ربما يكون من نعم الحياة أننا في أغلب الأحيان لا نستطيع
التنبؤ بالغيب، فهذا العجز عن رؤية المستقبل يجعلنا نتفادى القلق الذي
يُمكن أن نعانيه إذا أدركنا أن هناك ظروفاً صعبة بل وأحياناً كوارث
تنتظرنا. كما أن معرفة الغيب تُفقدنا الدهشة والبهجة التي يُمكن أن تُحيط
بحياتنا عندما تقع لنا حوادث سعيدة لم نتوقع حدوثها، أو لم نكن واثقين من
وقوعها.
مع ذلــك، فإن معرفة المستقبل مسألة مهمة حتى نستطيع أن نتخذ
الخطوات التي تُساعدنا على تجاوز مصاعبها، لذلك يرغب أغلب الناس في
معـــرفة إلى أين ستسير بهم الأمور. لهذا السبب لجأوا منذ قديم الزمان إلى
قراءة النجوم، والكف، والفناجين، وضرب الودع، وأساليب أخرى في محاولة لكشف
الغيب، ما أدى إلى ظهور أعداد من المشعوذين للقيام بهذه المهمة.
لكن تدريجاً أصبح في استطاعة العلوم التنبؤ في الكثير من نواحي
الحياة. ربما هذه الرغبة في استشراف المستقبل هي التي دفعت يوسف شاهين،
ومعاونه خالد يوسف إلى إخراج الفيلم الذي أطلقا عليه «هي فوضى؟»، فهو فيلم
لا يتحدث عن الحاضر فحسب وإنما أيضاً عن احتمالات المستقبل في مصر. ذلك أن
الفن قادر هو أيضاً، وأحياناً قبل العلم، على التنبؤ بما يُمكن حدوثه، لا
سيما عندما يكون فناً جيداً.
المشكلة في فيلم «هي فوضى؟» أنه لم يتنبأ بشيء لا يعرفه الناس
في بلادنا، فالموضوع الذي تعرض إليه معروف بتفاصيله. الناس يعيشونه كل يوم
ويحكون عما يدور فيه باستمرار. كذلك تكتب عنه الصحف كل يوم مع اختلاف بسيط
في بعض التفاصيل. الناس العاديون يُعبرون عن استيائهم من شيوع القهر
والاستبداد والطغيان البوليسي في بلادنا من دون انقطاع، ويتوقعون حدوث
انفجار شعبي في أي وقت، خصوصاً مع الارتفاع الجنوني في أسعار السلع التي
يحتاجون إليها.
اجترار
لم يكن الجمهور الذي شاهد فيلم «هي فوضى» في حاجة إلى معرفة ما
عُرض عليه. ولم يتعلم منه شيئاً جديداً. الفيلم من ناحية موضوعه لم يجعلنا
نكتشف أو نُحس بشيء خارج نطاق ما نعيشه في حياتنا، والذي أصبح الكلام عنه
نوعاً من الاجترار لما نُعانيه. حتى الصور التي خرج بها الفيلم عن المألوف
بدت مصطنعة. مثال ذلك صورة المومسات في الحجز داخل نقطة البوليس، أو حالة
الغرام التي استولت على الشخصية الرئيسة، أي «حاتم» أمين الشرطة، وأدت به
إلى اغتصاب الفتاة التي افتُتن بها. كذلك التصرفات البهلوانية الصادرة عنه
والتي أُقحمت في الفيلم بهدف انتزاع بعض الضحكات من الجمهور، كان من الصعب
الاقتناع بها حتى كنوع من الكوميديا. هذا في ما يتعلق بالجانب الموضوعي،
أما الجانب الفني فلا مجال هنا للخوض فيه.
في جزئه الأخير يُصور الفيلم تظاهرة ضخمة يقتحم فيها الناس قسم
البوليس للانتقام من أمين الشرطة المستبد وارتكابه جرائم من دون عد. قسم
البوليس هنا يرمز إلى النظام الذي أثار غضب الناس من مظالمه، أما أمين
الشرطة فقد اعتبر نفسه تجسيداً لمصر. إنه يقول «اللي ملوش خير في «حاتم»
ملوش خير في مصر» ليرمز بذلك إلى فكرة سلطوية تقول ان الحاكم ومصر هما شيء
واحد، وليذكرنا، مع الفارق بالطبع، بقول الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول:
«أنا الدولة، والدولة أنا».
