تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

هكذا نموت في "اللامكان" الجزائري: بأتفه طريقة ممكنة

طـــــارق  طـــقـــيـــــة: لا  أحـــــد  يــلـــــوم  الـــعــــبـــــد إذا  أراد  أن  يـــهـــــــرب

هوفيك حبشيان

منذ أولى لقطات فيلميه "روما ولا أنتوما" و"غابلا"، تملّكنا شعور بأننا أمام سينمائي من قماشة "اخرى" لا ينتمي الى "التراث" السينمائي العربي، بل يدفع باحتمالات الصورة والصوت الى ذروتهما التعبيرية، كي لا تبقى اللغة الشفهية الوسيلة الوحيدة السائدة لنقل المعلومات. هكذا يعمل الجزائري طارق طقية، ويبدو ان الحال لن تتغير في سينماه قريباً، حيث في أسلوبه التأملي الفلسفي يعثر على هوية خاصة به، هوية مكتسبة. فهذا الذي يصعب على الصحافة العربية أن تكتب اسمه من دون ارتكاب الأخطاء نظراً الى غرابته، مرشح لأن يرث شعلة السينما الكبيرة التي، من أنطونيوني الى كيارستمي، صنعت بهجة رواد السينما حول العالم. تزعج طقية الاسئلة عن البدايات وعن انتقاله من الصورة الجامدة الى المتحركة. كذلك لا يحبذ كثيراً أن يسأل عن نوع جواز السفر الذي يحمله في جيبه لأنه يصنّف نفسه منتمياً الى هذا العالم الواسع، الذي ينفتح أمامه تدريجاً بعد دخوله أولى سنوات الأربعين. وعليه، فقد استطاع طقية، بفيلمين، أن يقترح مقاربة مختلفة للواقع الجزائري، قاطعاً حبل السرة مع مواطنَيه القديرين مرزاك علواش ومحمد لخضر حمينا، وذلك من خلال طرح قديم – جديد يحمل في داخله هوس الشكل وكيفية تطابقه مع الخطاب. بجمالية جد معقدة، وكتابة بصرية مرهفة، يرد طقية الاعتبار الى عنصر الزمن كأب لكل فيلم. في الحوار الذي أجريناه مع ط. ط. على مرحلتين، واحدة في البندقية غداة تقديم "غابلا" وثانية في بيروت، تركناه يغوص في اسرار عمله ورؤيته للسينما والهوية والارهاب الذي ضرب بلاده، علماً أنه كثيراً ما كان يجري تفسير اللغز السينمائي بلغز أكبر. وربما في هذا ايضاً تكمن روعة سينما لا يمكن محاصرتها.

·         لاحظنا انك تحب تصوير البؤس.

ـــ ليس في الضرورة. في "روما ولا انتوما"، الأحياء تبدو مجعلكة وهذا ليس بؤساً. يلزمك المال لتشييد منزل من بضع طبقات. في المقابل، ما يهمني هو اللامكان حيث نجد اثاراً لشيء. ذوقي هذا صيغ ربما من خلال ميولي وتفضيلاتي الفوتوغرافية. اعني من خلال حبي لتصوير المساحات المدينية القاحلة.

·         هناك دائماً شخص أو اثنان في كادرك، وأحياناً أقل من ذلك.

ـــ لم يكن عندي إمكانات للاتيان بأكثر من هذا العدد (ضحك). بالنسبة اليَّ كل فيلم هو تعبير عن قيود تمويلية. وأيضاً تعبير عن الحرية التي آخذها حيال هذه القيود. ليس لي القدرة على الاتيان بعشرات الكومبارس ولا بالفريق التقني الذي يفترض أن يواكب هذه الشخصيات، ولا رغبة لي اصلاً في هذا النوع من السينما. اذاً، أي فيلم هو، عندي، عبارة عن تصادم بين القيود الاقتصادية المفروضة عليّ والقدرة على تجاوزها. وفي خضمه، ينبثق هاجس كيف يجب عليّ كمخرج أن أفعل كي لا يبدو الفيلم رخيصاً. فالمؤكد انني لن انجز فيلماً تدور حوادثه خلال الامبراطورية الرومانية. لا يهمني ذلك. ولا امكانات عندي لتحقيقه، ثم لا اريد أن أمنح الانطباع بأنني اجيد صناعة شيء ما بينما في الحقيقة لا أجيده.

