بطريقة سهلة  وعملية جداً.

(أبحث عن اللغزالمختبأ خلف قناع الممثل)

أعتقد إن سر العمل الجيد مع الممثل يكمن أولاً في كيفية إختياره. ولكي تحقق نجاحاً في ذلك، عليك أن تنسى الشخصية المكتوبة في السكربت لفترة وجيزة، وترى فيما إذا كان الشخص الذي أمامك، يثير إهتمامك وإنتباهك، أم لا؟

هذه مسألة مهمة جداً، لأنه من الغريب والنادر جداً أنك تحس، خلال تصوير اللقطة، أن هذا الممثل هو الذي يقودك الى سبر وإستكشاف الشخصية في القصة.

أنت أحياناً تختار ممثلاً، لأنه يبدو لك أنه يتطابق تماماً والشخصية المكتوبة في السكربت، لكنك ولسوء الحظ، ستدرك في النهاية، أن ماتفعله ليس ممتعاً أو شيقاً أو مثيراً للأنتباه، وليس هناك أي لغز وراء ذلك.

أعتقد إن القوة الدافعة وراء أي فيلم هي، أولاً وبشكل رئيسي، هي رغبة المخرج في إكتشاف لغز كل شخصية. سأورد لك مثالاً على ذلك، في أحد مشاهد فيلم " التانغو الأخير في باريس " يضطجع بول (مارلون براندو) على سريره، ويسرد لجين (ماري شنايدر) أشياء كثيرة تتعلق بحياته الماضيه. هل تعرف أن ماقاله مارلون براندو كان كله إختلاقاً من مخيلته، ولم يكن موجوداً في السيناريو أصلاً !. إن ماقلته له هو الجملة التالية: " مارلون.. ستقوم ماري شنايدر بطرح أسئلة عليك، فأجبها كم تشاء ومثلما تحب. " وهكذا إبتدأ يصف لها كل تلك الأشياء المزعجة والمشوشة، فيما كنت أقف أنا مصغياً له كالمتفرج،  اسياً تماماً أنني المخرج.. بكلمة أخرى، لم أستطع الزعم، سواء كان مارلون يكذب أو يقول الحقيقة. وهذه تماماً، هي وظيفة الإرتجال. إنه محاولة لملامسة الحقيقة، وإظهار شيء ما صادق جداً، من الممكن أن يكون مختبئاً خلف قناع  الممثل. وهذا الشيء، هو في الواقع، كان الشيء الأول والأساسي، من جملة الأشياء التي أوضحتها لبراندو. لقد طلبت منه أن يخلع عن وجهه قناع ممثل الإستديو، لأنني كنت أريد أن أرى ماكان مختبئاً وراءه.

إلتقينا مرة أخرى قبل عامين. تحدثنا قليلاً، وبعد فترة وجيزة، قال لي بإبتسامة ماكرة ومعذبة، " وهل كنت تعتقد حقاً، أنني كنت أمثل شخصيتي الحقيقية في ذلك الفيلم، ها.. ؟

لاأعرف حقاً، إن كان مارلون يمثل شخصيته الحقيقية، أم لا، لكن ذلك هو الشيء الرائع والمدهش جداً في الأمر.

لقد أردت أن أعرف الكثير عن مارلون براندو نفسه، وقد عرفت بالفعل الشيء الكثير عنه. أنظر، طالما أنت لاتكذب أمام الكاميرا، فالكاميرا بالمقابل لن تكذب، وسترى الحقيقة.

حين رأى مارلون براندو الفيلم، أصيب بما يشبه الصدمة، ولم يكن يرغب في رؤيتي ثانية ولمدة طويلة لأنه شعر أنني سرقت منه شيئاً ما، لم يكن هو نفسه يعرفه !.. ذلك هو بالضبط ماعنيته باللغز المختبأ خلف قناع الممثل.  إن كل فيلم هو بمثابة قصة حب لي مع الممثلين. عكس ذلك، سيفقد الفيلم في الآخر شيئاً ما أجهله !..

