اضغط للتعرف على صاحب "سينماتك" والإطلاع على كتبه في السينما وكل ما كتبه في الصحافة Our Logo
 

    حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار   

ملفات خاصة

رحيل العملاق يوسف شاهين

وداعاً شاهين

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

 

وضع عناوين المشهد الإبداعي في مصر على مدى نصف قرن.. ورحل

يوسف شاهين مجنون السينما وصانع الجمال من قسوة الواقع والتباساته

نديم جرجورة

 
     
  

لا يُمكن اختزال السيرة الذاتية/المهنية للسينمائي المصري يوسف شاهين بسهولة. فالأشكال الفنية التي استخدمها في تحقيق أفلامه متنوّعة، والأسئلة التي طرحها مزجت الفكر بالأخلاق وغلّفت السياسة بالبعد الإنساني للفرد، والأنماط الدرامية المستلّة من ثقافته الواسعة وبصيرته المُشعّة بهاءً، لعبت دوراً واضحاً في دفع السينما المصرية إلى التمعّن بأحوال المرء وشجونه ومعاناته، جاعلاً من التمعّن هذا مختبراً لتحليل البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية في مصر والعالم العربي. ثم إن استفادته من أحداث تاريخية لم تثنه عن التوغّل في ذاته: غرف من الأولى (الأحداث التاريخية) ما أعانه على مشاهدة الآنيّ بعين نقدية ثاقبة دفعته إلى التنبيه إلى مضامين الذاكرة الجماعية وقدرتها على المساهمة في فهم المسار التاريخي الذي أفضى إلى هذه اللحظة الآنيّة. وحوّل الثاني (التوغّل في الذات) إلى مرآة شفّافة لتاريخ شخصيّ مفتوح على مسار مجتمع وتحوّلاته. إنها مرآة قاسية ومليئة بالأسئلة التحريضية التي انطوت على بلاغة سينمائية مثيرة للدهشة والالتباسات الجمّة، في رحلتها داخل تشعّبات الأزمنة والجغرافيا والعلاقات.

لم يكن سهلاً التأقلم الدائم مع أفلام يوسف شاهين، الذي توفّي أمس الأحد بعد أسابيع طويلة أمضاها في غيبوبة تامّة، على الرغم من أن عدداً قليلاً منها صدم المُشاهد العربي وأسال حبراً كثيراً في محاولة مفتوحة على الاحتمالات كلّها لفهم مخازنها الفكرية والفنية والجمالية. لم يكن سهلاً التواصل مع أفلام شاهينية جعلت الصورة احتكاكاً مباشراً مع التفاصيل التي تصنع اللحظة وأسئلتها، وذهبت بالنسق الدرامي في الكتابة البصرية إلى تخوم معقّدة تتيح للمهتمّ فرصة إعمال العقل بعد جذب الانفعال إلى جنون الإبداع وقسوته في التعبير. ذلك أن بعض تلك الأفلام (أي القلّة الشاهينية في اللائحة الطويلة لأعماله) هو نفسه الأهمّ والأجمل والأكثر تحريضاً، وهو نفسه الذي سطع مدوّياً في فضاء السينما العربية، معيداً للسينما حيويتها في صنع جمال مختلف استلّه المخرج من بشاعة الواقع وقسوة الأزمات والتباس العلاقات الإنسانية، ضاخّاً فيه ملامح من وجع النكبات وفرح الانتصار من داخل الهزيمة. بمعنى آخر، لم تكن الأفلام الشاهينية كلّها ذات سوية واحدة من البلاغة والجمال والقوة البصرية في انتزاع المرء من غفوته ودفعه إلى أقصى التشنّجات العصبية والفكرية والانفعالية. ذلك أن هذا النوع قليلٌ في لائحة أعماله التي بدأ إنجازها في العام ١٩٥٠ بفيلم »بابا أمين«: هل لأن قوّة الإبداع عاجزة عن إعلان حيويتها وبراعتها في تحقيق الصنيع الفني بشكل متتال، أم لأن نزق المخرج والتزاماته الحادّة قضايا الناس والمجتمع والذات أرهقته في بحثه اليوميّ عن أجوبة شافية؟ هل لأن »عبقرية« الرجل دفعته إلى اختبار التمارين السينمائية المختلفة، فظهر العاديّ بوفرة مانحاً الأهمّ سينمائياً ودرامياً وثقافياً فرصة استقطاب المهتمّين إلى المُشاهدة الهادئة للغليان الذاتيّ والإنساني المعتمل في شاهين نفسه كما في أفلامه تلك، وإلى ممارسة أقصى الاستنفار لمتعة التحليل وغواية الغرق فيها، أم لأن التنويع في الشكل والمضمون لم يُسعف السينمائي في ابتكار الأجمل والأهمّ دائماً؟