·     في فيلميك لدينا الانطباع بأنك تأتي كمخرج متسلحاً بنظرتك، الى هذه الأرض او الساحة بعد أن يكون قد اشتعل فيها ما أشتعل: الكارثة أو الحرب أو انفجار قنبلة نووية...

ـــ خلافاً لما حصل في بيروت خلال الحرب الاهلية، لم يكن في حربنا أي خط تماس. لم يكن هناك منطقة صراع مفتوحة حيث يتصدى الجنود بعضهم للبعض، مما جعل مكاناً مثل بيروت على سبيل المثال مدينة أشباح في مرحلة ما من وجودها، نتيجة مغادرة اهاليها لها. ما اصوره في "غابلا" هم السكان، وهؤلاء بقوا في منازلهم في اثناء الحرب في الجزائر. اذاً، لم يكن عندنا خط نار مباشر انما مساحات شبحية. فلا آثار رصاص على الجدران مثلاً. في حين ارى من هذا المكان الذي أجلس فيه الآن آثاراً للرصاص على جدران المبنى المقابل. شيء آخر: هنا مساحات غير محدودة ومترابطة وهي كانت مسرحاً للعديد من المجازر. من جملة الابادات التي حصلت، بعضها في ضواحي الجزائر العاصمة. ليس حيث صوّرت أنا تحديداً، انما على مقربة منه، على مقربة "قريبة" (ضحك). هناك مجزرة ذهب ضحيتها من 400 الى 700 شخص، لم اعد اتذكر العدد الدقيق. ليلة بأكملها من القتل ارتكبها فريق من الاسلاميين في حق نساء وأطفال في احدى البلدات بعدما جرى محاصرتها. ليست هذه بلدات بعيدة عن العاصمة انما بلدات تقطنها البورجوازية الجزائرية الصغيرة. هذا ما كنت اريد تصويره. لكني اطلب من المشاهد كمية من المعرفة والاطلاع على القضية الجزائرية. وأعتقد ان هذا الشيء ينسحب على كل الافلام. فاذا ذهبنا، انت وأنا، لمشاهدة فيلم ياباني، فثمة أشياء لا نتداركها، لأننا لا نملك المفاتيح اليها. لكن لا بأس بذلك. يمكنك مشاهدة الفيلم من دون هذا الجانب منه. اذاً، لم ارد تصوير الحرب للأسباب التي ذكرتها، لكن هناك مناخ من القلق السائد. ثمة توتر دائم نتيجة عدم معرفتك من أين قد يأتي الخطر. أنتَ تواصل حياتك العادية، وكل شيء يكون على ما يرام تقريباً، ثم تقع الحادثة العنيفة وغير المنطقية. ولا تعرف كيف ولماذا. هذا ما اردت اظهاره. لم ارد تبيان العنف بل تأثيراته. لم ارد أن نرى الجثث، وأصلاً هناك القليل منها في الفيلم. وأحياناً لا نراها بل نتكهن بوجودها. هذا شيء انا دوماً حذر منه؛ لا أجيد تصوير الدماء والسلاح والموتى.

·         ليست الحركة من اهتماماتك. حتى عندما نشعر ان من الممكن أن تحصل حبكة حركية في لحظة ما، نراك تسارع الى عزلها.

