أمضى
الممثل المصري
أحمد حلمي (مواليد 18 تشرين الثاني 1968) أعواماً عدّة ممثلاً
عادياً في أفلام
انتمت إلى موجة «كوميديا الشباب»، التي لم تُشكّل حالة ثقافية وفنية
متكاملة، وإن
أثار معظم أفلامها ضحك الجمهور. ظلّ يؤدّي أدواراً ثانية، متمتّعاً بحضوره
صديقاً
للممثل الأول، ومثيراً (أحياناً كثيرة) حشرية متفرّجين وجدوا
فيه شيئاً من النَّفَس
الكوميدي الجميل، لكن المحتاج إلى مساحة أكبر للتعبير عن مكنوناته. وعندما
تسنّى له
الانتقال إلى الصفّ الأول في «بطولة» الأفلام، لم يستطع تطوير
حضوره السابق، لأنه
بدا عاجزاً عن بلورة مشروعه الكوميديّ كممثل من طراز رفيع. لعلّ شخصية
الممثل علاء
وليّ الدين طغت عليه أكثر من غيرها، خصوصاً أن هذا الأخير
(الذي توفيّ باكراً جداً)
تمتّع بحضور كوميديّ شفّاف وبديع، كان قابلاً لأن يجعله واحداً من أبرز
الممثلين
الكوميديين الشباب وأفضلهم وأجملهم أداءً. ذلك أن أحمد حلمي مثّل إلى جانبه
في «عبّود على الحدود» (إطلالته الأولى) و«الناظر» لشريف عرفه، محاولاً إيجاد
موقع له
في المشهد
السينمائي المصري، وساعياً إلى اختبار مفردات هذا النوع من التمثيل، في
بلد امتلك صناعة كوميدية مستقلّة بحدّ ذاتها سابقاً، قبل أن يفقِدَ رونقها
وجمالياتها وأناقتها بسبب غياب الأسماء الكبيرة، ما أدّى إلى
طغيان الحسّ التجاري
الاستهلاكيّ الرخيص في إنجاز أفلام أسرف منفّذوها في التسطيح والتهريج
وفوضى
الإنتاج والتمثيل والكتابة، لضرورات الربح المالي السريع، علماً بأن
تراجعاً لافتاً
للانتباه تعرّضت له هذه الأفلام، على المستوى الجماهيري
تحديداً.
الموجة
الشبابية
لم يكن
أحمد حلمي قادراً على البقاء خارج هذه الموجة، ما دام أنه
اختار التمثيل الكوميديّ في زمن الكوميديين الشباب، أمثال محمد هنيدي ومحمد
سعد
وغيرهما. لكنه لم يبق أسيرها، لأنه شارك في نمط آخر لم ينجح
صانعوه في جعله
امتداداً متطوّراً لسابقه، أي الكوميديا الرومانسية الغنائية (مثّل في
«رحلة حب»
لمحمد النجّار مع المغنّي محمد فؤاد). نوعان سينمائيان ظلاّ نسخة باهتة
عمّا صنعته
السينما المصرية في تاريخها العريق: الكوميديا والرومانسية الغنائية. على
الرغم من
هذا كلّه، ثابر أحمد حلمي في عمله، مقدّماً أدواراً أولى في
أفلام «ميدو مشاكل» (2003)
لمحمد
النجار و«زكي شان» (2005) لوائل إحسان و«ظرف طارق» (2006) لإحسان
أيضاً، بدت جزءاً من المشهد العاديّ العام للإنتاج السينمائي المصري، علماً
بأن
المراقب قادرٌ على اعتبارها اليوم، أي بعد مشاهدة حلمي في
فيلمه الأخير «كده رضا»
لأحمد جلال، بمثابة تمرين أدائي (وإن كان باهتاً أو منقوصاً أو عادياً)
أوصله إلى
تقديم ثلاث شخصيات في فيلم واحد. بمعنى آخر، بدا حلمي في أفلامه تلك ممثلاً
منذوراً
لنجاح نقدي جدّي، لامتلاكه قواعد أساسية في التمثيل الكوميديّ،
تحتاج (على الرغم من
هذا) إلى نصّ متين وإدارة إخراجية تتيح له التعبير الكوميدي عمّا يختزنه في
ذاته،
وهو (التعبير) غير قليل.
