فجّر فيلم
"كارتوش غولواز'' (90 دقيقة) وهو من إنتاج مشترك جزائري فرنسي (2007 )،
قنابل بالجملة، غداة عرضه الأول في الجزائر، حيث اتهمّ قطاع واسع من
الجزائريين مواطنهم المخرج المغترب "مهدي شارف" بطعن ذاكرة ورموز بلادهم،
والجنوح نحو تمجيد الاستعمار، وعبّرت الجماهير الجزائرية كما النخب عن
استياء عميق لكون الفيلم المعروض في مهرجان "كان" الأخير(خارج المسابقة)،
سقط –بحسبهم- في فخ القفز على الحقائق التاريخية، رغم أنّه استنزف مخصصات
زادت عن 1.8 مليون يورو رصدتها له الحكومة الجزائرية.
حينما
يساوى بين الجلاّد والضحية
الفيلم
يروي طفولة المخرج نفسه، عبر قصة الطفل ''علي'' التي تختزل ما طبع ثورة
الجزائر التحررية وتمزّقات تلك المرحلة وتجاذباتها (1954 م-1962م)، في
الفيلم نجد الصبي علي بائع الصحف ذي العشر سنوات، الذي ينسج علاقات حميمية
مع ثلاثة من أقرانه "نيكو"، "دافيد" الفرنسيان والإسباني "جينو"، جميعهم من
عائلات يهودية، وهؤلاء يعتبرون والد علي (إرهابيا) لكنهم يصاحبونه، ويصرون
ااستمرار على مواجهته بالسؤال المحرج:"هل صحيح أنّ والدك إرهابي؟"، ويمضي
هذا الرباعي الطفولي، في مغامرات مفتوحة تتعامل بتقزّز من الجرائم الفرنسية
ومن المقاومة الجزائرية، حتى أنّ المخرج يدفع أبطاله للمساواة بين الجلاّد
والضحية، بزعم "إفرازهما لآلام الحرب وبشاعاتها" (..).
طبعا مثل
هذا الكلام المجانب لحقيقة ما كان قبل نصف قرن، زاد عليه المخرج أن نسب إلى
الجزائريين ترهيب اليهود، مع أنّ هؤلاء غادروا البلد بمحض إرادتهم، علما
إنّ الجزائر احتضنتهم، بينما هم خانوها وأعانوا الفرنسيين على احتلالها في
صائفة العام 1830م، وحتى يفرض نوعا من (التوازن العارض)، أوحى المخرج
للعجوز اليهودية راشيل التي رفضت مغادرة الجزائر بعد الاستقلال، أن
تقول:"أفضّل أن أموت هنا بسكين عربي على أن أعيش المهانة هناك على أيدي
الفرنسيين"، كما جاء على لسان الطفل جينو مناجيا صديقه دافيد:"لا ترحل،
هناك في فرنسا لا يطيقون اليهود!".
عنوان
الفيلم "كارتوش غولواز'' انطوى على إحالتين، فلفظ (كارتوش) يحتمل معنى
الغلاف الكارتوني لعلبة السجائر، وفي الوقت ذاته يمكن قراءة (كارتوش) على
أنّها "خرطوشة" أي ذخيرة رصاص، كما أنّ "غولواز" يتّم استقرائها سيميائيا
على أنها ماركة السجائر الفرنسية الأكثر رواجاً في المغرب العربي، مثلما
تعني "الغولوا"
Gaulois
وهو الكائن الفرنسي.
المنتقدون أعابوا على المخرج مهدي شارف، تصويره فرنسا كملاك، وارتضائه دور
الشاهد المحايد دون أن يتبنى موقفا، مع أنّه ابن هذه الأرض، إذ اكتفى بموقع
المحايد وقام بسرد الأحداث وتصوير عمق العلاقة الإنسانية بين الفرنسيين
المدنيين والمواطنين الجزائريين، دونما تبني لموقف جزائري أو فرنسي.
إهانات
غير بريئة ؟ !
بقصد أو
دونه، وجّه مخرج "كارتوش غولواز'' إهانات غير بريئة إلى بلده الأمّ
"الجزائر"، فقد صوّر العلم الجزائري على ناصية كوخ حقير من قصب علّقت عليه
الراية المحلية، وفي اختتامه الفيلم، طرح العلم الجزائري أرضا عوض أن يرفرف
عاليا، ولم يتحرّج من إبراز ثوار الجزائر في صورة مشينة إذ ألبسهم زيا
أفغانيا، كأنّما يوحي بأنّهم (إرهابيين)، كما غاب مصطلح "مجاهد" واستعيض
عنه بكلمة "فلا?ة" (كان يستخدمها الفرنسيون دلالة على ثوار الجزائر).