ـــ هذا صحيح، غالباً ما أضع حداً لها. في مشهد إشهار المسدس في آخر "غابلا"، كنت اعتقد انه أقوى تأثيراً اذا رأينا عنفاً يندلع فجأة. في هذه اللحظة حيث لا أحد يتخيل ان رجلين سيصلان ويشهران سلاحهما، لأن المسألة تحصل بسرعة كبيرة. لكن، هكذا قُتل الكثير من الناس. لم ار حادثة كهذه بأم عينيّ، لكن اصدقاء من منطقتي عاشوا ذلك عن كثب: مقتل شرطي في زي مدني أو صحافي في ساعة مبكرة من صباح ما في أوائل الصيف في محطة الباص، وهما في طريقهما الى مركز عملهما. تخيل أن تنظر من حيث أنت الآن الى الخارج، فترى مسلحاً وراء رجل وهو يشهر المسدس ليضعه على صدغ الرجل الواقف في محطة الباص، ثم نرى جسداً ضخماً ينهار ويفترش الارض. هكذا نموت: بأتفه طريقة ممكنة. ثم سيكون هناك صراخ طبعاً، لكن سيكون للجسد متسع من الوقت ليقع، قبل أن يلاحظ الناس ما حصل.

·     أنت من السينمائيين الذين يهتمون بالمناخ الذي تموضعه تباعا، وهو مناخ جد مقلق وضاغط. فهل ترغب من خلال هذه التقنية أن تضع المشاهد في حالة مشابهة لحالة الشخصيات؟

ـــ نعم، بالتأكيد. هناك مشاهد للسيارات تجول في المنطقة الصحراوية. وهي طويلة وضاغطة. قد يشعر المشاهد بالانزعاج امامها، وبنوع من الألم أمام هذا الدوران المستحيل للسيارات. نحن اصحاب رغبات سينمائية مزمنة واعتباطية: نريد من المشاهد أن يضحك أمام مشهد هزلي وأن يخاف أمام مشهد رعب، ولا ننتبه أن من المشروع له ولنا أن نشعر بالارتباك والانزعاج. دعونا نحاول هذا الخيار ايضاً. الأهم أنني اريد ان اصل الى هذا الهدف بإمكانات شحيحة، اذ ليس من موسيقى ولا مؤثرات خاصة بأفلام الرعب، بل على العكس من ذلك هناك الكثير من الصمت والاقتصاد.

·         حلم الرحيل يطارد شخصياتك. هذا الحلم بالعبور الى الجانب الآخر. هل راودك هذا الحلم شخصياً قبل أن تجيّره الى شخصياتك؟

ـــ جيد أن تقول هذا: الانتقال الى الناحية الأخرى. ذلك أني لا اعرف الى أي ناحية نعبر، ولا سيما في "غابلا". نعم هناك هذه الرغبة في الهرب وعدم امتلاك هوية. سواء هوية ان تكون جزائرياً، ذكراً أو عربياً. انه رفض لأخلاقيات الحالة المدنية. ونعم كانت هذه حالتي على الصعيد الشخصي، ولا تزال. في هذا الشأن لا نستطيع أن نتكلم بصيغة الماضي لأن الحالة المشار اليها لا تزال قائمة في حاضري الآني: رفض الانتماء. يجب أن نعيد خلق (أو انتاج) ما نحن عليه باستمرار. لا أؤمن بهوية نهائية منغلقة على ثوابت، ولا اعرف ما كانت عليه حالتي عندما كنت في العشرين من عمري. تبدل الهوية يعني اننا أحياء أزليون.

·         أيضاً: تصور شخصياتك من مسافة قريبة. وليس في فيلميك لقطات "كلوز أب" قريبة.

