يجيء
تكريم محمد شكري جميل في مهرجان دمشق السينمائي الاخير ليضعنا ازاء الدرس
الاهم في حياة هذا الفنان..اصرار الاقامة في السينما.حيث يختلط الذاتي
بالموضوعي.. الواقع بالوهم.. الحدس بالحس..المرئي باللامرئي..الواضح
بالغامض..المعلوم بالمجهول..الكذب بالحقيقة..المطلق بالجزئي، هذا الاختلاط
العجيب الذي ينقية الفنان برؤاه ليزيح عن ابصارنا غشاء ثقافة الظلام
ويطلقنا برفرفة احلامنا في عصب ثقافة العين..هذا الكائن المعذب، القلق،
المسهد، العنيد، المكافح، المتمرد، الاريحي، يكفية انه لم يسع الى رفد
ايامنا بافلامة العذبة فحسب بل انه سعى الى ان يجمل لنا هذه الايام.
من هنا
انتظر خمسين عاما من السينما هي الزمن الممتد من سنة 1953 حين وضع محمد
شكري جميل اولى خطواته في هذا العالم العجيب ليعمل مساعد مصور في الوحدة
السينمائية التابعة لشركة نفط العراق..نصف قرن هو عمر تجربته الفنية وعمر
اسلوبه وهي زمنة الخاص حين يمتزج الفن بالحياة وهذا ماتكشف عنه اعمال محمد
شكري الذي يقيم في التاريخ كونة احد اهم رموز السينما في العراق من خلال
افلامٍ استطاعت ان تقدم لنا الماضي باندفاعها الحر باتجاه المستقبل، واذا
كان الاسلوب وحده يمنح الفنان فرصة البقاء والخلود فأن محمد شكري جميل من
احرص فنانينا على اسلوبيته التي جعلت منه واحداً من صناع السينما العربية
ليس سراً
ان محمد شكري جميل سينمائي قبل ان يكون أي شيء اخر.. ويروي انه شغف بالفن
السابع منذ كان في سنواته الاولى فهو ينتمي عائلة تضم مترجما ورساما وقد
علمته هذه العائلة ان السينما هي اكثر الفنون تقدما لانها لغة تعتمد على
اعادة تركيب الصور الموجودة في الحياة..احب الصور والرسم والالوان ودفعه
حبه للتوجة صوب معهد الفنون الجميلة الذي لم يكن انذاك قد فتح فرعا للسينما
ولان همه كان في التواجد بالمعهد فلم يجد مناصا من ان يدخل قسم الغناء
والموسيقى وفي هذا القسم درس تقنيات الصوت لمدة عام ليغادر بعدها المعهد
ليعمل في الوحدة السينمائية لشركة نفط العراق مساعد مصور وقد تحدث عن تلك
البداية قائلا: (كانت تجربة قاسية حين خرجت في اول يوم تصوير انتابني احساس
بجسامة العمل وذلك لثقل ماكنت احمل من الات التصوير خصوصاً ان التصوير كان
لاشياء بسيطة اعتيادية ولكنني سرعان ماشعرت بان العمل الحقيقي يبدأ من هنا)
في عمله هذا يكتشف ان المونتاج هو الاقرب الى نفسه ومزاجه وهو أيضا عصب
الفيلم السينمائي فيقرران يدرس تقنيات هذا الفن وكل مايتعلق به فيسافر الى
انكلتر ليلتحق في معهد التكنيك السينمائي..العام 1958 تبدأ مرحلة جديدة من
حياته حين تتاح له الفرصة لانجاز اول فيلم له..وكان فيلماً قصيراً صور فيه
انطباعات طالب عراقي في لندن مدته عشرون دقيقة كتب له السيناريو
وصوره..الفيلم دفع باساتذة في المعهد لان يرشحوه للعمل مونتيرفي ستوديوهات
(امفيل وبايندو)..في العام 1961 ينهي دراسته في لندن ليعود الى بغداد
ويلتحق بالعمل في مصلحة السينما والمسرح التي تشكلت حديثا وكان يرأسها
الفنان يوسف العاني الذي يرتبط معه والمخرج حمد جرجيس في تنفيذ اول افلامه
الروائية وهوفيلم (ابو هيلة)المعد عن مسرحية تؤمر بيك للعاني والذي كتب
السيناريو له يوسف العاني لكن الفيلم الذي عرض عام 1962 لم يرض طموحات محمد
شكري جميل ولم تغره اطراءات الصحافة واقبال الجمهور على الفيلم فقد كان
يعتقد ان السيناريو الذي قام عليه الفيلم يخلو من اية قيمة دراميه..
