شعار الموقع (Our Logo)

 

 

لا شك في ان كثراً منا, نحن معشر أهل النقد السينمائي القليلي العدد, عادة, جالت في اذهانهم ما إن انقضت الصدمة الأولى للنبأ المفجع الآتي من باريس, عن رحيل غسان عبد الخالق, صور وأسماء, رفاق سبقوه, من سمير نصري الى سعيد مراد, ومن سامي السلاموني الى فتحي فرج ورفيق الأتاسي... ولا شك في ان كثراً تنبهوا ايضاً الى ان كل هؤلاء الأحباب الراحلين, كانوا بالكاد تجاوزوا الخمسين عند الرحيل. فهل هو عمر مرتبط بهذه المهنة؟ بهذا الشغف المجنون بالفن السابع وعالمه؟

في حبه للسينما واهتمامه النقدي والعملي بها, كان غسان عبد الخالق صاحب شغف وجنون حقيقيين. وكان هذا ما يدفعه في أحيان كثيرة الى "نسيان" مهنته الأولى والحقيقية والتي أمضى أكثر من ربع قرن ممارساً لها في اذاعة "مونتي كارلو": رجل الاعلام وصاحب الاخبار, الذي يصل صوته الشجي والحازم الى كل اصقاع العالم العربي, فيصغي اليه الملايين يومياً وهو ينقل اليهم آخر الاخبار, وتحليله لتلك الاخبار... كان غسان في حياته الطبيعية ينسى مهنته الاعلامية هذه, وينظر الى السينما كعشيقة أولى. وهو في هذا المجال, كان من تلك الطائفة الصغيرة النادرة التي كانت ولا تزال تطرح على نفسها أسئلة ما تفعل وجدوى ما تفعل. أسئلة وجدوى تلك الكتابات التي كان - ولا يزال - يخيل الينا انها لا تكتب لأحد... تكتب لأنها يجب ان تكتب... لا أكثر ولا أقل.

لكن غسان عبد الخالق - وهذه كانت ميزة أساسية فيه - لم يكن ليكتفي بالكتابة عن السينما وافلامها... بل كان الأقل كتابة من بيننا جميعاً. كان قليل الكتابة الى درجة انه حينما طلب منه الناقد سمير فريد ان يجمع مقالاته ليصدرها له في كتاب, تنبه الى ان كل ما "كتبه" عن السينما كان مقالات شفوية بثت عبر موجات "مونتي كارلو", وتبخرت في الهواء. ومع هذا, كان غسان عبدالخالق الأنشط بيننا جميعاً من ناحية الاهتمام بالسينما. فهو أسس بداية سنوات الثمانين اول مهرجان للسينما العربية في أوروبا... وكان ذلك في باريس... المهرجان الذي أقام دورات عدة له, ثم ورثه مهرجان معهد العالم العربي, الذي استبعد منه غسان عبدالخالق, للأسف, لأسباب لم تتضح ابداً, ما ترك لديه مرارة, لم يهدئ منها إلا تأسيسه بعد ذلك بعقدين من الزمن. أول لقاء سينمائي حقيقي في المغرب ضمن اطار موسم اصيلة الثقافي. وحينما اسس غسان عبدالخالق, هذا الملتقى, كندوات اولاً ثم كمهرجان سينمائي بعد ذلك, كان فرحه فرح طفل صغير, نال هدية طيبة يوم عيد ميلاده. اختار يومها ان يكون المهرجان شاملاً لسينما "الجنوب" عربية او غير عربية... ولكن هتف, فيما كان يشاهد الافلام المقترحة عليه لاختيارها, لرفاقه, مبدياً فرحه بفيلم آت من كازاخستان, وتفاجئه, بشريط أرسل من الصين او من موريتانيا. غسان عبدالخالق كان يرى لآلئ صغيرة في كل فيلم جميل. وكان يرى معنى كبيراً, في كل عمل سينمائي جديد.

وكان هذا دأبه دائماً: يكتشف وينقل اكتشافاته الى الآخرين. وحينما يحب فيلماً, كان في مقدوره ان يتحدث عنه ساعات وساعات, غائصاً في تفاصيل التفاصيل فيها, أحياناً, الى معانٍ ومواقف قد يفوت غيره ادراكها. ولعل من الامور المحزنة اليوم ألا يكون غسان قد سجل كل ما كان يقول عن كل فيلم يشاهده.

في مجال الاهتمام بالسينما والشغف بها, كان غسان ميدانياً. كان في كل مكان وفي كل مهرجان... ويقيناً انه كان من بين الأول الذين اكتشفوا في سينما جنوب شرقي آسيا, وأحب السينما الصينية, وهام بأفلام آتية من اصقاع أوروبا... ومن ايران او افريقيا السوداء. وهو - وكانت هذه ميزة اساسية أخرى فيه - حينما كان يتحدث عن فيلم, لم يكن يتردد عن الاستناد في الحديث عنه الى ترسانة من المعرفة الفكرية والمواقف الفلسفية. فغسان كان ايضاً قارئاً نهماً, شغوفاً بالفكر والفلسفة وكذلك بالتراث العربي وبالفنون التشكيلية, شغفه بالسينما.

