اضغط للتعرف على صاحب "سينماتك" والإطلاع على كتبه في السينما وكل ما كتبه في الصحافة Our Logo
 

    حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار   

رحيل العملاق يوسف شاهين

 

وداعاً شاهين

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

 

يوسف شاهين

إلى الكاتب الذى يسبغ على الأفلام الإسرائيلية صفة "الأعظم" و"الأروع" دائما

أحمد يوسف

 
     
  

هل سمع أحد منا يوما قولا من يوسف شاهين، أو رأى تلميحا واحدا فى أفلامه، إنه وهو الفنان صاحب الموقف اليسارى الأصيل فى الواقع والفن معا، يدل على أنه تبنى موقفا مؤيدا للسلام مع إسرائيل؟ وأنه فى فيلمه "اسكندرية ليه" تحديدا قد أعلن أنه من "اليبراليين واليسارين" الذين أيدوا قرار تقسيم فلسطين عام 1947، ولم يعتبروه "مؤامرة ضد العرب، بل إنه يأتى فى إطار مواجهة المشاكل السياسية بالتقسيم، بعد الحرب العالمية الثانية، بدءا من تقسيم أووربا إلى تقسيم ألمانيا، بل إلى تقسيم برلين"..؟ 
جاء هذا الاكتشاف" من جانب الناقد سمير فريد، فى مقاله المطول والمعدل الذى نشر على ثلاث صفحات كاملة بجريدة "المصرى اليوم"، فى الصباح التالى مباشرة لرحيل الفنان يوسف شاهين، وهو المقال الذى تبدو فيه، مرة أخرى وليست أخيرة، رغبة الناقد فى أن يتحدث عن "أفكاره" ويروج لها كلما سنحت الفرصة لذلك، حتى لو كان ذلك دون أى سياق، وهى الأفكار الخاصة بموقفه من "السلام" مع إسرائيل، ومن المؤكد أن لكل ناقد الحق فى أن يرى العمل الفنى من منظوره الخاص، لكن ليس من حق أحد أن يستنطق العمل الفنى بما لا ينطق به، فعلى العكس تماما، وفى فيلم "اسكندرية ليه"، كان يوسف شاهين واضحا كل الوضوح، فقصة الحب بين المسلم اليسارى المصرى ابراهيم (أحمد زكي)، واليهودية اليسارية المصرية سارة (نجلاء فتحي)، وما انتهت إليه رحلة أبيها اليهودى (يوسف وهبي) إلى ما تصور أنها "أرض الميعاد"، تؤكد جميعا وبالحرف الواحد أن "إسرائيل أكذوبة عنصرية كبري"، لذلك رحل الرجل اليهودى العجوز إلى جنوب أفريقيا (وليس إلى إسرائيل التى لم تكن على الشاشة إلا فلسطين التى تحولت إلى جحيم على أيدى العصابات الصهيونية)، وقد ترك الأب اليهودى وراءه ابنته اليهودية التى أنجبت من رفيق نضالها المسلم طفلة جميلة، فيوسف شاهين ـ مثل معظم اليساريين المصريين وعلى عكس زعم سمير فريد ـ لا يرى الصراع بين ديانات ولا يرى "الحل" فى التقسيم، وإنما الحل هو وطن واحد لا يعرف التمييز على أساس العرق أو الدين أو الطبقة، هذا التمييز اللاإنسانى الشائن الذى تقوم إسرائيل على أساسه، وكما قال روجيه جارودى (الذى يستخدم سمير فريد اسمه "عمال على بطال" كلما أطلق مصطلح "الواقعية الجديدة" على أى شيء) فإن هذا الأساس العنصرى الذى يشكل جوهر الصهيونية يجب أن يرفضه أى إنسان لديه بقية من "الشرف الإنساني". 