هذه
الكليشيهات رأى فيها الشارع الجزائري جافة من أي وطنية وتشكّك في هوية ونبل
"المجاهدين"، وجوفاء من الحقيقة التاريخية، من حيث ترويجها لـ(نعومة)
فرنسية انكسرت.
كما سخر
المخرج من المساجد، عندما راح يقارنها في قالب فولكلوري بناطحات سحاب مدينة
مارسيليا، وذهب إلى حد تهديده بتدمير فرنسا للمساجد بعد أن دمّر الفدائيون
الجزائريون تمثالا بوسط المدينة، ولم يغفل مهدي شارف أن يستهزأ بتعدد
الزوجات عند المسلمين في حوار جعل من الرجل الجزائري متعطشا جنسيا والمرأة
مجردة من الإرادة تخضع لنزواته متى أتى دورها ومتى أراد، فضلا عن إظهاره
فتاة جزائرية في بيت دعارة مع جنود فرنسيين.
وثالثة
الأثافي كما يقال، التعاطف غير المفهوم للمخرج مع اليهود و(الحركى) وهم
أولئك الذي باعوا وطنهم لصالح الكولونيالية، فنبذهم المجتمع الجزائري
وتنكرت لهم فرنسا أيضا، لكن المخرج يفضل التعاطي معهم بصورة إنسانية متجردة
من خلال تقديمه " جلول" الحرْكي الفظّ والعنيف الذي يثير الرعب في نفس
الطفل علي، كلما صادفه أثناء الحرب، لكنّه يشعر بالأسى عليه حين يراه بعد
إعلان الاستقلال، عارياً ومقيّداً في مخزن مهجور.
المخرج
مهدي شارف:"قدّمت قراءة سينمائية وفيلمي قرأ التاريخ بطفولية"
وردا على
سيل الانتقادات التي طالت فيلمه، قال المخرج " مهدي شارف" أنه قدّم قراءة
سينمائية لا غير لما عايشه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مشددا أنّه
لم يقصد إهانة الجزائر، وصنّف كل المآخذ في خانة "الرؤية الإخراجية"،
وبالنسبة إليه وضع العلم على الأرض، إنّما يعبّر عن مدى التعلق بالأرض
والجذور.
وأضاف
شارف إنّ عدم تبنيه لأي موقف في الفيلم راجع لكونه أخرجه ببراءة طفل في
العاشرة من عمره، لم يكن مؤهلا لإصدار أي أحكام في مثل سنه، لذا اكتفى بدور
الشاهد، كما رأى المخرج أنّ فيلمه حمل المصداقية المطلوبة، وأضاف أنّه كان منصفا في مقاربته للأحداث
التاريخية، ولم ينحاز، بدليل تصويره
عمليات القتل الجماعي التي اقترفتها فرنسا، بجانب مداهمات
المجاهدين لمنازل المعمرين الفرنسيين وتصفيتهم.
الدور
الرابع ولعبة المتتاليات
فيلم "كارطوش
غولواز" هو رابع عمل يدور في فلك حقائق تاريخية واجتماعية مشوهة تفتقد إلى
الصدقية، بعد فيلم "دليس بالوما" لنذير مخناش الذي تضمن أفكارا غريبة عن
الثورة الجزائرية فحرّف وسقط في الانحراف، تماما مثل فيلم وثائقي لمخرج
فرنسي من أصل جزائري أثار استياء عارم في الجزائر قبل أشهر، عندما أظهر
صاحبه " جون بيار ليدو " في فيلمه "ما يبقى في الوادي غير حجارته"، تحاملا
واضحا على ثورة الجزائر، محملا إياها مسؤولية ما سماها "العدائية" من خلال
تسويقه لسيناريو مفاده إنّ قادة الثورة الجزائرية هم من أعطوا أوامر لتصفية
المدنيين الاوروبين من خلال تشجيعهم عمليات وضع القنابل في الأماكن
العمومية ذات الأغلبية الأوروبية، وذهب جون بيار ليدو أكثر من ذلك عندما
أصرّ على إقناع المتفرجين بأن الاستعمار الفرنسي بريئ من الجرائم التي
ارتكبها في حق الشعب الجزائري (..).
كما ثارت
في الجزائر موجة استياء عارمة، الشتاء الماضي، إثر إقدام فيلم "بركات "
لمخرجته جميلة صحراوي المقيمة بباريس، على "سبّ الجزائر وتجريم ذاكرتها
الوطنية"، حيث انطوى الفيلم المذكور على سخرية وتعريض بشهداء الجزائر،
وتهكم صريح بمجاهدي الثورة، ناهيك عن عدم تحرّج الفيلم المنعوت بـ"السياسي
التجاري" من توجيه أصابع الاتهام لقوات الأمن الجزائرية بضلوعها في تقتيل
الأبرياء خلال سنوات الفتنة الدموية خلال تسعينيات القرن الماضي.
موقع "إيلاف" في 16
يناير 2008
|