الاحساس بالفشل يدفعة الى الانصراف الى اخراج مجموعة من الافلام الوثائقية
حتى يأتي عام1969 ليخوض تجربتة الثانية وهي فيلم شايف خير الذي وضع له
السيناريو عن قصة لجميل الجبوري وكسابقة لم يرق الفيلم لمحمد شكري وعده
مرحلة فاشلة جديدة في حياتة لم ينته منها الا بعد ان قدم (الظامئون) عام
1972 والذي لاقى نجاحاً كبيراً واقبالاً جماهيرياً ذكر المتابعين للسينما
باصداء فيلم سعيد افندي.. فالضامئون بصدقه وبساطته ترك أثراً لايمحى في
النفس وقد حصد الفيلم جائزة النقاد في مهرجان موسكو الثاني..في الظامئون
يستوفي محمد شكري جميل اقتداره كمخرج سينمائي فيسعى في السنوات التي بعدها
لان يصنع فيلما عن الاحداث التي مرت في العراق في مرحلة الخمسينيات ويجد
ضالتة في سيناريو صبري موسى المعد عن رواية لعبد الرحمن مجيد الربيعي ليقدم
عام 1979فيلمه الاسوار الذي منح الجائزة الذهبية في مهرجان دمشق السينمائي
عام1979 وكانت لجنة التحكيم برئاسة الكاتب الشهير جنكيز ايتماتوف الذي وصف
الفيلم بانة يبشر بولادة سينما عربية جديدة من خلال لغة سينمائية
واعية..بعد الاسوار يبدأ محمد شكري مرحلة جديدة في افلام كبيرة..المسألة
الكبرى..الفارس والجبل..اللعبة..الملك غازي.
اصطبغت
افلام محمد شكري جميل بوعيه لاسئلة الواقع الاجتماعي والسياسي فتميز كواحد
من صانعي الفيلم السياسي في السينما العربية.. (السياسة والواقع الاجتماعي
تدخلان في تكويني السينمائي) هكذا يقول محمد شكري وهكذا نجد افلامه تحتوي
على خطاب سياسي واضح دون تضحية بالجانب الفني لمصلحة الخطاب السياسي..
وتهتم افلامه بالواقع باعتباره مادة للدراما السينمائية وموضوعا سياسيا
واجتماعيا وتستند هذه الافلام في بنائها الى البناء السياسي المحكم الى
جانب منطق صارم وجاد في الشكل والصيغة التعبيرية الفيلمية، فلا التضحية
بالموضوع وقيمته ولامحاولة تجريبة شكلية فارغة.. ونجد ابطال افلامه يحققون
ذواتهم من خلال العمل السياسي، فهم مدفوعون ومحرضون بسببه لذا فانهم يثيرون
المشاكل السياسية من خلال خطاب مفتوح على التزام انساني في التعامل
والتأكيد على التواصل والحميمية في طرح العلاقات بين الناس من جهة وبين
الناس والحدث والقضية من جهة اخرى.. وهو يؤمن بان السينما هي تعبير عن
المشاعر الجميلة وان المخرج السينمائي انمايصور روحه في افلامه ففي السينما
نشم رائحة الاشياء وطعم الحياة وهو يدرك ان روعة السحر في السينما تكمن في
اللعب بالزمن كعنصر اساسي ورئيسي في التركيب الدرامي ولهذا فهو بعد تجربة
اكثر من خمسين عاما يدرك انة كان محظوظا في انتقاء موضوعاته والتي شكل
التاريخ جزءاً لايتجزأ منها فمن خلال التاريخ يبحر لاصطياد الحقائق..من بين
افلام محمد شكري العديدة ساتوقف عند فيلم (الظامئون) كونه اول فيلم عراقي