ـــ هذا صحيح. أنا دائماً ابقى على مسافة من الشخصيات. مع ان وجوها تحتل الشاشة في "روما ولا انتوما". هناك وجه البطلة التي تلتفت الينا ونرى حتى فمها المفتوح. فهل هذا خيار متعمد؟ لا ادري. الحشمة تمنعني من تصوير العنف، وهي نفسها تجعلني اتغاضى عن اظهار الوجوه عن كثب. أياً يكن، فأنا لا احب الاصرار عليها، اذ افضل التركيز على المسافة الزمنية بدلاً من الصور الصادمة. هذا لا يعني انني أحب الهرب. على كل حال، الهرب لا يمثل عندي شيئاً سلبياً. فلا أحد يلوم العبد اذا أراد أن يهرب. حالتي مشابهة بهذا العبد. فشجاعته كامنة في رغبة الهرب. ما أدعو اليه هو النظر "من خلال" الأشياء. احاول أن أزيح الكادر من حيث يجب أن يكون. فالشخصيات عندي اذا لاحظت، تكون أحياناً على طرف الكادر وكأنها تريد الخروج منه والاختفاء. أفعل هذا ايضاً للتذكير بأن الكادر يحبس. لذا، على الشخصيات أن تهرب من هذا الكادر.

·         أنت انشغلت بالتصوير الفوتوغرافي قبل ان تذهب الى السينما، أليس كذلك؟

ـــ (بنوع من تململ). في المهرجانات وأينما حللت، يسألونني عن مساري الفني. عملت في التصوير واستعملته كمنظر. ولكن أيضاً عملت قليلاً كمصور للصحافة الجزائرية. عملت كذلك مساعداً. على رغم هذا كله لا أحسب نفسي مصوراً. لكن لنقل أنني بدأت من هذا المكان الذي هو الصورة.

·         لكن السينما تتيح لك اللعب بعنصر الزمن فيما يصبح الأمر شبه مستحيل في الفنّ الفوتوغرافي.

ـــ استعادة لنظرية غودار التي باتت شهيرة من فرط استخدامها، أقول: الصورة الفوتوغرافية هي الحقيقة، اما السينما فهي 24 مرة الحقيقة في الثانية الواحدة. لا اعرف اذا كانتا الحقيقتين أو الكذبتين. لا اعرف. الصورة لحظة، وفيها ايضاً امكان أن نرى الزمن. طبعاً، لا اعني الزمن السينمائي مع الحركة. علماً ان الصورة نستطيع مشاهدتها لساعات طويلة أما الفيلم... دخولي السينما لا أعتقد انه ردّ فعل حيال عدم قدرتي على الحصول على الزمن في الصورة الفوتوغرافية. عندي صعوبة في الردّ على سؤالك، لأنني لم اقارب الاشياء من هذا المنظور، ولم أسأل نفسي قط لماذا انتقلت من هذا الفنّ الى ذاك. ربما لأنني كنت أريد اصطحاب الصورة مع الصوت، ما كان يتعذر عليه فعله في الصورة الجامدة.

·         هذه حجة زائفة، لأن ما تقوم به الآن هو نزع الصوت عن الصورة.

ـــ لا (بصوت عال). اذا انتزعته، فذلك للتشديد على إسماعه. أحب ما ينجم عن الكونتراست. لو بقي الشريط الصوتي على المستوى عينه من الرتابة، فصدّقني لا نعود نستمع اليه. في رأيي، الأفلام مزدحمة بالموسيقى وأيضاً بطبقات صوتية متراصة، بحيث باتت شيئاً لا يحتمل.

·         عندما نحذف الصوت من الصورة، يصبح الصوت أكثر حضوراً.

