حضر الفيلم السينمائي المغربي «الحال» للمخرج أحمد المعنوني
ضمن فقرة السينما الكلاسيكية في مهرجان «كان» السينمائي الشهير لهذه
السنة2007. ويعود الفضل في ذلك إلى إعجاب المخرج العالمي مارتين سكورسيزي
بأجواء هذا الفيلم الذي يتحدث عن تجربة الفرقة الموسيقية الشعبية «ناس
الغيوان» التي امتدت شهرتها إلى العالم بأسره بألحانها وتعابيرها التي تمتح
من التراث الصوفي والشعر الشعبي كلماتها، فيما تغوص ألحانها في الأجواء
الروحية الممتدة في عمق التراث المغربي المتجلي في فن «الملحون» والأفريقي
الممتد في فن «كناوة». وهذا الفن، كما هو معروف، يلتقي مع فن الجاز في قوة
تعبيريته عن الحياة وتموجاتها الروحية المتعددة، كما حضر بقوة في الدورة
السابعة لمهرجان مراكش السينمائي، حيث تم عرضه من جديد في ساحة جامع الفنا
الشهيرة بحضور المخرج سكورسيزي وعمر السيد رئيس مجموعة ناس الغيوان ومنتجة
الفيلم عزة جنيني.
قدم المخرج المغربي أحمد المعنوني في هذا الفيلم الذي بات عمره
الآن نحو ثلاثة عقود، صورة حية لهذه الفرقة الغنائية الخالدة، حيث تتّبع
مسارها الغنائي بدءاً من تشكلاته الأولى في أحد الأحياء الشعبية الشهيرة في
مدينة الدار البيضاء، وهو الحي المحمدي، حيث رأينا كيف أن الفيلم انفتح على
تسجيل الحياة اليومية لسكان هذا الحي وتتبع عاداته وتقاليده، واهتماماته
الغنائية التي تجلت خصوصاً في الغناء الشعبي المرتبط بكل ما هو أصيل في هذه
الحياة البسيطة. ركز الفيلم أيضاً بطريقة تسجيلية تجمع بين الخط السينمائي
الروائي والخط الوثائقي الذي يعتمد على الشهادات المستقاة تحديداً من أعضاء
هذه الفرقة الغنائية الشهيرة ذاتها. هكذا رأينا رئيس الفرقة الفنان عمر
السيد وهو يشرح كيفية انبثاق فكرة تأسيس فرقة «ناس الغيوان» والأعضاء الذين
ساهموا في هذا التأسيس والنجاح الكبير الذي تحقق لأغاني الفرقة بحيث امتدت
هذه الأغاني البسيطة في تلقائيتها والعميقة من حيث اتساع التعبير وقوة
الأداء، لتصبح على كل الألسنة، إلى حدود أن تبناها الشباب المغربي آنذاك في
شكل كبير وأصبح يجد فيها ذاته ويعتبرها جزءاً من كيانه. كما لاحظنا أن مخرج
الفيلم في جانب آخر ترك أعضاء الفرقة يتحدثون عن ذواتهم في شكل تلقائي
رائع،. حيث شاهدنا الفنان العربي باطما الذي مثل أحد أعمدة هذه الفرقة
العتيدة على امتداد مسارها الفني الكبير، قبل أن يتوفاه الأجل، وهو يتحدث
مع أصدقائه وفي مقدمهم الفنان عمر السيد عن رؤيته طيف إحدى النساء الجميلات
وهي تصاحبه في حلّه وترحاله، في شكل تلقائي جعل الفيلم يكاد يتجول من هذا
الطابع التوثيقي إلى طابع حكائي بديع يؤسطر المحكي ويمنحه أبعاداً روحانية
كثيفة. إضافة إلى تقديم الفيلم صورة لأعضاء الفرقة في جانب آخر، وهم يجلسون
في شكل عادي، يتحدثون عن دور الفنان في الحياة وعما كانوا سيصبحون لو لم
يكونوا فنانين، وقد كانت إجاباتهم بسيطة، وهو ما منحها طابع الصدق وقوة
التأثير، لا سيما حين قال الفنان العربي باطما إن الإنسان يستطيع أن يتأقلم
مع الظروف التي تحيط به، فإذا كان فناناً ولم يستطع مواصلة مساره الفني فلا
بد له من أن يجد مهنة أخرى يستطيع القيام بها، وإلا فإنه سيموت وهو ما لا
يرغب فيه أي إنسان. إن فلسفة البساطة التي تحدث بها هذا الفنان الكبير هي
ما منح كلامه عمقاً حقيقياً لا نجده عند الكثيرين من مدعي التفلسف في
الحياة. وهو الأمر الذي كان وراء نجاح الفرقة الكبير والمدوي في أرجاء
المعمورة وسر بقائها الذي امتد في الزمان والمكان أيضاً.