يقدم شخصيات واقعية تواجة صراعاً مضاعفاً. فهي تقاوم الوقع الاجتماعي
المتخلف من جانب ومن جانب اخر تواجة الطبيعة القاسية التي تعطلت بسبب
الجفاف الذي اوقف كل شيء ولم يبق سوى الموت يقول محمد شكري ان الرواية اثرت
فية عند قراءتها (فالمرة الاولى التي اقرأ فيها رواية تصور صراع الانسان مع
الطبيعة وكان المطلوب مني ان ابحث عن كاتب للسيناريو يستطيع ان يعمم جو
الرواية وشخصياتها بحيث تلمس واقع المتفرج اينما كان وفي الوقت نفسة يحافظ
على محليتها وخصوصيتها) ويجد ضالته في ثامر مهدي فهذا الناقد والكاتب كان
يخطو خطواته الاولى في السينماوكان الامتحان الاول الذي واجه ثامر مهدي كما
اخبرني هو ان رواية الظامئون عالم يموج بالحركة والحركة فيها ليست عشوائية
بل هي صراع محدد يدور وفقا لقوانين فكر محدد وهو لهذا صراع واقعي في الدرجة
الاولى لاتحركه بطولات فردية زائفة اوحوادث مفتعلة ولهذا سعى كاتب
السيناريو والمخرج الى ان يقدما فيلما يجمع بين ذاتية الانسان وبين الحدث
المليء بالحركة والشخصيات.. فنحن في الفيلم امام شخصيات تجمع بين البساطة
والتعقيد، فهي شخصيات عادية الى درجة غير عادية.. ولم يقتصر عمل محمد شكري
في الظامئون على ترجمة الرواية الى حركة مستمرة على الشاشة بل تعدى ذلك الى
خلق حياة تشد المتفرج، وتعيش وتنمو في مشاعره وفكره معا..في الضامئون نجد
ان حركة الكاميرا..ايقاع الحركة داخل اللقطة..اتجاهات تلك الحركة..تكوين
الكادر..كل هذا في خدمة المضمون الجزئي للقطة اوالمشهد مع والوعي التام
والحرص الشديد على المضمون العام للسيناريو..وفي الظامئون يعود محمد شكري
لولعه السينمائي الاول- المونتاج- والذي كان في حد ذاته بطلا اذ ان محمد
شكري قد تمكن من وضع يده على الاسلوب الصحيح في تركيب هذا الفيلم، سواء من
حيث التتابع اوالايقاع.فالقطع طيلة الوقت لم يكن تقليديا اوميكانيكيا بل هو
تركيب صراعي من الطراز الاول وهو في هذا قد تخلص من كثير من التفاصيل التي
كان من الممكن ان تبهر المخرج من الناحية الجمالية مما انتج تركيزاً كاملاً
على حدود الصراع الدائر على الشاشة، سواء كانت وسيلة التعبير عنه الصورة
اوالكلمة وفي سبيل هذا التركيز قام محمد شكري بتركيب موسيقى جميل بشير بحيث
تشكل خيطا في النسيج العام وقد وصل الى قمة براعته في تركيب الموسيقى عندما
ادى بها دوراً درامياً عن طريق التناقض بين ايقاعاتها وايقاع الصورة.. لقد
اثبت محمد شكري جميل في الظامئون ان صدق محلية العمل الفني الجيد ترتفع به
الى مستوى العالمية على ان يكون محوره ونسيجه الانسان وقد ارتفع فيلم
الظامئون الى هذا المستوى وهو امر لن يغفله تاريخ السينما العراقية مثلما
لن يغفل الدور الرائد والكبير لمحمد شكري جميل.
المدى العراقية في 22
يناير 2008
|