ـــ بالتأكيد. علماً أن هناك دائماً شيئاً صغيراً يجعلك تحس بوجود صوت. نسيم عليل والى ما هنالك. لكن غالباً ما يعتقد الناس أن خللا ما يحول دون أن يكون هناك صوت في الصورة. لا أحد شاهد أفلام بول موريسي الذي انجزه مع اندي وارهول في السبعينات. كان هناك الغاء كامل للصوت، مما يتيح لك ان تشاهد الصورة عشرة الآف مرة أكثر مما لو كان الصوت موجوداً. هل تتذكر في "غابلا" مشهد القطار الذي على سكته في الطريق الى الجنوب؟ هناك مئات الحوادث والتفاصيل الصغيرة تحدث على جانبي الكادر؛ سيارات تمرّ وأولاد يصرخون، وأنا شخصياً لا أكف عن مشاهدة هذه الاشياء الصغيرة على رغم أنني أعرفها عن ظهر قلب. أما في "روما ولا انتوما" فالنيات كانت مختلفة. للتذكير، عندما تقطع تنفسك، تسمع جسدك بطريقة مختلفة. بدلاً من أن امضي خلف أشياء لن أجيد صنعها، مثل المعالجة البسيكولوجية للشخصيات، أفضل الاستماع الى ايقاعات بيولوجية. في "روما ولا أنتوما" كان يتجلى هذا الشيء بقلب ينبض أو بحضور القلق طوال الفيلم. هناك دائماً نوع من الانتظار يسود الكادر عندي. والصمت يخدم الانتظار. الجزائر العاصمة، كما تعلم، مدينة خاوية ليلاً. لا نسمع فيها ضوضاء.

·         هناك مساحات شاسعة في فيلميك، لكن هذا لا يمنعنا من أن نحس بالانغلاق.

ـــ هذا هو التناقض في عينه. صحيح ان هناك مساحة حول الشخصيات، لكنها مساحة مغلقة، وليست باعثة آمال، لأنها رمادية اللون ومصنوعة من باطون. انها مساحات اسمنتية. هنالك الكثير من الجدران. ما صوّرته على نحو اساسي في فيلمي هو الجدران. لا نستطيع أن نغفل عن تصوير الجدران عندما نصور فيلماً في الجزائر. لأن الامر يتعلق بمجتمع، شئت أو ابيت، اقفل على نفسه في مرحلة من المراحل. والناس راحت تضيف جدراناً على نفسها، على رغم انها اساساً تعيش بين الجدران. حول الجدران التي تحيط بجدران أخرى وضعتُ اسلاكاً شائكة. هذا كله كان نتيجة الارهاب. كانت هناك اسباب أخرى ايضاً. فنحن في نهاية المطاف نتكلم عن مجتمع اسلامي حيث البيت منغلق على نفسه. لا اعرف ما اذا كان الواقع في بيروت ومنطقتكم مشابهاً لواقعنا، لكن في قصبات الجزائر ليس من نوافذ تطل على الخارج، بل هي فقط على باحة داخلية. كل شيء مرتبط بـ"الفاميليا"، من صالونات الشاي الى الشواطئ الخاصة بالعائلات. في الجزائر، لدينا مشكلة حقيقية مع المساحات العامة التي لا تُشعر من يأتي اليها بالكرم والضيافة. هذه نظرتي الى المساحات العامة في الجزائر: هناك الكثير من العدوانية في الشارع، والعلاقة بالشرطة متوترة على الدوام. لسوء الحظّ الوضع ليس دائماً لطيفاً.

