تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

المتاهة العالية الدقة في «إيدين نظيفة»

فجر يعقوب

يبدو هادي أبو العينين، للوهلة الأولى، في حياته الوادعة البسيطة وكأن لا مشكلة لديه. كل شيء يسير فيها وفق منطق هندسي قريب من الكمال.

«ايدين نظيفة» فيلم قصير (25 دقيقة) للمخرج المصري الشاب كريم فانوس الذي يجيء في سيرته الذاتية المقتضبة أنه درس السينما في نيويورك، وعمل مخرجاً مساعداً ليوسف شاهين قبل أن يخرج «على فين» أول أفلامه الروائية القصيرة.

في تعريف «الأيدي النظيفة» أنها أكثر الأشياء التي تتسخ في جسم الانسان. تتسخ لأنه يمكنها أن تأخذ وتعطي أيضاً. هادي أبو العينين توصل إلى هذه الحكمة المراوغة بعد أن قضى ثلاثة أعوام من حياته يعمل مستخدماً في أحد الحمامات العمومية لأحد المراقص الليلية. وهو في هذا الحمّام ينظف ويلمع ويمسح و«يشد السيفون»، لأن الكثير من الزبائن لايكترثون للماء أصلاً، وهو يأخذ اكراميات من زبائن مختلفي الطباع . زبائن لا تهمه ملامحهم أو قسمات وجوههم الضائعة. وكثر منهم لا تهمهم المناديل الورقية التي يمدهم بها هادي. ربما يؤكد هذا نظرية أمه البكماء عن الأيدي القذرة.

هادي الذي يطلب إلى المشاهدين ألا يهتموا كثيراً بكنية عائلته، والأفضل أن يستسلموا مثله لاسمه الذي يكاد يعكس طبيعته نفسها، هو من يمر في الشوارع ذاتها يومياً. من أمام باب الكاراج المغلق منذ زمن. وهو من يصعد الأدراج حين عودته ، ويلقي بتلك النظرة الحنون إلى أمه فيما أصابعه تمسك آلة العود بحرقة من دون أن تكتمل البروفة الليلية. ليس ثمة تبدلات مفاجئة في حياته. سوف يمر أكثر من مرة من أمام باب الكاراج، وسنلحظ تبدلاً طفيفاً في محتوى الصورة، كأن تمر فتاة أو نسمع نباح كلب من خارج الكادر في أحد المرات.

الأدراج نفسها الموصلة إلى البيت تتكرر، والتغيير الوحيد الذي يطرأ عليها هو تجاوز قسم منها إلى الأعلى. وعدا ذلك ليس ثمة اشارة إلى أن شيئاً في هذا العالم يتبدل من حواليه للوهلة الأولى أيضاً، إلى أن يخبره الرجل العجوز الذي يلتقيه يومياً عند نهر النيل لتناول «الكشري» أو لتجاذب أطراف الحديث أن عليه أن يبحث عن فتاة لتغير له حياته، وألا يبالغ بموضوع اعتنائه بأمه. ولكن أين يمكن لواحد مثله مستسلم تماماً لقدره أن يجد مثل هذه الفتاة، وهو يدفن رأسه في المغاسل والتواليتات العمومية؟ صديق له أخبره يوماً أن من يعمل في الولايات المتحدة الأميركية في مهنة مثل مهنته يطلقون عليه هناك «التائه الذي ضلّ طريقه في الحياة». هادي أبو العينين الذي يجيد التيه المنظم ان جاز التعبير يحاول أن يفض شجاراً بين زبائن الديسكو في «مقر عمله»، فيتعرض لضربة على عينه اليمنى يرافقه ازرقاقها حتى نهاية الفيلم بدواعي درامية. ويحدث مرة أن يلتقط علبة ثقاب وقعت من زبون عربي، فيتناولها ويقرأ عليها رقم أحد الملاهي التي تكثر عادة في شارع الهرم. الشارع الذي سيقلب حياته بالفعل، فسرعان ما يكتشف أن «الدنيا لا تتغير حواليّ وأنا اللي بديت أتغير». ويقصد «611 الهرم» ، وهناك يدفع ما يترتب عليه عند الباب، ويدخل في جوف الملهى الأحمر الذي يبدو وكأنه يبتلعه، ويجلس إلى طاولة، ويطلب شاياً، الأمر الذي يبدو غريباً للنادل.

الملهى اليومي

وهكذا يبدأ يومياً يقصد الملهى، ويبدأ التدخين على غير عادته، ويتابع الراقصة نور التي تروي قصتها من دون أن يطلب إليها أحد ذلك، وكأنها تتخاطر مع هادي أبو العينين لأنه يرغب بذلك. نور المتورطة في عالم ليس لها تصبح شريكة خياله. يمكنه أن يتودد إليها بخياله أيضاً. يراقب تحركاتها. يتعرف إلى «حثالات أوسخ من الذباب تهوم من حواليها». وفي النهاية يقرر أن يقوم ببروفة عزف العود الأخيرة في الحمام العمومي من دون آلة بالطبع، فأصابعه تعزف بحرقة، حتى يخيل إليه أنه اصبح عازفاً في الفرقة التي ترقص نور على أنغامها كل ليلة. لم يسأله أحد عن سبب ازرقاق عينه. نور هي من تسأله، وعندما يصحو، يكتشف أن الراقصة في مكانها لا تفارقه، وهو في مكانه واقف إلى الجدار اللماع ينتظر زبوناً ليشد «السيفون» من ورائه، أو زبونين يمكنهما الحديث عن مقتنياتهما من السيارات الحديثة وهما يقضيان حاجتيهما. ينتظر أحداً يدفع اكرامية ولا يتناول منه منديلاً. ما من أحد بعد قضاء حاجته يفكر بغسل يديه، على الأقل في هذا الفيلم.

«ايدين نظيفة» لا يعول كثيراً على تقطيع ذكي بين اللقطات العامة واللقطات القريبة. كريم فانوس يقرر أن «تيه» بطله يمكن تمريره عبر ثبات الكاميرا في هذين النوعين من اللقطات ، وربما باستثناء دخوله الملهى «611» حين تتبعه الكاميرا المحمولة وصولا إلى الطاولة التي سيجلس عليها، فليس هناك حركة يمكن الاشارة إليها، لذلك تبدو متاهته مفرطة في دقتها وهندستها، وهذه قد تحسب للمخرج الشاب فانوس الذي صمم «ضلال» طريق بطله بهذه الدقة في عالم لا يحتمل كل هذا الافراط في هندسة حالة كان يمكن للكاميرا أن تتورط في توتير حركي وتورط بطلها فيه، ولكن منذ الكادرات الأولى يخبرنا شريف فرحات – لعب الدور – أنه ما من حاجة للكنية، فهادي اسم على مسمى. العينان هناك لا أهمية لهما ما دامت متاهة صاحبها مصممة بهذه الدقة العالية.

الحياة اللندنية في

17/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)