عشقت في
شبابي المبكر ـ منذ أكثر من أربعين عاما ـ مقطوعة موسيقية للمؤلف الموسيقي
التشيكي سميتانا تحمل اسم "بلادي"، كان الجزء الأول منها بعنوان "نهر
المولداو"، وكان يسحرني بتلك الألحان القصيرة المنسابة والمتداخلة لآلات
"الفلوت"، تصاحبها آلة "الهارب" في الخلفية، وشيئا فشيئا يولد اللحن
الرئيسي ليتفجر علي الأوركسترا الكاملة، فتحلق معه روحي في السماء.
بعد سنوات
اكتشفت ـ في صدمة حقيقية ـ أن هذا اللحن هو موسيقي النشيد الوطني
الإسرائيلي، وبالطبع فإن سميتانا لم يؤلف مقطوعته لهذا الغرض، وهو الذي مات
في عام 1884 قبل ما يزيد علي ستين عاما من إعلان الكيان الصهيوني، بل قبل
ثلاثة عشر عاما من انعقاد أول مؤتمر للصهيونية، لأعرف فيما بعد أن
"إسرائيل"، التي قامت علي سرقة الوطن الفلسطيني وسرقة تراث العديد من
الشعوب لتنسبه لنفسها، ادعت أن هذا اللحن هو أحد الألحان اليهودية
الفولكلورية "اليهودية"، بينما الحقيقة أنه لحن أغنية شعبية إيطالية تعود
إلي القرن السادس عشر، ثم انتقل هذا اللحن ـ لبساطته وجماله ـ إلي كل ألحان
أوروبا.
بالطبع
فقدت للأبد حبي الجارف للحن نهر "المولداو"، لأنني ـ كأي إنسان ـ تتداخل
خبراتي وتتشابك بحيث لا أستطيع أن أفصل ما هو "فني" عما هو "سياسي"، فعندما
تصل إلي أسماعي نغمات اللحن تتداعي معه في وجداني كل الأفكار عن كيان عنصري
سرطاني معادٍ للإنسانية، وإذا كان هناك من يدعي أنه يمكن فصل الفن عن
السياسة فهو في الحقيقة يمارس أشد أنواع السياسة خبثا، فوظيفة أي فني هي
تشكيل الوجدان وإعادة صياغته، وذلك هو ذاته جوهر السياسة وهدفها. وإذا كان
ذلك ينطبق علي الموسيقي، التي يزعمون أنها أكثر الفنون "تجريدا"، فكيف يكون
الحال مع السينما وهي أكثر الفنون "تجسيدا"؟ ذلك هو السؤال الذي أرقني
طويلا وأنا أشاهد الفيلم الإسرائيلي "زيارة الفرقة"، الذي تستطيع أن تؤكد ـ
للوهلة الأولي ـ أنه يقوم علي حبكة شديدة "الإنسانية": فرقة موسيقية تاهت
في الصحراء وانتهي بها الحال إلي قرية نائية، ولم تجد الفرقة مفرا من أن
تبيت ليلتها في القرية انتظارا لقدوم الصباح، ولأن أهل القرية يعيشون حياة
رتيبة فإنهم يستضيفون أفراد الفرقة، ليحدث التفاعل "الإنساني" بين الطرفين،
ليس فقط لأن كل طرف استطاع أن يكتشف الطرف الآخر، بل لأنه استطاع أن يكتشف
ذاته.
حبكة
رقيقة ذكرتني بلحن "نهر المولداو"، لولا أن الفرقة الموسيقية مصرية،
والقرية إسرائيلية، فعندئذ لا تصبح فقط أمام "النص" الصريح والمباشر
للحدوتة، وإنما أمام ما يطلق عليه أهل "البنيوية" مصطلح "النص الفرعي" أو
المتضمن، أو ما أفضل أن أسميه "ما بين السطور"، لأن مركز أي صورة يتغير إذا
تغيرت أطرافها، وتبرز في اللوحة عناصر كانت خفية إذا قمت بتغيير الخلفية،
فبمجرد أن تضع هذه القصة "الإنسانية" علي خلفية إسرائيلية فإنك لا تملك إلا
أن تخرج بالعديد من النتائج المختلفة تماما عما لو كانت نفس القصة تدور علي
سبيل المثال في صحراء أفريقيا الكبري أو أدغال الأمازون أو حتي مدينة
نيويورك. وأرجو ألا يفهم القارئ أنني أقلل من شأن الفيلم كعمل فني، نتيجة
لموقفي المسبق والمبرر تماما تجاه الكيان الصهيوني، فأنا لا أستطيع أن أكرر
لغو ذلك الكاتب السياسي الذي لم ير الفيلم لكنه برعونة شديدة ـ تقلل في
الحقيقة من مصداقية جديتنا في تناول الأمور ـ انتهي في حديث تليفزيوني إلي
أن "السياسة الرديئة تصنع فنا رديئا"، وإن كنت لا أدري في هذا السياق معني
"الرداءة" النسبي تماما، فالسياسة الأمريكية التي نختلف معها كل الاختلاف
تصنع أكثر الأسلحة تقدما، والفن هو أحد هذه الأسلحة، وترسانة هوليوود تقذف
علينا كل يوم أكثر أفلامها إتقانا وخبثا، لكن آخر ما يمكن أن تصفها به هو
"الرداءة".