(ماهي السينما ؟)

من الواضح والبديهي أن الفيلم هو تحويل الفكرة الى مجازات بصرية، لكن الشيء الأكثر سراً بالنسبة لي هو الطريقة التي يمكن بواسطتها إستكشاف شيء ما، أكثر خصوصية، وأكثر تجريداً في ذات الوقت. إن أفلامي دائماً تختلف جداً في الآخر، عما كنت قد تخيلته في البدء. لذا فإن عملية الخلق تتعرض للكثير من التغييرات والتبدلات، وهي في تطور وتقدم متواتر نحو الأمام. إنني دائماً ماأشّبه الفيلم بقرصان سفينة، فهو يجهل تماماً أين سترسي سفينته، لذا عليه أن يدعها طليقة تتبع رياح الإبداع، فما بالك بشخص مثلي يعشق التحليق في الإتجاه المعاكس. الواقع، أنني كنت أؤمن (أعتقد) في وقت من الأوقات، أن التناقض يكمن في أساس كل شيء، وهو الذي يمثل القوة المحركة خلف كل فيلم. بهذه الطريقة واصلت العمل على فيلم " 1900 أو القرن  العشرين " فهو في الوقت الذي يتحدث عن ميلاد الإشتراكية، ُموّل بدولارات أمريكية !!

في هذا الفيلم مزجت ممثلي هوليود بفلاحي وادي بـو، الذين لم يروا كاميرا في حياتهم من قبل. وكان ذلك قد غمرني حقاً بسعادة لاتوصف.  حين إبتدأت أخرج الأفلام في الستينات، كان ثمة شيء، كنا نطلق عليه نحن المخرجين آنذاك، سؤال بازان " ماهي السينما ؟ "(9)  وهو سؤال يشبه الى حد ما نوعاً من الإستجواب المتواصل والذي لاينتهي، لدرجة إنتهى به الأمر الى أن أصبح تقريباً موضوعاً لكل فيلم.  لكننا توقفنا فيما بعد عن طرح ذلك السؤال لأن الأشياء كانت قد تغيرت.  أردت أن أقول، أنني اليوم أحس أن السينما تتعرض الآن الى نوع من الإضطراب، الذي من شأنه أن يفقدها الكثير من أصالتها وتميزها، والذي يستدعي منا جميعاً، إعادة طرح سؤال كازان القديم من جديد، ماهي السينما ؟  

تقديم وترجمة  علي كامـل. سينمائي عراقي

Alikamel50@yahoo.co.uk

موقع "إيلاف" في 20 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

الواقع والمُتخّيل في سينمابيرتولوتشي

علي كامل

 

 

 

 

هوامش _________

(1) إشارة الى الشاعر والكاتب الأرجنتيني جورج لوي بورغيس 1899-1988
(2) لقاء مع بيرتولوتشي بعنوان " وجهاً لوجه " جيريمي إسحاق
BBC 1989
(3)
The Grim Reaper
(4)الغارديان 21 إكتوبر 2001 مقال بعنوان " كيف قتلت أباك ؟ "
(5) لقاء مع بيرتولوتشي مجتزأ من كتاب:
Moviemaker’s Master Class “ Private Lessons From The World’s Foremost Directors

وهو عبارة عن مجموعة من اللقاءات الصحفية كان أجراها الصحفي والمخرج السينمائي الفرنسي " لورانت تيراد " في أوقات وأماكن مختلفة، مع عشرون مخرجاً سينمائياً عالمياً، ينتمون الى أجيال مختلفة، حيث غطى الكتاب مخرجي فترة مابعد الحرب العالمية الثانية، ليختتم القرن الماضي، متجهاً صوب قرننا الواحد والعشرون.
ترجم الكتاب عن النسخة الإنكليزية (200 صفحة من القطع المتوسط) وسيصدر في بداية العام القادم 2005.. (ع. ك) 
(6) فيتوريو ستورارو (1940 ـ إيطاليا) هو أحد أهم المصورين السينمائيين في العالم، بدأ مشواره الإبداعي للعمل مع بيرتولوتشي منذ ستينات القرن الماضي منجزاً تصوير جميع أفلامه تقريباً، إضافة الى عمله مع مخرجين آخرين كبار أمثال كوبولا وغيره.