ليست
مبالغة، بل محاولة متواضعة لقراءة سيرة ممثل
تحتاج إليه السينما الكوميدية المصرية للخروج من مآزقها، خصوصاً أن
الكوميديين
الشباب لم يعودوا شباباً وفقدوا جمالية إطلالاتهم الأولى بعد أن غرقوا في
الربح
السريع والتسطيح الدرامي. فهو درس
تقنيات الديكور عند انتسابه إلى المعهد العالي
للفنون المسرحية في القاهرة، وعمل مذيعاً في برامج تلفزيونية للأطفال. لكن
«براعته»
في اقتناص لحظات كوميدية خاصّة به كانت كفيلة بإظهار ما يملكه من أدوات
تعبير أدائي
سليم، من دون أن ينتبه إليها فيبلورها، ربما لأن طغيان التجاريّ
الاستهلاكيّ في
صناعة السينما المصرية في الأعوام الأخيرة شكّل حاجزاً أمام إمكانية تطوير
هذه
البراعة المتواضعة، وتحويلها إلى حالة مستقلّة. الدليل على
ذلك: اشتغاله في «كده
رضا». ليس لأنه مثّل، بأداء لافت للانتباه، ثلاث شخصيات متناقضة كلّياً في
ما
بينها؛ وليس لأن الفيلم مكتوب بلغة مبسّطة مزجت بعض الكوميديا بشيء من
التشويق
البوليسي والمطاردة الخفيّة والحِيَل المطلوبة في صراع دائر
بين أطراف عدّة؛ وليس
لأن الممثلين الآخرين أفسحوا مجالاً واسعاً أمامه كـ«بطل مطلق»؛ بل لأنه
أتقن أدوات
المهنة مستوعباً الحدود الفاصلة بين هذه الشخصيات المتناقضة،
ولأنه أظهر المعنى
الجميل للكوميديا من دون ابتذال المادة الدرامية أو تسطيحها. ذلك أن «كده
رضا»
قابلٌ لأن يُشكّل تحوّلاً في مسيرة أحمد حلمي، إذا حافظ الممثل على خصوصيته
هذه
مطوّراً نفسه بتدريب قاس على الأداء الجادّ وإن كان كوميدياً، وإذا ظهرت
إلى جانبه
مواهب شبابية في الكتابة والإخراج وتنفيذ التقنيات تكون مختلفة
تماماً عن تجارية
العمل الفني الآنيّ. لا يعني هذا رفضاً للتجاريّ في صناعة السينما، بل
تأكيدٌ على
إمكانية صناعة أفلام تجارية تمتلك شروطاً إبداعية مطلوبة أصلاً في تحقيق
الأفلام.
إن «كده رضا» بدا متمكّناً من تنفيذ هذا الخليط بين التجاريّ والفنيّ
المتواضع، في
حين أن
أحمد حلمي بدا أفضل وأجمل وأكثر انفتاحاً على المساحات المحيطة به، شرط أن
يستكمل هذا كلّه بمزيد من الاشتغال الحقيقي.
اختلاف
واضح
قد يقول
البعض إن
«التنظير» السابق مغايرٌ لواقع المسار الفني الخاص بأحمد حلمي، معتبراً إياه
ممثلاً
عادياً للغاية. وقد يقول هذا البعض أو غيره أن «كده رضا» ينتمي إلى سلسلة
الأفلام
العادية (أو الهابطة، ربما). لا بأس. غير أن أحمد حلمي في «كده رضا» مختلفٌ
(إلى
حدّ معقول) عن أحمد حلمي في أفلامه السابقة كلّها تقريباً:
إنه، هنا، ممثلٌ حقيقي
أولاً، وممثلٌ كوميديّ ثانياً. الشرط الوحيد لتأكيد هذا، كامنٌ في ضرورة أن
يعي
حلمي أهمية العمل الدؤوب على التنويع والتطوير والاشتغال الدائم، وضرورة
تحصين
الذات من الغرور وحمايتها من الوقوع في مأزق التهريج والتسطيح
والسذاجة، الذي وقع
فيه زملاؤه الآخرون.
ماذا فعل
أحمد حلمي في «كده رضا»؟
أدّى
ثلاثة أدوار
لثلاث شخصيات تمثّل ثلاثة اخوة توائم اضطرّ والدهم الى أن
يُسجّل واحداً منهم فقط
في
سجلات الدولة عند ولادتهم، لتخفيف تكاليف العيش عليه، هو السارق بامتياز
الذي
يُقرّر عند ولادة التوائم ووفاة زوجته أن يتوب عن أفعاله القديمة ويتوقّف
عن
السرقة. في تدبير شؤون عيشهم، تعلّم الاخوة الثلاثة أن
يتناوبوا على تنفيذ كل شيء:
في
المدرسة، في الحيّ، في يومياتهم المثقلة بألف حكاية وموقف. غير أن كل واحد
منهم
تمتّع بميزة خاصّة به: هناك أولاً الخائف المتردّد والمتواضع دائماً، الذي
يعشق
الكمبيوتر ويمضي وقتاً طويلاً أمام شاشته، ويعاني اكتئاباً
دفعه إلى زيارة طبيب
نفسيّ (خالد الصاوي) ليُعالجه من «أمراضه». وهناك ثانياً المغرم بكرة القدم
والمرح
دوماً، الذي يعمل وشقيقه الثالث الأزعر والفهلوي والقبضاي في
تنفيذ سرقات «متواضعة»،
لأنهما قرّرا الهجرة إلى بلد بعيد بعد أن يجمعا مبلغاً «محترماً» من
المال. لكن «لقاءهم» فتاة جميلة (منّة شلبي) يدفعهم إلى عيش تجربة الحبّ
باختلاف
واضح في الأمزجة والهواجس. تتطوّر العلاقة بها، قبل أن يكتشف
الأخوة الثلاثة حقيقة
الفتاة والطبيب النفسيّ والألاعيب المتفرّقة التي تمارس عليهم. هذا كلّه في
مزيج
الكوميديا بـ«الأكشن» الخفيف والعلاقات الإنسانية الدافئة والجميلة.