فيلم
"زيارة الفرقة" في الحقيقة هو قطعة فنية رقيقة لكاتب السيناريو والمخرج
عيران كوليرين في أول أفلامه الروائية الطويلة، وهو لا يزال في الرابعة
والثلاثين من عمره، واستحق الفيلم عشرات الجوائز المحلية والعالمية (وليس
هناك داعٍ للمماراة الزائفة في هذا الشأن)، ناهيك عن أنه تم تنفيذه
بميزانية شديدة التواضع (هل يجب علينا أن نقارن مرة أخري بفيلم "المسافر"
الذي تنتجه وزارة ثقافتنا بميزانية كانت تكفي لصنع عشرين فيلما بمستوي
الفيلم الإسرائيلي "زيارة الفرقة"؟).
فلننظر
أولا إلي الجانب الفني المرهف من الفيلم، خاصة في تصوير الشخصيات، فالفرقة
الموسيقية المصرية "العسكرية" تتألف من العديد من الأفراد، علي رأسهم توفيق
(ساسون جابي) القائد الكهل شديد الانضباط والصرامة، لكنه يحمل بداخله شعورا
بالندم لانتحار ابنه بسبب قسوته عليه، وموت زوجته حزنا علي الابن، ثم يأتي
سيمون (خليفة ناطور) الرجل الثاني في الفرقة الذي ينتظر ـ دون أمل كبير ـ
أن يقود الفرقة يوما ما، كما أنه يعجز عن إكمال تأليف مقطوعة موسيقية بدأها
منذ سنوات، وأخيرا نري خالد (صالح بكري) الشاب المنطلق المتمرد علي القيود.
في الجانب الإسرائيلي تأتي المرأة دينا (رونيت ألكابيتس) صاحبة المطعم
المتواضع، التي تعاني من الوحدة بعد أن انتهي زواجها السابق إلي الطلاق،
وتقرر أن توزع أفراد الفرقة علي أهل القرية، فتستضيف توفيق وخالد، بينما
يذهب سيمون ليبيت لدي عائلة الزوج العاطل إيتزيك (روبي موسكوفيتش) وأسرته.
براعة
الفيلم الحقيقية أنه يحاول أن يتخطي "الحاجز النفسي" الكامن لدي المتفرج
العربي، الذي يرضيه بشكل غير واعٍ أن يتجسد العرب في "الرجل" بينما تتجسد
إسرائيل في "المرأة"، كما أنه في الوقت الذي يقدم فيه الإسرائيليين يتسمون
بكرم الضيافة مع "العدو"، فإنه يقدم المصريين كشخصيات إيجابية نبيلة،
فتوفيق الكهل لا يخون ذكري زوجته مع دينا، ويذهب خالد بكل شبابه ومرحه
بصحبة الفتي الإسرائيلي الخجول بابي (شلومي أفراهام) لكي يعلمه كيف يتواصل
مع حبيبته في مشهد يجمع بين الرقة والكوميديا، ناهيك عن الاحتفاء بالثقافة
العربية حين يترنم خالد بأبيات من الشعر العربي فتتسلل الكلمات والإيقاعات
إلي وجدان بابي حتي لو لم يكن يفهم معناها، أو عندما تحكي دينا لتوفيق (وهي
بذلك تتحدث بلسان كاتب السيناريو والمخرج عيران كوليرين الذي أدلي بالكلمات
ذاتها في حوار صحفي) عن أن الشوارع الإسرائيلية كانت تخلو من المارة في عصر
أيام الجمعة، حين كان التليفزيون الإسرائيلي يعرض أفلاما مصرية تقول إن
الإسرائيليين تعلموا الحب من خلالها ومن كلمات مثل "يا حبيبي" و"يا عمري"
و"يا حياتي".. فكأن الفيلم يسألك بعد ذلك كله: لماذا إذن لا يعيش المصريون
والإسرائيليون في سلام؟!