أؤكد للقارئ أننى لا أسعى أبدا للاشتباك مع أى ناقد فيما يخص رؤيته للعمل الفنى، لكن مالا يمكن تجاهله هو أن يسعى هذا الناقد أو ذاك للإدلاء بدلوه فى السياسة والتاريخ وحتى الجغرافيا، فهو لا يذكر هذه الأمور باعتبارها "رأيه" الخاص، وإنما هى "العلم" الذى لا يمكن إلا أن تقر بصحته، وهو الأمر الذى يشكل خطورة حقيقية، خاصة بالنسبة لجيل لم يعاصر مايتحدث عنه الناقد، وهنا لا يجد القارئ مفرا من تصديق سمير فريد فى أن قرار "تقسيم فلسطين" كان فى سياق التقسيمات التى أعقبت الحرب العالمية الثانية، وينسى ناقدنا أو يتناسى أن هذه التقسيمات جاءت على أساس سياسى فى الصراع بين الاتحاد السوفييتى وأمريكا، وهو الأمر الذى ليست له أية علاقة بالاحتلال الصهيونى لفلسطين، وإلا كان تقسيمها سوف ينتهى إلى فلسطين الديمقراطية وفلسطين الاتحادية على غرار ألمانيا التى يحتج بها سمير فريد!! 

ويوسف شاهين لم يكن على الإطلاق هو تلك الصورة المهزوزة التى رسمها له سمير فريد، يمالئ السلطة خلال الخمسينيات والستينيات ليصنع لها أفلاما للدعاية السياسية، (أرجو بشدة أن يطلب أحد وبإصرار من مخرجنا الكبير توفيق صالح، مد الله فى عمره، أن يقول شهادته التى لم يصرح بها بعد عن تفاصيل تلك الفترة)، والغريب أن سمير فريد لم يذكر بإشارة واحدة ولو خافتة موقف يوسف شاهين من السلطة الحالية فى مصر، والجميع يعلم أنه كان دائما معارضا قويا لسياساتها الداخلية والخارجية، لذلك لم يكن شاهين فى حاجة لمداهنة السلطة فى أى عصر، وكان صادقا فى إيمانه وشكه، وموالاته ومعارضته، وفى عشقه الشديد لذاته وانتقاده المرير لها، ولعل أفلامه هى الأقرب بالنسبة للمخرجين المصريين فيما يخص "سينما المؤلف"، ففى أغلب هذه الأفلام ترك جزءا من ذاته، هذا الجزء الذى يحكى عن الأحلام والكوابيس، وعن النجاحات والإخفاقات، التى كانت تخصه بقدر ما كانت تخص التاريخ المصرى والعربى المعاصر. 

ولسنا هنا فى مجال "تأبين" فنان ترك وراءه تراثا سينمائيا عميقا وعريضا، لكن ما نسعى إليه هو أن نتأمل رحلته الفنية باعتبارها نموذجا يكاد يتطابق مع شريحة كبرى من مثقفينا، بسلبياتهم وإيجابياتهم، ونتساءل بعد ذلك كله إذا ما كان قد قدم لنا ذاته الحقيقية أم أنها الذات التى توهمها وأراد أن يدافع عنها ويفرضها علينا؟ أم تراها كانت مزيجا من هذا وذاك، فى حيرة الفنان الذى كان يبحث عن جوهر علاقته بالعالم، العلاقة بين الذات والموضوع، الشرق والغرب، الأنا والآخر؟ 

ولم يكن غريبا أن تحمل أفلام يوسف شاهين الأخيرة عناوين تشى بالبحث فى هذه القضايا، ففيلم "إسكندرية نيويورك" يلخص هذا التناقض والرحلة الحائرة داخل الذات بين الأنا والآخر، هذا "الآخر" الذى أصبح عنوانا لفيلم سابق، كما كان "الوداع يابونابرت" (الذى يفضل سمير فريد أن يترجمه "إلى اللقاء يابونابرت"!!) وداعا مترددا لفكر غربى استولى عليه وترك أثرا غائرا فيه. وأرجو ألا تنتظر من "فنان" كيوسف شاهين أن يلعب دور "المفكر" فى إعطائك الإجابة "الصحيحة" (إن كانت هناك إجابة صحيحة واحدة!) عن كل هذه الأسئلة، حتى لو أوحت أفلامه على السطح بأنه يطمح إلى تقديم هذه الإجابة، فالأقرب إلى الدقة هو أن أفلامه نفسها كانت تجسيدا لهذه المتناقضات، وليست نهايات بعض أفلامه إلا تجسيدا للحل التوفيقى أو حتى التلفيقى لهذه المتناقضات، بل هى فى أفلام أخرى محاولة للهروب من هذا التناقض. 