محاسن الالتباس

لعلّ يوسف شاهين أكثر المخرجين المصريين والعرب (إن لم يكن الوحيد بينهم) إثارة للتساؤل النقدي، واستخداماً ناجحاً للالتباسات كلّها. فهو، في سني نشاطه السينمائي الممتدّ على مسافة سبعة وخمسين عاماً، شكّل حالة من الغموض في علاقة أفلامه بالناس على مستوى المُشاهدة أساساً (»العصفور«، »باب الحديد«، »اليوم السادس«، »ثلاثية الاسكندرية« وغيرها). لكنه نجح في أن يكون سينمائياً شعبياً عندما بسّط الشكل السينمائي من دون أن يتغاضى عن محاسن الالتباس في نصّه. وهو، بتنويعاته المختلفة في قراءة اللحظة، مكّن قارئ أفلامه ومشاهدها من ممارسة لعبة مجنونة، قضت بضرورة أن يصطدم القارئ/المُشاهد بجدار مرفوع بينه وبين بضعة أفلام سطّرت معالم النصف الثاني من القرن العشرين، بهدف التمرّن على كيفية التغلّب على الذات أمام سطوة إنجازاته. فهل صحيح أن الأهمّ كامنٌ في الطريقة التي يروي شاهين بها حكاياته، وهي طريقة فريدة من نوعها كما وصفها المنتج الفرنسي الراحل آمبير بلزان ذات مرّة، مشيراً إلى أنه لا يجد سينمائياً آخر غيره لديه »مقاربة جمالية واجتماعية وسياسية مبتكرة إلى حدّ كبير«، أم أن المميّز فيها (الأفلام) متمثّل بـ»حيويتها وتعدّدية خطوطها الحكائية، والتنوّع الذي يولّد شعوراً بالغليان«، كما قال أندره تشيني عنه؟ ألم يخلق شاهين فضاء خاصّاً به من خلال تلك الالتباسات والغموض، في أفلام وسمت التاريخ السينمائي العربي بفرادة الاشتغال على معنى العلاقة بين الصورة والحياة من خلال مزج الفكر بالسرد الحكائي الدرامي، وتحويل النصّ التاريخي إلى لحظة آنيّة، وجعل المجاميع الضخمة نبضاً فعّالاً في توظيف التقنيات في خدمة الدراما، من دون أن يتخلّى عن تبسيط وجده ضرورياً، فآثر الاستعانة بأقلّ قدر ممكن من الإشكاليات البصرية المصنوعة في غرفة التوليف تحديداً، كي يذهب بسينماه إلى فئات أوسع من الناس أراد التواصل معها في رحلة بحثه الدائم عن المعاني المتعلّقة بالحياة والبيئات المختلفة لهؤلاء الناس؟

مرآة ذاته

قد يكون أفضل وصف لهذا المشهد الشاهيني ما قاله بلزان أيضاً، المنتج الفرنسي الذي عمل معه مراراً: »يستطيع شاهين أن يصنع أفلاماً بإخراج ضخم ويقول ما يرغب في قوله. يستطيع أن يكون لديه خطاب سياسي قريب جداً من بلده وأن يتحدّث عن المفارقات التاريخية في العلاقات القائمة بين الدول المتطوّرة والنامية«. يُمكن إضافة مسألة أخرى: يستطيع شاهين أن يصنع من الفيلم مرآة حقيقية لذاته هو كي يعيد صوغ معالمها على مشرحة نفسية وثقافية وروحية، وفي الوقت نفسه يجعل من هذا التشريح البصري نافذة للإطلالة على المعالم الأوسع للحياة والذاكرة والتفاصيل الجانبية التي تساهم غالباً في صنع معنى للعيش: إنه »من السينمائيين العرب القلائل جداً الذين استطاعوا الحديث عن أنفسهم وهمومهم وهواجسهم الذاتية من دون الابتعاد عن هموم الوطن والمجتمع«، كما قالت سعاد شوقي كاتبة سيرتيه الذاتية والفنية، التي أضافت أن الهمّ الذاتي عنده يلتقي الهمّ الموضوعي بلا أي افتعال فيؤلّفان معاً »نظرة نقدية ثاقبة وحادّة للواقع الاجتماعي والسياسي«. يستطيع أن يصنع سينما أثارت شهيّة حقيقية لالتهام الصورة ومحاولة فهم دلالاتها، وأن يستخدم شتّى الأنواع كالدراما الاجتماعية والتحليل النفسي والخيال العلمي والسجال النقدي السياسي والثقافي والمجتمعي، مستفيداً من الرقص والموسيقى والغناء والتاريخ ما يبلور خطابه السينمائي ويدفعه إلى تخوم أوسع من المُشاهدة الحيّة.