وهنا يأتي
أوان "ما بين السطور" الذي يحمل العديد من الأفكار والأساطير الصهيونية
الخفية، وسوف أرجئ الحديث عن أسطورة "الشعب" الإسرائيلي للمقال القادم الذي
يتناول فيلم المخرجة المصرية نادية كامل "سلاطة بلدي"، لأكتفي هنا بالإشارة
إلي أن عملا فنيا يقفز هكذا علي كل التناقضات السياسية الجوهرية كأنها غير
موجودة يجرد الحدوتة من الصراع الحقيقي، ويجعلها تفاعلا بين "البشر" دون أي
تمييز عنصري أو ديني، وهذا التفاعل "الإنساني" شيء رائع لولا أن الكيان
الصهيوني هو الذي يقوم علي فلسفة لا إنسانية ومغرقة في العنصرية، وهو
الكيان الذي سرق وطنا كما سرق لحن "نهر المولداو" ليضع عليه كلمات نشيد
يتحدث عن وطن "يهودي" وينفي وجود أصحاب المعتقدات الأخري، وبذلك فإن صورة
إسرائيل في الفيلم صورة زائفة من جانب، ومتعمدة في زيفها من جانب آخر،
فاختيار الصحراء القاحلة مكانا للقاء "الشعبين" تكريس للمقولة الصهيونية
بأن فلسطين "أرض بلا شعب"، أو كما تعبر عنه المرأة الإسرائيلية دينا وهي
تصف قريتها: "ليست هنا ثقافة عربية، ولا ثقافة إسرائيلية، ليست هنا ثقافة
من أي نوع"، فالحقيقة أن كل حبة رمل من أرض فلسطين تشع ثقافة عربية وإن
تناسي الفيلم ذلك عامدا. وأرجو أن تتخيل معي كيف كان الفيلم سوف يمضي في
حبكته لو دار في قرية أو مدينة صغيرة احتلها الصهاينة بعد طرد أصحابها
الفلسطينيين الذين تركوا وراءهم بئرا وكرمة وحقلا ودارا. بل أرجو أن تقرأ
معي كلمات ناقد "جيروزاليم بوست" الذي كانت له قراءته "السياسية" لما بين
السطور في هذه القصة "الإنسانية" فيما يزعمون، حين أكد أن الفيلم يقول إن
المستوي الثقافي للمصريين لا يرقي إلي مستوي أهل مدينة مثل تل أبيب، فهو لا
يتعدي مستوي أهل تلك القري الإسرائيلية النائية التي يسكنها يهود شرقيون أو
مهاجرون روس فقراء، فهل بعد ذلك قراءة أكثر إغراقا في العنصرية
الصهيونية؟!
للأسف فإن
مشاهدة هذا الفيلم تصيب المرء بالأسي والمرارة والحسرة، فكيف للكيان
الصهيوني الذي لا ينتج في العام إلا حوالي عشرة أفلام أن يجد من بينها في
عام 2007 ثلاثة أفلام تتسابق في المهرجانات العالمية وتحصد الجوائز؟ وكيف
يمكن ابتكار أفكار مبدعة بأقل التكاليف؟ (بالمناسبة فإن الممول الرئيسي
للفيلم هو إحدي شبكات التليفزيون الإسرائيلية). وكيف يمكن صنع أفلام سياسية
شديدة الجدية والخبث بهذه الرقة الشاعرية والرهافة الفنية، في نفس الوقت
الذي تقوم فيه الآلة العسكرية الإسرائيلية في كل دقيقة بممارسات شديدة
الوحشية علي الشعب العربي؟ إن أردت إجابة مختصرة عن السؤال فهو أن كيانا
قام (بالمعني الحرفي للكلمة) علي "شراذم" أوروبية استطاع أن ينجح في أن
يصطنع لنفسه دولة، بينما فقدت أوطان عربية كاملة كيان "الدولة" رغم أنها
كانت قائمة من آلاف السنين. نحن يا قارئي العزيز الذين تركنا الكيان
الصهيوني يفرض وجوده المصطنع حين فرطنا في وجودنا، وأصبحنا نعيش في مهب
الريح في وطن يقومون بتفكيكه وبيعه كل يوم، ويفرضون كل صنوف القهر علي
أبنائه، الذين يبدو للوهلة الأولي أنهم فقدوا القدرة علي المقاومة
والإبداع، لكن التاريخ لن يتوقف عن الحركة أبدا، لأننا لن نرضي أن نفرط في
هذا الوطن، وفي المرة القادمة التي سوف تحدث فيها "زيارة الفرقة" لن نكون
ضيوفا، لأننا أصحاب هذه الأرض التي لا يمكن لها إلا أن تقاوم بكل ما تملك
سرطان الأفكار الصهيونية العنصرية.
العربي المصرية في 14
يناير 2008
|