كلاكيت
تحت
القانون وخارجه
نديم
جرجورة
استعاد
مقصّ الرقيب
اللبناني سطوته على الصنيع الفنيّ، فأمعن فتكاً بإنجاز سينمائي
مهمّ لمخرج قدير، كي
«يحمي»
الأمن اللبناني والسلم الأهليّ من الانهيار. فقد اقتطع المقصّ المذكور
مشاهد
عنفيّة من «وعود شرقية» لديفيد كروننبيرغ، لأنه وجدها مسيئة إلى المزاج
اللبناني
المُسالم(!)، وسلخ من سياقه الدرامي والجمالي مشهداً جنسياً كي
يُحصّن الأخلاق
اللبنانية الحميدة(!) ويمنع وقوعها في فجور الشيطان وإغواءاته الشريرة.
غير أن
معاناة النتاج السينمائي في لبنان لم تعد حكراً على قوانين
جائرة بحقّ الإبداع
والنتاج الثقافي العام. ذلك أن قرصنة الأفلام المنسوخة على أشرطة «فيديو
ديجيتال»،
التي يراها كثيرون مفيدة للطبقة الفقيرة الراغبة في مشاهدة الأفلام
والعاجزة عن
شراء نسخ قانونية بمبالغ «خيالية»، لا تواجَه برقابة صارمة، ولا تتعرّض
للمطاردة
الأمنية والملاحقة القانونية، لأنها تتمّ في داخل مربعات أمنية
وسياسية محلية
وفلسطينية عصيّة على القوانين اللبنانية.
تمزّق
الرقابة اللبنانية أفلاماً
سينمائية
تُعرض في صالات خاصة بها، وتختفي «القوانين» التي تحمي الحقوق الفكرية في
ظلّ نظام فاقد شرعيته. تسطو الرقابة على حقّ المُشاهد في التمتّع بمشاهدة
فيلم
كامل، مهما بلغت قسوته وعنفه وإغراءاته الجنسية يبقى أخفّ وطأة
وحدّة من الفلتان
اللبناني المتنوّع، وتغيب أجهزة الأمن عن تلك المربعات المحصّنة بقوة أرضية
أو
إلهية. تنزعج الرقابة من نقد موجَّه إليها، لأنها تبرّر أفعالها بالقول
إنها تستند
إلى قوانين قائمة، لكن القوانين القائمة تختفي كلّياً عندما
يُطرح سؤال القرصنة، مع
أن
قرصنة الأفلام «مفيدة» لشريحة كبيرة من المشاهدين اللبنانيين الذين يغيبون
عن
الصالات السينمائية (كغيابهم القاتل عن المطالبة بحقّهم الشرعي في العيش
بكرامة) ما
دامت المربعات الأمنية توفّر لهم إمكانية المشاهدة بأسعار
زهيدة.
سيقول
قائلٌ:
لماذا المطالبة بمنع القرصنة، ما دامت مفيدة لكثيرين؟ هذا صحيح. لكن
التطبيق
المجتزأ
والمنقوص لبعض القوانين من دون غيرها، يدفع المرء إلى إعلان موقف نقدي حادّ
ضد
الرقيب المتمتّع بنفوذ قوي على النتاج الإبداعي بحجّة «القوانين»، وضد
السكوت
الرسمي وغياب «القانون» عن قرصنة لم تعد حكراً على أشرطة «دي
في دي»، لأنها طالت
بلداً وشعباً ومجتمعاً بكامله.
قيل إن
تحسّناً طرأ، في الأعوام القليلة
الفائتة، على تعامل الرقابة مع الأفلام السينمائية. لكن هذا التحسّن، إن
وُجِد،
متواضعٌ للغاية، لأنه لم يؤدّ إلى تحرير العمل الثقافي والفني من قيود
صارمة يتشاطر
القيّمون عليها في تنفيذها، بينما البلد كلّه مستباح بأنماط
شتّى من عنف كلاميّ
أخطر وأقسى على أمزجة اللبنانيين وأخلاقهم الحميدة من أي مشهد عنفيّ تلتقطه
السينما
من الواقع الإنساني البحت. في حين أن القرصنة متوفّرة بشدّة
لكل من أراد أن يستكمل
مشروع استباحة البلد وناسه الخاضعين لأسياد ليسوا إلاّ خدماً عند أسياد
آخرين.
السفير اللبنانية في 17
يناير 2008
|