تشعبات الألم

هناك من يعتبر التسعينيات المنصرمة محطّة تراجع جمالي ودرامي في المسار السينمائي الشاهيني، على الرغم من أن شاهين أنجز، في العام ،١٩٩١ فيلماً قصيراً بعنوان »القاهرة منوّرة بأهلها«، ثم أخرج مسرحية »كاليغولا« لألبير كامو في »الكوميديا الفرنسية« بعد عامين. لكن الفيلم القصير هذا يُعتبر من أجمل الأفلام وأقدرها على التأثير في النفس والعقل، لتوغّله في معالم بيئة إنسانية بلغة شفّافة وواقعية وهادئة، في مقابل الغليان المتفشّي في شرايين هذه المدينة وناسها. أما »كاليغولا« ألبير كامو، فأعاد شاهين إلى عالم المسرح الذي طالما دغدغ أحلام الفتى الإسكندرانيّ المسافر إلى الولايات المتحدّة الأميركية كي يدرس فن الدراما قبل أن يجد في الفن السابع طريقه في الحياة والإبداع. غير أن التراجع في ابتكار الأشكال السجالية والغامضة والملتبسة بدأ في منتصف تلك العشرية مع »المهاجر« (١٩٩٤)، الذي اعتبره البعض آخر تحفة سينمائية شاهينية، وأول ثلاثية ثانية يصنعها مخرج »ابن النيل« (١٩٥١) و»جميلة بوحيرد« (١٩٥٨) و»بياع الخواتم« مع الأخوين الرحباني وفيروز (١٩٦٥): إذا تناولت الثلاثية الأولى (باتت رباعية عندما ألحقها بفيلم رابع بعنوان »إسكندرية.. نيويورك« أنجزه في العام ٢٠٠٤) سيرته الذاتية المنفتحة على التاريخ العام بشكل أو بآخر، فإن الثلاثية الثانية المبتدئة بـ»المهاجر«، والملحقة بـ»المصير« (١٩٩٧) و»الآخر« (١٩٩٩)، وضعت الأصولية على المشرحة، وجعلت العلاقة بالآخر محوراً بارزاً في فهم الصدام الحاصل في العالم بين القوى الظلامية والحركة التنويرية. وعلى الرغم من أهمية الموضوع المنفتح على مسائل الانشقاق بين الحضارات والديانات، إلاّ أن سؤال بداية التراجع الجمالي والفني والدرامي طُرح بقوّة، لأن ما حصل لاحقاً عكس صوابية هذا الرأي، من دون التغاضي عن أهمية مضامين درامية متفرّقة ظلّ يختارها ويُعالجها لغاية فيلمه الأخير »هي فوضى« (٢٠٠٧)، الذي وافق على أن يوقّع خالد يوسف اسمه إلى جانب اسمه كمخرجَين له. لا يعني هذا أن الأفلام التي حقّقها قبل »المهاجر« اتّسمت كلّها بسوية إبداعية متكاملة، إذ إن المطّلع على السياق التاريخي يجد سريعاً أن قلّة من أفلامه شكّلت عناوين ثابتة في المشهد الإبداعي: »صراع في الوادي« (١٩٥٤) و»باب الحديد« (١٩٥٨) و»فجر يوم جديد« (١٩٦٤) و»الأرض« (١٩٦٩) و»عودة الابن الضال« (١٩٧٦). هناك أيضاً ثلاثيته الأولى: »إسكندرية ليه« (١٩٧٨) و»حدوتة مصرية« (١٩٨٢) و»إسكندرية كمان وكمان« (١٩٨٩). بالإضافة إلى »الناصر صلاح الدين« (١٩٦٣) و»الناس والنيل« (١٩٦٨) و»الوداع يا بونابرت« (١٩٨٤)، و»اليوم السادس« (١٩٨٦) الذي لم يكتف بمنح المغنية داليدا إطلالة سينمائية أخيرة قبل انتحارها في الثالث من أيار ،١٩٨٧ بل توغّل في تشعّبات الألم والقهر والفقر ليصنع منها نشيداً للحياة، وكشف عن ملامح امرأة (داليدا) ذاهبة إلى حتفها، كأنه أراد تخليد ذلك الجمال المتّقد في عينيها ووجهها قبل أن تغيب في دهاليز القدر.