·         كيف تجد ممثليك عادة وهم من غير المحترفين. هل تُخضعهم لعملية كاستينغ؟

ـــ لا، لا أخضعهم لكاستينغ. بطل "غابلا" كنت قد قابلته من أجل فيلم سابق حيث نراه في اطلالة خاطفة. لم يكن مفترضاً أن يضطلع بدور مالك في "غابلا"، لأنني كنت أريد شخصاً آخر رفض التمثيل في اللحظة الأخيرة، واضطررت أن أجد في أيام قليلة بديلاً منه. ففكرت فيه، لكنه بدا محرجاً مما اثار خشيتي. الآن أجده رائعاً وصاحب نعمة استثنائية. الآخرون عثرتُ عليهم بسهولة في الشارع. أما بالنسبة الى الفتيات، فهذا اصعب. لا نستطيع أن نجري عملية كاستينغ "غير مهذبة" فنذهب الى فتاة في الشارع ونقول لها "أريدك في فيلمي". لذا وجدت نفسي مرغماً على اجراء كاستينغ. طلبنا الى المكتبة السينمائية الجزائرية تقديم صالة لنا لذلك الهدف. وطلبنا مجيء ممثلات شابات. جاء عدد قليل منهن. السبب ربما انني لست محسوباً على جهة تلفزيونية ولست من الوسط. في اسبوع واحد عاينت 15 أو 20 فتاة. هذا لا شيء. بعضهم يعاين 20 فتاة في ساعة واحدة! هناك القليل من الممثلات في الجزائر، علماً ان زملاء لي اجروا عمليات كاستينغ وجاءهم الكثير وحصلوا على ما يريدون. فربما لا أعرف أصول اللعبة. أما بعض الممثلات اللواتي أتين فلم يكن يهمني طريقة عملهن التلفزيوني المبالغ فيه. كنت ابحث عن أداء ضمني داخلي. وحتى عندما طلبتُ اليهن الاقتصاد في الامكانات المستخدمة، كان يصعب عليهن فعل ذلك، لأنه صارت لديهن "طعجة" في ادائهن. أمام هذا الواقع، لم أكن اعرف ماذا عليّ فعله! فجأة رأيتُ فتاة تمرّ أمامي في طريقها الى المكتبة السينمائية الجزائرية، متسلّقة السلالم الى احدى الصالات. فقلت لمساعدتي ناديا: "هل يمكنك ان تسألي الفتاة اذا كانت تريد ان تمثل في فيلمي؟". عندما سألناها قالت انها لا تستطيع لأنها تعمل على تشغيل آلة العرض في السينماتيك، لكن في امكانها ان ترسل الينا بنات عمتها. وعندما ارسلت "بنات العم"، تبين انهن لسن ما اريده. ثم دخلنا مرحلة اصرار دام 15 يوماً، اختفت فيها عن الانظار ثم التقيناها مجدداً، قبل أن تقتنع وتقبل بعرضنا. انها فتاة غير مألوفة بالنسبة الى سائر الجزائريات. يتبين ذلك من طريقة كلامها والايقاع المستخدم للتعبير. لديها جانب حسيّ لا شأن له بالجاذبية الجنسية. لديها ايضاً سلوك خاص بها. من أجل هذا كله اخترتها. فأنا اطلب من ممثليّ أن يكونوا أنفسهم كثيراً، وهذا شيء صعب جداً لأن وجود الكاميرا يتيح للممثل اكتساب قواعد خاطئة ويثير مخاوفه.

·         ما مدى الارتجال في "غابلا"، وهل كان كل شيء مكتوباً سلفاً في أدق تفاصيله؟