كان يوسف شاهين صادقا مع نفسه ومعنا فى التعبير عن هذا القلق، على العكس من بعض المثقفين والنقاد الذين يملكون "اليقين" الزائف أو المزيف، لقد كان قلقا وحائرا على الدوام بين واقعه الذاتى الخاص والواقع الموضوعى حوله، وعلى هذا المستوى يمكن أن ترى فى أول أفلامه "بابا أمين" تناقضا بين الحلم والواقع (وفيه بعض التأثر بالفيلم الأمريكى "إنها حياة رائعة")، وإذا كان الأب العجوز فى هذا الفيلم قد تراجع عن حلمه الذى تحول إلى كابوس، فإن ذلك التخلى عن الأحلام لم يتكرر فى أفلامه التالية، حتى لو دفع أبطاله ثمنا فادحا للتمرد، مثل "ابن النيل" الذى رفض أن يعيش مثل بقية أقرانه حياة القرية الوادعة، وهرب باحثا عن "اليوتوبيا" فى القاهرة، ويمكنك أن تنظر إلى قناوى فى "باب الحديد" على أنه استمرار لرحلة "ابن النيل"، فبعد أن يكتشف البطل أن اليوتوبيا التى هرب إليها سوف تبتلع ذاته، يقرر أن يقيم لنفسه يوتوبيا ذاتية خاصة به حتى لو أطلق عليه الآخرون صفة "الجنون". 

تأمل هذا التطابق الضمنى ـ الذى لا يمكن أن يكون بمحض الصدفة ـ بين قناوى ويوسف شاهين نفسه، فقناوى يزين كوخه المتواضع بصور نجمات السينما كأنه الرمز للواقع الذاتى الذى اختار الفنان السينمائى يوسف شاهين أن يجعله برجه العاجى، كما أن يحيى مراد ـ معادل يوسف شاهين فى "حدوتة مصرية" ـ يدافع عن "اختلافه" عن السياق العام بأن قناوى كان أعرج، "وكل واحد فينا أعرج بطريقته"، مشيرا بالتصريح هذه المرة إلى أن الصفة التى يمكن أن نطلقها عليه وعلى قناوى ليست الجنون، وإنما التمرد. وبدءا من "الاختيار" سوف يصبح التمرد على الوضع السائد هو صفة البطل، بينما يأخذ الغريم موقف التكيف والامتثال، وهنا سوف ينتصر يوسف شاهين للبطل البوهيمى المتمرد المتحرر من كل القيود، بينما هناك إدانة واضحة للغريم الذى يريد النجاح بأن يبيع روحه للشيطان. وفى "عودة الابن الضال" ينتصر شاهين أيضا للبطل اليسارى المهزوم العائد من المعتقل، وهو إن بدا فى البداية عاجزا عن الفعل (كأنه يحمل بعض سمات هاملت، بطل يوسف شاهين الأثير)، فإنه يساعد ابن أخيه فى النهاية على الانطلاق نحو "فجر يوم جديد" جديد، ويخوض صراعا دمويا رهيبا رآه يوسف شاهين حتميا مع شقيقه الطاغية، الذى يحلو للبعض أن يراه رمزا للمرحلة الناصرية، بينما نراه فى سياق أفلام وحياة يوسف شاهين رمزا لسرقة التجربة الناصرية على أيدى من انتفعوا منها ثم انقلبوا عليها. 