   

يوسف شاهين لاعب الموت حتى رافقه

نديم جرجورة

عاد يوسف شاهين إلى القاهرة بعد تمضيته أسابيع عدّة في غيبوبة الألم والغياب في مستشفى باريسي، كي يجد سلامه الأخير الذي حصل عليه أمس الأحد، تاركاً في ذاكرة الدنيا أجمل معالم الأزمنة والتحوّلات. لعلّه أراد أن يلتحف أرض مصر قبل أن يذهب في رحلته الأخيرة. لعلّه سئم شيخوخة أضنته، مع أنه حوّل الشيخوخة إلى نبض حيّ للعيش، وجعل الكاميرا شرياناً لا ينضب. لعلّه حقّق أمنية الغرق في تراب أرض أنجبته على المدى الواسع للحياة والبحر والأفكار. عاد إلى القاهرة من دون أن يفتح عينيه، ومن دون أن ينبس بكلمة واحدة. ربما لأنه لم يشأ أن يُعكّر مزاج الناس. أو ربما لأنه وجد في الصمت ملاذاً يقيه وجع الحياة وبؤسها. أراد بعض هدوء، أو نتفاً من سكينة. فالمرض قاتل،

والدماغ متعبٌ، والجسد مثقل بألف همّ. لعلّه أراد شيئاً من حميمية اللقاء مع الذات، قبل أن يُغادر الدنيا. العمر ثقيل في أحـــيان كثيرة، مع أن المخرج أقوى من أن يغلبه العمر، وأشدّ من أن يدفعه إلى راحة. غير أن القدر حــاضرٌ دائماً، والمخرج يُتقن فنّ التـــلاعب معه قـبل أن يسمح له بمرافقته في تلك الرحلة الأخــيرة.

عاد يوسف شاهين إلى القاهرة، التي صنع عنها واحداً من أجمل أفلامه القصيرة (القاهرة منوّرة بأهلها)، قبل أن يرحل نهائياً. تُرى، بماذا كان يُفكّر في غيبوبته؟ بماذا كان يشعر وهو ممدّد على السرير من دون حراك؟ سيقولون إنه وضع سيناريو جديدا، وطرح أفكاراً أخرى للنقاش قبل تحويلها إلى أفلام. فهو لم يهدأ يوماً واحداً، ولم يتعب، ولم يتوقّف عن العمل والعيش. حرّك مصر بسجاليته الدائمة، وأثار العالم العربي بمواقفه الحادّة التي التزم بها قضايا الفرد في المجتمع والسياسة والحياة والعلاقات والحرية. اخترق العالم الغربي بأفلامه الطارحة ألف سؤال وسؤال عن العلاقة بين الغرب والشرق، وعن الناس، وعن الحكايات المنسوجة برحيق العمر وتعب الأيام. ثمانية وخمسون عاماً في السينما، شكّلت عالماً بديعاً من الأسئلة والالتباسات الجميلة، وطرحت منابر متألّقة في المشهد الإنساني والإبداعي. ثمانية وخمسون عاماً انتهت أمس، فإذا بالاستديو يلتهب بأضواء الحرية والجمال، وإذا بالكاميرا تذرف دمعة واحدة، كي تستعيد ألق ذاكرة وحيوية رجل حافظ على طفولة طيّبة، وشـــباب نضر، وشيــخوخة أكثر شباباً من أي وقت مضى.

السفير اللبنانية في 28 يوليو 2008

 
     
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2008)