من الصعب علينا من الآن وصاعداً, من الصعب على سمير فريد وعلي أبو شادي وكمال رمزي وقصي صالح الدرويش... وعلى كاتب هذه السطور... ونحن جميعاً كنا رفاق غسان عبدالخالق, في حبه للسينما بخاصة, ان نتصور او نقبل مهرجاناً من دونه. من الصعب علينا, بعد الآن ان نحب فيلماً ونحن نعرف انه لن يشاركنا حبنا له... ولكن, طبعاً, عزاؤنا, انه هناك بعيداً في مكان ما, ينظر الينا باطمئنان, ونحن خارجون من عرض ما... ليتحرى في نظراتنا وفي كلامنا, حبنا للسينما وهيامنا بكل جديد فيها... فيعرف انه كان, دائماً صاحب اختيار صحيح. وحسن اكتشاف يكاد يكون نقله الينا... وأحياناً من دون ان يدري.

الحياة اللبنانية في 29 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

رحيل غسان عبدالخالق:

الرجل الذي كان يحب السينما

إبراهيم العريس

صحافي بهاجس كاتب

عبده وازن

لم يكن الصديق غسان عبدالخالق صحافياً, مجرّد صحافي, مقدار ما كان صحافياً بهاجس أديب أو كاتب. وهو أصلاً استهلّ حياته المعلنة كاتباً اضافة الى تخصصه الأكاديمي اللافت. وظلّ طوال الفترة التي عمل فيها صحافياً, مشدوداً أبداً الى ذلك الهاجس الذي التهمته الحرفة الإعلامية. ولعلّ هذا ما ميّزه عن الكثير من الصحافيين والإذاعيين: عقل مشرقط ومخيّلة فريدة ووعي بالتفاصيل التي يحتاجها دوماً العمل الصحافي كي ينجح ويلمع...

كان غسان عبدالخالق مندفعاً الى الحياة مثل اندفاعه الى الإعلام والسينما والأدب والمسرح. وعرف كيف يوفّق بينهما فإذا الحياة أمامه أشبه بفيلم هو مخرجه وبطله وإذا الفن قرين الحياة نفسها في تقلّباتها المفاجئة. كانت ضحكة غسان تجلجل في الجلسات اللطيفة ويتردّد صداها. ضحكة طالعة من القلب الكبير خافية بعضاً من مرارة وفاضحة نزعة طفولية مشاكسة طالما رافقته.

صوته عبر أثير اذاعة "مونتي كارلو" كان دوماً محفوفاً بفرح مكتوم, بلهفة وحماسة, خصوصاً عندما كان يقرأ ما يكتب أو عندما يحاور شخصيات فكرية وأدبية وسياسية. وكان يذيع بعفوية تامّة مبتعداً عن التصنع والكلفة جاعلاً من الفن الاذاعي فنّاً حيّاً تندمج فيه الثقافة مع الخبرة مع التلقائية.

كان غسان عبدالخالق مثقفاً, يلمّ بسائر الفنون والأفكار والمذاهب, يتحمّس للحداثة في كلّ ميادينها, في الشعر كما في الرواية والسينما... لكنّ ولعه بالفنّ السابع طغى أخيراً عليه فراح يكتب نقداً سينمائياً, اذاعياً وصحافياً, مفجّراً في مقالاته دهشته ازاء عالم الصورة وشغفه باللعبة التي تدور وراء الكاميرا وكأنها لعبة الحياة, بقناع حيناً ومن غير قناع حيناً.

المرّة الأخيرة التي التقيته فيها كان مهموماً ومتعباً وفي حال من القرف. فالجوّ في الإذاعة لم يعد كما كان في السابق, أيام كان غسان نفسه واحداً من صانعي مجد تلك الاذاعة التي سيطرت فترة غير قصيرة على الاذاعات الأخرى. ويصعب فعلاً تخيّل اذاعة مونتي كارلو بلا غسان عبدالخالق, هذا الذي كافح طويلاً من أجل أن تظل الاذاعة في الطليعة معتبراً إياها جزءاً رئيساً من حياته وقضية من قضاياه.

كانت لقاءاتنا متقطعة باستمرار بين باريس وبيروت وفي بعض المهرجانات العربية. وكنا عندما نلتقي نشعر بأنه لم يمض على افتراقنا سوى وقت قليل. رجل مملوء بالبهجة العميقة, متحمّس دوماً, ضحكته تلزم شخصيته وكأنه من دونها شخص آخر!

مات غسان عبدالخالق شاباً, لكن ما أنجزه كان يحتاج الى حياتين مقدار ما كان خلوقاً ومعطاء ومغزاراً ولكن بعمق ووعي تامّين.

مات في زمن بدأ يفقد العمل الإذاعي رهجته ورواجه عربياً بعدما طغت الشاشات الفضائية الصغيرة على عقول الجماهير وأذواقهم! لكنّ عزاءه الوحيد أنه عرف العصر الذهبي للعمل الاذاعي وكان بحقّ صوتاً متفرّداً في فضاء الاذاعات العربية.

الحياة

2004/10/29