أرجو ان يحاول سمير فريد إعادة رؤية "عودة الابن الضال" خلال هذا المنظور، والأهم أن يعيد قراءة "الاختيار" ليقول لنا إلى صف أى من الشقيقين التوءم سوف ينحاز. إنه الاختيار الذى يجب أن نحسمه، بين الرضا أن نكون الضحية أو أن نقف فى وجه من يقهروننا ويقمعوننا، هذا "القمع" الذى سوف يخوض يوسف شاهين المعارك ضده على كل المستويات كما بدت فى أفلامه، القمع فى التنظيمات السياسية، والظروف الاقتصادية القاسية الظالمة، بل كل المؤسسات الاجتماعية التى تبدأ بالأسرة وتنتهى بالمؤسسات القائمة على الميتافيزيقا. كانت نهاية هذا الصراع فى أفلامه نهايات مأساوية، حتى لو بدت أحيانا نهايات سعيدة، لكنها كانت النهايات التى تعكس فى جانب منها فكرا غير جدلى، فإما الوجود أو العدم ("أكون أو لا أكون" على رأى قرينه هاملت)، إما أنا أو الآخر، إما أن يتمرد البطل على المجتمع أو ينسحق ذائبا فيه، بينما كان "الجدل" الحقيقى هو الحوار الخلاق بين هذه المتناقضات، وهو الجدل الذى نجح فيه يوسف شاهين على نحو مبهر فى "اسكندرية كمان وكمان"، الذى جاء بمثابة مواجهة مع الذات، تدور حول فنان غارق فى أزمته الخاصة، غير عابئ بنضال رفاقه من الفنانين حوله من أجل الإبقاء على حرية "النقابة" الخاصة بهم. لقد كان قناوى فى "باب الحديد" لاهيا بدوره عن حركة مماثلة يحاول فيها العمال إنشاء نقابة لهم، وإذا كان قناوى قد انتهى ببتر علاقتة بالعالم، فإن بطل "إسكندرية كمان وكمان" أدرك أن حل أزمته ينبع من التفاعل مع العالم، مع الآخرين. 

فى "اليوم السادس" يقوم "رفحي" صاحب دار العرض السينمائى، الذى قام بدوره يوسف شاهين، بإغلاق دار العرض والذهاب إلى فلسطين ليحارب العصابات الصهيونية، وهكذا فإن رفحى لم يكن موافقا على قرار التقسيم الذى يدعونا سمير فريد إلى القبول به، وعض بنان الندم لأن جانبا كبيرا من المثقفين يرفض الاعتراف بإسرائيل. ومن الغريب أن سمير فريد الذى يتابع الأفلام الإسرائيلية ليسبغ عليها دائما صفة "الأعظم" و"الأروع" (حتى أن القارئ لا يتخيل وجود فيلم إسرائيلى متوسط أو ضعيف المستوي)، ويراها جميعا تدعو للسلام لنغض الطرف عما تحتويه دائما تحت السطح من دعاية صهيونية مائة فى المائة، من الغريب أنه لم يحدثنا يوما عن الفيلم التسجيلى "الطريق 181: شذرات من رحلة عبر فلسطين- إسرائيل" (2004)، الذى اشترك فى إخراجه الفلسطينى ميشيل خليفة، والإسرائيلى إيال سيفان، فهذا الفيلم يتحدث تحديدا عن قرار تقسيم فلسطين، ورفض العرب له بينما وافق عليه الصهاينة، ففى الفيلم تعليق للمخرج الإسرائيلى فى حواره مع أحد الإسرائيليين، إنه يتحدث عن أسطورة الأم الحقيقية والأم الزائفة اللتين ذهبتا إلى النبى سليمان فى صراعهما حول طفل تدعوه كل واحدة منهما لنفسها، فيقرر سليمان أن "يقسم" الطفل بينهما، وهنا يتساءل المخرج: هل تعرف من رضى بالتقسيم؟ إنها الأم الزائفة، التى يريد منا سمير فريد أن نعترف "بأمومتها" لهذا الطفل الممزق!! يكفى سمير فريد أنه يسير فى ركاب النظام السائد فى هذا الاعتراف، وهذا يكفيه أيضا شر القتال على كل المستويات، ويُرضى عنه أطرافا (هنا وهناك) تجعله من الناجين والناجحين فى هذا العصر، وكأنه حسم "الاختيار" على عكس يوسف شاهين تماما، الذى يصور لنا سمير فريد أنه كان معه فى كل خطواته، وهو (وحده) الذى شجعه على الاستمرار فى صنع الأفلام عندما كاد يوسف شاهين ييأس ويتوقف، وفى الحقيقة أن شاهين لم يتوقف عن الإبداع، وعن التمرد، والوقوف على يسار الواقع ليحلم دائما بواقع أكثر جمالا وعدلا، وهذا هو الفرق بين من فارقوا عالمنا بينما لا يزالون يعيشون بيننا، وبين من ماتوا وهم لا يزالون على قيد الحياة. 

العربي المصرية في 3 أغسطس 2008

 
     
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2008)