ينتهي مشهد التظاهرة بانحناء مأمور القسم على «حاتم» الراقد
عند مدخله بعد أن أطلق الرصاص على نفسه ليهمس في أذنه «إنت اللي عملت كدا
في روحك بتبكي ليه دلوقتي»، مشيـــراً في شكل رمزي إلى الحكم، وإلى أن
تصرفات الحكم الطاغية هي التي دفعت الناس إلى الهجوم للتخلص منه. هكذا
يتنبأ الفيلم في نهايته بمصير النظام، وبانفجار الناس ضده بغية التخلص منه،
كما يُوحي في الوقت نفسه بأن هذا الانفجار أصبح وشيكاً.
كاتب السيناريو ناصر عبدالرحمن، والثنائي الذي قام بالإخراج،
أي يوسف شاهين، وخالد يوسف هم بالطبع الذين اختاروا الرموز للتعبير عما
يريدون قوله. ربما جاء اختيارهم لشخصية أمين الشرطة تحسباً للرقابة التي
تعمل في ظل دولة مستعدة لفرض عقاب صارم على الرقباء إن سمحوا بتجاوز الحدود
التي لا يجوز تجاوزها. مع ذلك فاستخدام أمين للشرطة كرمز وهو شخص لا يتعدى
كونه ترساً صغيراً في دولاب الطغيان الضخم ليُجسد نظام الحكم الظالم نال من
حجم أو قيمة موضوع الفيلم، ولم يُؤد إلى تعميق الوعي، بل وجّه السهام في
غير موضعها ما يغشى عيون الكثيرين عن حقيقة الوضع الذي سعى إلى تصويره. كان
يُمكن الاهتداء إلى رمز أكثر ثراءً بإشغال قدر اكبر من الخيال يسمح في
الوقت نفسه بتجاوز عقبة الرقابة.
مع ذلك نجح الفيلم في تسجيل مرحلة خطيرة في تاريخ مصر، ونعرف
أن يوسف شاهين تميز طوال حياته الفنية الطويلة بمتابعته الصبورة والحساسة
لمختلف التطورات المهمة التي مرت بالمجتمع منذ أن أخرج فيلم «بابا أمين»
و «باب الحديد»، وبإصراره على أن يكون شاهداً واعياً، ومؤثراً في الحقل
السينمائي في أحداث ومنعطفات عشناها منذ خمسينات القرن الماضي. وهذا الفيلم
جزء من هذه الصيرورة الحافلة بالإنتاج.
سؤال
أعلن غابريال غارسيا ماركيز منذ سنتين توقفه عن الكتابة بعد أن
أصدر قصته «غانياتي الحزينات». غالب الظن أن القرار شعور ماركيز بأن جعبته
الفنية لم تعد تحتوي على ما يستحق أن يُخرجه منها مقارنة بما سبق أن أبدعه.
أما الراحل يوسف إدريس فصرح في أحد لقاءاته الحميمة مع أصدقائه قائلاً: «لا
أتصور أن يتوقف اسمي عن الظهور على أغلفة الكتب، أو أن يختفي من أعلى
المقالات التي أنشرها في الصحف مرة حتى ولو لمدة أسبوع».
الإبداع عند الفنان مثل التنفس يحتاج إليه ليشعر أنــه مـا زال
حيــاً. لكن ألا يأتي اليوم الذي لا بد من أن يهبط فيه الممثل من على خشبة
المسرح من دون أن يصعد إليها مرة أخرى إن كان يُريد أن يُسعد جمهوره
بإبداعه حتى آخر لحظة. ربما يشعر يوسف شاهين على رغم مشواره الطويل في
الإخراج السينمائي المهم بضرورة الاستمرار في العمل للحفاظ على كيانه
النفسي، وإن كان هذا هو شعوره فليس من حق أي شخص أن يحكم على هذا القرار في
شكل أو في آخر، لأن لا أحد يستطيع أن يضع نفسه في مكانه. ولكن لأن الناس
تحترمه وتحترم فنه ربما يكون من حقهم أن يُطالبوه إذا استمر بأن يُبهجهم
بفنه قبل أن ينسحب لتأمل مشوار الإبداع الذي قطعه خلال سنوات من العمل
المستمر التي زادت على الخمسين عاماً.
الحياة اللندنية في 4
يناير 2008
|