(7) هذا النوع من القطع المونتاجي يخالف بجوهره ومغزاه القواعد التقليدية للمونتاج، تلك التي تؤكد على وجوب أن يكون القطع بين لقطتين ناعماً ومتناسقاً وغير مرئي. أما التقنية الجديدة فهي تكسر القاعدة الكلاسية، وتتبع سلوب القطع الحاد والمفاجىْ والخشن، والذي يمكن رؤيته بوضوح أثناء عرض
الفيلم.
إن التعامل مع هذه التقنية الجديدة بشكل صائب وخلاق، كما فعل غودار مثلاً في فيلمه (على آخر نفس) يمكن أن يخلق دينامية تغريبية مذهلة. أما حين تُعالج هذه التقنية على نحو رديء، فإن ذلك من شأنه أن يترك إنطباعاً عند المتفرج، أن المخرج لايعي ماذا يفعل.

(8) عنوان اللوحة (الرجل اليائس الذي تحرر من جميع الأوهام)

(9) أندريه بازان: (1918 ـ 1958) ناقد ومفكر سينمائي فرنسي. أسس نادياً سينمائياً خلال الحرب العالمية الثانية لعرض الأفلام السياسية المحظورة كنوع من التحدي والمقاومة لسلطات الإحتلال
الألماني. ساعد وألهم الكثير من مخرجي سينما الموجة الجديدة في فرنسا، وكان أحد مؤسسي الموجة الجديدة في السينما الفرنسية.
ساعد بازان وألهم الكثير من شبابها الذين تزعموا الحركة في ما بعد أمثال غودار، تروفو، شابرول، رومر، وآخرين.
" ماهي السينما ؟ " هوأحد أهم كتب بازان، وأحد أهم المراجع في تأريخ السينما العالمية والفرنسية على وجه الخصوص، وهو مجموعة من المقالات النقدية حول نظرية السينما. لقد جُمعت تلك المقالات النقدية بعد مماته، وصدرت في أربع مجلدات تحمل عنوان: ماهي السينما ؟.. 


فيلموغرافيا
_______

 (بيرناردو بيرتولوتشي 1941)

ـ 1962 الوحش المرّوع أو الموت. (عن قصة لبازوليني)
ـ 1964 ماقبل الثورة.
ـ 1968 الشريك (عن رواية دستوييفسكي " المزدوج ")
ـ 1969 الحب والغضب.
ـ 1970 مكيدة العنكبوت. (مأخوذ عن قصة لجورج لوي بورغيس بعنوان " الخائن والبطل ")
ـ 1971 الممتثل (عن رواية البيرتو مورافيا تحمل نفس العنوان).
ـ 1973 التانغو الأخير في باريس.
ـ 1977 (1900 أو القرن العشرين).
ـ 1979
La Luna أو القمر
ـ 1982 مأساة رجل مضحك.
ـ 1987 الإمبراطور الأخير.
ـ 1990 السماء الواقية. (عن رواية للكاتب الأمريكي باول بول)
ـ 1993 بوذا الصغير.
ـ 1996 سرقة الجمال.
ـ 1998 المُحاصَر.
ـ 2001 الجحيم والفردوس.
ـ 2002 إنتصار الحب (أنتجه بيرتولوتشي وشارك في كتابة السيناريو له مع المخرجة كلير بيبلو)
ـ 2004 الحالمون..