ـــ في السيناريو كل شيء كان مكتوباً ومترجماً الى العربية كوني أكتب بالفرنسية في الاصل. بالنسبة الى الممثلين، هناك طريقتان في العمل: إما اللجوء الى النص بحرفيته، وإما تعديله اذا كان يتيح لهم أن يكونوا اكثر ارتياحاً في قول حواراتهم. اسمح لهم بذلك ما داموا يحترمون الاصل والمعنى المقصود من خلاله. لكن أفرض عليهم اداء واحداً، ولا اقبل بشيء جديد مع كل لقطة، لأنني اريد أن يكون المونتاج جيداً. اذاً، اترك لهم خيار أن يعيدوا تبني جمل معينة اذا ارادوا ذلك. ولكن في الاجمال يقول ممثليّ ما كُتب. اذاً، لم يرتجلوا كثيراً، خلافاً لطريقة عملي كمخرج، بحيث كنت احضر أحياناً الى البلاتو من دون أن أعرف مسبقاً أين يجب أن أضع الكاميرا. المجازفة التي كانت تهمني فعلاً، أن أتساءل ماذا يجب أن أجد كدليل ينقل وضعاً معيناً. لم أكن أريد فقط أداة تصور الكلام، بل أن تفضي الوحدة التصويرية والكادر والزمن السينمائي والمونتاج الى معنى ما. اعني استخدام أدوات السينما للحصول على معنى، وقول ما لا يقوله الكلام أو السرد أو الأدب. كان هدفي اللجوء الى الصورة. تحامل عليّ بعضهم وقال ان ما أنجزته هو محض فيلم استيتيكي. لا شك أن هؤلاء يمزحون! الصورة ليست هنا لتغازل نفسها وتقول "انظروا كم أنا جميلة!". البعض الآخر وجد مشاهدي جميلة وقال انها "جميلة بذاتها ولقد صورتها من أجل أن توفّر لي المتعة". أحاول أن أبقى أقرب ما يمكن من كادر يكون له معنى بالنسبة الى لعبة الفيلم. أن تغلق على ذاتك وتصور طوال 8 دقائق في سيارة، فهذا معنى مطابق لخطاب الفيلم. للمناسبة، الخطاب والشكل لا ينفصلان. ما أردت أن ابرزه في اخراجي، هو هذا العالم الكلوستروفوبي الذي يكاد يكون سجناً. اقول للمشاهدين هذا ما حصلتم عليه؛ لم تحصلوا عليه من خلال خطاب انما من خلال وقائع.

·         لم تأتِ من خلفية سينيفيلية، فكيف تعلمت ان تنجز فيلماً؟

ـــ لديّ أصدقاء سينيفيليون يعيدون مشاهدة الفيلم الواحد عشرات المرات. اما أنا فكنت سينيفيلياً في مرحلة ما من حياتي اثناء الدراسة. لكني شاهدت الكثير من الصور المتحركة والثابتة. (بعد تفكير) لكن ليس بالعدد الكافي، لديَّ ثغر كثيرة في هذا الشأن. أنا متأكد أنك شاهدت أكثر مني بكثير. أنا متأكد من ذلك. لكني لا أستطيع أن أكذب واقول أن كل ما أنجزته الى الآن هو نتيجة فرديتي وشعوري الانطوائي وأنني ساذج وجاهل ولم أشاهد ما يكفيني لأكون مخرجاً. طبعاً هناك ينابيع شربت منها وتأثيرات قد لا تكون في الضرورة تلك التي تُنسب اليّ (...). لا تستطيع حتى ان تقول انني صاحب ثقافة عالية. بورخيس كان كاتباً مطلعاً ومثقفاً. وكان يسلّيه واقع انه كان قد صنع ثقافته من خلال موسوعة "بريتانيكا". كان يبحث عن المعلومة ويذهب اليها حيث هي.

(hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

خارج الكادر

قائد أوركسترا

 

تورناتوري يفتتح الدورة المقبلة من مهرجان البندقية. قبل أيام تسنّى لي أن أشاهد على اسطوانة "دي في دي" احد الافلام التي هُمِّشت، ولم تأخذ حقها من التقدير والاهتمام. ذاك الفيلم هو "أسطورة 1900".

تورناتوري صاحب عمل، كثيراً ما يكون مؤثراً، وشعرياً، ووثائقياً. مؤلف كامل لفيلم لا يُنسى، "سينما باراديزو"، 1988، وهو ايضا، وبخاصة، قائد اوركسترا حقيقي يحوطه  مساعدون حرصاء على اعطاء افضل ما لديهم. لا يهمل اي مرحلة من مراحل صنع الفيلم، يتقن جوانب الاخراج كلّها، ولا يتراجع عن اي محاولة للابتكار على المستوى الشكلي. يستخدم في العمل السينمائي كل ادوات السينما الحديثة (جمال تشكيلي، غنى الديكورات والملابس، ضخامة الموازنة، صورة بالسينما سكوب). فالأصول المتوسطية للايطالي تورناتوري هي السبب في تلك الديناميكية، اذ يتصف اسلوبه ايضا بالطابع المتوسطي، ورغبته في صنع عمل سينمائي، في حمل الكاميرا، وفي تأطير صورة المستحيل أو التقاطها، تبدو جلية في كل مشهد.