قدم الفيلم إلى جانب كل هذه الأشياء والمحكيات، الأحوال التي
كانت عليها مدينة الدار البيضاء من خلال التركيز على تصوير الجانب الشعبي
المتجلي في بناياتها وشوارعها الملأى بالحياة والزاخرة بحركة السير، كما
توقف عند العلاقات التي كانت سائدة بين سكان الأحياء الشعبية مبنية على
التآخي والتآلف ومساعدة الآخرين، وهو ما حرصت أغاني فرقة «ناس الغيوان» على
تقديمه في إطار غنائي جديد جعلها تتحول إلى ما يشبه المعبر عن أحاسيس هؤلاء
الناس.
لقد ساهم المخرج أحمد المعنوني وهو يقدم هذا الفيلم التحفة في
شكل كبير في الحفاظ على التراث الثقافي الغنائي الشعبي المتعلق بإحدى أهم
الفرق الشعبية المغربية التي تحولت عبر تاريخها الفني الغني إلى ما يشبه
فرقة أسطورية لا حدود لجماهيريتها الكبيرة من جهة، كما تحولت إلى مرآة
ثقافية كبرى، رأى الكثير من المثقفين المغاربة فيها صورة تعبيرية للإنسان
في رغبته الساعية نحو التعبير عن آلامه وأفراحه في مختلف جوانب الحياة من
جهة أخرى، من دون أن ننسى أن المخرج أحمد المعنوني قدم خدمة كبيرة للسينما
المغربية وللفن الغنائي المغربي خصوصاً الشعبي منه، وهو يقدم فيلمه
السينمائي الرائع هذا، بطريقة احترافية كبيرة استطاع أن يجمع فيها بين ما
هو وثائقي مستمد من سيرة أفراد هذه الفرقة الشعبية أنفسهم والمهرجانات
الغنائية التي حضروا فيها والأغاني التي قاموا بتقديمها وبين ما هو روائي
حاول من خلاله تقديم صورة عن الحي المحمدي الذي نشأت فيه هذه الفرقة
والرغبات التي كانت تعتري بعض أفرادها وهم يغوصون في هذه الحياة الفنية
الخصبة والصداقة العميقة التي وحدتهم وجعلتهم ينسجمون داخل إطار غنائي جامع
لهم وموحد لرؤاهم.
إن هذا الفيلم المغربي البسيط في تقنياته لكن العميق في محتواه
الفكري ورؤيته السينمائية المحكمة الصنع، وكما ذهب إلى ذلك المخرج العالمي
الكبير مارتين سكورسيزي (وهو يحرص، كما لو كان هذا الفيلم فيلمه هو، على
عملية ترميمه وتقديمه في الدورة الأخيرة من المهرجان السينمائي العالمي
الكبير «كان» 2007)، هو فيلم سيبقى للتاريخ السينمائي العالمي في كليته،
شاهداً على عبقرية الذي فكر فيه وقام بعملية إخراجه إلى الوجود.
الحياة اللندنية في 4
يناير 2008
|