في الامكان الذهاب الى أبعد من ذلك قائلين ان الجو في افلامه متأثر بوضوح، بشيء من فرح التواصل مع عمل سينمائي من صنف "انظروا، اني أصور فيلما". فرح يوصله تورناتوري من جهة اخرى الى جمهوره، دافعا بوسائل السينما الى ذروتها، تحقيقاً لعمل سينمائي هو على النقيض من الاكاديمية، كي ينجح حيث أخفق المخرج فرانكو زيفيريللي، السينمائي الايطالي المعروف هو الآخر.

أفلام تورناتوري كلاسيكية، لكنها ليست تقليدية، توّاقة الى الماضي، لكنها ليست غابرة. رومنطيقية، لكنها ليست وهمية على الاطلاق. غنائية، لكنها ليست خيالية تماما. شعبية، لكنها ليست ديماغوجية. عمله يتخطى السوق الاستهلاكية، ويفسح في المجال طوعا للتحليل، ويكوّن لوحة حلوة قاسية عن المجتمع، مترجحة بين البحث عن الحداثة وطراز من المتعة المازوشية في البكاء على الماضي. "يتأرجح" لأن شخصياته تحمل الماضي على كاهلها، ويكفي تذكر جاك بيران في "سينما باراديزو" واضعا رأسه على الوسادة، راغباً وحالماً، لكنه عاجز عن العودة الى الوراء.

في "اسطورة 1900" باخرة ضخمة يقوم عليها الفيلم. تتيح للقصة ان تبدأ، وللذكريات ان تنهض. يبدأ كل شيء في يوم يعثر احد العاملين من طريق المصادفة، على طفل متروك. هذا العامل الأسود يربّي الطفل الوليد، وبرعونة الرجل العازب يهدهده ويطلق عليه الاسم الغريب: 1900. يموت الرجل في حادث عمل. في يوم مأتمه، يسمع 1900 الذي اصبح على عتبة سن الرشد، لحنا يصبح علّة وجوده ويلاحقه بقية حياته.

من خلال قصة نافخ البوق (بريوت تايلور فينس)، الذي كان صديقه والمؤتمن الوحيد على أسراره، يروي الفيلم القصة الاسطورية لهذا الرجل غير المتكيف اجتماعيا، والذي أصبح عازف بيانو عبقريا. يفهمنا المخرج منذ البداية ان الأمر يتعلق بشخص عاقل، يتصرف تبعا لفلسفته الخاصة ومنطقه الذاتي، ولا يتعلق ابدا بشخص غير عقلاني: ولد على سفينة ـــ او على ارض متحركة ـــ فليس هناك ما هو طبيعي اكثر من رغبته في العيش حيث ولد. هو ذلك شعار تورناتوري في هذا الفيلم. لذلك، ما اعتبر انه القصة الحقيقية، يتلاشى بسرعة مفسحاً في المجال للمقارنة بين العبقرية والوضاعة، بين الفنان والمجتمع، وايضا بين الحكمة والجنون. بكثير من المهارة، اقتبس تورناتوري هذه القصة البسيطة للكاتب باريكو. تحدّيه ضخم اولا، لأنه يجازف في ميدان لم يجرّبه بعد، ويتمثل في جعل البطل يصمت لإعطاء الراوي الكلام. ثم انه صوّر 1900 ككائن مرتاح تماما. واذا كان هناك من مشكلة، فهي على الأصح قائمة لدى "الآخرين" الذين يريدون إنزاله من عليائه الخيالية.

هـ. ح

النهار اللبنانية في

30/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)